الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف خرج لك الجواب المضمر بسرّ التّناسب الّذي بين أعداد المسألة والوهم أوّل ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنّما يجعله من قبيل الغيب الّذي لا يمكن معرفته وظهر أنّ التّناسب بين الأمور هو الّذي يخرج مجهولها من معلومها وهذا إنّما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم وأمّا الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته وإذا تبيّن لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزّايرجة كلّها إنّما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السّؤال لأنّها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر وسرّ ذلك إنّما هو من تناسب بينهما يطّلع عليه بعض دون بعض فمن عرف ذلك التّناسب تيسّر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين والجواب يدلّ في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السّؤال من نفي أو إثبات وليس هذا من المقام الأوّل بل إنّما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثر الله بعلمه وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2: 216.
الباب الثاني في العمران البدويّ والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات
الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية
اعلم أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإنّ اجتماعهم إنّما هو للتّعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروريّ منه ونشيط قبل الحاجيّ والكماليّ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزّراعة ومنهم من
ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنّحل والدّود لنتاجها واستخراج فضلاتها وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضّرورة ولا بدّ إلى البدو لأنّه متّسع لما لا يتّسع له الحواضر من المزارع والفدن [1] والمسارح للحيوان وغير ذلك فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرا ضروريا لهم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكنّ والدّفء إنّما هو بالمقدار الّذي يحفظ الحياة ويحصّل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عمّا وراء ذلك ثمّ إذا اتّسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرّفه دعاهم ذلك إلى السّكون والدّعة وتعاونوا في الزّائد على الضّرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتّأنّق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتّحضّر ثمّ تزيد أحوال الرّفه والدّعة فتجيء عوائد التّرف البالغة مبالغها في التّأنّق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والدّيباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصّروح وإحكام وضعها في تنجيدها [2] والانتهاء في الصّنائع في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى غايتها فيتّخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون في استجادة ما يتّخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصّنائع ومنهم من ينتحل التّجارة وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأنّ أحوالهم زائدة على الضّروريّ ومعاشهم على نسبة وجدهم فقد تبيّن أنّ أجيال البدو والحضر طبيعيّة لا بدّ منها كما قلناه.
[1] الفدن: ج فدّان: مزرعة (منجد)
[2]
ترتيبها وتزيينها.