الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[إضمار «أن» وجوبا بعد فاء السببية المسبوقة بالأجوبة الثمانية]
قال ابن مالك: (وتضمر أيضا لزوما بعد «فاء» السّبب جوابا لأمر أو نهي أو دعاء بفعل أصيل في ذلك، أو لاستفهام لا يتضمّن وقوع الفعل، أو لنفي محض أو مؤوّل، أو عرض أو تحضيض أو تمنّ أو رجاء).
ــ
أكافئك، وقد تقدم (1) الرد على الكسائي وبه يرد على الأخفش في مسألة «حتى» .
وقوله: (وكي وفاقا للفرّاء) قد ذكرنا أنه مذهب الكسائي وقد تقدم الرد عليه (2).
ويعني بقوله: (قبل الشّرط الآخذ حقّه) أنه استوفى جوابه فتسلط على الفعل الذي لولا أخذه جوابا به لكان منصوبا بعد «حتى» و «كي» .
وأما ما ثبت في النسخة الأخرى من قوله: (ولا يفصل الفعل من «حتّى» ولا «أو» بظرف) فمثاله أن نقول: أقعد حتى عندك يجتمع الناس، تريد: حتى يجتمع الناس عندك، وأضربك أو اليوم تستقيم، تريد: أو تستقيم اليوم؛ فهذا لا يجوز.
وأجاز هشام (3) الفصل بين «حتى» والفعل بالجار والمجرور فإجازته بالظرف أسهل، أجاز: أصير حتى إليك يجتمع الناس ويجتمع الناس، قال: والرفع أصحهما، وقد تقدم إجازته ذلك في «إذن» وأنه أجاز (4): أنا إذن فيك أرغب وأرغب، قال: وإنما خصّ هذان الحرفان بالتفرقة بينهما وبين الفعل لأن عملهما يبطل في قولهم: سرت حتى صبّحت القادسية، وإذن عبد الله مقبل يعني أنهما لم يلزما المضارع بل وليهما غيره من الفعل الماضي والجملة الابتدائية، وهما إذا وليهما ذلك لم يكونا ناصبين فكذلك يبطل عملهما إذا وليهما الظرف وما أشبهه.
وقوله: (ولا شرط ماض خلافا للأخفش وابن السّرّاج) قد تقدم تمثيل هذه المسألة وعلة اشتراط المضي في
الشرط الفاصل على ذلك. هذا آخر كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
قال ناظر الجيش: شرع بعد الكلام على الأول من حروف العطف وهو «أو» في الكلام على الثاني منهما وهو «الفاء» وختم به الفصل، ولنبدأ بذكر كلامه في -
(1) انظر: التذييل (6/ 555) وقال أبو حيان بعد أن ذكر ما ذهب إليه الكسائي: «وما ذهب إليه الكسائي من ملاصقة الشرط وإبطال عملها غير محفوظ من كلام العرب» .
(2)
انظر: المرجع السابق.
(3)
انظر: الهمع (2/ 10).
(4)
انظر: الهمع (2/ 7).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شرح الكافية ثم بذكر كلام الإمام بدر الدين ثم نعود إلى لفظ الكتاب وذكر ما تيسر إن شاء الله تعالى.
قال (1) رحمه الله تعالى: ينصب الفعل بـ «أن» واجبة الإضمار بعد الفاء المجاب بها نفي كقوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا (2)، والمجاب بها طلب وهو إما أمر وإما نهي وإما دعاء وإما استفهام وإما عرض وإما تحضيض وإما تمنّ، فالأمر كقول الراجز:
3843 -
يا ناق سيري عنقا فسيحا
…
إلى سليمان فنستريحا (3)
والنهي كقول الشاعر:
3844 -
لا يخدعنّك مأثور وإن قدمت
…
تراثه فيحيق الحزن والنّدم (4)
والدعاء كقول الشاعر:
3845 -
فيا ربّ عجّل ما أؤمّل منهم
…
فيدفأ مقرور ويشبع مرمل (5)
وكقول الآخر: -
(1) انظر: شرح الكافية الشافية (3/ 1543) وما بعدها.
(2)
سورة فاطر: 36.
(3)
هذا رجز قائله أبو النجم العجلي كما في الكتاب (3/ 34).
الشرح: قوله: يا ناق: منادى مرخم أي: يا ناقة، وعنقا: نصب على أنه نائب عن المصدر، أو صفة مصدر محذوف أي: سيرا عنقا وهو ضرب من السير، والفسيح: الواسع، وسليمان: هو ابن عبد الملك.
والشاهد في قوله: «فنستريحا» حيث نصب المضارع بـ «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء لأنه جواب الأمر.
وانظر البيت في الكتاب (3/ 35)، والمقتضب (2/ 14) وابن يعيش (7/ 26)، وشرح التصريح (2/ 239).
(4)
هذا البيت من البسيط وهو لقائل مجهول.
الشرح: المأثور: المال المتروك والتراث أصله: الوراث فأبدلت الواو تاء، ولعل معنى وإن قدمت تراثه:
وإن تقادمت وارثوه من غيرهم وهو باق عندهم فإنه لا ينفع، وقوله: فيحيق: هو من حاق به الشيء يحيق حيقا: نزل به وأحاط به، ويروى «فيحق» .
والشاهد: في «فيحيق» حيث نصب المضارع بـ «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء لأنه جواب النهي.
والبيت في التذييل (6/ 611)، والأشموني (3/ 302)، وانظر: حاشية الصبان (3/ 302).
(5)
هذا البيت من الطويل وهو لقائل مجهول.
الشرح: المقرور: البردان، والمرمل: العادم للقوت.
والشاهد في قوله: «فيدفأ» فإنه نصب بـ «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء؛ لأنه واقع في جواب الدعاء والبيت في التذييل (6/ 611)، والأشموني (3/ 302).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3846 -
ربّ وفّقني فلا أعدل عن
…
سنن السّاعين في خير سنن (1)
والاستفهام كقول الشاعر:
3847 -
هل تعرفون لباناتي فأرجو أن
…
تقضى فيرتدّ بعض الرّوح للجسد (2)
والعرض كقول الشاعر:
3848 -
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما
…
قد حدّثوك فما راء كمن سمعا (3)
والتحضيض كقول الشاعر:
3849 -
لولا تعوجين يا سلمى على دنف
…
فتخمدي نار وجد كاد يفنيه (4)
والتمني كقول الله تعالى: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (5) -
(1) هذا البيت من الرمل وهو مجهول القائل أيضا. والسنن بفتحتين في الموضعين: الطريق.
والشاهد في قوله: «فلا أعدل» حيث نصب المضارع بـ «أن» مضمرة بعد الفاء لأنه جواب للدعاء، والفاء فاء السبب في الجواب عن الدعاء: أي يا رب وفقني حتى لا أميل عن طريقة الساعين في خير الطريقة.
والبيت في التذييل (6/ 611)، وشرح شذور الذهب (ص 306)، والعيني (4/ 388)، وشرح الألفية للأبناسي (2/ 282)، وشرح التصريح (2/ 239)، والهمع (2/ 11)، والدرر (2/ 8)، والأشموني وحاشية الصبان (3/ 302).
(2)
هذا البيت من البسيط لقائل مجهول.
الشرح: اللبانات: جمع لبانة بضم اللام: الحاجة، وقوله: أن تقضى في محل النصب مفعول «أرجو» وقوله: فيرتد عطف على «أن تقضى» وقوله: بعض الروح: كلام إضافي فاعله، والشاهد: في «فأرجو» حيث نصب بـ «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء؛ لأنه جواب الاستفهام. والبيت في التذييل (6/ 613)، والعيني (4/ 388)، وشرح التصريح (2/ 239).
(3)
هذا البيت من البسيط كسابقيه لم يعلم قائله وألا للعرض، وما موصول وعائده محذوف تقديره ما قد حدثوك به والفاء في «فما» للتعليل.
والشاهد: في «فتبصر» حيث نصب لأنه جواب العرض. والبيت في العيني (4/ 389)، وشرح التصريح (2/ 239)، والأشموني (3/ 302).
(4)
هذا البيت من البسيط وهو مجهول القائل أيضا.
الشرح: قوله: دنف: الدّنف: الذي براه المرض حتى أشفى على الموت، وقوله: تعوجين: تعطفين، ونار وجد: كناية عن شدة الشوق.
والمعنى: هلا تعطفين يا سلمى على رجل براه المرض حتى أشرف على الموت فتطفئي نار الشوق الذي كاد يضيعه.
والشاهد في قوله: «فتخمدي» حيث نصب بحذف النون وذلك بـ «أن» مضمرة بعد الفاء؛ لأنه جواب للتحضيض. والبيت في الهمع (2/ 12)، والدرر (2/ 8) والأشموني (3/ 303).
(5)
سورة النساء: 73.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكقول الشاعر:
3850 -
يا ليت أمّ خليد واعدت فوقت
…
ودام لي ولها عمر فنصطحبا (1)
قال: وقيدت الفاء المنتصب بعدها الفعل بإضافتها إلى جواب - يعني بذلك قوله في النظم:
وبعد فا جواب نفي أو طلب (2)
احترازا من الفاء التي لمجرد العطف كقولك: ما تأتينا فتحدثنا [5/ 114] بمعنى:
ما تأتينا فما تحدثنا، أو فأنت تحدثنا، فلو قصد المتكلم معنى: ما تأتينا محدثا، أو ما تأتينا فكيف تحدثنا ثبتت الجوابية وصح النصب (3).
قال (4): وشرط النفي: أن يكون خالصا، فالنفي الذي ليس نفيا خالصا لا جواب له منصوب نحو: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا، وما قام فتأكل إلا طعامه ومنه قول الشاعر:
3851 -
وما قام منّا قائم في نديّنا
…
فينطق إلّا بالّتي هي أعرف (5)
وكذلك بعد الطلب. انتهى.
ولم أتحقق مراده بقوله: وكذلك بعد الطلب؛ إلا أن يريد بذلك أن شرط الطلب -
(1) هذا البيت من البسيط لقائل مجهول.
والشاهد في قوله: «فنصطحبا» حيث نصب بـ «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء لأنه جواب التمني.
والبيت في شرح ابن الناظم (ص 266) والتذييل (6/ 624)، والعيني (4/ 389)، وشرح الألفية للأبناسي (2/ 284)، والأشموني (3/ 303).
(2)
بعده في الألفية:
محضين أن وسترها حتم نصب
(3)
انظر: الكتاب (3/ 30).
(4)
أي ابن مالك.
(5)
هذا البيت من الطويل وهو للفرزدق في ديوانه (ص 561).
الشرح: منا: في محل الرفع على أنه صفة لـ «قائم» أي: وما قام قائم كائن منا والأولى أن يكون حالا والاستثناء من النفي فيكون إثباتا، والندي، مجلس القوم ومتحدثهم، وقوله: بالتي أي: بالأشياء التي.
والشاهد في قوله: «فينطق» حيث رفع مع أنه جواب للنفي؛ لأنه من شرط النصب بعد النفي أن يكون النفي خالصا وههنا ليس كذلك، وهو عند سيبويه منصوب ولا عبرة بدخول «إلا» بعده ناقضة للنفي.
انظر: الكتاب (3/ 32)، والخزانة (3/ 607).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن يكون خالصا كما أن ذلك شرط النفي، ويكون مراده بالخلوص ما أراد في الألفية بقوله:
وبعد فا جواب نفي أو طلب
…
محضين أن وستره حتم نصب
يعني: أن الطلب يكون محضا، وذلك احتراز من أن يكون الطلب بما لفظه لفظ الخبر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن كان هذا مراده أمكن حمل كلامه عليه.
ثم قال بعد كلام (1): وألحق الفراء (2) الرجاء بالتمني فجعل له جوابا منصوبا، وبقوله أقول؛ لثبوت ذلك سماعا ومنه قراءة حفص عن عاصم (3): لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى (4)، ومنه قول الراجز أنشده الفراء (5):
3852 -
علّ صروف الدّهر أو دولاتها
…
يدلننا اللّمّة من لمّاتها
فتستريح النّفس من زفراتها (6)
هذا آخر كلام المصنف.
وأما ولده فإنه قال (7): اعلم أن الفاء حرف عطف في جميع أماكنها، ويقع بعدها المضارع على خمسة أوجه؛ لأنه إما مشارك لما قبلها داخل في حكمه، وإما مخالف لما قبلها خارج عن حكمه، وذلك إذا كان ما قبل الفاء غير واجب وما بعدها: إما مسبب عنه غير مبني على مبتدأ محذوف، وإما مسبب عنه مبني على -
(1) انظر: شرح الكافية الشافية (3/ 1554).
(2)
انظر: معاني القرآن (3/ 9، 235).
(3)
انظر: الكشف (2/ 244)، والحجة لابن خالويه (ص 315).
(4)
سورة غافر: 36، 37.
(5)
انظر: معاني القرآن (3/ 9، 235).
(6)
قال العيني: «هذا رجز لم يدر راجزه» .
الشرح: عل: لغة في «لعل» ، والدولات: بضم الدال: جمع دولة في الحال، وبالفتح في الحرب، وقيل: هما واحد، ويدلننا: من الإدالة وهي: الغلبة واللمة بالفتح: الشدة وهي مفعول ثان لـ «يدلننا» ، و «الزفرات» جمع زفرة وهي: الشدة والأصل تحريك الفاء في الجمع وسكنت هنا للضرورة.
والشاهد في قوله: «فتستريح» حيث نصب بعد «لعل» الذي هو أداة الترجي قاله الفراء وهو الصحيح لثبوته في القرآن العزيز في قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى [عبس: 3، 4] وانظر الرجز في معاني القرآن (3/ 9، 235)، والخصائص (1/ 316)، وشرح العمدة (ص 232) والأشموني (3/ 312)، واللسان «علل» .
(7)
انظر: شرح التسهيل لبدر الدين (4/ 27).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مبتدأ محذوف، وإما مرتب عليه لإفادة نفي الجمع، وإما مرتب عليه لإفادة استئناف الإثبات، فإذا قصد بالمضارع بعد الفاء إشراكه بما قبلها في حكمه تبعه في الإعراب كقولك: زيد يأتيني فيحدثني، وأريد أن تأتيني فتحدثني، وإن تأتني فتحدثني أكرمك، وإن قصدت أنه مسبب مبني على مبتدأ محذوف أو مرتب للاستئناف رفع كقولك: ما تأتيني فتحدثني، فترفع على جعل الإتيان سببا للحديث وتقديره: فأنت تحدثني، وعلى استئناف إثبات الحديث بعد نفي الإتيان على معنى: وتحدثني الساعة، وإن قصدت به أنه مسبب غير مبني على مبتدأ محذوف، أو مرتب لإفادة نفي الجمع نصب كقولك: ما تأتيني فتحدثني فتنصب على جعل الإتيان سببا للحديث وتقديره: إن تأتني تحدثني، أو على الترتيب لنفي الجمع بين الفعلين وإرادة معنى: ما تأتيني محدثا أي: قد تأتيني وما تحدث.
ونصبه عند سيبويه (1) بـ «أن» مضمرة وما قبل الفاء في تأويل اسم معمول لفعل محذوف ليصح العطف عليه، والتقدير: ما كان منك إتيان فحديث، فصيروا الفعل على هذا التأويل ليدلوا على أحد المعنيين المذكورين ولم يظهروا «أن» بعد الفاء كما لم يظهروها بعد «أو» .
وقال الكوفيون (2): النصب بالفاء والحجة عليهم أن الفاء لو كانت هي الناصبة لدخل عليها «واو» العطف أو «فاؤه» كما يدخل على «واو» القسم ولجاز: ما أنت بصاحبي فأكرمك وفأحدثك، كما يجوز: والله وتالرحمن
لأفعلنّ، فلما لم يجز ذلك دلّ على أنها حرف مضمر بعدها العامل كـ «واو ربّ» .
ولا يطرد نصب المضارع بـ «أن» مضمرة بعد «الفاء» إلا في جواب نفي أو طلب وهو: الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والعرض والتحضيض والتمني، ونورده على ترتيب الكتاب:
فأما الأمر: فكقولك: ائتني فأحدثك، وتريد أن الإتيان سبب للحديث على تقدير: ليكن منك إتيان فحديث مني، قال أبو النجم (3): -
(1) انظر: الكتاب (3/ 28).
(2)
انظر: الأشموني (3/ 305).
(3)
أبو النجم: هو الفضل بن قدامة، من أكابر الرجاز، نبغ في العصر الأموي وكان يحاضر مجالس عبد الملك بن مروان توفي سنة (130 هـ) انظر ترجمته في الشعر والشعراء (ص 607 - 613).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3853 -
يا ناق سيري عنقا فسيحا
…
إلى سليمان فنستريحا (1)
ولو جزمته لم يستقم إلا أن تظهر «اللام» (2) ولو رفعته جاز على إضمار مبتدأ التقدير: إن تأتني فأنا أحدثك، أو على الاستئناف كأنك قلت: ائتني فأنا ممن يحدثك جئت أو لم تجئ.
وأما النهي: فكقولك: لا تمددها فتشقّها (3)، ولا تريد التشريك فتنصب كما بعد الأمر، قال الله تعالى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ (4)، ولو جزمت فقلت: لا تمددها فتشققها جاز على التشريك في النهي (5) وإن كانت الفاء للسببية قال الشاعر (6):
3854 -
فقلت له صوّب ولا تجهدنّه
…
فيذرك من أدنى القطاة فتزلق (7)
ولو رفعت على معنى: فأنت تشقّها، أو على الاستئناف جاز.
وأما الدعاء: فكقولك: اللهم ارحمني فأدخل جنتك، ولا تعذبني فآمن من سخطك؛ فتنصب كما بعد الأمر والنهي، قال الشاعر:
3855 -
فيا ربّ عجّل ما أؤمّل منهم
…
فيدفأ مقرور ويشبع مرمل (8)
وقال آخر:
3856 -
ربّ وفّقني فلا أعدل عن
…
سنن السّاعين في خير سنن (9)
ولا يجوز عند البصريين نصب جواب الدعاء إلا إذا كان بلفظ الطلب؛ لو -
(1) تقدم.
(2)
انظر: الكتاب (3/ 34، 35).
(3)
انظر: الكتاب (3/ 34).
(4)
سورة طه: 61.
(5)
انظر: الكتاب (3/ 101).
(6)
نسبة البيت في الكتاب (3/ 101) لعمرو بن عمار الطائي، ونسبته في التذييل (6/ 610).
لامرئ القيس وكذلك في اللسان «ذرا» وهو الصواب، انظر: ديوان امرئ القيس (174).
(7)
هذا البيت من الطويل.
الشرح: صوب أي: اقصد في السير ولا تجهد الفرس ولا تحمله على العدو فيصرعك، والقطاة: من الفرس: موضع الردف، وقوله: فيذرك: من الإذراء وهو الرمي، وامرؤ القيس يخاطب غلامه بذلك وقد حمله على فرسه ليصيد له، والشاهد في قوله:«فيذرك» حيث جزمه عطفا على النهي أي: لا تجهدنه ولا يذرك، ولو نصب بالفاء على جواب النهي لكان حسنا. والبيت في الكتاب (3/ 101).
فيدنك من أخرى القطاة ..
أي آخرها، وانظر المقتضب (2/ 21).
(8)
تقدم.
(9)
تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قلت: رحم الله زيدا فيدخله الجنة لم يجز (1)، وإليه الإشارة بقوله:(بفعل أصيل في ذلك) وسيأتي التنبيه على الاختلاف فيه.
وأما الاستفهام: فكقولك: هل تأتينا فتحدثنا؟ ولا تريد التشريك فتنصب على تقدير:
هل يكون منك إتيان فحديث؛ إما لأن الحديث مسبب غير مبني على مبتدأ محذوف والمعنى فيه: إن تأتني تحدثني، وإما لأنه مرتب لنفي الجمع والمعنى فيه: هل تأتينا محدثا؟
قال الله تعالى: فَهَلْ لَنا [5/ 115] مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا (2)، وقال الشاعر:
3857 -
هل تعرفون لباناتي فأرجو أن
…
تقضى فيرتدّ بعض الرّوح للجسد (3)
واختار شيخنا (4) رحمه الله تعالى أنه لا يجوز النصب فيما ولي «الفاء» و «الواو» بعد الاستفهام إلا إذا لم يتضمن وقوع الفعل، إما لأنه استفهام عن الفعل نفسه كما تقدم، وإما لأنه استفهام عن متعلق فعل غير محقق الوقوع كما في نحو: متى تزورني فأكرمك، وأين تسير فأرافقك، و «من يدعوني فأستجيب له؟» (5) فينصب لأنه جواب فعل غير واجب، ولو كان الاستفهام عن متعلق فعل محقق الوقوع كما في قولك: لم يكن الإتيان والحديث: لم تأتينا فتحدثنا أو تحدثنا فليس إلا الرفع؛ لأن الإتيان موجب فلا يجوز النصب بعده إلا على مذهب من ينصب في الواجب كقوله (6):
3858 -
وألحق بالحجاز فأستريحا (7)
-
(1) أجاز ذلك الكسائي. انظر: الهمع (2/ 11).
(2)
سورة الأعراف: 53.
(3)
تقدم.
(4)
أي: ابن مالك والده ويقصد بذلك عبارة التسهيل: «أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل» .
(5)
هذا جزء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري عن أبي هريرة في باب التهجد بالليل. انظر البخاري بشرح السندي (1/ 200)، وصحيح مسلم (1/ 522).
(6)
هو المغيرة بن حبناء شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وقال البغدادي في الخزانة (3/ 601):
«والبيت لم يعزه أحد من خدمة كتاب سيبويه إلى قائل معين ونسبه العيني وتبعه السيوطي في أبيات المغني إلى المغيرة بن حبناء وقد
رجعت إلى ديوانه وهو صغير فلم أجده فيه» وانظر: العيني (4/ 390).
(7)
هذا عجز بيت من الوافر وصدره:
سأترك منزلي لبني تميم
والشاهد: في «فأستريحا» حيث نصب بعد الفاء وليس بمسبوق بنفي أو طلب وهذا ضرورة ويروى «لأستريحا» فلا ضرورة فيه. والبيت في الكتاب (3/ 39)، والمقتضب (2/ 22) والمحتسب (1/ 197)، والمقرب (1/ 263)، والعيني (4/ 390).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
واقتدى في هذه المسألة بما ذكر أبو علي في الإغفال (1) رادّا على قول أبي إسحاق الزجاج في قوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (2) ولو قيل: وتكتموا الحق لجاز على قولك: لم تجمعون بين ذا وذا؟
ولكن الذي في القرآن العزيز أجود في الإعراب (3).
قال بدر الدين: وقد حكى ابن كيسان نصب الفعل جواب الاستفهام في نحو:
أين زيد فنتبعه؟ وكم مالك فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ ولا أراه يستقيم على مأخذ البصريين إلا بتأويل ما قبل الفاء باسم معمول لفعل أمر دل عليه الاستفهام، والتقدير: ليكن منك إعلام بموضع ذهاب زيد فاتباع منا، وليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام منا له، وإذا كان مثل ذلك جائزا على ما ذكرنا فالذي قاله الزجاج هو الصواب.
وأما النفي: فكقولك: لا تأتيني فتحدثني، فتنصب على تقدير: لا يكون منك إتيان فحديث وله معنيان (4):
أحدهما: أن يكون الإتيان سببا للحديث وهو منفي نفيا مطلقا، فالحديث ممتنع لعدم سببه كأنه قال: أنت لا تأتيني فكيف تحدثني؟ فلو أتيتني حدثتني كما قال الله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا (5).
والثاني: أن يكون الإتيان منفيّا بقيد اقتران الحديث به كأنه قال: لا تأتيني إلا لم تحدثني، أو لا تأتيني محدثا أي: منك إتيان كثير بلا حديث كما تقول: [لا يسعني شيء ويعجز عنك](6)، ويجوز فيه الرفع على ثلاثة أوجه (7):
إما على التشريك كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني.
وإما على السببية وبناء ما بعد الفاء على مبتدأ محذوف كما قال تعالى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (8) التقدير: فهم يعتذرون، والمعنى: فكيف يعتذرون؟ -
(1) انظر الإغفال (ص 413، 414).
(2)
سورة آل عمران: 71.
(3)
انظر: معاني القرآن للزجاج (1/ 435).
(4)
انظر: الكتاب (3/ 30).
(5)
سورة فاطر: 36.
(6)
ما بين المعقوفين ساقط من النسختين وقد أكملته من شرح التسهيل لبدر الدين.
(7)
انظر: شرح الكافية للرضي (2/ 247).
(8)
سورة المرسلات: 36.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإما على الاستئناف كما قال (1):
3859 -
غير أنّا لم تأتنا بيقين
…
فنرجّي ونكثر التّأميلا (2)
كأنه قال: فنحن نرجي أبدا (3).
واعلم أن شرط النصب بعد النفي: أن يكون داخلا على الفعل المعطوف عليه إما خاليا عما يزيل معناه وهو النفي المحض كما تقول: ما تأتيني فتحدثني، ونحوه مما تقدم ذكره، وإما معه ما يزيل معناه وينقل الكلام على الإثبات وهو النفي المؤول، وذلك ما قبله استفهام أو بعده استثناء.
فالأول: كقولك: ألم تأتنا فتحدثنا (4) فتنصب على: ألم تأتنا محدثا؟ قال الشاعر:
3860 -
ألم تسأل فتخبرك الرّسوم
…
على [فرتاج](5) والطّلل القديم (6)
وكل موضع يدخل فيه الاستفهام على النفي فنصبه جائز على هذا المعنى، ولك فيه الجزم (7) بالعطف على معنى: ألم تأتنا فلم تحدثنا؟ والرفع على الاستفهام وإضمار مبتدأ كما قال:
3861 -
ألم تسأل الرّبع القواء فينطق
…
وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق (8)
-
(1) أنشده سيبويه في الكتاب (3/ 31) قائلا: «ومثل ذلك قول بعض الحارثيين» ، وقال البغدادي:
«إنه من شواهد سيبويه التي لم يعرف لها قائل» .
(2)
هذا البيت من الخفيف. والشاهد في قوله: «فنرجي» حيث رفع ما بعد الفاء على القطع والاستئناف أي: فنحن نرجي، وانظر البيت في الكتاب (3/ 31، 33) والمفصل (ص 249)، وابن يعيش (7/ 36، 37) والمقرب (1/ 265) وشرح الكافية للرضي (2/ 247).
(3)
انظر: الكتاب (3/ 31).
(4)
انظر: الكتاب (3/ 34).
(5)
ساقطة من (جـ)، (أ) وتركت مساحتها بيضاء في (أ).
(6)
هذا البيت من الوافر، قالوا: إنه من أبيات سيبويه الخمسين المجهولة القائل، وقد نسبه ابن السيرافي (2/ 149) للبرج بن مسهر.
وفرتاج: موضع في بلاد طيئ، والرسوم: جمع رسم وهو ما لم يكن له شخص قائم في الدار، والطلل ما شخص من الدار، أي: لو سألت لخبرتك الرسوم عن أهلها وليس المراد أنها تخبر بالقول وإنما يريد أن الآثار التي تراها في الرسم تدل على ذهاب الذين كانوا فيه فكأنها تخبره بالقول.
والشاهد فيه: أنه نصب «فتخبرك» على جواب الاستفهام والبيت في الكتاب (3/ 34)، والرد على النحاة لابن مضاء (ص 117)، والتذييل (6/ 618)، واللسان «فرتج» .
(7)
انظر: الكتاب (3/ 34، 35).
(8)
هذا البيت من الطويل وهو لجميل بن معمر، ديوانه (ص 91).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كأنه قال: فهو ينطق (1).
والثاني: كقولك: ما تأتينا فتقول إلا خيرا، فتنصب مع أنك أتيت بـ «إلّا» إثباتا؛ لأنه بمعنى: ما تأتينا فتقول شرّا.
قال سيبويه (2): وتقول: لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة، والنصب ها هنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدثني، إذا أردت معنى: ما تأتيني فتكون محدثا، قال: ومثل ذلك قول اللعين المنقري (3):
3862 -
وما حلّ يا سعدى غريب ببلدة
…
فينسب إلّا الزّبرقان له أب (4)
يعني: أن نصب ما فيه الاستثناء إنما يجوز على وجه واحد من وجهي النصب في جواب النفي المحض ولو رفعه جاز على التشريك ومعنى: ما تأتينا وما تقول إلا خيرا، ولا يجوز على الاستئناف لاستلزامه التفريغ في الموجب.
وتقول: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا، بالرفع؛ لأن النفي لم يدخل على المعطوف عليه إنما دخل في الأول على شيء مقدر أخرج منه المعطوف عليه وأوجب بـ «إلا» ، وفي الثاني على متعلق المعطوف عليه وكان معناه النفي فصار إثباتا.
ويجوز أن يكون المراد بالنفي المحض: ما يدل عليه بما وضع لمجرد النفي كـ «ما»
- الشرح: القواء: المكان القفر، ورواية الديوان «الخلاء» ويروى:«القديم» . والبيداء: الصحراء الواسعة، والسملق: التي لا شيء فيها من نبت ولا غيره وهى جرداء مستوية.
والشاهد فيه: رفع «ينطق» الواقع بعد الفاء على الاستئناف والقطع أي: فهو ينطق، والبيت في الكتاب (3/ 37)، والمفصل (ص 250)، وابن يعيش (7/ 36، 37)، والمغني (ص 168)، وشرح التصريح (2/ 240).
(1)
انظر: الكتاب (3/ 37).
(2)
انظر: الكتاب (3/ 32).
(3)
اللعين المنقري: منازل بن زمعة التميمي المنقري، أبو أكيدر، شاعر هجّاء، قيل: سمعه عمر بن الخطاب ينشد شعرا والناس يصلون فقال: من هذا اللعين؟ فعلق به لقبا. انظر ترجمته في الشعر والشعراء (506)، والخزانة (1/ 531)، والأعلام (7/ 289).
(4)
هذا البيت من الطويل وقائله اللعين المنقري كما في الشرح، والزبرقان: هو الصحابي الجليل ابن بدر السعدي، سيد قومه وأعرفهم.
والشاهد فيه: نصب ما بعد «الفاء» على الجواب، والرفع جائز على القطع. والبيت في شرح الكافية للرضي (1/ 204)، (2/ 248)، والتذييل (6/ 619)، والخزانة (1/ 530)، (3/ 608).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
و «لا» و «ليس» ويدخل فيه جميع ما ذكر من النفي الخالي عما يزيل معناه والمقارن لما يزيله ويكون المراد بالنفي المؤول على هذا وهو الأقرب ما يدل عليه بما له مسمى يقرب من معنى النفي فيقام مقامه نحو «غير» ؛ فإنها اسم بمعنى: مخالف، وقد يقصد به النفي فيكون له جواب مقرون بـ «الفاء» كقولك: غير قائم الزيدان فنكرمهما، ذكره ابن السراج ثم قال: ولا يجوز هذا عندي (1).
قال الشيخ (2) رحمه الله تعالى: هو عندي جائز، وحجته في ذلك جواز ذكر «لا» مع المعطوف على المضافة هي
إليه كما في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (3)، وصحة إعمال الصفة للاعتماد عليها كما في قول الشاعر:
3863 -
غير مأسوف على زمن
…
ينقضي بالهمّ والحزن (4)
[5/ 116] وأما العرض: فكقولك: ألا تنزل فتصيب خيرا، وهو كجواب النفي بعد الاستفهام، والمعنى فيه: إذا نزلت أصبت، قال الشاعر:
3864 -
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما
…
قد حدّثوك فما راء كمن سمعا (5)
وإن شئت رفعت على التشريك، أو إضمار مبتدأ، أو الاستئناف.
وأما التحضيض: فكقولك: هلا أمرت فتطاع، وحكم الجواب بعده حكمه بعد العرض قال الله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ (6).
وأما التمني: فكقولك: ليته عندنا فيحدثنا، وألا ماء فأشربه، فإن شئت نصبت على المعنى في نصب جواب الاستفهام، قال الله تعالى: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (7)، وإن شئت رفعت على ما تقدم. -
(1) انظر: الأصول (1/ 129)، (2/ 155).
(2)
أي: ابن مالك والده. انظر: الأشموني (3/ 305)، والتذييل (6/ 620).
(3)
سورة الفاتحة: 7.
(4)
هذا البيت من المديد قاله أبو نواس يذم به الزمان الذي هذه حالته، فكأنه قال: زمان ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه.
والشاهد فيه: إعمال الصفة التي هي قوله: «مأسوف» فيما بعدها لاعتمادها على «غير» قبلها وهي مبتدأ. والبيت في المغني (ص 159، 676)، والعيني (1/ 513)، والهمع (1/ 94)، والدرر (1/ 72).
(5)
تقدم.
(6)
سورة المنافقون: 10.
(7)
سورة النساء: 73.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وربما نصب الجواب جعلها تمنّيا، قال الشاعر (1):
3865 -
ولو نبش المقابر عن كليب
…
[فيخبر بالذّنائب أيّ زير](2)
وقال سيبويه (3): وزعم [هارون](4) أنها في بعض المصاحف (ودّوا لو تدهن فيدهنوا)(5).
وأما الرّجاء: فقريب من التمني، وعند البصريين (6) أن المقرون بأداة الترجي في حكم الواجب فلا يكون له جواب منصوب، وقال الكوفيون (7):«لعل» تكون استفهاما وشكّا وتجاب في الوجهين، ومن أمثلتهم: لعلي سأحج فأزورك، والبصريون لا يعرفون الاستفهام بـ «لعل» ولا نصب الجواب بعدها، والصحيح أن الترجّي قد يحمل على التمني فيكون له جواب منصوب كقراءة حفص عن عاصم (8): لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ (9)، وقال الراجز أنشده الفراء:
3866 -
علّ صروف الدّهر أو دولاتها
…
يدلننا اللّمّة من لمّاتها
فتستريح النّفس من زفراتها (10)
ولا يحسن نصب المضارع بـ «أن» مضمرة بعد «الفاء» في غير ما ذكر، فلا -
(1) هو مهلهل بن ربيعة واسمه امرؤ القيس وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي. انظر: حاشية الأمير على المغني (1/ 212).
(2)
هذا البيت من الوافر وقد سقط الشطر الثاني من (جـ)، (أ) وتركت مساحته بيضاء في (أ) وبعده:
بيوم الشعثمين لقر عينا
…
وكيف لقاء من تحت القبور
الشرح: كليب: أراد به أخاه، والذنائب: ثلاث هضبات بنجد وبها قبر كليب المذكور، والزير: هو الذي يكثر زيارة النساء والتحدث إليهن. والشاهد فيه: نصب «فيخبر» في جواب التمني أغنت عنه «لو» المصدرية، والبيت في المغني (ص 267)، وشرح شواهده (ص 654)، والعيني (4/ 463)، والأشموني (4/ 32).
(3)
انظر: الكتاب (3/ 36).
(4)
ما بين المعقوفين ساقط من (جـ)، (أ) وتركت مساحته بيضاء في (أ) والتصويب من الكتاب، وهارون: ابن موسى الأزدي العتكي النحوي البصري، صاحب القراءات، وروى عن عمرو بن العلاء، وابن إسحاق، وعبد الله بن أبي إسحاق، والخليل بن أحمد وعدّة. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 14).
(5)
انظر: التبيان للعكبري (ص 1234)، والبحر المحيط (8/ 309).
(6)
انظر: التذييل (6/ 625)، والهمع (2/ 12).
(7)
انظر: التذييل (6/ 625)، والمغني (288)، والهمع (2/ 12).
(8)
انظر: الكشف (2/ 244)، والحجة لابن خالويه (ص 315).
(9)
سورة غافر: 36، 37.
(10)
تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يحسن نصبه بعد الخبر الواجب؛ لأن الذي أحوجنا بعد النفي والطلب إلى الإضمار وحمل الكلام على غير ظاهره هو الدلالة على المخالفة بين الأول والثاني على ما بيناه، وإذا عطف بـ «الفاء» على الخبر الواجب كما في نحو: أنت تأتينا فتحدثنا لم يقع خلاف بين الأول والثاني فلم يحتج إلى النصب على ذلك الإضمار والتأويل ولم يرد استعماله إلا في أشياء سيأتي التنبيه عليها.
هذا آخر كلام الإمام بدر الدين رحمه الله تعالى، وهو كلام مرتب حسن نظيف، ويتعلق به أمران:
أحدهما: قوله في تقسيم المضارع الواقع بعد «الفاء» إذا كان ما قبل «الفاء» غير واجب: إنك إن قصدت أنه مسبب مبني على مبتدأ محذوف رفع كقولك: ما تأتيني فتحدثني، قال: فترفع على جعل الإتيان سببا للحديث، وتقديره: فأنت تحدثني. فإن جعلت الإتيان سببا للحديث مع أن الإتيان منفي والحديث مثبت لا يظهر إلا أن تريد أن الإتيان سبب للحديث في الجملة لا في هذا التركيب فيكون مراد المتكلم أن السبب منتف ولكن مسببه ثابت كأنه يريد بسبب آخر فيستقيم حينئذ.
ثانيهما: قوله في المضارع الواقع بعد «الفاء» إذا كان حكمه مخالفا لما قبل «الفاء» وذلك إذا كان ما قبل «الفاء» غير واجب: إن ما بعد الفاء إما مسبب عما قبلها أو مرتب عليه، والمسبب: إما غير مبني على مبتدأ محذوف، أو مبني على مبتدأ محذوف، والمرتب: إما لإفادة نفي الجمع، وإما لإفادة استئناف الإثبات.
فإن هذه الأقسام الأربعة التي ذكرها وإن كانت تتصور جميعها في الكلام الواقع بعد النفي قد لا تتصور جميعها في الواقع بعد بعض أقسام الطلب وهو قد أطلق الحكم بقوله: وذلك إذا كان ما قبل الفاء غير واجب.
ثم إن المصنف ذكر في مثل: ما تأتينا فتحدثنا: جواز الرفع إما على العطف أو الاستئناف، كما تقدمت الإشارة إليه، ولم يتعرض إلى ذكر شيء من ذلك في بقية المسائل.
وأما الإمام بدر الدين فإنه تعرض إلى ذكر ذلك كما رأيت، لكن أبو الحسن بن عصفور أورد ذلك في المقرب
إيرادا حسنا، وأنا أذكر كلامه بنصه، قال (1) رحمه -
(1) انظر: المقرب لابن عصفور (1/ 263 - 267).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الله تعالى - بعد سرده المواضع التي تضمر فيها «أن» بعد «الفاء» في الأجوبة الثمانية -: وليس النصب بعد «الفاء» حتما في جميع ما ذكر بل يجوز معه غيره.
والضابط في ذلك أن تقول: إن تقدم الفاء جملة منفية فإن كانت فعلية وكان الفعل مرفوعا جاز في الفعل الذي بعد «الفاء» النصب والرفع؛ فالرفع له معنيان:
أحدهما: أن يكون نفى الإتيان فانتفى من أجله الحديث كأنه قال: ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ والتحديث لا يكون إلا مع الإتيان.
والثاني: أن يكون أوجب الإتيان ونفى الحديث كأنه قال: ما تأتينا محدثا بل غير محدث.
وإن كان الفعل منصوبا: جاز فيه وجهان: الرفع والنصب، فالرفع له وجه واحد وهو القطع فتقول: لن تأتينا فتحدثنا أي: فأنت تحدثنا، والنصب على ثلاثة أوجه:
العطف على الفعل فيكون ما بعد «الفاء» شريكا لما قبله في النفي كأنه قال: لن تأتينا فلن تحدثنا؛ والنصب بإضمار «أن» فيكون له المعنيان المتقدما الذكر.
وإن كان الفعل مجزوما: جاز فيه ثلاثة أوجه: الرفع والنصب والجزم:
فالرفع على القطع فيكون [5/ 117] ما بعد «الفاء» موجبا نحو قولك: لم تأتنا فتحدثنا، أي: فأنت تحدثنا، ومن ذلك قوله:
3867 -
غير أنّا لم تأتنا بيقين
…
فنرجّي ونكثر التّأميلا (1)
أي: فنحن نرجي.
والجزم على العطف فيكون التقدير: فلم تحدثنا.
والنصب بإضمار على المعنيين المتقدمي الذكر.
وإن كانت اسمية: لم يجز فيما بعد «الفاء» إلا النصب على المعنيين المتقدمي الذكر، أو الرفع على القطع، ولا يجوز
العطف على ما بعد أداة النفي؛ لأنه لم يتقدم فعل فيعطف عليه.
وإن تقدم «الفاء» جملة استفهامية:
فإن كانت فعلية: جاز في ما بعد الفاء وجهان: الرفع والنصب، فالرفع على وجهين: -
(1) تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
العطف فيكون الثاني شريك الأول في الاستفهام نحو قولك: هل تأتينا فتحدثنا؟ أي: فهل تحدثنا.
والقطع كأنك قلت: فأنت تحدثنا.
والنصب: على أن تقدر الأول سببا للثاني كأنك قلت: هل يكون منك إتيان فيكون بسببه حديث؟
وإن كانت اسمية: لم يجز في ما بعد «الفاء» إلا الرفع على القطع نحو قولك:
هل زيد أخوك فنكرمه؟ أي: فنحن نكرمه، أو النصب على السببية نحو قولك:
أين بيتك فأزورك؟
وإن تقدمها جملة تمنّ: فإما أن يكون فيها فعل أو لا يكون، فإن كان جاز في ما بعد «الفاء» الرفع والنصب، فالرفع على معنيين:
العطف نحو قولك: ليتني أجد مالا فأنفق منه أي: فليتني أنفق منه.
والاستئناف أي: فأنا أنفق منه.
والنصب: على السببية كأنه تمنى وجدان مال يكون سببا للإنفاق منه.
وإن لم يكن فيها فعل: لم يجز إلا النصب على السببية والرفع على القطع، ولا يجوز العطف نحو قولك: ليت لي مالا فأنفق منه برفع «أنفق» ونصبه.
وإن تقدمها جملة نهي أو أمر باللام: جاز فيه ثلاثة أوجه: الرفع على الاستئناف، والنصب على السببية والجزم على العطف نحو قولك: لتكرم زيدا فيكرمك، ولا تضرب عمرا فيضربك.
وإن كان الأمر بغير «لام» : لم يجز فيه إلا الرفع على القطع، والنصب على السببية نحو قولك: أكرم زيدا فيكرمك برفع «يكرم» ونصبه.
وإن تقدمها جملة دعاء وكان فعله على صيغة الأمر: كان حكمه حكم فعل الأمر.
وإن تقدمها جملة عرض أو تحضيض أو دعاء على غير صيغة الأمر: جاز فيما بعد «الفاء» الرفع على العطف فيكون شريكا لما قبله في المعنى، أو على القطع، والنصب على السببية نحو قولك: ألا تنزل عندنا فتحدثنا، وغفر الله لزيد فيدخله الجنة. انتهى كلام ابن عصفور رحمه الله تعالى. -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الشيخ بهاء الدين بن النحاس رحمه الله تعالى: قوله (1): وليس النصب بعد «الفاء» حتما في جميع ما ذكر بل يجوز معه غيره، فيه ركاكة؛ لأنه إذا أريد معنى السبب لا يجوز فيه إلا النصب، وإن أريد غيره مما يجوز أعرب على حسب ما يقتضيه المعنى المراد، قال: وأحسن من عبارته بكثير قول الزمخشري (2): وليس بحتم أن ينصب الفعل في هذه المواضع، بل للعدول به إلى غير ذلك من معنى وجهة من الإعراب مساغ، فنبّه على أن اختلاف الإعراب إنما هو لاختلاف المعنى المقصود.
ثم قال الشيخ بهاء الدين: وإذا عرفت أنه لا بد وأن يتقدم هذه الحروف كلام فلا يخلو ما يتقدمها من أن يكون تامّا أو غير تام فإن كان غير تام نحو: ما زيد فيحدثنا قائم، لم يجز في ما بعد «الفاء» النصب أصلا لأن العطف على المعنى لا يجوز إلا بعد تمام الكلام ولم يتم الكلام هنا خلافا لمن قال من الكوفيين (3) بجواز النصب على التقديم والتأخير.
وإن تم الكلام جملة قبل هذه الحروف وتأخر معمول لما قبلها عما بعدها نحو:
ما تأتينا فتحدثنا اليوم على أن يكون «اليوم» ظرفا لـ «تأتينا» فلا يجوز النصب أيضا عندنا؛ لما تقدم من أن النصب يؤدي إلى جعل ما قبل هذه الحروف في مكان مصدر لكون المعطوف عليه مصدرا، فكما لا يجوز الفصل بين المصدر وبعض معمولاته بأجنبي كذلك لا يجوز الفصل بين هذا الفعل وبعض معمولاته بالمعطوف الذي هو أجنبي منه لتنزله في المعنى منزلة المصدر المتوهم المعطوف عليه وإن كان قد أجاز النصب في مثل هذه المسألة أكثر أهل الكوفة.
فإن كانت الجملة التي قبل «الفاء» اسمية نحو: ما زيد قائم فيحدثنا، فأبو بكر (4) وأكثر النحاة التزموا الرفع في ما بعد «الفاء» ؛ لأن النصب يقتضي أن يتصيد من الجملة الأولى مصدر فيعطف عليه هذا المصدر، ولا دلالة في الجملة الاسمية على مصدر كدلالة الجملة الفعلية عليه. انتهى.
ولم أتحقق قوله: إن أكثر النحاة التزموا الرفع في ما بعد «الفاء» إن كانت الجملة التي قبل -
(1) انظر هذا النقل في ورقة رقم (92) من كتاب بهاء الدين بن النحاس وهو المسمى بالتعليقة وهو تعليقه وشرحه لمقرب ابن عصفور وهو مخطوط بمكتبة الأزهر برقم (4947)(المغاربة).
(2)
انظر: المفصل (ص 246).
(3)
انظر: التذييل (6/ 628)، والهمع (2/ 12).
(4)
لعله ابن السراج، وانظر: التذييل (6/ 629).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
«الفاء» اسمية نحو: ما زيد قائم فيحدثنا. فإن هذا الذي ذكره خلاف المشهور، وقد عرفت قول ابن عصفور في تقسيم الجملة المتقدمة «الفاء» إذا كانت منفية وإن كانت اسمية لم يجز فيما بعد «الفاء» إلا النصب على المعنيين المتقدمي الذكر، أو الرفع على القطع.
وبعد فلا بد من التعرّض إلى ذكر أمور:
منها: أن الشيخ قال (1): ولا نعلم خلافا في نصب الفعل جوابا للأمر إلا ما نقل عن العلاء بن سيّابة قالوا: - وهو معلم الفراء - أنه كان لا يجيز ذلك (2)، وهو محجوج بثبوته عن العرب، أنشد سيبويه (3) لأبي النجم:
3868 -
يا ناق سيري عنقا فسيحا
…
إلى سليمان فنستريحا (4)
إلا أن يتأوله ابن سيّابة على أنه من النصب في الشعر فيكون مثل قوله:
3869 -
سأترك منزلي لبني تميم
…
وألحق بالحجاز فأستريحا (5)
قال الشيخ (6): ولا [5/ 118] يبعد هذا التأويل، ولمنعه وجه من القياس وهو إجراء الأمر مجرى الواجب، فكما لا يجوز ذلك في الواجب كذلك لا يجوز في الأمر، ومن إجراء الأمر مجرى الواجب باب الاستثناء؛ فإنه لا يجوز فيه البدل كما لا يجوز في الواجب، وذلك بخلاف النفي والنهي فإنه يجوز فيهما ذلك. انتهى.
ولقائل أن يقول للشيخ: يلزمك على ما قررته أن يمتنع النصب بعد الاستفهام والتمني والعرض والتحضيض؛ لأنها لا يجوز معها البدل في الاستثناء كما لا يجوز الأمر وإنما يجوز البدل في الاستثناء مع الاستفهام إذا أريد به الإنكار والنفي، أما إذا أريد به الاستفهام حقيقة فلا يجوز معه البدل، ثم لا يخفى أن النصب إنما وجب بعد «الفاء» الواقعة في جواب الأمر لتعذر عطف الخبر على الطلب فاحتيج إلى تقدير «أن» ليحصل بذلك تأويل يصح معه
العطف، وأما في الاستثناء فإن النصب والبدل إنما يبتنيان على كون الكلام موجبا أو غير موجب فافترق البابان. -
(1) انظر: التذييل (6/ 606، 607).
(2)
انظر: معاني القرآن للفراء (2/ 79) ونص عبارته: «وكان شيخ لنا يقال له: العلاء بن سيابة - وهو الذي علم معاذا الهراء وأصحابه - يقول: لا أنصب بالفاء جوابا للأمر» .
(3)
انظر: الكتاب (3/ 34، 35).
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
(6)
التذييل (6/ 607).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثم أردف الشيخ كلامه المتقدم بأن قال (1): وأما قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ * (2) على قراءة من نصب (3) فظاهره أنه نصب في جواب الأمر (4).
ومنها: أن الشيخ قال (5): وشرط الجواب في النهي أن لا ينقض بـ «إلا» قبل «الفاء» نحو: لا تضرب إلا عمرا فيغضب، قال: فإنك إن نقضته ارتفع الفعل كما في هذا المثال، وإن نقضته بعد «الفاء» (6) كان جوابا نحو: لا تضرب زيدا فيغضب عليك إلا تأديبا. انتهى.
والحق أنه لا يحتاج إلى هذا الشرط؛ لأن «فيغضب» في المثال الأول ليس جوابا وإذا لم يكن جوابا فمن أين يجيء النصب؟
ومنها: أن المصنف قال: (بفعل أصيل في ذلك) بعد قوله: (أو دعاء) وتقدم قول الإمام بدر الدين: إن والده أشار بذلك إلى أنه لا يجوز نصب جواب الدعاء إلا إذا كان بلفظ الطلب وأن هذا مذهب البصريين، لكن قال الشيخ (7): إنه احترز بقوله: (بفعل) من أن يكون الدعاء بالاسم نحو: سقيا لك ورعيا.
وأما قوله: أصيل فاحترز به كما قال بدر الدين من الدعاء المدلول عليه بلفظ الخبر. -
(1) انظر: التذييل (6/ 608).
(2)
سورة البقرة: 117، وسورة آل عمران: 47، وسورة النحل: 40، وسورة مريم: 35، وسورة يس: 82، وسورة غافر:68.
(3)
هي قراءة ابن عامر. انظر: الحجة لابن خالويه (88، 300)، والكشف (1/ 260) وقال:
«ووافقه الكسائي على النصب في النحل ويس» ، وانظر الإرشادات الجلية في القراءات السبع (ص 46).
(4)
قال الشيخ أبو حيان بعد هذا الكلام: فأما في قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فخرّج على أن فَيَكُونُ ليس جوابا للأمر ولكنه معطوف على قوله: أَنْ يَقُولَ لا أنه تسبب عن محكي أَنْ يَقُولَ وهو كُنْ وردّ بأنه يلزم أن يشرك أَنْ يَقُولَ في كونه خبرا فيكون المعنى: إنما أمره الكون، وأمره ليس بالكون، إنما أمره: القول فلا بد من الرفع على الاستئناف كما زعم سيبويه، وأما في قوله تعالى: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فخرّجه الأستاذ أبو علي على أنه من النصب في الواجب وإن كان ضعيفا، لكن ابن عامر رواه فأخذ به، ولا يكون على كُنْ بل على تقدير: فيقول فيكون، وهذا فيه نظر؛ لأن سيبويه ذكر أنه في الشعر. انظر: التذييل (6/ 608، 609).
(5)
انظر: التذييل (6/ 611)، والارتشاف (704).
(6)
في النسختين: إلا، والتصويب من التذييل والارتشاف.
(7)
انظر: التذييل (6/ 612).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وبعد: فسيأتي الكلام على هذه المسألة في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن الشيخ ذكر (1) تقسيما في الاستفهام المنصوب الجواب بالنسبة إلى أن الاستفهام قد يكون بالحرف، وقد يكون بالاسم، إلى أن خرج من الأقسام مثل قولك: هل زيد أخوك فنكرمه؟ وأوجب الرفع في مثل هذه الصورة.
ولم يظهر لي توجيه ذلك، وقد تقدم من كلام ابن عصفور أن الجملة الاستفهامية إذا كانت اسمية يجوز في ما بعد «الفاء» الرفع على القطع، والنصب على السببية، وهذا هو الظاهر إذ لا وجه لمنع النصب.
ومنها: أن المصنف قد قيد الاستفهام كما عرفت بقوله: أو لاستفهام لا يتضمّن وقوع الفعل. وتقدم كلام بدر الدين على ذلك.
ونحن الآن نشير إلى ما ذكره الشيخ: قال (2) رحمه الله تعالى مشيرا إلى قول المصنف: لا يتضمّن وقوع الفعل: هذا قيد في الاستفهام فإن تضمن وقوع الفعل لم يجز النصب نحو: لم ضربت زيدا فيجازيك؟ لأن الضرب قد وقع، وهذا الشرط الذي ذكره في الاستفهام لم أر أحدا من أصحابنا يشترطه، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله إما لكونه ليس ثمّ فعل ولا [ما] في معناه ينسبك منه، وإما لاستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل فإنما يقدر فيه مصدر مقدّر استقباله مما يدل عليه المعنى، فإذا قال: لم ضربت زيدا فنضربك، أي: ليكن منك تعريف بسبب ضرب زيد فضرب منا.
ثم قال: قال ابن المصنف: واقتدى - يعني والده المصنف - في هذه المسألة بما ذكره أبو علي في الإغفال رادّا على قول أبي إسحاق الزجاج في قوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ (3): ولو قيل: وتكتموا الحق؛ لجاز على معنى: لم تجمعون بين ذا وذا؟ ولكن الذي في القرآن أجود في الإعراب. انتهى.
وردّ أبي علي على أبي إسحاق في هذا غير متجه؛ لأن قوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ ليس نصّا على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله، ولو -
(1) انظر: التذييل (6/ 612، 613).
(2)
التذييل (6/ 614، 615).
(3)
سورة آل عمران: 71.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فرضنا أنه ماض حقيقة فلا ردّ فيه على أبي إسحاق؛ لأنه كما قررنا قبل أنه إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة سبكناه من لازم الجملة.
وقد حكى ابن كيسان نصب الفعل في جواب الاستفهام حيث الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع نحو: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك في: كم مالك فنعرفه؟
ومن أبوك فنكرمه؟ لكن يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير: ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام منا له. هذا آخر ما ذكره الشيخ وما نقله عن ابن المصنف.
وأقول: أما قول الشيخ: إن هذا الشرط الذي ذكره - يعني المصنف - لم يشترطه الجماعة (1) أي: المغاربة، فيقال له: قد تكون الجماعة استغنت عن اشتراطه بما أذكره وهو: أن المنصوب بعد «الفاء» في الطلب إنما هو مسبب عما قبله، ولا شك أن المسبب يترتب وجوده على وجود السبب، كما أن جواب الشرط يترتب وجوده على وجود الشرط، ولهذا إذا سقطت «الفاء» من نحو: أين بيتك فأزورك؟ والمعنى الذي كان مع وجود «الفاء» مراد بعد سقوطها وهو الترتب جزم الفعل الذي هو: أزورك، على أنه جواب لقولك: أين بيتك؟ ولا شك أن ترتب وجود أمر على وجود أمر آخر إنما يعقل بالنسبة إلى الاستقبال، وإذا كان الفعل [5/ 119] المستفهم عنه قد وقع فات المعنى المقصود من الترتب.
ثم إن قوله: إنه إذا تعذر سبك مصدر مما قبله إلى آخر كلامه، فإنما يقدر فيه مصدر مقدر استقباله مما يدل عليه
المعنى فتقدير قولك: لم ضربت زيدا فنضربك؟:
ليكن منك تعريف بسبب ضرب زيد فضرب منا، غير ظاهر؛ لأن معنى: ليكن منك تعريف بسبب ضرب زيد فضرب منا، ليس هو معنى: لم ضربت زيدا فنضربك؟، ثم إن تأويل: لم ضربت زيدا فنضربك؟ بقولنا: ليكن منك تعريف بسبب ضرب زيد فضرب منا - يلزم منه الاعتراف بما ذكره المصنف من أن شرط الاستفهام الذي ينصب جوابه بعد «الفاء» أن لا يتضمن وقوع الفعل، إذ لو لم يكن ذلك شرطا لما احتيج إلى التأويل.
وكذا قول بدر الدين في ما حكاه عن ابن كيسان في نحو: أين ذهب زيد -
(1) عبارة الشيخ: «وهذا الشرط الذي ذكره في الاستفهام لم أر أحدا من أصحابنا يشترطه» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فنتبعه؟: ولا أراه يستقيم على مأخذ البصريين إلا بتأويل ما قبل «الفاء» باسم معمول لفعل أمر دل عليه الاستفهام والتقدير: ليكن منك إعلام بموضع ذهاب زيد فاتباع منا - يبين لك صحة ما ذكره المصنف.
ثم إن الشيخ ذكر مسألة تتعلق بالاستفهام أيضا فقال (1): وزعم بعض النحويين أن الاستفهام إذا كان عن المنسوب إليه الفعل لا عن الفعل فلا يصح النصب بعد الفاء على الجواب، ومنع النصب في نحو: أزيد يقرضني فأسأله؟ وقال: لا يصح ها هنا الجواب وهو محجوج بقراءة من قرأ في السبعة: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ * (2) بالنصب (3)، ووجه الدلالة من هذه الآية أن الفعل وقع صلة فليس مستفهما عنه ولا هو خبر عن مستفهم عنه بل هو صلة للخبر، وإذا جاز النصب بعد مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ * لكونه في معنى: من يقرض؟ فجوازه بعد «من يقرض» و: أزيد يقرض فأسأله؟ أحرى وأولى. انتهى.
والظاهر أن المسوغ لنصب الجواب بعد «الفاء» هو وجود الاستفهام سواء أكان المستفهم عنه الفعل أم متعلقه، أم من ينسب إليه الفعل، وإنما المعتبر هو ما ذكره المصنف وهو: أن الفعل لا يكون قد وقع.
ومنها: أنك قد عرفت أن المصنف قسّم النفي المنصوب جوابه بعد «الفاء» إلى:
محض ومؤول وأن ولده فسر المحض بأن يكون النفي داخلا على الفعل المعطوف عليه خاليا عما يزيل معناه نحو: ما تأتيني فتحدثني، وفسر المؤول بأن يكون معه ما يزيل معناه وينقل الكلام إلى الإثبات، وأن ذلك ما قبله استفهام أو بعده استثناء نحو: ألم تأتنا فتحدثنا، ونحو: ما تأتينا فتقول إلا خيرا، وعلل النصب في هذا المثال - مع أنك أتيت بـ «إلا» إثباتا - بأن قولك: ما تأتينا فتقول إلا خيرا بمعنى:
ما تأتينا فتقول شرّا، وذكر أن هذا بخلاف قولنا: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا وما تزال تأتينا فتحدثنا، فإن الرفع واجب، قال: لأن النفي لم يدخل على المعطوف عليه إنما دخل في الأول على شيء مقدر أخرج عنه المعطوف عليه وأوجب بـ «إلا» ، وفي الثاني على متعلق المعطوف عليه وكان معناه النفي فصار إثباتا. -
(1) انظر: التذييل (6/ 613، 614).
(2)
سورة البقرة: 245، وسورة الحديد:11.
(3)
قراءة ابن عامر وعاصم. انظر: الحجة لابن خالويه (ص 98)، وانظر: الكشف (1/ 300).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأقول: إن البحث هنا يتعلق بأمرين:
الأول: قول المصنف: أو مؤول ينافي قوله في شرح الكافية: وشرط النفي أن يكون خالصا، فالنفي الذي ليس نفيا خالصا لا جواب له منصوب نحو: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا، وما قام فتأكل إلا طعامه، قال: ومنه قول الشاعر:
3870 -
وما قام منّا قائم في نديّنا
…
فينطق إلّا بالّتي هي أعرف (1)
فإن قلت: لا منافاة في ذلك، فقد قال بدر الدين: إن النفي في: «ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا» إنما دخل على شيء مقدر أخرج منه المعطوف عليه وأوجب بـ «إلا» ، وقال: إن النفي في: «ما تزال تأتينا فتحدثنا» إنما دخل على متعلق المعطوف عليه وكان معناه النفي فصار إثباتا فكان الرفع واجبا في المثالين.
قلت: فقد قال بدر الدين شارحا لكلام والده في الألفية (2): شرط النفي أن يكون خالصا من معنى الإثبات ولذلك وجب رفع ما بعد «الفاء» في: «ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا» ، و «ما تزال تأتينا فتحدثنا» ، و «ما قام فتأكل إلا طعامه» ، وقول الشاعر:
وما قام منّا قائم في نديّنا
…
فينطق إلّا بالّتي هي أعرف
فوافق كلامه كلام والده في نحو: ما قام فتأكل إلا طعامه، وجعل من ذلك البيت المذكور كما جعله والده، ولا شك أن ما ذكره في الألفية من عدم جواز النصب في نحو: ما قام فتأكل إلا طعامه مناف بعد تمثيله هنا بقولك: ما تأتينا فتقول إلا خيرا؛ لقوله: فتنصب مع أنك أثبت بـ «إلا» إثباتا لأنه بمعنى: ما تأتينا فتقول شرّا.
والذي ظهر لي أن الذي اعتبراه في شرحي الكافية والألفية إنما هو وجود النفي في الجملة وأن يكون معه ما ينقضه، فإذا وجد ذلك امتنع النصب، ومن ثمّ امتنع النصب في نحو: ما قام فتأكل إلا طعامه كما امتنع في نحو: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا، ولهذا اشترط في الكتابين أن يكون النفي خالصا ومحضا ولم يعتبر النفي المؤول، والذي اعتبراه هنا - أعني في التسهيل وشرحه - أن يكون النفي داخلا على الفعل المعطوف عليه لا على غيره كما في: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا؛ فإن النفي إنما دخل على شيء مقدر أخرج منه المعطوف عليه -
(1) تقدم.
(2)
انظر: شرح الألفية لابن الناظم (ص 680).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأوجب، وكما في «ما تزال تأتينا فتحدثنا» فإن النفي إنما دخل على متعلق المعطوف عليه وهو «تزال» ومعناه النفي فصار إثباتا، فإذا وجد ذلك امتنع النصب، أما إذا كان النفي داخلا على الفعل المعطوف عليه فإن جوابه ينصب وإن انتقض النفي كقولنا: ما قام زيد فتأكل إلا طعامه؛ لأنه بمعنى: ما قام زيد [5/ 120] فتأكل غير طعامه، ولا شك أن هذا كلام صورته صورة الإيجاب ومعناه النفي فمن ثمّ قيل فيه: إنه نفي مؤول ومنه المثال الذي (1) ذكره بدر الدين وهو: ما تأتينا فتقول إلا خيرا؛ لأنه بمعنى: ما تأتينا فتقول شرّا كما قال بدر الدين، وعلى ذلك قول سيبويه (2): وتقول: لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة، وقد رأيت من المثال الذي ذكره بدر الدين وهو: ما تأتينا فتقول إلا خيرا، والمثال الذي ذكره سيبويه وهو:
لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة - أن «إلا» مذكورة بعد «الفاء» .
فمن ثمّ كأن الشيخ جعل ذلك هو المسوغ لجواز النصب فإنه قال (3): ودخول «إلا» إما أن يكون قبل «الفاء» أو بعدها، فإن كان قبل «الفاء» لم تكن «الفاء» جوابا فلا يجوز إذ ذاك النصب نحو: ما ضرب زيد إلا عمرا فيغضب، وإن كان بعد الفاء جاز النصب نحو: ما ضربت زيدا فيغضب إلا تأديبا، وما تأتينا فتحدثنا إلا بخير. انتهى.
وإذ قد تقرر هذا فقولنا: ما قام زيد فتأكل إلا طعامه، يجوز فيه النصب؛ لأنه وإن كانت صورته صورة الإيجاب فإنه مؤول بالنفي كما تقدم من أنه بمعنى: ما قام زيد فتأكل غير طعامه، ومن ثمّ لما نقل الشيخ (4) عن المصنف ما قاله في شرح الكافية من أن النفي الذي ليس نقيّا خالصا لا جواب له منصوب، نحو: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا، وما قام زيد فتأكل إلا طعامه، وإنشاده قول الشاعر:
3871 -
وما قام منّا قائم في نديّنا
…
فينطق إلّا بالّتي هي أعرف (5)
-
(1) وقع سهو من الناسخ هنا، فكتب كلاما سيأتي ذكره؛ فحين قوبلت هذه النسخة على نسخة أخرى ذكر الناسخ المقابل على هامش النسخة (جـ) أن الذي ذكره بدر الدين بعد ورقتين من هذه الورقة، ويبدو أنه انتزع الورقتين اللتين تعدان مكررتين، حتى يستقيم الكلام اللاحق مع الكلام السابق، غير أنه قد ترك جزءا من هذا الكلام المتكرر وهو الذي يمثل أغلبية الوجه الأيمن للصفحة (120) والتي لم نأخذ منها سوى سطرين كما هو مذكور، وقد قابلنا هذا بالنسخة (أ) فوجدنا الكلام مستقيما لا خلل به.
(2)
انظر: الكتاب (3/ 32).
(3)
انظر: التذييل (6/ 618).
(4)
انظر: التذييل (6/ 620، 621).
(5)
تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال (1): أما المسألتان الأوليان؛ فصواب، وأما: ما قام فتأكل إلا طعامه؛ فخطأ، لأنه يجوز النصب، وعلى النصب أنشد سيبويه البيت (2)، فمتى وقعت «إلا» بعد الفعل الداخل عليه «الفاء» جاز النصب فيما بعد «الفاء» سواء أكان ما بعد «إلا» معمولا للفعل الذي قبل «الفاء» أو للفعل الذي بعد «الفاء» .
الأمر الثاني: أنك قد عرفت من كلام بدر الدين أن من النفي المؤول ما قبله استفهام كقولك: ألم تأتنا فتحدثنا بالنصب على معنى: ألم تأتنا محدثا، ومنه قول الشاعر:
3872 -
ألم تسأل فتخبرك الرّسوم
…
على فرتاج والطّلل القديم (3)
ولا شك أن المراد بهذا الاستفهام التقرير، وإذا كان تقريرا فالنفي غير مراد، وإذا لم يكن النفي مرادا كان الواجب أن يمتنع نصب الجواب؛ لأن النفي ليس خالصا، ويعضد ذلك قول بعض العلماء المعتبرين ممن تكلم على الألفية: إن المصنف احترز بتقييد النفي بـ «محض» من النفي التالي تقريرا نحو: ألم تأتني فأحسن إليك إذا لم ترد الاستفهام الحقيقي.
والتفصيل الذي ذكر في النفي المنتقض بـ «إلا» من كون «إلا» إما أن تذكر قبل «الفاء» أو بعدها لا يتأتى هنا، ولا شك أن نصب الجواب في مثل ذلك وارد عن العرب:
قال الشاعر:
3873 -
ألم أك جاركم ويكون بيني
…
وبينكم المودّة والإخاء (4)
فإن هذا الاستفهام المراد به التقرير بلا ريب و «الواو» و «الفاء» في هذا الباب سيان.
والذي يظهر أن يقال: إن النفي المقرون بأداة الاستفهام وإن كانت حقيقة الاستفهام غير مرادة يعطي أحكام النفي الصريح ولهذا يجاب بكلمة «بلى» التي هي مخصوصة بجواب النفي قال الله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (5) فلما كان -
(1) انظر: التذييل (6/ 621).
(2)
انظر: الكتاب (3/ 32).
(3)
تقدم.
(4)
البيت من بحر الوافر وهو للحطيئة في ديوانه (ص 26). وكلمة «فرتاج» سقطت من (جـ) وضبطت «على» بتشديد الياء، وهو خطأ، وفي «أ» تركت مساحتها بيضاء.
والشاهد فيه: في قوله: «ويكون» حيث نصب بتقدير: «أن» لوقوع الفعل بعد «واو» المصاحبة الواقعة بعد الاستفهام التقريري. والبيت في الكتاب (3/ 43)، والمقتضب (2/ 72)، والمغني (ص 669)، والعيني (4/ 417)، والتذييل (6/ 634)، والهمع (2/ 13)، والدرر (2/ 10).
(5)
سورة الأعراف: 172.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حكم النفي مجرى عليه وإن اقترن به ما يخرجه [5/ 121] إلى الإثبات جاز أن ينصب ما وقع جوابا له، لكن في إطلاق النفي المؤول على هذا نظر، فإنه لم يؤول بنفي وإنما أجري عليه أحكام النفي إن كان الأمر فيه على ما قلناه.
ثم قد عرفت قول بدر الدين: ويجوز أن يكون المراد بالنفي المحض إلى آخره ويكون المراد بالنفي المؤول على هذا، وهو الأقرب - ما يدل عليه بما له مسمى يقرب من معنى النفي فيقام مقامه نحو:«غير» فإنه اسم بمعنى:
مخالف إلى آخر ما قاله؛ فقال الشيخ (1): لا يصح أن يفسر قول المصنف بهذا التفسير الثاني أعني أنه يكون معنى قوله: مؤول، يريد به مسألة: غير قائم الزيدان فنكرمهما؛ لأن هذا لا يسمى نفيا مؤولا، بل هو موجب مؤول بالنفي؛ لأن التأويل هو صرف الكلام عن ظاهره ومآله إلى غير ما وضع له بحق الأصالة، وإنما يصدق النفي المؤول على مسألة التقرير ومسألة النقض بـ «إلا» . انتهى.
وكان قد قال (2) في قول المصنف: أو مؤوّل: أن تكون صورته صورة النفي وهو مؤول بغير النفي.
وما ذكره الشيخ لا يظهر، فإن الكلام إذا كانت صورته صورة النفي وهو مؤول بغير النفي كان إيجابا لا نفيا، وإذا كان إيجابا فكيف يسوغ نصب الجواب؟
وإنما مراد المصنف عكس ما قاله الشيخ وهو أن يكون الكلام صورته صورة الإيجاب ويؤول بالنفي فيعطى حكمه؛ لأن «إلا» إذا ذكرت بعد النفي كان الكلام إيجابا، فإذا اتفق في بعض التراكيب تأويل ذلك الكلام بنفي عومل ذلك التركيب بما يعامل به النفي الخالص، وإذا كان الأمر على ما قلنا فاعتراض الشيخ على بدر الدين ساقط؛ لأن الصورة المذكورة في الفصل كل منها موجب مؤول بالنفي وليس منها شيء صورته صورة النفي وهو مؤول بغير النفي.
ولما اعتقد الشيخ أن المراد بـ «مؤول» في قول المصنف: أن تكون صورته صورة النفي وهو مؤول بغير النفي قال في آخر الفصل (3): ويرد على قول المصنف: أو مؤول مسألة يصدق عليها أنها نفي أوّل بغيره ولا ينتصب ما بعد «الفاء» جوابا لها -
(1) انظر: التذييل (6/ 620).
(2)
انظر: التذييل (6/ 618).
(3)
انظر: التذييل (6/ 622).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وذلك مسألة: ما زال زيد يأتينا فنكرمه، قال: فهذا نفي في الصورة ومعناه الإيجاب، تقديره: زيد يأتينا كثيرا فنكرمه، فلا يجوز نصب ما بعد الفاء، وكذلك باقي الأفعال التي صورتها منفية وهي موجبة من حيث المعنى. انتهى.
ولا شك أن الموجب لهذا كله حمل الكلام على غير ما أريد به وذلك أن المراد بـ «مؤول» إنما هو أن يكون الكلام
صورته صورة الإيجاب والمراد به النفي كما قدمنا، والشيخ عكس ذلك، وبالله العجب يورد الشيخ على المصنف: ما زال زيد يأتينا فنكرمه؛ أنه لا يجوز نصب ما بعد «الفاء» فيه، والمصنف قد ذكر المسألة بعينها في شرح الكافية وهي: ما تزال تأتينا فتحدثنا؛ حيث ذكر: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، وقال: إن النفي فيهما ليس خالصا، وإنهما لا جواب لهما منصوب كما تقدم ذكرنا لذلك عنه.
ومنها: أن ابن عصفور ذكر مسألتين (1):
الأولى:
أن «الفاء» إذا دخلت على الفعل وكان فيه ضمير يعود على ما قبلها فإما أن يرجع الضمير إلى من نفي الفعل في حقّه أو إلى من أوجب في حقّه، فإن رجع إلى من نفي عنه الفعل نصبت وإلا رفعت، مثاله: ما جاءني أحد إلا زيد فأكرمه، فإن جعلت الهاء لـ «أحد» نصبت كأنه قال: ما جاءني أحد فأكرمه، وإن جعلتها لـ «زيد» لم تنصب؛ لأن المعنى: جاءني زيد فأكرمه.
الثانية:
أن ما قبل الفاء إذا كان له معمول وأخرته إلى ما بعد الفاء نحو: ما ضربت فأهنته زيدا ففيه خلاف: منهم من أجاز ذلك ومنهم من منع (2)؛ فالمجيز يقول:
إنك لم تفصل إلا بمعطوف على الفعل بخلاف: إن تضرب فهو يكرم زيدا؛ هذا لا يجوز باتفاق؛ لأنك فصلت بما ليس بمعمول للفعل الأول ولا معطوف عليه؛ لأن الجواب ليس محمولا (3) على الشرط، فلو كان معطوفا عليه لشاركه في المعنى، والمانع يقول: إن الفعل الذي قبل «الفاء» في تأويل المصدر ولهذا صح النصب، -
(1) انظر: شرح الجمل (2/ 154) تحقيق أبو جناح.
(2)
في الهمع (2/ 12) أن الذي أجازه هم الكوفيون والذي منعه هم البصريون وأكثر النحويين.
(3)
في شرح الجمل: «أن تضرب فهو مكرم زيد» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والمصدر لا يفصل بينه وبين معموله بشيء والصحيح أنه لا يجوز. انتهى.
وفي شرح الشيخ بعد ذكره المسألة (1): قال أبو بكر (2): والصحيح أنه لا يجوز على هذا إزالة شيء عن موضعه.
ولنختم الكلام هنا بمسألة:
وهي: أنك قد عرفت أن النصب في نحو قولك: ما تأتينا فتحدثنا له معنيان:
أحدهما: أنك نفيت الإتيان والحديث معا.
والثاني: أنك قد أثبتّ الإتيان ونفيت الحديث.
تقرير الأول: أنك جعلت الإتيان سببا للحديث، ثم إنك نفيت الإتيان فانتفى الحديث؛ لأن انتفاء السبب يلزم منه انتفاء المسبب والمعنى: ما تأتينا فيكف تحدثنا؟ وعلى هذا يكون النفي جاريا على قياس أخواته من الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والتحضيض والعرض؛ لأن هذه الأقسام السبعة ما قبل «الفاء» فيها سبب لما بعدها.
وتقرير الثاني: أنك لم تقصد إلى جعل الإتيان سببا للحديث، بل قصدت إلى معنى آخر وهو: إثبات الإتيان ونفي الحديث، والمعنى: ما تأتينا محدثا يعني: بل تأتينا غير محدث؛ فلم تقصد السببية في هذا المعنى الثاني بوجه؛ وعلى هذا لا ينبغي أن يطلق القول بأن «الفاء» في الأجوبة الثمانية إذا نصب الفعل بعدها كانت للسببية؛ لأن «الفاء» في هذه الصورة لا يجوز كونها سببية لأن ما بعدها منتف مع أن قبلها ثابت، فكيف يثبت السبب مع انتفاء مسببه؟ وإذا لم تكن السببية مقصودة تعين قصد المعنى الذي تقدمت الإشارة إليه وهو: إثبات الإتيان ونفي الحديث، وتحريره: أن مريد هذا المعنى قصد إلى نفي ترتب ما بعد «الفاء» على ما قبلها، فليس المقصود بمباشرة النفي فعل الإتيان نفي الإتيان بل المقصود به نفي ترتب ما بعد «الفاء» عليه؛ فالمعنى: ما يحصل منك إتيان يترتب [5/ 122] عليه حديث، فالمنفي ترتب الحديث على الإتيان لا الإتيان.
فإن قيل: كيف جعلت في المعنى الأول سببا ثم إنك نفيت عنه السببية في المعنى الثاني؟
فالجواب: أن الإتيان ليس سببا عقليّا حتى يستنكر تخلف المسبب عنه، بل إنما هو سبب وضعي، فالمتكلم جعل الإتيان سببا للحديث، ومعنى جعله إياه سببا: أنه جعل -
(1) انظر: التذييل (6/ 623).
(2)
لعله ابن السراج.