الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبيّة وحدها دون زيادة الدّين فتغلب الدّولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزّائدة القوّة عليها الّذين غلبتهم بمضاعفة الدّين لقوّتها ولو كانوا أكثر عصبيّة منها وأشدّ بداوة واعتبر هذا في الموحّدين مع زناتة لمّا كانت زناتة أبدى [1] من المصامدة وأشدّ توحّشا وكان للمصامدة الدّعوة الدّينيّة باتّباع المهديّ فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوّة عصبيّتهم بها فغلبوا على زناتة أوّلا واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبيّة والبداوة أشدّ منهم فلمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
وهذا لما قدّمناه من أنّ كلّ أمر تحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح كما مرّ «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبيّة وقد وقع هذا لابن قسيّ شيخ الصّوفية وصاحب كتاب خلع النّعلين في التّصوّف ثار بالأندلس داعيا إلى الحقّ وسمّي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهديّ فاستتبّ له الأمر قليلا لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحّدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحّدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقلة
[1] أبدى: من البداوة وأبدى أفعل التفضيل من بدا ومعناها أشد بداوة.
بحصن أركش [1] وأمكنهم من ثغره وكان أوّل داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته تسمّى ثورة المرابطين ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء فإنّ كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون [2] بهم من الغوغاء والدّهماء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل مأزورين [3] غير مأجورين لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة فطاح في هوّة الهلاك وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين ولا يشكّ في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة وأوّل ابتداء هذه النّزعة في الملّة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر [4] وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدّم العراق ثمّ عهد لعليّ بن موسى الرّضى من آل الحسين فكشف بنو العبّاس عن
[1] لم نعثر على حصن اركش في معجم البلدان وكذلك في المراجع التي بين أيدينا وربما هناك تحريف بالاسم وهو حصن اركون، وهو حصن منيع في الأندلس وموقعه ينسجم مع سياق الحديث عن المرابطين بالأندلس.
[2]
وفي بعض النسخ المتشبثون.
[3]
الأصح موزورين.
[4]
هو طاهر بن الحسين، كان قائدا لجيش المأمون زمن الخلاف بين الأخوين الأمين والمأمون وقد خرج أيام الأمين.
وجه النّكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهديّ فوقع الهرج [1] ببغداد وانطلقت أيدي الزّعرة [2] بها من الشّطّار [3] والحربيّة [4] على أهل العافية والصّون وقطعوا السّبيل وامتلأت أيديهم من نهاب النّاس وباعوها علانية في الأسواق واستعدى [5] أهلها الحكّام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين والصّلاح على منع الفسّاق وكفّ عاديتهم وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدّريوش ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فأجابه خلق وقاتل أهل الزّعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم بالضّرب والتّنكيل ثمّ قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاريّ ويكنى أبا حاتم وعلّق مصحفا في عنقه ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فاتّبعه النّاس كافّة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتّخذ الدّيوان وطاف ببغداد ومنع كلّ من أخاف المارّة ومنع الخفارة [6] لأولئك الشّطّار وقال له خالد الدّريوش أنا لا أعيب على السّلطان فقال له سهل لكني أقاتل كلّ من خالف الكتاب والسّنّة كائنا من كان وذلك سنة إحدى ومائتين وجهّز له إبراهيم بن المهديّ العساكر فغلبه وأسره وانحلّ أمره سريعا وذهب ونجا بنفسه ثمّ اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحقّ ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبيّة ولا يشعرون بمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم والّذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إمّا المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإمّا التّنكيل بالقتل أو الضّرب إن أحدثوا هرجا وإمّا إذاعة السّخريّة منهم وعدّهم من جملة
[1] الفتنة.
[2]
الزعرة ج زعر وفي العامية ازعر وزعران وهم ذوي الأخلاق السيئة. (قاموس) .
[3]
اللصوص والمجرمين.
[4]
هو نهب مال الإنسان بأجمعه. وفي الحديث الحارب الميشلح أي الغاصب الناهب، الّذي يعرّي الناس ثيابهم.
[5]
طلب النجدة والعون.
[6]
المحافظة أي منع المحافظة عليهم.