الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالعمران الحضريّ لما أنّ أهل البدو يستغنون عنها وإنّما يشتملون الأثواب اشتمالا. وإنّما تفصيل الثّياب وتقديرها وإلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة وفنونها. وتفهّم هذه في سرّ تحريم المخيط في الحجّ لما أنّ مشروعيّة الحجّ مشتملة على نبذ العلائق الدّنيويّة كلّها والرّجوع إلى الله تعالى «كما خلقنا أوّل مرّة، حتّى لا يعلّق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيبا ولا نساء ولا مخيطا ولا خفّا، ولا يتعرّض لصيد ولا لشيء من عوائده الّتي تلوّنت [1] بها نفسه وخلقه، مع أنّه يفقدها بالموت ضرورة. وإنّما يجيء كأنّه وارد إلى المحشر ضارعا بقلبه مخلصا لربّه. وكان جزاؤه إن تمّ له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. سبحانك ما أرفقك بعبادك وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك. وهاتان الصّنعتان قديمتان في الخليقة لما أنّ الدّفء ضروريّ للبشر في العمران المعتدل. وأمّا المنحرف إلى الحرّ فلا يحتاج أهله إلى دفء.
ولهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأوّل من السّودان أنّهم عراة في الغالب. ولقدم هذه الصّنائع ينسبها العامّة إلى إدريس عليه السلام وهو أقدم الأنبياء. وربّما ينسبونها إلى هرمس وقد يقال إنّ هرمس هو إدريس. والله سبحانه وتعالى هو الخلّاق العليم.
الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد
وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدميّ من بطن أمّه من الرّفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك. ثمّ ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. وهي مختصّة بالنّساء في غالب الأمر لما أنّهنّ الظّاهرات بعضهنّ على عورات بعض. وتسمّى القائمة على ذلك منهنّ القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء
[1] وفي نسخة أخرى: تكونت.
والقبول كأنّ النّفساء تعطيها الجنين وكأنّها تقبله. وذلك أنّ الجنين إذا استكمل خلقه في الرّحم وأطواره وبلغ إلى غايته والمدّة الّتي قدّرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النّزوع لذلك ويضيق عليه المنفذ فيعسر. وربّما مزّق بعض جوانب الفرج بالضّغط وربّما انقطع بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرّحم. وهذه كلّها آلام يشتدّ لها الوجع وهو معنى الطّلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشّيء بغمز الظّهر والوركين وما يحاذي الرّحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدّافعة في إخراج الجنين وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها وعلى ما تهتدي إلى معرفة عسرة. ثمّ إن أخرج الجنين بقيت بينه وبين الرّحم الوصلة حيث كان يتغذّى منها متّصلة من سرّته بمعاه. وتلك الوصلة عضو فضليّ لتغذية المولود خاصّة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدّى مكان الفضلة ولا تضرّ بمعاه ولا برحم أمّه ثمّ تدمل مكان الجراحة منه بالكيّ أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثمّ إنّ الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضّيق وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء فربّما تتغيّر أشكال أعضائه وأوضاعها لقرب التّكوين ورطوبة الموادّ فتتناوله القابلة بالغمز والإصلاح حتّى يرجع كلّ عضو إلى شكله الطّبيعيّ ووضعه المقدّر له ويرتدّ خلقه سويّا. ثمّ بعد ذلك تراجع النّفساء وتحاذيها بالغمز والملاينة لخروج أغشية الجنين لأنّها ربّما تتأخّر عن خروجه قليلا. ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطّبيعيّة قبل استكمال خروج الأغشية وهي فضلات فتتعفّن ويسري عفنها إلى الرّحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا وتحاول في إعانة الدّفع إلى أن تخرج تلك الأغشية الّتي كانت قد تأخّرت ثمّ ترجع إلى المولود فتمرّخ [1] أعضاءه بالأدهان والذّرورات [2] القابضة لتشدّه وتجفّف رطوبات الرّحم وتحنّكه لرفع لهاته وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه وتغرغره باللّعوق لدفع السّدد من معاه وتجويفها عن
[1] تمرّخ: تدهن (قاموس) .
[2]
الذرورات: ج اذرة وهو ما يذر في العين أو الجرح من دواء.
الالتصاق. ثمّ تداوي النّفساء بعد ذلك من الوهن الّذي أصابها بالطّلق وما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود إن لم يكن عضوا طبيعيّا فحالة التّكوين في الرّحم صيّرته بالالتحام كالعضو المتّصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. وتداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التّمزيق عند الضّغط في الخروج. وهذه كلّها أدواء نجد هؤلاء القوابل أبصر بدوائها. وكذلك ما يعرض للمولود مدّة الرّضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهنّ أبصر بها من الطّبيب الماهر. وما ذاك إلّا لأنّ بدن الإنسان في تلك الحالة إنّما هو بدن إنسانيّ بالقوّة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدنا إنسانيّا بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطّبيب أشدّ. فهذه الصّناعة كما تراه ضروريّة في العمران للنّوع الإنسانيّ، لا يتمّ كون أشخاصه في الغالب دونها. وقد يعرض لبعض أشخاص النّوع الاستغناء عن هذه الصّناعة، إمّا بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقا للعادة كما في حقّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أو بإلهام وهداية يلهم لها المولود ويفطر عليها فيتمّ وجودهم من دون هذه الصّناعة. فأمّا شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيرا. ومنه ما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا مختونا واضعا يديه على الأرض شاخصا ببصره إلى السّماء. وكذلك شأن عيسى في المهد وغير ذلك. وأمّا شأن الإلهام فلا ينكر. وإذا كانت الحيوانات العجم تختصّ بغرائب الإلهامات كالنّحل وغيرها فما ظنّك بالإنسان المفضّل عليها. وخصوصا بمن اختصّ بكرامة الله. ثمّ الإلهام العامّ للمولودين في الإقبال على الثّدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العامّ لهم. فشأن العناية الإلهيّة أعظم من أن يحاط به. ومن هنا يفهم بطلان رأي الفارابيّ وحكماء الأندلس فيما احتجّوا به لعدم انقراض الأنواع واستحالة انقطاع المكوّنات. وخصوصا في النّوع الإنسانيّ، وقالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقّفه على وجود هذه الصّناعة الّتي لا يتمّ كون الإنسان إلّا بها. إذ لو قدّرنا مولودا دون هذه الصّناعة وكفالتها إلى حين