الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناقصا كما قالوه. ثمّ إنّ هؤلاء الكهّان إذا عاصروا زمن النّبوة فإنّهم عارفون بصدق النّبيّ ودلالة معجزته لأنّ لهم بعض الوجدان من أمر النّبوة كما لكلّ إنسان من أمر اليوم ومعقوبيّة تلك النّسبة موجودة للكاهن بأشدّ ممّا للنّائم ولا يصدّهم عن ذلك ويوقعهم في التّكذيب إلّا قوّة المطامع في أنّها نبوة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأميّة بن أبي الصلت فإنّه كان يطمع أن يتنبّأ وكذا وقع لابن صيّاد ولمسيلمة وغيرهم فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأمانيّ آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسديّ وسواد بن قارب وكان لهما في الفتوحات الإسلاميّة من الآثار الشّاهدة بحسن الإيمان.
الرؤيا
وأمّا الرّؤيا فحقيقتها مطالعة النّفس النّاطقة في ذاتها الرّوحانيّة لمحة من صور الواقعات فإنّها عند ما تكون روحانيّة تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذّوات الرّوحانيّة كلّها وتصير روحانيّة بأن تتجرّد عن الموادّ الجسمانيّة والمدارك البدنيّة وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النّوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا وغير جليّ بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلّصه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التّعبير وقد يكون الاقتباس قويّا يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال والسّبب في وقوع هذه اللّمحة للنّفس أنّها ذات روحانيّة بالقوّة مستكملة بالبدن ومداركه [1] حتّى تصير ذاتها تعقّلا محضا ويكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتا روحانيّة مدركة بغير شيء من الآلات البدنيّة إلّا أنّ نوعها في الرّوحانيّات دون نوع
[1] في نسخة لجنة البيان العربيّ عبارة بين قوسين وهي (ولا بد من تخلصها من البدن ومداركه) وهذه الجملة غير واردة في جميع النسخ الأخرى وهي متممة لمعنى الجملة التي قبلها، ولا يستقيم المعنى بدونها.
الملائكة أهل الأفق الأعلى على الّذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن ومنه خاصّ كالّذي للأولياء ومنه عامّ للبشر على العموم وهو أمر الرّؤيا. وأمّا الّذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشريّة إلى الملكيّة المحضة الّتي هي أعلى الرّوحانيّات ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرّرا في حالات الوحي وهو عند ما يعرّج على المدارك البدنيّة ويقع فيها ما يقع من الإدراك يكون [1] شبيها بحال النّوم شبها بيّنا وإن كان حال النّوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشّبه عبّر الشّارع عن الرّؤيا بأنّها جزء من ستّة وأربعين جزأ من النّبوة وفي رواية ثلاثة وأربعين وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصودا بالذّات وإنّما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السّبعين في بعض طرقه وهو للتّكثير عند العرب وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستّة وأربعين من أنّ الوحي كان في مبدئه بالرّؤيا ستّة أشهر وهي نصف سنة ومدّة النّبوة كلّها بمكّة والمدينة ثلاث وعشرون سنة فنصف السّنة منها جزء من ستّة وأربعين فكلام بعيد من التّحقيق لأنّه إنّما وقع ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن أين لنا أنّ هذه المدّة وقعت لغيره من الأنبياء مع أنّ ذلك إنّما يعطي نسبة زمن الرّؤيا من زمن النّبوة ولا يعطى حقيقتها من حقيقة النّبوة وإذا تبيّن لك هذا ممّا ذكرناه أوّلا علمت أنّ معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأوّل الشّامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاصّ بصنف الأنبياء الفطريّ لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاما في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل ومن أعظم تلك الموانع الحواسّ الظّاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواسّ بالنّوم الّذي هو جبليّ لهم فتتعرّض النّفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوّف إليه في عالم الحقّ فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظّفر
[1] وردت هذه الكلمة في نسخة. لجنة البيان العربيّ فقط وهي غير موجودة في جميع النسخ ولا يستقيم المعنى بدونها.
بالمطلوب ولذلك جعلها الشّارع من المبشّرات فقال لم يبق من النّبوة إلّا المبشّرات قالوا وما المبشّرات يا رسول الله قال الرّؤيا الصّالحة يراها الرّجل الصّالح أو ترى له وأمّا سبب ارتفاع حجاب الحواسّ بالنّوم فعلى ما أصفه لك وذلك أنّ النّفس النّاطقة إنّما إدراكها وأفعالها بالرّوح الحيوانيّ الجسمانيّ وهو بخار لطيف مركزه بالتّجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التّشريح لجالينوس وغيره وينبعث مع الدّم في الشّريانات والعروق فيعطي الحسّ والحركة وسائر الأفعال البدنيّة ويرتفع لطيفه إلى الدّماغ فيعدّل من برده وتتمّ أفعال القوى الّتي في بطونه فالنّفس النّاطقة إنّما تدرك وتعقل بهذا الرّوح البخاريّ وهي متعلّقة به لما اقتضته حكمة التّكوين في أنّ اللّطيف لا يؤثّر في الكثيف ولمّا لطف هذا الرّوح الحيوانيّ من بين الموادّ البدنيّة صار محلّا لآثار الذّات المباينة له في جسمانيّته وهي النّفس النّاطقة وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته وقد كنّا قدّمنا أنّ إدراكها على نوعين إدراك بالظّاهر وهو الحواسّ الخمس وإدراك بالباطن وهو القوى الدّماغيّة وأنّ هذا الإدراك كلّه صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الرّوحانيّة الّتي هي مستعدّة له بالفطرة ولمّا كانت الحواسّ الظّاهرة جسمانيّة كانت معرّضة للوسن والفشل بما يدركها من التّعب والكلال وتغشى الرّوح بكثرة التّصرّف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرّد الإدراك على الصّورة الكاملة وإنّما يكون ذلك بانخناس [1] الرّوح الحيوانيّ من الحواسّ الظّاهرة كلّها ورجوعه إلى الحسّ الباطن ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد باللّيل فتطلب الحرارة الغريزيّة أعماق البدن وتذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيّعة مركبها وهو الرّوح الحيوانيّ إلى الباطن ولذلك كان النّوم للبشر في الغالب إنّما هو باللّيل فإذا انخنس الرّوح عن الحواسّ الظّاهرة ورجع إلى القوى الباطنة وخفّت عن النّفس شواغل الحسّ وموانعه ورجعت إلى الصّورة الّتي في الحافظة تمثّل منها
[1] انخناس: تأخر وانقباض وتخلف (قاموس) .