الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أحكام «أن» المخففة و «أن» المصدرية]
قال ابن مالك: (وينصب بـ «أن» ما لم تل علما أو ظنّا في أحد الوجهين، فتكون مخفّفة من «أنّ» ناصبة لاسم لا يبرز إلّا اضطّرارا، والخبر جملة ابتدائيّة أو شرطيّة أو مصدّرة بـ «ربّ» أو فعل يقترن غالبا إن تصرّف ولم يكن دعاء بـ «قد» وحدها، أو بعد نداء، أو بـ «لو» أو بحرف تنفيس، أو نفي، وقد تخلو من العلم والظّنّ فتليها جملة ابتدائيّة، أو مضارع مرفوع لكونها المخفّفة (1) أو محمولة عليها أو على «ما» المصدريّة).
وللباحث أن يقول: «لم» متوجهة إلى الفعل الداخلة هي عليه، و «إن» الشرطية ليست متوجهة إلى «يفعل» إنما هي متوجهة إلى «لم يفعل»؛ لأن المشروط في قولنا: إن لم يفعل؛ إنما هو عدم الفعل، وإذا كان كذلك فلا يقال: اجتمع عاملان ضعيف وقوي؛ لأن هذا الكلام يوهم أن العاملين [5/ 95] متوجهان إلى شيء واحد، ثم لا يعقل ضعف «لم» وقوة «إن» بل كل منهما قوي بالنسبة إلى ما يستحقه من العمل، على أن القول بأن عامل الرفع حروف المضارعة قول ظاهر الفساد؛ لأن المضارع إنما صار مضارعا بهذه الأحرف، فكل حرف منها هو جزء من الفعل المبدوء به، وجزء الكلمة لا يكون عاملا فيها (2).
وقد ذكر الشيخ مذاهب أخر في الرافع للفعل، وذكر أن المذاهب فيه سبعة (3).
ولا يخفى أن ذكر هذه المذاهب الواضحة البطلان لا ينبغي التشاغل به، ثم إنه بعد ذكر المذاهب كأنه قصد الإشارة
إلى فساد ما اختاره المصنف فذكر ما لم أتحققه فتركت إيراده لذلك، ولأنه لا فائدة فيه؛ لأن كون عامل الرفع في الفعل ذا أو ذا، لا يجدي شيئا في الخارج، وقد قال هو في شرحه (4): إن الخلاف في ذلك لا ينشأ عنه حكم نطقي.
قال ناظر الجيش: اعلم أن المصنف أفرد عوامل الجزم بباب، وقصر هذا الباب -
(1) في نص التسهيل (ص 228): «لكونها مخففة من «أن» عند الكوفيين ومشبهة بـ «ما» أختها عند البصريين» وقد ذكر المحقق أن المصنف كتب العبارة الأولى ثم ضرب عليها وأثبت العبارة المحققة التي في نص التسهيل.
(2)
انظر: حاشية الصبان (3/ 277).
(3)
انظر: التذييل (6/ 498 - 499).
(4)
انظر: التذييل (6/ 500).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
على ذكر عوامل النصب مقدما على ذكرها ذكر عامل الرفع.
وأنا أشير أولا إلى ذكرها إجمالا ثم أشرع في ذكرها تفصيلا حسبما يقتضيه لفظ الكتاب فأقول:
معلوم أن النواصب أربعة: منها حرفان مصدريان وهما: «أن» و «كي» ، وحرف نفي وهو:«لن» ، وحرف جواب وهو:«إذن» ، وأمّ النواصب «أن» ؛ ومن ثمّ كانت هي المتفق عليها، وحصل الخلاف في الثلاث الأخر؛ فقيل في «لن»: إن أصلها: لا أن، وكذا قيل في «إذن»: إنها من إذ وأن، وأما «كي» فقيل: إن النصب بعدها بـ «أن» مقدرة، والحق خلاف ذلك، ويدل على بطلان هذه الأقوال أن «لن» لها معنى مستقل ولو وضع موضعها ما ذكروا لم يستقم، وكذا «إذن» ، وأما «كي» فيقال للمخالفين: إن أردتم «كي» الجارة فالأمر كما قلتم، وإن أردتم «كي» المصدرية فباطل؛ لأن حرفا مصدريّا لا يباشر حرفا مصدريّا، والدليل على إثبات مصدريتها دخول «اللام» عليها حيث يقال: لكي.
واختصت «أن» دون أخواتها: بأنها تنصب مضمرة كما تنصب مظهرة؛ وذلك لأنها شبيهة لفظا وتأوّلا بأحد عوامل الأسماء وهو: «أن» .
ثم إضمارها واجب وجائز:
فالواجب يكون بعد ستة أحرف وهي: «كي» الجارة، و «لام الجحود» و «حتى» المرادفة لـ «إلى» أو «كي» الجارة، و «أو» الواقعة موقع «إلى أن» أو «إلّا أن» ، و «فاء السبب» الواقعة صدر جواب تسعة أشياء وهي: الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والعرض، والتمني، والتحضيض، والرجاء (1)، والنفي - و «واو» الجمع الواقعة موقع «الفاء»
المذكورة.
والإضمار الجائز يكون بعد حرفين وهما: «لام الجر» غير الجحودية ما لم تلها «لا» ، وحرف العطف العاطف فعلا على اسم لا يشبه الفعل.
فإن ولي «لام الجر» المذكورة «لا» وجب حينئذ إظهار «أن» . -
(1) المشهور أن الأجوبة ثمانية ولكن المؤلف عدها تسعة وذكر معها الرجاء؛ لأن الفراء ألحقه بالتمني فجعل له جوابا منصوبا وقد ثبت مسموعا كقراءة حفص عن عاصم قوله تعالى: لعلى أبلغ الأسبب (36) أسبب السماوات فأطلع إلى إله موسى انظر: شرح ابن الناظم (ص 685).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وعلى هذا يكون لـ «أن» ثلاثة أحوال: وجوب إضمار، وجواز إظهار وإضمار، ووجوب إظهار، هذا الذي ذكر هو مذهب البصريين، وقد خالفهم الكوفيون فمنعوا أن تكون «كي» ناصبة وجعلوا النصب بإضمار «أن» بعدها، ولم يضمروا «أن» بعد «حتى» ولا «لام الجحود» ، ولا «الفاء» و «الواو» في الأجوبة الثمانية، بل مذهبهم أن النصب بـ «حتى» و «اللام» أنفسهما، وبالخلاف بعد «الفاء» و «الواو» ، والمنقول عن الجرمي أنه يرى أن «الفاء» و «الواو» هما الناصبان أنفسهما، وسيأتي الكلام على هذه المذاهب في تفاصيل الباب إن شاء الله تعالى.
وقد تبيّن أن الأحرف التي ينصب الفعل بعدها بـ «أن» مضمرة وجوبا أو جوازا منها ما هو حرف جر وهو ثلاثة: «اللام» ، و «كي» ، و «حتى» ، ومنها ما هو حرف عطف وهو:«أو» ، و «الفاء» ، و «الواو» .
ثم لما كانت «أن» المخففة مشابهة لـ «أن» الناصبة للفعل لفظا قصد المصنف تمييز إحداهما من الأخرى فأشار إلى ذلك بقوله: ما لم تل علما أو ظنّا في أحد الوجهين فتكون مخفّفة من «أنّ» .
وتقرير ذلك أن يقال: إن وليت علما لم تكن الناصبة بل المخففة، والمراد بالعلم، ما يفهم التحقق، فيستوي في ذلك: علم، وتحقق، وتيقن، ووجد ودرى إذا كانتا بمعنى «علم» ، وإن وليت «ظنّا» جاز أن تكون المخففة وأن تكون الناصبة للفعل، والمراد [بالظن]: ما يفهم الترجح كـ: «ظن» ، و «حسب» ، و «خال» و «رأى» ، ولكن الأكثر فيها أن تكون الناصبة لا المخففة ولذلك اتفق على النصب (1) في قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا (2)، وقرئ بالوجهين (3) قوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ (4).
وإن وليت ما لا يفهم علما ولا ظنّا تعين أن تكون الناصبة للفعل وذلك بأن تلي -
(1) انظر: شرح الألفية لابن الناظم (ص 668) تحقيق د/ عبد الحميد السيد.
(2)
سورة العنكبوت: 2.
(3)
قرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي برفع «تكون» ونصب الباقون. انظر: الكشف (1/ 416)، والحجة لابن خالويه (ص 133)، وانظر شرح ابن الناظم (ص 668).
(4)
سورة المائدة: 71.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ما يفهم شكّا نحو: توهمت، أو ما لا يفهم علما ولا ظنّا ولا شكّا نحو: أحببت، وأردت، هذا الذي يقتضيه كلام المصنف فإنه قال: وينصب بـ «أن» ما لم تل علما أو ظنّا. فأعطى ذلك أنها إذا لم تل أحد هذين الأمرين تعينّ أن تكون الناصبة للفعل وهذا هو الظاهر (1)، لكن في شرح الشيخ ما يناقض ذلك فإنه قال (2): الذي قرره أصحابنا أن الفعل المتقدم على «أن» إن كان فعل شكّ فهي الناصبة للفعل، أو فعل يقين فهي المخففة من الثقيلة، أو فعلا مستعملا للشك واليقين، أو عاريا عن استعمال لهما فيجوز إذ ذاك فيها أن تكون المصاحبة للفعل، وأن تكون المخففة نحو: ظننت وأحببت، فـ «ظننت» تستعمل للأمرين كما عرف، و «أحببت» عارية عن أن تكون لشك أو يقين. انتهى.
فجعل [5/ 96] الفعل العاري عن الظن واليقين - نحو: أحببت - جائزا معه في «أن» الوجهان - أعني: أن تكون الناصبة للفعل، وأن تكون المخففة - وهذا يقتضي أن «أن» الناصبة للفعل لا تتعين إلا أن تكون مع فعل هو شك، ولا يخفى بطلان ذلك، والحق ما قاله المصنف وهو: أنها تنصب الفعل ما لم تل علما أو ظنّا، فإن وليت علما تعين أن تكون المخففة، وإن وليت ظنّا جاز فيها الأمران (3)، وإلى جوازهما الإشارة بقوله: في أحد الوجهين.
فقوله: في أحد الوجهين يرجع إلى قوله: أو ظنّا، لكن قال الشيخ (4):
ويتجه عندي عوده إليهما - يعني إلى قوله: علما أو ظنّا - قال: لأنه قد جاء إجراء العلم مجرى الظن. انتهى.
ويدفع ما ذكره أمران:
أحدهما: أن المصنف قد صرح في غير هذا الكتاب بأن احتمال الوجهين في «أن» إنما يكون بعد الظن، قال في الألفية:
وبلن انصبه وكي كذا بأن
…
لا بعد علم والّتي من بعد ظن
فانصب بها والرّفع صحح واعتقد
…
تخفيفها من أنّ فهو مطّرد
-
(1) انظر: شرح ابن الناظم (ص 688) وشرح الألفية للأبناسي (2/ 268).
(2)
انظر: التذييل (6/ 506، 507) وقد نقله المؤلف بتصرف.
(3)
انظر: شرح ابن الناظم (ص 668) وشرح الألفية للأبناسي (2/ 268).
(4)
انظر: التذييل (6/ 506) وقد نقله المؤلف بتصرف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثانيهما: أن العلم الذي جاء النصب بـ «أن» بعده إنما هو مؤول بغير العلم كما سيجيء ذلك في كلام المصنف.
فإن قال: قد أجاز بعضهم وقوعها بعد علم غير مؤول، فالجواب: أن هذا ليس رأي المصنف فكيف يحمل كلامه على أمر غير جائز عنده؟
ثم ها هنا أمر ينبغي التنبيه له:
وهو أن الوجهين الجائزين في «أن» بعد «ظنّ» و «حسب» وما بمعناهما هل هما جائزان مطلقا أريد بذلك الفعل اليقين أو الشك؟ أو أن جوازهما إنما هو بحسب ما يراد بالفعل إن قصد به اليقين كانت «أن» بعده هي المخففة، وإن قصد به المعنى الآخر كانت الناصبة للفعل؟! لم أر في كلامهم تعرّضا لذلك، والذي يظهر من كلامهم أن الوجهين جائزان مطلقا، من غير نظر إلى ما يقصد من المعنيين، ويدل على ذلك قوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ (1) فإنه قرئ بالوجهين.
ولما ذكر المصنف أن «أن» الواقعة بعد العلم مطلقا، أو الظن في أحد الوجهين هي المخففة من «أن» شرع في ذكر أحكامها استطرادا، فنبّه على أنها تستحق من العمل ما تستحقه مثقّلة - أعني: أن يكون لها اسم وخبر في الجملة كما لتلك - وإن كان لاسم المخففة وخبرها أحكام خاصة ليست للمثقلة، على أنه قد ذكر أحكامها - أعني: المخففة - في باب «الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر» ، ولا شك أن ذلك الباب أحق بذكرها فيه، ولكنه أعاد ذكر الأحكام هنا وزاد شيئا على ما ذكره ثمّ، ونقص منه شيئا كما سينبّه عليه.
فمن أحكام اسمها: أن يكون مقدرا أي: غير ملفوظ فلا يبرز إلا في ضرورة الشعر كقوله:
3767 -
فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني
…
طلاقك لم أبخل وأنت طليق (2)
-
(1) سورة المائدة: 71.
(2)
هذا البيت من الطويل غير منسوب لقائل يقول: إنك لو سألتني الطلاق في أيام الرخاء وسعة الحال لم أبخل عليك به مع أن الإنسان في أيام رخائه أكثر ضنّا بأهله ومن يعوله، يصف نفسه بالكرم.
والشاهد فيه: أن «أن» خففت وبرز اسمها وهو غير ضمير الشأن، وهو قليل؛ لأن «أن» المخففة لا يكون اسمها إلا ضمير الشأن محذوفا، والبيت في المفصل (ص 297)، وابن يعيش (8/ 71، 73، 75)، -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومن أحكام خبرها: أنه لا يكون إلا جملة إما اسمية وإما فعلية:
أما الاسمية: فأشار إليها بقوله: والخبر جملة ابتدائية، أو شرطيّة، أو مصدّرة بـ «ربّ» .
مثال الابتدائية (1)، قوله تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)، ومنه قول الشاعر:
3768 -
في فتية كسيوف الهند قد علموا
…
أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (3)
والخبر في البيت مقدم على المبتدأ.
ومثال الشرطية (4)، قول الآخر:
3769 -
فعلمت أن من يثقفوه فإنّه
…
حرز لجامعه وفرخ عقاب (5)
ومثال المصدّرة بـ «ربّ» (6)، قول الآخر:
3770 -
تيقّنت أن ربّ امرئ خيل خائنا
…
أمين وخوّان يخال أمينا (7)
-
- والعيني (2/ 311)، والخزانة (2/ 465)، والدرر (1/ 120).
(1)
انظر: شرح التسهيل لابن مالك (4/ 8).
(2)
سورة يونس: 10.
(3)
هذا البيت من البسيط وهو للأعشى في ديوانه (ص 45).
الشرح: «الفتية» جمع فتى وهو الشاب، «ويحفى» مضارع حفى مثل رضى حفاء، وذلك إذا مشى بغير نعل ولا خف، ويراد به هنا الفقير، «وينتعل» أي: يلبس النعل ويراد به الغني، والشاهد فيه: مجيء «أن» مخففة وخبرها جملة اسمية. والبيت في الكتاب (2/ 137)، والإنصاف (ص 199)، والمفصل (ص 298)، وابن يعيش (8/ 74، 81)، والعيني (2/ 287)، والخزانة (3/ 547)، (4/ 356).
(4)
انظر: شرح التسهيل لابن مالك (4/ 8).
(5)
هذا البيت من الكامل لقائل مجهول. واستشهد به: على أن «أن» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف والخبر جملة شرطية. والبيت في شرح التسهيل لابن مالك (2/ 41)، (4/ 8) وقوله: يثقفوه من ثقف الرجل: ظفر به، والحرز ما حيز من موضع أو غيره أو لجئ إليه والجمع أحراز، والفرخ ولد الطائر، وقد استعمل في كل صغير من الحيوان والنبات والشجر وغيرها، والعقاب: طائر من العتاق مؤنثة وقيل يقع على الذكر والأنثى.
(6)
انظر شرح التسهيل لابن مالك (4/ 9).
(7)
هذا البيت من الطويل وهو لقائل مجهول. ومعناه: أنه رب شخص يخال خائنا والحال أنه أمين وعكس ذلك أيضا، واستشهد به: على مجيء خبر «أن» المخففة جملة مقرونة بـ «رب» ، وفي (جـ)، (أ): نبئت أن
…
إلخ وهو خطأ لأنه يكسر وزن البيت. والبيت في شرح التسهيل لابن مالك (4/ 9)، والهمع (1/ 143)، (2/ 26)، والدرر (1/ 119)، (2/ 19).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد ذكر في باب «إنّ وأخواتها» أن تكون الجملة مصدرة بـ «لا» كقوله تعالى: وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ (1).
وأما الفعلية (2): فالفعل الذي هو صدرها إما أن يكون متصرفا أو غير متصرف، والمتصرف إما دعاء أو غير دعاء، وإن كان غير متصرف أو متصرفا وهو دعاء ولي «أن» دون فصل كقوله تعالى: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ (3)، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (4)، وكقوله تعالى: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها (5)، وإن كان متصرفا وهو غير دعاء وجب الفصل بينه وبين «أن» بأحد أمور أربعة، وهي:«قد» إما وحدها أو بعد نداء، و «لو» و «حرف نفي» ، مثال الفصل بـ «قد»: قوله تعالى: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا (6).
ومثال الفصل بها بعد نداء: قوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا (7).
ومثال الفصل بـ «لو» : قوله تعالى: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ (8)، أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ (9).
ومثال الفصل بـ «حرف تنفيس» : قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى (10).
ومثال الفصل بـ «حرف نفي» : قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا (11) وهذه الأمور الأربعة المذكورة هنا مذكورة في باب «إنّ وأخواتها» إلا أنه لم يذكر ثمّ أن الفصل بـ «قد» قد يتقدمه نداء.
وأشار بقوله: غالبا إلى أن الفعل المتصرف الذي ليس بدعاء قد لا يفصل بينه وبين «أن» بشيء مما ذكر وأن ذلك قليل وشاهده قول الشاعر: -
(1) سورة هود: 14.
(2)
انظر: شرح التسهيل لابن مالك (4/ 9).
(3)
سورة الأعراف: 185.
(4)
سورة النجم: 39.
(5)
سورة النور: 9، في قراءة نافع بتخفيف «أن» ورفع «غضب» أو جعله فعلا ماضيا. انظر الكشف (2/ 134)، والحجة لابن خالويه (260).
(6)
سورة المائدة: 113.
(7)
سورة الصافات: 104، 105.
(8)
سورة سبأ: 14.
(9)
سورة الأعراف: 100.
(10)
سورة المزمل: 20.
(11)
سورة طه: 89.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3771 -
علموا أن يؤمّلون فجادوا
…
قبل أن يسألوا بأعظم سؤل (1)
وأما قوله: وقد تخلو من العلم والظّنّ فيليها جملة ابتدائيّة أو مضارع مرفوع، إلى آخره - فمراده به: وقد يليها
جملة ابتدائية أو مضارع خلوها من العلم والظن، فالتقليل بـ «قد» راجع إلى ما يليها من هذين الشيئين في هذه الحالة وهي الخلو من العلم والظن، لا إلى الخلو من العلم والظن نفسه؛ لأن خلوّها منهما كثير لا قليل، وأشار بهذا الكلام إلى أن «أن» إذا لم يتقدمها ما يدل على علم أو ظن ووليها جملة ابتدائية أو مضارع مرفوع جاز في «أن» حينئذ أن تكون المخففة وأن تكون الناصبة، وحملت إما على «أن» المخففة أو على «ما» المصدرية فأهملت لذلك، هكذا ذكر المصنف كما عرفت، وفي كلامه أمران:
أحدهما: أن مقتضاه التخيير بين الأمرين، لكن الإمام بدر الدين ولده ذكر أن ذلك [5/ 97] مذهبان، فإنه قال (2) حاكيا لفظ التسهيل: قوله: وقد تخلو من العلم والظن فيليها جملة ابتدائية أو مضارع مرفوع لكونها مخففة من «أنّ» عند الكوفيين أو مشبهة بـ «ما» أختها عند البصريين، وهذا يدل على أن هذا كلام والده في أصل الكتاب، ولا شك أن هذا هو الظاهر بل المتعين، وكلام المصنف في بقية كتبه يقتضي ذلك (3).
ثانيهما: أن قوله: لكونها المخفّفة أو المحمولة عليها أو على ما المصدريّة - يقتضي أنها محتملة في هذه الحالة لكل من الثلاثة، لكن في كونها تكون محتملة لأن تكون المخففة أو محمولة عليها نظر؛ لأنها إنما تكون واقعة بعد ما هو خال من العلم والظن -
(1) هذا البيت من الخفيف لقائل مجهول.
الشرح: قوله: «يؤملون» على صيغة المجهول من التأميل وهو الرجاء، ومفعول «فجادوا» قوله:
«بأعظم سؤل» على الصحيح لأن الباء تتعلق به، والضمير في «يسألوا» مفعول ناب عن الفاعل والمفعول الثاني محذوف أي قبل أن يسألهم السائلون، «والسؤل» بالضم بمعنى المسؤول.
والشاهد في قوله: «أن يؤملون» ؛ حيث جاءت «أن» مخففة من الثقيلة مصدرة بفعل مضارع من غير فصل والتقدير: أنهم يؤملون. والبيت في العيني (2/ 294)، وشرح التصريح (1/ 233)، والهمع (1/ 143)، والدرر (1/ 120)، والأشموني (1/ 292).
(2)
انظر: شرح التسهيل لبدر الدين (4/ 10) تحقيق د/ عبد الرحمن السيد.
(3)
قال في الألفية:
وبعضهم أهمل أن حملا على
…
ما أختها حيث استحقت عملا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كما ذكر ولا شك أنها متى وقعت خالية من هذين الشيئين تعين أن تكون الناصبة لقوله قبل: وينصب بـ «أن» ما
لم تل علما أو ظنّا؛ لأن ذلك نص منه على أنها إذا لم تل علما أو ظنّا تكون الناصبة، وقد تقدم التنبيه على هذا، وإذا كان كذلك فدعوى أن الخالية من العلم والظن يجوز أن تكون المخففة أو محمولة عليها يناقض قوله: إنها ينصب بها ما لم تل العلم والظن.
والذي يظهر أنها إذا وليها مضارع مرفوع فهي الناصبة، وأهملت حملا على «ما» أختها في المصدرية، وكذا إذا وليها جملة اسمية؛ لأن «ما» قد يليها الجملة الاسمية، فاتجه أن تحمل «أن» عليها في ذلك، وبهذا يعلم أن قول البصريين في المسألة أرجح من قول الكوفيين، لكن قال الإمام بدر الدين (1):«كلا القولين حسن» .
ثم قد قلنا: إن التقليل في قوله: وقد تخلو من العلم والظّنّ فيليها جملة ابتدائيّة أو مضارع مرفوع - راجع إلى ولاية الجملة الابتدائية لها والمضارع المرفوع، لا إلى الخلو من العلم والظن، فمثال الجملة الابتدائية: قول الشاعر:
3772 -
رأيتك أحببت النّدى بعد موته
…
فعاش النّدى من بعد أن هو خامل (2)
ومثال الفعل المضارع المرفوع قراءة بعضهم قوله تعالى (3): (لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة)(4)، ومنه قول الشاعر:
3773 -
يا صاحبيّ فدت نفسي نفوسكما
…
وحيثما كنتما لقيتما رشدا
أن تحملا حاجة لي خفّ محملها
…
تستوجبا منّة عندي بها ويدا
أن تقرآن على أسماء ويحكما
…
منّي السّلام وأن لا تشعرا أحدا (5)
-
(1) انظر: شرح التسهيل لبدر الدين (4/ 11).
(2)
هذا البيت من الطويل لقائل مجهول، واستشهد به: على أنّ «أن» تليها الجملة الابتدائية مع خلو الجملة من العلم والظن.
(3)
هي قراءة مجاهد. انظر مختصر شواذ القرآن لابن خالويه (ص 14)، والبحر المحيط (2/ 213).
وشرح التسهيل لبدر الدين (4/ 11).
(4)
سورة البقرة: 233.
(5)
الأبيات من البسيط وهي لقائل مجهول، والشاهد في البيت الثالث في قوله:«أن تقرآن» حيث ولي «أن» الفعل المضارع المرفوع وأهملت «أن» حملا على «ما» المصدرية أختها لاشتراكهما في معنى -