الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخمسون في ان الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة
قد ذكرنا أنّ الدّول الحادثة المتجدّدة نوعان نوع من ولاية الأطراف إذا تقلّص ظلّ الدّولة عنهم وانحسر تيّارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة للدّولة في الأكثر كما قدّمناه لأنّ قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوّتهم والنّوع الثّاني نوع الدّعاة والخوارج على الدّولة وهؤلاء لا بدّ لهم من المطالبة لأنّ قوّتهم وافية بها فإنّ ذلك إنّما يكون في نصاب يكون له من العصبيّة والاعتزاز ما هو كفاء [1] ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدّولة المستقرّة حروب سجال تتكوّر وتتّصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظّفر بالمطلوب ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة والسّبب في ذلك أنّ الظّفر في الحروب إنّما يقع كما قدّمناه بأمور نفسانيّة وهمية وإن كان العدد والسّلاح وصدق القتال كفيلا به لكنّه قاصر مع تلك الأمور الوهميّة كما مرّ ولذلك كان الخداع من أرفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظّفر به وفي الحديث الحرب خدعة والدّولة المستقرّة قد صيّرت العوائد المألوفة طاعتها ضروريّة واجبة كما تقدّم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدّولة المستجدّة ويكثر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون
[1] الأصح كفء أو كفيء أو كفؤ وقد ورد في لسان العرب: «وتقول: الأكفاء له، بالكسر، وهو في الأصل مصدر، أي لا نظير له» .
من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلّا أنّ الآخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التّسليم للدّولة المستقرّة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدّولة المستقرّة يرجع إلى الصّبر والمطاولة حتّى يتّضح هرم الدّولة المستقرّة فتضمحلّ عقائد التّسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظّفر والاستيلاء وأيضا فالدّولة المستقرّة كثيرة الرّزق [1] بما استحكم لهم من الملك وتوسّع من النّعيم واللّذّات واختصّوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة وتعظم فيهم الأبّهة الملكيّة ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارا واضطرارا فيرهبون بذلك كلّه عدوّهم وأهل الدّولة المستجدّة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة [2] فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرّعب بما يبلغهم من أحوال الدّولة المستقرّة ويحرمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتّى تأخذ المستقرّة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبيّة والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدّولة المستجدّة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة سنّة الله في عباده وأيضا فأهل الدّولة المستجدّة كلّهم مباينون للدّولة المستقرّة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثمّ هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليه فتتمكّن المباعدة بين أهل الدّولتين سرّا وجهرا ولا يصل إلى أهل الدّولة المستجدّة خبر عن أهل الدّولة المستقرّة يصيبون منه غرّة [3] باطنا وظاهرا لانقطاع المداخلة بين الدّولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون [4] عن المناجزة حتّى يأذن الله بزوال الدّولة المستقرّة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها واتّضح لأهل الدّولة المستجدّة مع ما كان يخفى منهم من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوّتهم بما اقتطعوه من
[1] في بعض النسخ «كثيرة الترف» .
[2]
الفقر وسوء الحال
[3]
قوله غرة بكسر الغين أي غفلة.
[4]
يجبنون.
أعمالها ونقّصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يدا واحدة للمناجزة ويذهب ما كان بثّ في عزائمهم من التّوهّمات وتنتهي المطاولة إلى حدّها ويقع الاستيلاء آخرا بالمعاجلة واعتبر ذلك في دولة بني العبّاس حين ظهورها حين قام الشّيعة بخراسان بعد انعقاد الدّعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد وحينئذ تمّ لهم الظّفر واستولوا على الدّولة الأمويّة وكذا العلويّة بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الدّيلم كيف كانت مطاولتهم حتّى استولوا على تلك النّاحية ثمّ لمّا انقضى أمر العلويّة وسما الدّيلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتّى اقتطعوا أصبهان ثمّ استولوا على الخليفة ببغداد. وكذا العبيديّون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشّيعيّ ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد تطاول بني الأغلب بإفريقيّة حتّى ظفر بهم واستولوا على المغرب كلّه وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين [1] سنة أو نحوها في طلبها يجهّزون إليها العساكر والأساطيل في كلّ وقت ويجيء المدد لمدافعتهم برّا وبحرا من بغداد والشّام وملكوا الإسكندريّة والفيّوم والصّعيد وتخطّت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين ثمّ نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختطّ القاهرة فجاء الخليفة بعد المعزّ لدين الله فنزلها لستّين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندريّة وكذا السّلجوقيّة ملوك التّرك لمّا استولوا على بني ساسان وأجازوا من وراء النّهر مكثوا نحوا من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتّى استولوا على دولته.
ثمّ زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيّام من الدّهر. وكذا التّتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبعة عشر وستّمائة فلم يتمّ لهم الاستيلاء إلّا بعد أربعين سنة. وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثمّ استولوا عليه. ثمّ خرج الموحّدون بدعوتهم
[1] كذا في الأصل والواضح من المراجع التاريخية ومنها تاريخ ابن خلدون نفسه ان المدة هي ستون سنة وان ثلاثين خطأ.