الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقلّص ظلّ الدّولة عنهم منذ عقود من السّنين فاستغلبوا على أمصارهم واستبدّوا بأمرها على الدّولة في الأحكام والجباية. وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرّضة وأقطعوها جانبا من الملاينة والملاطفة والانقياد وهم بمعزل عنه. وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. وحدث في خلفهم [1] من الغلظة والتّجبّر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم ونظّموا أنفسهم في عداد السّلاطين على قرب عهدهم بالسّوقة حتّى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العبّاس وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكره في أخبار الدّولة. وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدّولة الصّنهاجيّة واستقلّ بأمصار الجريد أهلها واستبدّوا على الدّولة حتّى انتزع ذلك منهم شيخ الموحّدين وملكهم عبد المؤمن بن عليّ ونقلهم من إماراتهم بها إلى المغرب ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن.
وهذا التّغلّب يكون غالبا في أهل السّروات والبيوتات المرشّحين للمشيخة والرّئاسة في المصر، وقد يحدث التّغلّب لبعض السّفلة من الغوغاء والدّهماء. وإذا حصلت له العصبيّة والالتحام بالأوغاد لأسباب يجرّها له المقدار فيتغلّب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة والله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار
اعلم أنّ لغات أهل الأمصار إنّما تكون بلسان الأمّة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطّين لها ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلاميّة كلّها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربيّة وإن كان اللّسان العربيّ المضريّ قد فسدت ملكته وتغيّر إعرابه والسّبب في ذلك ما وقع للدّولة الإسلاميّة من الغلب على الأمم والدّين والملّة صورة
[1] وفي نسخة أخرى: خلقهم.
للوجود وللملك. وكلّها موادّ له والصّورة مقدّمة على المادّة والدّين إنّما يستفاد من الشّريعة وهي بلسان العرب لما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عربيّ فوجب هجر ما سوى اللّسان العربيّ من الألسن في جميع ممالكها. واعتبر ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بطانة [1] الأعاجم وقال إنّها خبّ. أي مكر وخديعة. فلمّا هجر الدّين اللّغات الأعجميّة وكان لسان القائمين بالدّولة الإسلاميّة عربيّا هجرت كلّها في جميع ممالكها لأنّ النّاس تبع للسّلطان وعلى دينه فصار استعمال اللّسان العربيّ من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللّسان العربيّ لسانهم حتّى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم وصارت الألسنة العجميّة دخيلة فيها وغريبة. ثمّ فسد اللّسان العربيّ بمخالطتها في بعض أحكامه وتغيّر أواخره وإن كان بقي في الدّلالات على أصله وسمّي لسانا حضريّا في جميع أمصار الإسلام. وأيضا فأكثر أهل الأمصار في الملّة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها، الهالكين في ترفها بما كثّروا العجم الّذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم. واللّغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئا فشيئا. وسمّيت لغتهم حضريّة منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنّها كانت أعرق في العروبيّة ولمّا تملّك العجم من الدّيلم والسّلجوقيّة بعدهم بالمشرق، وزناتة والبربر بالمغرب، وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلاميّة فسد اللّسان العربيّ لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسّنّة اللّذين بهما حفظ الدّين وسار ذلك مرجّحا لبقاء اللّغة العربيّة المضريّة من الشّعر والكلام إلّا قليلا بالأمصار فلمّا ملك التّتر والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجّح وفسدت اللّغة العربيّة على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلاميّة بالعراق وخراسان
[1] وفي نسخة أخرى: رطانة (وهي الأصح مع مقتضى سياق الجملة) .