الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - العرب بعد الاسلام
قد رأيت أن العرب قبل الاسلام كانت لهم دول شمالا وجنوبا. أما قلب الجزيرة فكان تحت امراء ورؤساء عديدين. فلم تكن لهم وحدة سياسية، وقد كادوا يفقدون استقلالهم قبيل الاسلام: اذ استولى الفرس على اليمن، وكان المناذرة تحت حمايتهم، والغساسنة تحت حماية الروم البيزنطيين.
وكانوا من حيث الدين أيضا على أديان مختلفة. فكانت الفوضى شاملة للوجهتين الدينية والسياسية.
والامم غير العرب ليسوا بأسعد منهم في هاتين الوجهتين، بل ان العالم كله أمسى في فوضى عامة لا يبصر في ظلامها الدامس سبيلا للرقي والكمالات البشرية. يشهد بذلك التاريخ الصادق.
وقد امتاز العرب عن غيرهم من أهل عصرهم بالاخلاق الفاضلة مثل الصدق والوفاء وحماية الجار الى غير ذلك مما لا يسعنا تتبعه وامتازوا أيضا بقربهم من الفطرة. فكانت أذهانهم صافية وعقولهم راجحة.
كان العالم في حاجة شديدة الى نور يهديه سبل الكمال، وصيحة عظيمة توقظه وتلفت نظره نحو ذلك النور. وكان العرب - كما قلنا- أقرب من غيرهم الى الفطرة وأقوم أخلاقا. فكانوا أهلا لان يبدو من جزيرتهم ذلك النور، وان يكون صاحب الصيحة رجلا منهم قد عرفوا فضله على رجالهم وفضل عشيرته وقبيلته على عشائرهم وقبائلهم.
هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. رجل أمي نشأ بين قوم أميين. وكان المثل الاعلى عندهم في
الاخلاق الفاضلة من صدق ووفاء عهد وأمانة ورأفة بالضعفاء واحسان الى عموم الناس. ناهيك أنه كان له عبد يدعى زيد بن حارثة، ولم يكن أبوه حارثة عالما بمكانه حتى عرف انه في مكة. فقصده هو وعم زيد. وطلبا الحربه محمد ان يسرح ولدهما يذهبان به معهما. فاحالهما على اختيار زيد للاقامة معه أو الذهاب معهما. فقالا له: لقد انصفتنا. وجاء زيد فاختار ربه على أبيه.
هذا الرجل الامي الكامل في بشريته لم يجلس الى العلماء ولا صاحب زعيما من الزعماء ولا خرج من بين قومه الى أي بلدة سوى أنه سافر مرتين الى الشام، الاولى كان فيها صبيا ابن اثنتي عشرة سنة، تعلق بعمه وكافله ابي طالب عند خروجه اليه، فاستصحبه، والثانية كان فيها فتى قد عرف فضله وأمانته، فرغبت اليه خديجة في أن يذهب ببضاعتها الى الشام تاجرا. ففعل.
لسنا نريد ان نشرح حياة هذا الرجل قبل ان يبلغ الاربعين شرحا وافيا. ولكنا نريد ان نعلم أنه عاش في تلك المدة كرجل أمي سوى ما كان عليه من خلق عظيم.
ولما بلغ الاربعين من عمره اصطفاه الله وعهد اليه بمهمة القيام باصلاح المجتمع البشري من جميع مناحيه. تلك المهمة التي لم يقم بها أحد قبله، ولا يستطيع أن يقوم بها أحد بعده ولو قرأ في أعلى مدارس الفلسفة وعاش أكثر من قرن قضاه بحثا ودرسا عمليا. وبذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلائق على الاطلاق.
كانت الفوضى اذ ذاك بالغة منتهاها. فكانت دعوته بالغة منتهى التوحيد، اذ دعا الناس الى عبادة اله واحد، والعمل بشريعة واحدة جامعة بين الوحدتين الدينية والسياسية، شاملة للسعادتين الدنوية والاخروية.
قضى في نشر دعوته بمكة ثلاث عشرة سنة قاسى فيها من كبراء قومه وسفهائهم ما لا يحتمله الا من خلقه الله وهيأه لان يكون أفضل الخلق أجمعين. ثم هاجر الى يثرب حيث كان له أنصار. فأقام بها عشر سنوات، أكمل فيها برنامج دعوته، وقضى على معانديه بالسنان بعدما أفحمهم بالحجة والبرهان. فصار العرب يدخلون في دين الله أفواجا حتى لم يبق بجزيرة العرب غير من يدين بالاسلام.
هذا الاسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الجامع للفضائل الباطنية والظاهرية، الدال على طرق السعادتين الدنوية والاخروية. فكان خاتمة الاديان وأداة الكمال لنوع الانسان.
دعا الناس عامة الى الاعتقاد باله واحد. وحرض مجيبيه على التسامح مع أهل بقية الاديان ومعاملتهم بالجميل والاحسان. جاء في سورة الانعام: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وجاء في سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ» .
هذا الدين على موافقته للفطرة وفضله على البشرية عمل لتشويهه ومحوه أناس سرا تحت ظله. حتى اذا تم لهم صرف العامة من أهله عن صراطه السوي قام من بعدهم بمحاربته جهرا وصاروا يضعون على حسابه القواعد الفلسفية. واليك كلمة واحدة في هذا الموضوع ننقلها عن سلامة موسى أحد متجردي العصر وملحدي
مصر. قال: "وعند ظهور الآلهة وانتظام العبادة ازداد الكهنة قوة وجمدت نواهي الطبو. فتقيد فكر الانسان. انما يجب أن نذكر ان الآلهة القديمة لم تكن في قوة آلهة الاديان الحاضرة لانها لم تكن قادرة على كل شيء كما يعتقد الآن المسيحي أو المسلم في إلهه. فكان بين الانسان وربه مجال للفكر في جملة موضوعات لا يستطيع أهل الاديان الحاضرة ان يفكروا فيها ما لم يتناقضوا مع ما ذكرته الآلهه"(1).
خلاصة كلامه هذا تفضيل الوثنية على الوحدانية اعتمادا على تلك الشبهة التي لبس بها على بسطاء العقول ممن يفزعون الى الاخذ بالجديد من الافكار مطلقا فزع النساء الى الجديد من الازياء.
نظرته هذه نظرة خيالية لا تتفق ومفعول الديانة الاسلامية وفضلها على البشرية جمعاء كما ينطبق تاريخها أيام عظمتها. وعلاوة عن كون هذه الفلسفة النظرية تدحضها الفلسفة العملية نزيد دحض هذه الشبهة من الوجهة النظرية أيضا: ان الوثنيين يعتقدون في آلهتهم المتعددة القدرة على كل شيء مثل ما يعتقد المسلم في إلهه الواحد، غير أن الآلهة الوثنية ليس لعبادتها نظام ولا لمرضاتها سبيل مقرر انتهاجها، وهذا الاله الواحد عبادته مضبوطة وأوامره مقررة. وهو يأمر البشر بالنظر في ماضيهم لاصلاح مستقبلهم، وأن نظام هذا الكون واحد: ما كان علة لانحطاط الماضين فهو علة انحطاط الآتين، وما كان سببا لرفعة أولئك فهو سبب لرفعة أولاء " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا".
كل هذا لا يخفى حتى على سلامة موسى واضرابه. ولكن هي
(1) حرية الفكر وابطالها في التاريخ ص25.
الاهواء ودعاية الكيد للاسلام عامة والعرب خاصة (1).
وان عذلت في هذا الاستطراد القصير فسيعذرني من رأى تحامل هؤلاء الرهاط على الاسلام والعرب متسترين بالفلسفة النظرية متجاهلين الحقائق الواقعية.
اعتز العرب بهذا الدين واتحدت كلمتهم واستجدت قوتهم. فعظمت دولتهم وتمكنت في قلوب الاعداء هيبتهم. فأخذوا يفتحون البلدان ويستولون على الاوطان بسرعة ليس لها في تاريخ البشر مثيل. وليس ذلك بتقدمهم على الامم الاخرى في الفنون الحربية
(1) اشتد كلب الزارين على الاسلام والعرب في هذه الايام لظهور دولة عربية اسلامية هي دولة عبد العزيز بن السعود. وقد رأيت في عدد واحد من الهلال (الجزء الخامس من السنة السادسة والثلاثين) التي تدعى بعدها عن السياسة والدين التحكك بالاسلام في ثلاتة مواضع: الاول (ص555) جاء فيه ان الاباحة اوفق من الحظر وان الجبر شر منه. ومثل للجبر بجبر الوهابيين الناس على الصلاة. وخفى عليه ان ضرر الجبر انما يكون اذا كان المجبور غير معتقد الخير فيما اجبر عليه. وهؤلاء مسلمون يرون الصلاة أهم ركن في دينهم الذي يرون نسبتهم لغيره سبة لا نظير لها.
الثاني (ص611) جاء فيه ان المنع أحسن من الاباحة، نقيض الاول. ولكن سهل هذا التناقض ان الاول ضد الجبر على الصلاة والثاني ضد اباحة الطلاق. وكلاهها يتفقان مغزى.
الثالث (ص586) جاء فيه ان الجرئم تكثر تبعا للحضارة وتقل مع البداوة "والوهابيون في نجد أقل جرائم منا ودعائم الامن أرسخ عندهم مما هي عندنا، لا لانهم اكثر خشية للعقوبة بل لان وسائل الجريمة عندهم قليلة لا تتعدى سرقة الماشية أو الملابس" ولا أدري أهذا الفيلسوف .. يعتقد أن الحجاز على عهد الاتراك والشريف حسين كان ارقى حضارة منه على عهد ابن السعود؟ لا يا فيلسوف! انه لا علاج للاجرام غير التهذيب الديني وعدل الحاكم، ولا سبب لكثرتها غير استبدال الايمان بالمادة بالايمان باله عالم قادر.
واختراعهم الاسلحة القاضية على النفوس المخربة للعمران. وانما بعدل أمرائهم واخلاص جيوشهم وكفاءة قوادهم. وهذه ميزات لا توجد في محاربيهم. اختصوا بها: لبعدهم عن النعيم والترف الموجبين للراحة وسآمة مقارعة الخطوب، ولكونهم متدينين بدين مهذب للنفوس ومعتقدين باله واحد مطلع على القلوب لا تخفى عليه خيانة خائن ولا جور جائر.
ومما يدلك على شدة تأثير الاسلام في العرب وسرعته وفضله في تطهير القلوب وانارة العقول اتفاقهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على تقديم أبي بكر لخلافته واسراعهم لذلك، وهم الذين كانوا لا يدينون لاحد بالطاعة، وكل يرى نفسه أميرا. هؤلاء صاروا يخضعون لرجل واحد ليس له سلف في الملك والامارة، ويحسنون انتخابه واختياره. وان أرقى أمة اليوم في العلم وأعرقها في الحضارة لم تزل تفتك بها الاغراض الشخصية في الانتخابات العمومية.
ومن كلام أبي بكر الدال على فضله وكفاءته خطبته التي خطبها في اليوم الثاني لخلافته. قال- بعد أن حمد الله وأثنى عليه-: "أيها الناس! قد وليت عليكم ولست بخيركم. فان أحسنت فأعينوني، وان أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ان شاء الله تعالى. لا يدع أحد منكم الجهاد فانه لا يدعه قوم الا ضربهم الله بالذل. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فاذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
ومن كلامه الدال على عدله وحسن سياسته وصيته لجيشه الذي وجهه الى الشام. قال: "عليكم بتقوى الله في السر والعلانية. واذا قدمتم على جندكم (يخاطب القواد) فأحسنوا صحبتهم وأبدأوهم