الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغاية الّتي للدّولة إلى أن تبلغها بحسب قوّتها وعوائد من قبلها سنّة الله في خلقه والله تعالى أعلم.
الفصل الثاني عشر في ان من طبيعة الملك الدعة والسكون
وذلك أنّ الأمّة لا يحصل لها الملك إلّا بالمطالبة والمطالبة غايتها الغلب والملك وإذا حصلت الغاية انقضى السّعي إليها (قال الشاعر)
عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها
…
فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب الّتي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الرّاحة والسّكون والدّعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرّياض ويستمتعون بأحوال الدّنيا ويؤثرون الرّاحة على المتاعب ويتأنّقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذّن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم.
الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم
وبيانه من وجوه. الأوّل أنّها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه ومهما كان المجد مشتركا بين العصابة وكان سعيهم له واحدا كانت هممهم في التّغلّب على
الغير والذّبّ عن الحوزة [1] أسوة في طموحها وقوّة شكائمها ومرماهم إلى العزّ جميعا يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيّتهم وكبح من أعنّتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو وفشل ربحهم ورئموا [2] المذلّة والاستعباد ثمّ ربي الجيل الثّاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرا من السّلطان لهم عن الحماية والمعونة لا يجري في عقولهم سواه وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهنا في الدّولة وخضدا من الشّوكة وتقبل به على مناحي الضعف والهرم لفساد العصبيّة بذهاب البأس من أهلها. والوجه الثّاني أنّ طبيعة الملك تقتضي التّرف كما قدّمناه فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم ولا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ثمّ يزداد ذلك في أجيالهم المتأخّرة إلى أن يقصر العطاء كلّه عن التّرف وعوائده وتمسّهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب فلا يجدون وليجة [3] عنها فيوقعون بهم العقوبات وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم ويضعف صاحب الدّولة بضعفهم وأيضا إذا كثر التّرف في الدّولة وصار عطاؤهم مقصّرا عن حاجاتهم ونفقاتهم احتاج صاحب الدّولة الّذي هو السّلطان إلى الزّيادة في أعطياتهم حتّى يسدّ خللهم [4] ويزيح عللهم والجباية مقدارها معلوم ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزّيادة محدودا فإذا وزّعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزّيادة لكلّ واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عمّا كان قبل زيادة الأعطيات ثمّ يعظم
[1] الدفاع عن الناحية.
[2]
أحبوا وآلفوا.
[3]
الوليجة: البطانة والخاصة ومن يتخذه الإنسان معتمدا عليه من غير أهله (قاموس) .
[4]
الخلل: الوهن في الأمر والرقة في الناس (قاموس) ولعل الكلمة محرّفة من كلمة الخلّة وهي الحاجة.
التّرف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية وثالثا ورابعا إلى أن يعود العسكر إلى أقلّ الأعداد فتضعف الحماية لذلك وتسقط قوّة الدّولة ويتجاسر عليها من يجاوزها من الدّول أو من هو تحت يديها من القبائل والعصائب ويأذن الله فيها بالفناء الّذي كتبه على خليقته وأيضا فالتّرف مفسد للخلق بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ والسّفسفة [1] وعوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير الّتي كانت علامة على الملك ودليلا عليه ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشّرّ فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته وتأخذ الدّولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها. الوجه الثّالث أنّ طبيعة الملك تقتضي الدّعة كما ذكرناه وإذا اتّخذوا الدّعة والرّاحة مألفا وخلقا صار لهم ذلك طبيعة وجبلّة شأن العوائد كلّها وإيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد التّرف والدّعة وينقلب خلق التّوحّش وينسون عوائد البداوة الّتي كان بها الملك من شدّة البأس وتعوّد الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر فلا يفرق بينهم وبين السّوقة من الحضر إلّا في الثّقافة والشّارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بما تلبّس من ثياب الهرم ثمّ لا يزالون يتلوّنون بعوائد التّرف والحضارة والسّكون والدّعة ورقّة الحاشية في جميع أحوالهم وينغمسون فيها وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة وينسلخون عنها شيئا فشيئا وينسون خلق البسالة الّتي كانت بها الحماية والمدافعة حتّى يعودوا عيالا على حامية أخرى إن كانت لهم واعتبر ذلك في الدّول الّتي أخبارها في الصّحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحا من غير ريبة وربّما يحدث في الدّولة إذا طرقها هذا الهرم بالتّرف والرّاحة أن يتخيّر صاحب الدّولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم ممّن تعوّد الخشونة فيتّخذهم جندا يكون أصبر على الحرب وأقدر على
[1] الرديء من كل شيء.