الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حكم الجواب المدلول عليه باسم الفعل جزما ونصبا]
قال ابن مالك: (والأمر المدلول عليه بخبر أو اسم فعل كالمدلول عليه بفعله في جزم الجواب، لا في نصبه خلافا للكسائيّ فيه وفي نصب جواب الدّعاء المدلول [عليه] بالخبر، ولبعض أصحابنا في نصب جواب «نزال» وشبهه، فإن لم يحسن إقامة «إن تفعل» و «إن لا تفعل» مقام الأمر والنّهي لم يجزم جوابهما خلافا للكسائيّ).
ــ
فعدل هذا القائل عن قول من يقول: إن ما قبل حرف العطف الساقط هو الجازم لتضمنه معنى الشرط إلى قوله: إنه أنيب مناب الشرط، فهذا القول هو ذلك القول في المعنى، ويدل على صحة ما قدمت تقريره.
ثم قال الشيخ (1): والذي نختاره هو إضمار الشرط بعد هذه الأشياء لدلالة معنى الكلام عليه. وكما أنه يجوز حذف الجواب لدلالة الكلام عليه في نحو: أنت ظالم إن فعلت، كذلك يجوز حذف الشرط لدلالة الكلام عليه، بل هذا أولى؛ لأنه بقي له ما يدل عليه وهو الجزاء المجزوم به فقويت الدلالة عليه من جهة ما قبله ومن جهة ما بعده.
قال ناظر الجيش: قال الإمام بدر الدين (2) رحمه الله تعالى: قد يلحق الأمر [الذي] بلفظ الخبر واسم الفعل بفعل الأمر فيكون لهما جواب مجزوم كقولهم: حسبك ينم الناس، واتقى الله امرؤ، وفعل خيرا يثب عليه، لأنه بمعنى: اكتف، وليتق، وليفعل، ومنه قوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (3) فـ «يغفر» جزم بأنه جواب تُؤْمِنُونَ لكونه في معنى: «آمنوا» ، وأجاز الكسائي (4) أن يكون للأمر بلفظ الخبر ولاسم الفعل جواب منصوب بعد «الفاء» نحو: صه فأحدّثك، ونزال فأنزل، وحسبك الحديث فينام الناس، والقياس يأبى ذلك لأن المصحح للنصب بعد «الفاء» بإضمار «أن» إنما هو تأول ما قبلها بمصدر ليصح العطف عليه، فإذا كان قبل «الفاء» أمر بلفظ المبتدأ والخبر أو اسم فعل تعذر تأويله بالمصدر لتعذر تقديره صلة لـ «أن» -
(1) انظر: التذييل (6/ 651) وقد نقله المؤلف بتصرف يسير.
(2)
انظر: شرح التسهيل لبدر الدين (4/ 41).
(3)
سورة الصف: 11، 12.
(4)
انظر: التذييل (6/ 653).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فامتنع نصب ما بعد «الفاء» ، ومن ثمّ لم يوافق الكسائيّ في ما ذهب إليه أحد، إلا أن بعض أصحاب «كتاب سيبويه» وهو أبو الحسن بن عصفور أجاز (1) نصب جواب اسم الفعل المشتق من مصدر نحو: نزال ودراك، ولم يجز نصب جواب الأمر بلفظ الخبر، ولا نصب جواب اسم الفعل غير المشتق، وليس (2) في كون «نزال» وشبهه مشتقّا من لفظ المصدر ما يسوغ تأويله بالمصدر، فإنه المصحح للنصب في نحو: انزل فأنزل، هو صحة تأول فعل الأمر بالمصدر من قبل أن فعل الأمر يصح أن يقع في صلة «أن» مصدرا كما في نحو: أو عزت إليه بأن افعل، ولا يصح ذلك في اسم الفعل المشتق من المصدر كما لم يصح في غير المشتق فلا فرق بينهما في امتناع نصب الجواب.
وقد تقدم أنه لا ينصب جواب الدعاء إلا إذا كان بلفظ الطلب، وحكى الشيخ (3) هنا أن الكسائي يجيز نصب جواب الدعاء بلفظ الخبر، ولم ينفرد الكسائي بهذا الجواز فإن ابن السراج حكي ذلك عنه (4) ثم قال (5): وقال الفراء:
إن قلت: غفر الله لزيد فيدخله الجنة جاز.
واعلم أن الأمر إنما يجزم بعده المضارع إذا كان جوابا لما يدل عليه دلالة ظاهرة ويستلزمه لزوما بيّنا وهو شرط الفعل المأمور به (6)، وعلامة ذلك: صحة تقدير «إن تفعل» مكان الأمر، تقول: ائتني آتك؛ لأنك لما أمرت بالإتيان دل على أنه سبب وشرط لشيء هو عندك الإتيان، فجزمت بناء على ما دل عليه الأمر، كأنك قلت: إن تأتني آتك، وتقول: ائتني لا أزورك أبدا فترفع على الاستئناف، ولا يجوز أن تجزمه على معنى:
إن تأتني لا أزورك؛ لأن الإتيان لا يكون سببا لترك الزيارة ولا على معنى: إن لا تأتني لا أزورك؛ لأن لفعل الأمر دلالة ظاهرة على أنه شرط لفائدة فيصح جزم الفعل بعده إذا حسن تقدير «إن تفعل» مكانه وجعل ذلك الفعل جوابا له، وليس لفعل الأمر دلالة ظاهرة على أن تركه شرط لشيء فلا يجوز جزم الفعل بعده بأنه جواب شرط مخالف. -
(1) انظر: شرح الجمل لابن عصفور (2/ 149، 150).
(2)
هذا رد من ابن المصنف على ابن عصفور. وانظر: التذييل (6/ 654).
(3)
يعني والده الإمام ابن مالك، ويعني بقوله:«هنا» أي في التسهيل الذي يتناوله بالشرح.
(4)
انظر: الأصول لابن السراج (2/ 186).
(5)
المرجع السابق.
(6)
على هامش النسختين عند هذا الموضع أشار الناسخ إلى أن هاهنا حاشية من خطه رحمه الله وهي: «أي بأن يجعل ذلك الفعل شرطا لما بعده في التقدير» اه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والنهي فيما ذكرنا كالأمر فإنما ينجزم بعده المضارع إذا كان جوابا لما يدل عليه (1) دلالة ظاهرة ويستلزمه لزوما بيّنا وهو شرط ترك الفعل المنهي عنه، وعلامة ذلك: صحة تقدير «إن لا تفعل» مكان النهي، تقول: لا تعص الله تنل رضاه؛ لأنك لما نهيت عن المعصية وطلبت تركها دل على أنه سبب وشرط لشيء وكان ذلك الشيء عندك نيل الرضا؛ فجزمت بناء على ما دل عليه النهي كأنك قلت: إن لا تعص الله تنل رضاه، وتقول: لا تدن من الأسد يأكلك؛ فترفع على الاستئناف، ولا يجوز جزمه على معنى: إن لا تدن من الأسد يأكلك؛ لأن التباعد من الأسد لا يكون سببا لأكله، ولا على معنى: إن تدن من الأسد يأكلك؛ لأن لفعل النهي دلالة ظاهرة على أن تركه شرط لفائدة فيصح جزم الفعل بعده إذا حسن تقدير «إن لا تفعل» مكانه وجعل ذلك الفعل جوابا، وليس لفعل النهي دلالة ظاهرة على أن فعله شرط لشيء فلا يجوز جزم [5/ 128] الفعل بعده بأنه جواب لشرط مخالف، وأجاز الكسائي فيه الجزم كما يجوز فيه النصب بعد «الفاء» ، قال سيبويه (2): لا تدن من الأسد يأكلك، قبيح إن جزمت وليس وجه كلام الناس؛ لأنك لا تريد أن تجعل تباعده من الأسد سببا لأكله فإن رفعت فالكلام حسن، وإن أدخلت الفاء فحسن، وذلك قولك: لا تدن من الأسد فيأكلك، وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزم ألا ترى أنك تقول: ما تأتينا فتحدثنا، والجزاء هنا محال، وإنما قبح الجزم في هذا؛ لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا دخلت الفاء.
ومراد سيبويه بـ «قبيح» أنه غير مستعمل، وب «حسن» أنه مستعمل.
وحاصل الفرق بين النصب والجزم بعد النهي: أن الجزم إنما يجوز في فعل يصح كونه جوابا لشرط مقدر دل عليه النهي كما في قولك: لا تدن من الأسد تنج، وأما النصب فإنما يجوز في فعل مسبب عن فعل قبل «الفاء» منهي عنه طلبا لنفي المسبب بانتفاء سببه كما في قولك: لا تعص الله فتدخل النار، فالمجزوم بعد النهي لنفي ما قبله، والمنصوب بعده لازم لثبوت ما قبله، فوضح الفرق بين الموضعين. وتقول: لا تدن من الأسد فتسلم بالرفع على إضمار مبتدأ، أو على الاستئناف، ولا يجوز أن ينصب؛ لأن دنو -
(1) على هامش النسخة (جـ)، (أ) عند هذا الموضع أشار الناسخ إلى أن هاهنا حاشية من خطه وهي:«أي أن يجعل ترك الفعل شرطا لما بعده تقديرا» اه.
(2)
انظر: الكتاب (3/ 97) وقد نقله بتصرف يسير.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأسد لا يكون سببا للسلامة فيصح تقديره بـ: إن لا يكن منك دنو فسلامة.
وقد جاء من السماع ما يصلح أن يحتجّ به الكسائي كقول بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: «يا رسول الله، لا تشرف يصبك سهم» (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من أكل من هذه الشّجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذنا» (2) فيمن رواه بالجزم، ورواية الرفع أكثر، وحمل ما جاء من ذلك على الإبدال أولى من حمله على الشذوذ (3). انتهى كلام بدر الدين رحمه الله تعالى.
وأنا أشير بعد ذلك إلى أمور:
منها: أن تمثيله بقوله: حسبك ينم النّاس، واتّقى الله امرؤ، وفعل خيرا يثب عليه - يعلم منه أن الخبر المستفاد منه الأمر قد يكون جملة اسمية وقد يكون جملة فعلية؛ لأنهم ذكروا أن خبر «حسبك» محذوف لا يظهر وتقديره: حسبك السكوت والجملة ضمّنت معنى: اكتف، كما أن الجملة الفعلية التي هي:«اتقى الله امرؤ» ضمّنت معنى: ليتق الله امرؤ.
وذهب جماعة منهم ابن طاهر (4) إلى أنه مبتدأ لا خبر له، قالوا: لأن معناه:
اكتف، فلم يحتج إلى خبر؛ لأنه في معنى ما لا يخبر عنه.
ونقل الشيخ (5) عن بعض الجماعة من المغاربة أنه اسم فعل مبني والكاف للخطاب، قال: وإنما ضمّ آخره؛ لأنه قد كان معربا فحمل على «قبل» و «بعد» ، قال (6): وزعم الأعلم أنه لا خبر له؛ لأنه مهمل والإهمال عنده يرفع الاسم قال:
ولما استعمل استعمال ما ليس له خبر وهو: اكتف لم يحتج إلى خبره، وردّ (7) ذلك بأن «حسبك» وحده يتم منه كلامه، وكلام تام من جزء واحد غير موجود.
ومنها: أن الكسائي إنما أجاز أن يكون للأمر بلفظ الخبر ولاسم الفعل جواب -
(1) هذه المقولة قالها أبو طلحة رضي الله تعالى عنه للرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
انظر: البخاري بشرح السندي (2/ 314)(باب مناقب الأنصار)، (3/ 23)(كتاب المغازي) والرواية في الموضعين بالرفع.
(2)
هذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ (1/ 17) والرواية فيه برفع «يؤذينا» ، وانظر صحيح مسلم (1/ 394) برواية «ولا يؤذينّا» ، (1/ 395) برواية:«فلا يغشنا في مسجدنا» .
(3)
انظر: شرح التسهيل: (4/ 44).
(4)
،
(5)
انظر: التذييل (6/ 652).
(6)
أي: الشيخ أبو حيان. انظر: التذييل (6/ 653).
(7)
الراد هو الشيخ أبو حيان. انظر: المرجع السابق.