الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به إلى قوالب الأدلّة وصورها فأفرغه فيها ووفّه حقّه من القانون الصّناعيّ ثمّ اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.
وأمّا إن وقفت عند المناقشة والشّبهة في الأدلّة الصّناعيّة وتمحيص صوابها من خطئها وهذه أمور صناعيّة وضعيّة تستوي جهاتها المتعدّدة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميّز جهة الحقّ منها إذ جهة الحقّ إنّما تستبين [1] إذا كانت بالطّبع فيستمرّ ما حصل من الشّكّ والارتياب وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالنّاظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثرين من النّظّار والمتأخّرين سيّما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه ومن حصل له شغب بالقانون المنطقيّ تعصّب له فاعتقد أنّه الذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلّة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها. والذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع إنّما هو الفكر الطّبيعيّ كما قلناه إذا جرّد عن جميع الأوهام وتعرّض النّاظر فيه إلى رحمة الله تعالى وأمّا المنطق فإنّما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصّواب. والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلّا من عند الله.
الفصل الثامن والثلاثون في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل
اعلم أنّ العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذّات كالشّرعيّات من التّفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطّبيعيّات والإلهيّات من الفلسفة، وعلوم هي وسيلة آليّة [2] لهذه العلوم كالعربيّة والحساب
[1] وفي النسخة الباريسية: تتميز.
[2]
وفي النسخة الباريسية: آلة ووسيلة.
وغيرهما للشّرعيّات كالمنطق للفلسفة. وربّما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخّرين فأمّا العلوم الّتي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلّة والأنظار فإنّ ذلك يزيد طالبها تمكّنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة. وأمّا العلوم الّتي هي آلة لغيرها مثل العربيّة والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلّا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرّع المسائل لأنّ ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلّما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربّما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذّات لطول وسائلها مع أنّ شأنها أهمّ والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصّورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآليّة تضييعا للعمر وشغلا بما لا يغني. وهذا كما فعل المتأخّرون في صناعة النّحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنّهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التّفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيّرها من المقاصد [1] وربّما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللّغو وهي أيضا مضرّة بالمتعلّمين على الإطلاق لأنّ المتعلّمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها [2] فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟ فلهذا يجب على المعلّمين لهذه العلوم الآليّة أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبّهوا المتعلّم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همّته بعد ذلك إلى شيء من التّوغّل ورأى من نفسه قياما بذلك وكفاية به فليرقّ [3] له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا وكلّ ميسّر لما خلق له.
[1] وفي نسخة أخرى: وصيرها مقصودة بذاتها.
[2]
وفي نسخة أخرى: بهذه الآلات والوسائل.
[3]
وفي نسخة أخرى: فليختر لنفسه.