الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«التلخيص» لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكتاب «المستصفى» لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكتاب «التقويم» لأبي زيد الدبوسي، وكتاب «أصول الحديث» للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، وكتاب «المدخل إلى الإكليل» له، وشيء من رسائل الخطيب أبي بكر بن ثابت البغدادي، وكتاب «العلل» للإمام أبي عيسى الترمذي، وغير ذلك من كتب العلماء وتصانيفهم - رحمة الله عليهم -.
فجمعت بين أقوالهم، واختصرت من كل واحد منها طرفاً يليق بهذه المقدمة، أودعته ما يحتاج إليه طالب علم الحديث، ولا يسعه جهله، إلا من قنع بمجرد الرواية، ملغياً فضيلة الدراية.
وليس لي فيه إلا الترتيب والاختصار، والتلفيق (1) ، والاختيار، اللهم إلا كلمات تقع في أثناء الفصول والفروع، تتضمن إثبات مهمل، أو إيضاح مشكل، أو تحقيق مُغْفَل، أو تفصيل مُجْمَل، أو تقييد مُرْسَل.وجعلت هذا الباب مشتملاً على أربعة فصول.
الفصل الأول: في طريق نقل الحديث وروايته
، وفيه سبعة فروع
الفرع الأول: في صفة الراوي وشرائطه
(1) في المطبوع: والتفليق، وهو تصحيف.
راوي الحديث له أوصاف وشرائط، لا يجوز قبول روايته دون استكمالها، وهي أربعة: الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة.
وهذه الأوصاف بعينها شرط في الشهادة، كاشتراطها في الرواية.
وتنفرد الشهادة بأوصاف أُخر تؤثر فيها كالحرية، فإنها شرط في الشهادة، وليست شرطاً في الرواية، وكالعدد، فإن رواية الواحد تُقبل، وإن لم تُقبل شهادتُه إلا نادراً.
وقد خالف في ذلك جماعة، فاشترطوا العدد، ولم يقبلوا إلا رواية رجلين، يروي عن كل واحد منهما رجلان، وهذا فاسد، فإنه مع تطاول الأزمان يكثر العدد كثرة لا تنحصر، ويتعذر إثبات حديث أصلاً، لا سيما في زماننا هذا.
وهذا الشرط قد التزمه البخاري ومسلم في كتابيهما، حسبما ذكره الحاكم النيسابوري رحمه الله، وإن لم يجعلاه (1) شرطاً، وسيجيء فيما بعد من هذا الباب بيان ذلك وإيضاحه.
وقال قوم: لابد من أربعة رجال، تغليظاً وتعظيماً لشأن الحديث، والأصل الأول.
فأما بيان شروط الرواية الأربعة.
فأولها: الإسلام.
ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل، لأنه متهم في الدين، وإن
(1) في المطبوع: يجعلوه.
كانت شهادة بعضهم على بعض مقبولةً عند أبي حنيفة رضي الله عنه فلا خلاف في ردِّ روايتهم.
الشرط الثاني: التكليف
فلا تقبل رواية الصبي، لأنه لا وازع (1) ، له عن الكذب، فلا تحصل الثقة بقوله، وقول الفاسق أوثق من قول الصبي، وهو مردود، فكيف الصبي؟! ولأن قوله في حق نفسه بإقراره لا يقبل، فكيف في حق غيره؟! .
أما إذا كان طفلاً عند التحمل، مميزاً بالغاً عند الرواية، فتقبل، لأن الخلل قد اندفع عن تحمله وأدائه.
ويدل على جوازه إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قبول رواية جماعة من أحداث ناقلي الحديث، كابن عباس، وابن الزبير، وأبي الطفيل، ومحمود بن الربيع (2) ، وغيرهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده.
وعلى ذلك درج السلف الصالح من إحضار الصبيان مجالس الرواية، ومن قبول روايتهم فيما تحمَّلوه في الصغر.
(1) أي: لا زاجر.
(2)
في الصحيح 1/140 بشرح " الفتح " من حديث الزهري عن محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو. وقد أورد الخطيب البغدادي في " الكفاية في علم الرواية " ص 54، 65 أشياء مما حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم وحدثوا بها بعد ذلك، وقبلت عنهم، فانظرها إن شئت.
إلا أن لأصحاب الحديث اصطلاحاً فيما يكتبونه للصغير، إذا كان طفلاً أو غير مميز، فإنهم يكتبون له حضوراً، ومتى كان ناشئاً مميزاً، كتبوا له سماعاً، ولقد كثر ذلك فيما بينهم حتى صاروا يكتبون الحضور للطفل الصغير جدّاً.
الشرط الثالث: الضبط (1)
وهو عبارة عن احتياطٍ في باب العلم، له طرفان.
طرف وقوع العلم عند السماع، وطرف الحفظ بعد العلم عند التكلم حتى إذا سمع ولم يعلم، لم يكن شيئاً معتبراً، كما لو سمع صياحاً لا معنى له، وإذا لم يفهم اللفظ بمعناه على الحقيقة، لم يكن ضبطاً، وإذا شك في حفظه بعد العلم والسماع، لم يكن ضبطاً.
ثم الضبط نوعان: ظاهر، وباطن.
فالظاهر: ضبط معناه من حيث اللغة.
والباطن: ضبط معناه من حيث تعلق الحكم الشرعي به، وهو الفقه.
(1) الضبط: هو إتقان ما يرويه الراوي بأن يكون متيقظاً لما يروي غير مغفل، حافظاً لروايته إن روى من حفظه، ضابطاً لكتابه إن روى من الكتاب، عالماً بمعنى ما يرويه، وبما يحيل المعنى عن المراد إن روى بالمعنى، حتى يثق المطلع على روايته والمتتبع لأحواله بأنه أدى الأمانة كما تحملها، لم يغير منها شيئاً، وهذا مناط التفاضل بين الرواة الثقات، فإذا كان الراوي عدلاً ضابطاً كما شرحنا سمي ثقة. ويعرف ضبطه بموافقة الثقات الضابطين المتقنين إذا اعتبر حديثه بحديثهم، ولا تضر مخالفته النادرة لهم، فإن كثرت مخالفته لهم، وندرت الموافقة، اختل ضبطه ولم يحتج بحديثه.
ومطلق الضبط الذي هو شرط الراوي، هو الضبط ظاهراً عند الأكثر، لأنه يجوز نقل الخبر بالمعنى، على ما سيأتي بيانه، فتلحقه تهمة تبديل المعنى بروايته قبل الحفظ، أو قبل العلم حين سمع، ولهذا المعنى قلت الرواية عن أكثر الصحابة رضي الله عنهم لتعذر هذا المعنى، فمن كان عند التحمل غير مميز، أو كان مُغَفَّلاً، لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه، فلا ثقة بقوله وإن لم يكن فاسقاً.
وهذا الشرط وإن كان على ما بينَّا، فإن أصحاب الحديث قلما يعتبرونه في حق الطفل دون المغفَّل، لأنه متى صح عندهم سماع الطفل، أو حضوره مجلس القراءة، أجازوا روايته، والأول أحوط للدِّين وأولى.
على أن الضبط في زماننا هذا، بل وقبله من الأزمان المتطاولة، قل وجوده في العالم، وعز وقوعه، فإن غاية درجات المحدث - في زماننا- المشهور بالرواية، الذي ينصب نفسه لإسماع الحديث في مجالس (1)، النقل: أن تكون عنده نسخة قد قرأها أو سمعها، أو في بلدته نسخة عليها طبقة سماع، اسمه مذكور فيها، أو له مناولة، أو إجازة بذلك الكتاب، فإذا سمع عليه، استمع إلى قارئه، وكتب له خطه بقراءته وسماعه، ولعل قارئه قد صحف فيه أماكن لا يعرفها
(1) في المطبوع: ومجالس.
شيخه، ولا عثر عليها، وإن سأله عنها، كان أحسن أجوبته أن يقول: كذا سمعتها، إن فطن لها.
وإذا اعتبرْتَ أحوال المشايخ من المحدثين في زماننا، وجدتها كذلك أو أكثرها، ليس عندهم من الدراية (1) علم، ولا لهم بصواب الحديث وخطئه معرفة، غير ما
ذكرنا من الرواية على الوجه المشروح، على أنه ما يخلي الله بلاده وعباده من أئمة يهتدي بهم العالمون، وحفاظٍ يأخذ عنهم المهمِلون، وعلماء يقتدي بهم الجاهلون، وأفاضل يحرسون هذا العلم الشريف من الضياع، ويقرئونه صحيحاً كما انتهى إليهم في الأسماع، ويصونون معاقده من الانحلال، وقواعده من الزلل والاختلال، حفظاً لدينه، وحراسة لقانونه.
نفعنا الله وإياكم معشر الطالبين بما آتاهم الله من فضله، ووفق كُلاًّ منا ومنكم للسداد في قوله وفعله.
الشرط الرابع: العدالة
والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدِّين، ويرجع حاصلها: إلى هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل الثقة للنفوس بصدقه، ولا تشترط العصمة من جميع المعاصي،
(1) في الأصل " الرواية ".
ولا يكفي اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما تُرَدُّ به الشهادة والرواية.
وبالجملة: فكلُّ ما يدل على ميل دينه إلي حدٍّ يستجيز على الله الكذب بالأغراض الدنيوية، كيف وقد شُرِط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة، نحو الأكل والشرب في السوق، والبول في الشوارع، ونحو ذلك.
وقد قال قوم: إن العدالة: عبارة عن إظهار الإسلام فقط، مع سلامته عن فسق ظاهر، فكلُّ مسلم مجهول عندهم عدل (1) .
والعدالة لا تعرف إلا بخبرة باطنة، وبحث عن سريرة العدل وسيرته.
وقد أخذ جماعة من أئمة الحديث عن جماعة من الخوارج، وجماعة ممن ينسب إلى القدرية والشيعة، وأصحاب البدع والأهواء (2) .
(1) هذا مذهب ضعيف، واتساع غير مرضي، وأكثر العلماء المحققين على خلافه.
(2)
جاء في " تاريخ الثقات " لابن حبان في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي ما نصه: ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة، ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره. نقول: وقد احتج بعض الأئمة برواية المبتدعة الدعاة وغير الدعاة، فقد احتج البخاري بعمران بن حطان وهو من دعاة الشراة، وبعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وكان داعية إلى الإرجاء، فالحق في هذه المسألة – كما قال العلامة محمد بن بخيت المطيعي في حاشيته على " نهاية السول " 3/744 – قبول رواية كل من كان من أهل القبلة يصلي بصلاتنا، ويؤمن بكل ما جاء به رسولنا مطلقاً متى كان يقول بحرمة الكذب، فإن من كان كذلك لا يمكن أن يبتدع بدعة إلا وهو متأول فيها، مستند في القول بها إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتأول رآه باجتهاده، وكل مجتهد مأجور وإن أخطأ. نعم إذا كان ينكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة أو اعتقد عكسه كان كافراً قطعاً، لأن ذلك ليس محلاً للاجتهاد، بل هو مكابرة فيما هو متواتر من الشريعة معلوم من الدين بالضرورة، فيكون كافراً مجاهراً، فلا يقبل مطلقاً، حرم الكذب أو لم يحرمه.
وتحرج عن الأخذ عنهم آخرون، والكل مجتهدون.
والله يلهم الكافة طلب الحق وأخذه من مظانه والعمل به.
فهذه الشروط الأربعة هي المعتبرة في الرواية كما ذكرنا.
وللراوي أوصاف يظن بها أنها شروط، وليست شروطاً، وإنما هي مكملات ومحسِّنات.
منها: العلم، والفقه، فلا يشترط كونه عالماً فقيهاً، سواء خالف ما رواه القياس، أو وافقه، إذ رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وإلى غير فقيه.
وقال قوم: إنه شرط، وهو بعيد.
ومنها مجالسة العلماء، وسماع الحديث، فليس ذلك شرطاً، فقد قبلت الصحابة رضي الله عنهم حديث أعرابي لم يرو إلا حديثاً واحداً، نعم إذا عارضه حديث العالم الممارس، ففي الترجيح نظر.
ومنها: معرفة نسب الراوي، وليس بشرط، بل متى عرفت عدالة شخص بالخبرة قُبِلَ حديثه، وإن لم يكن له نسب، فضلاً أن يكون ثَمَّ لا يُعرف. ولو روى عن مجهول العين (1) لم نقبله، بل من يقبل رواية المجهول الصفة لا يقبل رواية مجهول العين، إذ لو عرف عينه، ربما عرفه بالفسق، بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق.
(1) في المطبوع " المعين ".
ولو روي عن شخص ذكر اسمه، واسمه مردَّد بين مجروح وعدل، فلا يقبل لأجل التردد، على أن أئمة الحديث قد رووا أحاديث كثيرة عن رجل ولم يذكروا اسمه، وهذا مجهول، وجاء بعدهم من اعتبر تلك، الأحاديث، فرواها من طرق عدة عن راوي ذلك الرجل، وسماه، فصار ذلك الرجل - الذي لم يسمه أئمة الحديث - معروفاً بهذه الطرق، فكأنهم لم يخرجوا تلك الأحاديث عن مجهول، أو قد كانوا عرفوه وتركوا ذكر اسمه لغرض في أنفسهم، والله أعلم.
ولا تقبل رواية من عرف باللعب واللهو والهزل في أمر الحديث، أو بالتساهل فيه، أو بكثرة السهو فيه، إذ تبطل الثقة بجميع ذلك.
ومما يحتاج إليه طالب الحديث، أن يبحث عن أحوال شيخه الذي يأخذ عنه بعدما يتحقق إيمانه، وحُسن عقيدته، وأنه ليس بصاحب هوى، ولا بدعة يدعو الناس إليها.
فقد كان على بن طالب رضي الله عنه إذا فاته حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سمعه من غيره، حلَّف الذي يحدثه به على صحته (1) .
(1) أخرج الإمام أحمد في " المسند " رقم 2 من حديث وكيع قال: حدثنا مسعر وسفيان، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة الوالبي، عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري، استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني – وصدق أبو بكر – أنه
⦗ص: 78⦘
سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء " قال مسعر: " ويصلي "، وقال سفيان:" ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له " وإسناده قوي، وصححه ابن خزيمة، وقال الحافظ ابن حجر في " التهذيب " 1/267، 268 بعد كلام طويل: هذا الحديث جيد الإسناد.