الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سقوط الفاء من الأجوبة وجزم الفعل]
قال ابن مالك: (وتنفرد «الفاء» بأنّ ما بعدها في غير النّفي يجزم عند سقوطها بما قبلها، لما فيه من معنى الشّرط لا بـ «إن» مضمرة خلافا لمن زعم ذلك، ويرفع مقصودا به الوصف أو الاستئناف).
ــ
تقع مواقع [5/ 125]«الفاء» في جواب الأمور التسعة لا أن «الواو» وما بعدها جواب لأنهم قد قرروا أن «الواو» تقدر بـ «مع» ، ومتى كانت «الواو» بمعنى «مع» لا تكون جوابا، ويدل على ذلك أنه لا ينعقد من الكلام الذي هي فيه شرط وجزاء، إذ ليس معنى «لا تأكل السمك وتشرب اللبن»: إن تأكل السمك تشرب اللبن، ولا: إن لا تأكل السمك تشرب اللبن، وذلك بخلاف «الفاء» فإنها في جواب غير النفي ينعقد من الكلام الذي هي فيه شرط وجزاء، وكذا في جواب النفي الذي تدخل عليه همزة الاستفهام للتقرير؛ لأن ما بعدها متسبب عما قبلها، فمعنى قوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ (1): إن افتريتم سحتكم، وكذا إذا قلت: ليت لي مالا فأنفق منه، معناه: إن أجد مالا أنفق منه، وكذا:
3883 -
ألم تسأل فتخبرك الرّسوم (2)
معناه: إن تسأل تخبرك.
وفي شرح الشيخ (3): وذهب بعض النحويين إلى أن النصب بعد الواو على معنى الجواب، وتكلف لذلك فقال: معنى «لا تأكل السمك وتشرب اللبن» : إن أكلت السمك فلا تشرب اللبن، وإن شربت اللبن فلا تأكل السمك، وتقديره: إن لم تأكل السمك فاشرب اللبن، وكذلك أيضا: لا يسعني شيء ويعجز عنك، معناه عند غير هذا القائل: أنه لا يصح أن لا يجتمع في شيء واحد بأن يسعني شيء ويضيق عليك أي: نحن مشتركان فيما يضيق ويتسع، ولو رفعت لكان المعنى: لا يسعني شيء ولا يضيق عليك وهو عكس المعنى، وتقديره عند هذا القائل المخالف: إن لم يسعني شيء لم يسعك.
قال ناظر الجيش: قال المصنف في شرح الكافية (4): جواب غير النفي إذا خلا من «الفاء» وقصد الجزاء جزم بما هو له جواب؛ لأنه شبيه بالشرط في جواز وقوعه -
(1) سورة طه: 61.
(2)
تقدم.
(3)
انظر: التذييل (6/ 643، 644).
(4)
انظر: شرح الكافية الشافية (3/ 1551).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وعدم جواز وقوعه بالنسبة إلى علم الشخص المتكلم به، بخلاف النفي فإن الشخص المتكلم به محقق لعدم الوقوع فخالف الشرط ولم يكن له جواب مجزوم.
وأكثر المتأخرين (1) ينسبون جزم جواب الطلب لـ «إن» مقدرة والصحيح أنه لا حاجة إلى تقدير لفظ «إن» بل تضمن لفظ الطلب لمعناها مغن عن تقدير لفظها كما في أسماء الشرط نحو: من يأتني أكرمه، وهذا هو مذهب الخليل وسيبويه (2) رحمهما الله تعالى.
وقال الإمام بدر الدين (3): كل فعل لمأمور به أو منهي عنه فلا بد أن يكون سببا لجلب مصلحة أو دفع مفسدة وإلا فلا فائدة في طلبه، فمن لوازم الأمر بكل فعل أو النهي عنه كونه سببا وشرطا لأمر، فلهذا إذا خلا الجواب في غير النفي من «الفاء» وقصد الجزاء جزم؛ لأنه جواب شرط مقدر دل عليه ما قبل، تقول في الأمر: زرني أزرك، وفي النهي: لا تعص الله تنل رضاه، وفي الدعاء: اللهم ارزقني مالا أتصدق به، فيجزم على تقدير: إن تزرني وإن لا تعص وإن يرزقني، ولك أن ترفع على الاستئناف، أو على أنه حال لمعرفة أو نعت لنكرة، وتقول في الاستفهام: هل تأتينا تحدثنا؟ فتجزم لأنك تريد بالاستفهام الأمر كما في نحو: أَأَسْلَمْتُمْ؟ (4) وفَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ (5) فيدل على شرط هذا جزاؤه، وصار بمنزلة قولك:
ائتنا تحدثنا، وتقول: أين بيتك أزرك؟ لأن المعنى: عرفني بيتك أزرك، ولك أن ترفع كما بعد الأمر.
وتقول في العرض: ألا تنزل تصب خيرا، وفي التحضيض: هلا أمرت تطع، وفي التمني: ليته عندنا يحدثنا، فيجري الجزاء بعدها مجراه بعد الأمر.
وأما الترجي: فجزم الجواب بعده غريب أنشده (6) في «شرح إكمال العمدة» (7) وهو قول القائل: -
(1) انظر: الأشموني (3/ 310).
(2)
انظر: الكتاب (3/ 93، 94).
(3)
انظر: شرح التسهيل لبدر الدين (4/ 39).
(4)
سورة آل عمران: 20.
(5)
سورة الأنبياء: 108.
(6)
أي المصنف العلامة ابن مالك.
(7)
من مؤلفات ابن مالك النحوية وأشار إليه السيوطي في بغية الوعاة (1/ 131) ولم أعثر عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3884 -
لعلّ التفاتا منك نحوي ميسّر
…
يمل بك بعد العسر نحوي لليسر (1)
وأما النفي: فجوابه إن قرن بـ «الفاء» جاز نصبه ورفعه كما سبق، وإن خلا منها رفع على الحال أو النعت أو على الاستئناف، ولم يجز جزمه؛ لأن النفي ليس مثل الطلب في دلالته على الشرط وفي اقتضائه له.
واعلم أن الجواب المذكور لا خلاف في أنه جزاء شرط من جهة المعنى ولكن اختلف في الذي عمل فيه الجزم ما هو؟
فقال أكثرهم: الجواب مجزوم بشرط مقدر دل عليه ما قبل (2)، وقال قوم (3): هو مجزوم بنفس ما قبله لتضمنه معنى الشرط وهو ضعيف؛ لأن التضمين زيادة بتغيير للوضع، والإضمار زيادة بغير تغيير فهو أسهل، ولأن التضمين لا يكون إلا لفائدة ولا فائدة في تضمين الطلب معنى الشرط؛ لأنه يدل عليه بالالتزام فأي فائدة في تضمنه لمعناه؟ (4).
واختار شيخنا (5) رحمه الله تعالى أن الجواب مجزوم بفعل الطلب؛ لما فيه من معنى الشرط أخذا بظاهر كلام سيبويه رحمه الله تعالى، قال في شرح الكافية (6):
وأكثر المتأخرين ينسبون جزم جواب الطلب لـ «إن» مقدرة، والصحيح أنه لا حاجة إلى تقدير لفظ «إن» بل تضمن لفظ الطلب لمعناها مغن عن تقدير لفظها كما هو مغن في أسماء الشرط، نحو: من يأتني أكرمه، قال: وهذا هو مذهب الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى.
ولا شك أن سيبويه قال (7): فأما الجزم بالأمر فكقولك: ائتني آتك، وأما الجزم بالاستفهام فكقولك: ألا تأتيني أحدّثك، وأما الجزم بالتمني فكقولك: ليته عندنا يحدثنا، وأما الجزم بالعرض فكقولك: ألا تنزل تصب خيرا، وإنما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب «إن تأتني» بـ «إن تأتني» ، ثم قال: وزعم الخليل أن هذه الأقاويل -
(1) هذا البيت من الطويل لقائل مجهول، واستشهد به: على أن جزم الفعل «يمل» بعد سقوط الفاء حال كونه واقعا بعد الترجي غريب، والبيت في الهمع (2/ 14)، والدرر (2/ 10)، والتذييل (6/ 646).
(2)
اختار هذا المذهب أبو حيان. انظر: التذييل (6/ 651). وانظر: الهمع (2/ 15).
(3)
يشير بذلك إلى مذهب ابن مالك الذي ذكره في شرح الكافية الشافية (3/ 1551).
(4)
انظر: التذييل (6/ 649).
(5)
أي: العلامة ابن مالك.
(6)
انظر: الكافية الشافية (3/ 1551).
(7)
انظر: الكتاب (3/ 93) وقد نقله عنه بتصرف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كلها فيها معنى «إن» فلذلك انجزم الجواب.
وليس [5/ 126] ذلك من سيبويه محمولا على ظاهره، قال السيرافي (1): وهذه الأشياء التي ذكرناها من الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض تغني عن ذكر الشرط بعدها ويكتفى بذكرها عن ذكره فلذلك تجوز سيبويه في عبارته فأوهم أن هذه الأشياء هي الجازمة لما بعدها، ثم قال: وهذا من سيبويه مسامحة في اللفظ واتساع كما اتسع في نصب الظرف وقال في نحو: زيد خلفك: نصب بما قبله، ثم حكى عن الخليل ما يدل على حقيقة الجازم، وهذا الذي ذكره السيرافي هو الذي يعول عليه في هذه المسألة والله تعالى أعلم.
هذا آخر كلام الإمام بدر الدين رحمه الله تعالى. ودل على أن العلة المقتضية لجزم الجواب في المسائل المذكورة هو الأمر أو النهي لأنه علل جزم جواب الاستفهام بأن الاستفهام يراد به الأمر، وقال: إن معنى (2)«أين بيتك أزرك؟» : عرفني بيتك أزرك، وقال في العرض والتحضيض والتمني: إنها أجريت مجرى الأمر، وهذا يقتضي أن المسوغ للجزم هو معنى الأمر في جميع المسائل المذكورة، وهو غير ما نزع إليه المصنف؛ لأنه قد علل الجزم كما عرفت بقوله (3): لأنه شبيه بالشرط في جواز وقوعه وعدم جواز وقوعه بالنسبة إلى علم المتكلم. والذي قاله المصنف أظهر وأقرب إلى الحق لأن كون الاستفهام أمرا غير مسلم، وإنما استفيد الأمر في الآيتين الشريفتين بما انضم إلى الاستفهام وهو قوله في الآية الأولى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ (4) وقوله تعالى في الآية الثانية: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (5) قبل: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (6)، وقوله تعالى بعد: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ (7).
وأما قوله: إن معنى «أين بيتك أزرك؟» : عرفني بيتك أزرك؟ فيمنعه الخصم ويقول:
بل معناه: إن أعرف بيتك أزرك سواء أعرفه المخاطب بذلك أم غيره، فهو خبر لا طلب. -
(1) انظر: شرح السيرافي للكتاب (رسالة)(4/ 462) وقد نقله بتصرف.
(2)
انظر: شرح التسهيل: (4/ 41).
(3)
أي: في شرح الكافية الشافية.
(4)
سورة آل عمران: 20.
(5)
سورة الأنبياء: 108.
(6)
سورة الأنبياء: 108.
(7)
سورة الأنبياء: 109.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما قوله في العرض والتحضيض والتمني: إن الجزاء يجري بعدها مجراه بعد الأمر؛ فلا يجوز أن يراد به أن المستفاد منها أمر؛ لأن ذلك باطل فتعين أن يكون مراده أنها حملت في جزم أجوبتها على الأمر في جزم جوابه، وإذا كان مراده ذلك يقال له: ما الدليل على هذه الدعوى؟
ثم إن قوله: إذا قصد الجزاء جزم؛ لأنه جواب شرط مقدر دل عليه ما قبل - يحقق أن الجزم إنما سوغه في الجواب تنزل ما قبله منزلة الشرط.
وأما كون عامل الجزم في الجواب هو ما قبل «الفاء» الساقطة لما فيه من معنى الشرط فقد عرفت أنه مختار المصنف حيث قال في متن الكتاب: يجزم عند سقوطها بما قبلها لما فيه من معنى الشّرط لا بـ «إن» مضمرة. وتقدم لنا ذكر ما قاله في شرح الكافية من قوله:
والصحيح أنه لا حاجة إلى تقدير لفظ «إن» بل تضمن لفظ الطلب لمعناها مغن عن تقدير لفظها كما في أسماء الشرط، وعلمت قوله: إن هذا مذهب الخليل وسيبويه.
وتقدم ذكر كلام السيرافي وذكر اختيار بدر الدين أن العامل إنما هو «إن» مقدرة.
ولما ذكر الشيخ ذلك قال (1): ورد ابن عصفور هذا المذهب - يعني الذي اختاره المصنف - فقال (2): التضمين يقتضي أن يكون العامل جملة ولا يوجد عامل جملة في موضع من المواضع، ثم قال الشيخ: وأقول: إن التضمين لا يجوز أصلا لأن المضمن شيئا يصير له دلالة على ذلك الشيء بعد إن لم يكن له دلالة عليه مع إرادة مدلوله الأصلي، فإذا قلت: من يأتني آته، فـ «من» ضمّنت معنى الحرف ودلّت على مدلولها من الاسم فصارت لها دلالتان: دلالة مجازية وهي معنى «إن» ، ودلالة حقيقية وهي مدلول الشخص العاقل، وأما في هذه المسائل: فإن قولك: ائتني أكرمك تكون قد ضمّنت «ائتني» معنى «إن تأتني» ، فتضمنت معنى «إن» ومعنى الفعل المعمول لها وذلك معنى مركب. ودلّت على معناها الأصلي من الطلب وهو دلالته الحقيقية، ولا يوجد في لسان العرب تضمين
لمعنيين، إنما يكون التضمين لمعنى واحد، ولا يقال: إنه تضمن معنى «إن» وحدها لأن فعل الطلب ليس قابلا لتضمن معنى «إن» لتنافيهما؛ لأن الخبر ينافي الطلب، ولا يكون الشيء الواحد طلبا وخبرا. انتهى. -
(1) انظر: التذييل (6/ 649).
(2)
انظر: شرح الجمل لابن عصفور (2/ 194).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأقول: ليس التضمين المشار إليه هنا هو التضمين الذي ذكره الشيخ وهو التضمين المعروف في الاصطلاح؛ لأن مراد القائل بأن «زرني» من نحو: زرني أزرك تضمّن معنى الشرط: أنّ «زرني» هذه من حيث إن المتكلم يقصد ترتب الثاني على الأول ويجعل الأول سببا للثاني يعطي من المعنى ما يعطيه «إن تزرني» من: إن تزرني أزرك؛ لأن الثاني مرتب على الأول والأول سبب للثاني، فلما كان معنى: زرني أزرك معنى: إن تزرني أزرك قيل: إنه تضمن معنى «إن» أي: تضمن معنى الشرط، فليس هذا التضمين من التضمين المعروف في شيء، كيف وذلك التضمين إنما يكون بالوضع؟ - أعني وضع أصحاب اللسان - وهو أن توضع كلمة لشيء وتضمن مع دلالتها على ذلك الذي وضعت [له] معنى آخر.
وأما هذا التضمين فالموجب للقول به الاستعمال في موضع خاص، فـ «زر» بالوضع لا دلالة له على الشرط، ولما قيل: زرني أزرك، وأتي بهذا التركيب الخاص احتيج إلى القول بأنه ضمّن معنى الشرط بمعنى أنه أوقع موقعه، وأريد به ما يراد بالشرط، هذا هو الذي يظهر لي والله تعالى أعلم بما هو الحق.
والدليل على أن المصنف لم يرد التضمين الذي ذكره الشيخ قوله في التسهيل مشيرا إلى الجواب يجزم بما قبلها؛ فلم يذكر التضمين بل قال: لما فيه من معنى الشّرط، ولا شك أن هذا منه يحقق ما قررته.
وأما قول ابن عصفور: التضمين يقتضي أن يكون العامل جملة ولا يوجد ذلك [5/ 127] في موضع؛ فقد يقال في جوابه: إن الممتنع إنما هو أن تكون الجملة بنفسها هي العاملة دون النظر إلى شيء آخر، أما إذا كان عملها بما تضمنته فغير ممتنع؛ لأن العمل حينئذ كأنه في الحقيقة منسوب لذلك المتضمن، ولما كانت الجملة هي التي تضمنته نسب العمل إليها.
ثم إن الشيخ ذكر (1) أن في المسألة مذهبا ثالثا: وهو: أن الجزم بهذه الأشياء لا على جهة التضمين، بل على جهة أنها نابت مناب الشّرط، قال: ونعني به أن جملة الشرط حذفت وأنيبت هذه منابها في العمل.
والذي يظهر أن هذا ليس مذهبا ثالثا في المسألة: وإنما هو بيان مسوغ جزم الجواب -
(1) انظر: التذييل (6/ 650).