الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القالي البغداديّ. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة. وكان الغناء في الصّدر الأوّل من أجزاء هذا الفنّ لما هو تابع للشّعر إذ الغناء إنّما هو تلحينه. وكان الكتّاب والفضلاء من الخواصّ في الدّولة العباسيّة يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشّعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة. وقد ألّف القاضي أبو الفرج الأصبهانيّ كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيّامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا الّتي اختارها المغنّون للرّشيد فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه. ولعمري إنّه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن الّتي سلفت لهم في كلّ فن من فنون الشّعر والتّأريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية الّتي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنّى له بها. ونحن الآن نرجع بالتّحقيق على الإجمال فيما تكلّمنا عليه من علوم اللّسان.
والله الهادي للصّواب.
الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية
اعلم أنّ اللّغات كلّها ملكات شبيهة بالصّناعة إذ هي ملكات في اللّسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنّظر إلى المفردات وإنّما هو بالنّظر إلى التّراكيب. فإذا حصلت الملكة التّامّة في تركيب الألفاظ المفردة للتّعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التّأليف الّذي يطبّق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلّم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسّامع وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلّا بتكرار الأفعال لأنّ الفعل يقع أوّلا وتعود منه للذّات صفة ثمّ تتكرّر فتكون حالا. ومعنى الحال
أنّها صفة غير راسخة ثمّ يزيد التّكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته [1] اللّغة العربيّة موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصّبيّ استعمال المفردات في معانيها فيلقّنها أوّلا ثمّ يسمع التّراكيب بعدها فيلقّنها كذلك. ثمّ لا يزال سماعهم لذلك يتجدّد في كلّ لحظة ومن كلّ متكلّم واستعماله يتكرّر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيّرت الألسن واللّغات من جيل إلى جيل وتعلّمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى ما تقوله العامّة من أنّ اللّغة للعرب بالطّبع أي بالملكة الأولى الّتي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم. ثمّ إنّه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أنّ النّاشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيّات أخرى غير الكيفيّات الّتي كانت للعرب فيعبّر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيّات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللّسان العربيّ. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللّغات العربيّة وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثمّ من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأمّا من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسّان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والرّوم والحبشة فلم تكن لغتهم تامّة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصّحّة والفساد عند أهل الصّناعة العربيّة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
[1] الضمير يعود إلى اللغة. وفي النسخة الباريسية ملكة اللغة.