الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار
اعلم أنّ ما توفّر عمرانه من الأقطار وتعدّدت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتّسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسّبب في ذلك كلّه ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما سيأتي ذكره من أنّها سبب للثّروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضّروريّات في حاجات السّاكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على النّاس كسبا يتأثّلونه حسبما نذكر ذلك في فضل المعاش وبيان الرّزق والكسب فيتزيّد الرّفه لذلك وتتّسع الأحوال ويجيء التّرف والغنى وتكثر الجباية للدّولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها ويشمخ سلطانها وتتفنّن في اتّخاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن وتشييد الأمصار. واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشّام وعراق العجم والهند والصّين وناحية الشّمال كلّها وأقطارها وراء البحر الرّوميّ لمّا كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم [1] وتعدّدت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالّذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجّار الأمم النّصرانيّة الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتّساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. وكذا تجّار أهل المشرق وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصّين فإنّه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرّفه غرائب تسير الرّكبان بحديثها وربّما تتلقّى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب من يسمعها من العامّة أنّ ذلك لزيادة في أموالهم أو لأنّ المعادن الذّهبيّة والفضّيّة أكثر بأرضهم أو لأنّ ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك فمعدن الذّهب
[1] وفي بعض النسخ: دولهم.
الّذي نعرفه في هذه الأقطار إنّما هو من بلاد [1] السّودان وهي إلى المغرب أقرب.
وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنّما يجلبونه إلى غير بلادهم للتّجارة. فلو كان المال عتيدا موفورا لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال ولا استغنوا [2] عن أموال النّاس بالجملة. ولقد ذهب المنجّمون لمّا رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتّساعها ووفور أموالها فقالوا بأنّ عطايا الكواكب والسّهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصا في مواليد أهل المغرب وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النّجوميّة والأحوال الأرضيّة كما قلناه وهم إنّما أعطوا في ذلك السّبب النّجوميّ وبقي عليهم أن يعطوا السّبب الأرضيّ وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال الّتي هي سببه فلذلك اختصّ المشرق بالرّفه من بين الآفاق لا إنّ ذلك لمجرّد الأثر النّجوميّ. فقد فهمت ممّا أشرنا لك أوّلا أنّه لا يستقبل بذلك وأنّ المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمر لا بدّ منه. واعتبر حال هذا الرّفه من العمران في قطر إفريقية وبرقة لمّا خفّ سكنها [3] وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة. وضعفت جباياتها فقلّت أموال دولها بعد أن كانت دول الشّيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرّفه وكثرة الجبايات واتّساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم. حتّى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته وكانت أموال الدّولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعدّ بها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة. وقطر المغرب وإن كان في القديم دون إفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك وكانت أحواله في دول الموحّدين متّسعة وجباياته موفورة وهو لهذا العهد
[1] وفي بعض النسخ: ببلاد.
[2]
وفي بعض النسخ: ولاستغنوا.
[3]
وفي بعض النسخ: ساكنها.