الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثالث: في أحكامه
ما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ، خلافًا لبعضهم، فإنهم قالوا: من الأفعال ما لا يمكن نسخه، مثل شكر المنعم والعدل، فلا يجوز نسخ وجوبه، ومثل الكفر والظلم، فلا يجوز نسخ تحريمه، والآية إذا تضمنت حكمًا جاز نسخ تلاوتها دون حكمها، ونسخ حكمها دون تلاوتها، ونسخها جميعًا، وقد ظن قوم استحالة ذلك.
ويجوز نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن عند الأكثرين، فإن كلاً من عند الله، والعقل لا يحيله، وقد دل السمع على وقوعه.
أما نسخ السنة بالقرآن، فإن التوجه إلى بيت المقدس ليس في القرآن، وهو من السنة، وناسخه القرآن، وصوم يوم عاشوراء كان ثابتًا بالسنة، ونسخه القرآن بصوم شهر رمضان.
وأما نسخ القرآن بالسنة، فنسخ الوصية للوالدين والأقربين بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا وصية لوارث (1) » لأن آية الميراث لا تمنع الوصية، إذ الجمع بينهما ممكن. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، كما لا يجوز
(1) وهو حديث صحيح، وقد ساق الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " 4/403، 405 أسانيده عن أبي أمامة، وعمرو بن خارجة، وأنس وابن عباس وعبد الله بن عمرو، وجابر، وزيد بن أرقم والبراء، وعلي بن أبي طالب، وخارجة بن عمرو رضي الله عنهم من رواية أبي داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والدارقطني وأحمد والبزار وأبي يعلى والحارث بن أبي أسامة والطبراني وابن عدي وابن عساكر، وقد توسع في الكلام على طرقه فارجع إليه.
نسخ القرآن بالسنة، خلافًا لغيره (1) .
ولا ينسخ الحكم بقول الصحابي «نسخ حكم كذا» ما لم يقل: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» فإذا قال ذلك، نظر في الحكم إن كان ثابتًا بخبر الواحد، صار منسوخًا بقوله، وإن كان قاطعًا، فلا.
ولا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد.
والإجماع لا ينسخ به، إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي.
وإذا تناقض نصان، فالناسخ هو المتأخر.
ولا يعرف تأخره بدليل العقل، ولا بقياس الشرع، بل يعرف بمجرد النقل، وذلك بطرق:
الأول: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله صلى الله عليه وسلم:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (2) .
الثاني: أن تجمع الأمة في حكم على أنه المنسوخ، وأن ناسخه متأخر.
الثالث: أن يذكر الراوي التاريخ، مثل أن يقول: سمعت عام الخندق،
(1) راجع الرسالة للإمام الشافعي ص 106، 110 بتحقيق العلامة أحمد شاكر. وقد ذهب بعض السلف إلى أن آية الوصية {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت
…
} [البقرة: 18] على ظاهرها غير أن الحكم الذي يستفاد منها – وهو وجوب الوصية للوالدين والأقربين ولو كانوا وارثين – قد عمل به برهة، ثم نسخه الله أي خص منه بآية المواريث الوصية لوالدي الموصي وأقربائه الذين يرثونه وأقر فرض الوصية لمن كان منهم لا يرثه، وقد أكد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " انظر الطبري 3/388، 390.
(2)
أخرجه مسلم في " صحيحه " رقم (1975) كتاب الأضاحي – باب ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وأصحاب " السنن "، من حديث بريدة رضي الله عنه.
أو عام الفتح، وكان المنسوخ معلومًا قبله.
ولا فرق بين أن يروي الناسخ والمنسوخ راوٍ واحد، أو راويان.
ولا يثبت التأخر إلا بطرق. مثل أن يقول الصحابي: «كان الحكم علينا كذا، ثم نسخ» لأنه ربما قاله عن اجتهاد.
ولا أن يكون مثبتًا في المصحف بعد الآخر، لأن السور والآيات، ليس إثباتها على ترتيب النزول، بل ربما قُدِّم وأُخِّر.
ولا أن يكون راويه من أحداث الصحابة، فقد ينقل الصبي عمن تقدمت صحبته، وقد ينقل الأكابر عن الأصاغر وبعكسه.
ولا أن يكون الراوي أسلم عام الفتح، إذ لعله في حالة كفره، ثم روى بعد إسلامه، أو سمع من سبق بالإسلام.
ولا أن يكون الراوي قد انقطعت صحبته، فربما يظن أن حديثه يتقدم على حديث من بقيت صحبته، وليس من ضرورة من تأخرت صحبته أن يكون حديثه متأخرًا عن وقت انقطاع صحبة غيره.
ولا أن يكون أحد الخبرين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية، فربما يظن تقدمه، ولا يلزم ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا وضوء مما مسته النار» (1) .
(1) أخرجه الطبراني في " الكبير " بلفظ قريب منه من حديث أبي أمامة وفي سنده محمد بن سعيد المصلوب وهو كذاب كما قال الهيثمي في " المجمع " 1/252 ونسخ حديث " توضؤوا مما مست النار " الذي رواه مسلم 1/273، وأبو داود 1/79، والنسائي 1/105 ثابت بحديثين صحيحين، أولهما رواه أحمد في " المسند " رقم 2377 من حديث ابن إسحاق حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: دخلت على ابن عباس
⦗ص: 152⦘
ببيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لغد يوم الجمعة، قال: وكانت ميمونة قد أوصت له به، فكان إذا صلى الجمعة بسط له فيه، ثم انصرف إليه، فجلس فيه للناس، قال: فسأله رجل وأنا أسمع عن الوضوء مما مست النار من الطعام؟ قال: فرفع ابن عباس يده إلى عينيه وقد كف بصره، فقال: بصر عيناي هاتان، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ لصلاة الظهر في بعض حجره، ثم دعا بلال إلى الصلاة، فنهض خارجاً، فلما وقف على باب الحجرة، لقيته هدية من خبز ولحم بعث بها إليه بعض أصحابه، قال: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، ووضعت لهم في الحجرة، قال فأكل وأكلوا معه، قال: ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه إلى الصلاة، وما مس ولا أحد ممن كان معه ماء، قال: ثم صلى بهم، وكان ابن عباس إنما عقل من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم آخره.
والثاني حديث جابر، قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود 1/88، والنسائي 1/108، وابن الجارود رقم 24، والبيهقي 1/155، 156، كلهم من طريق شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر، عن جابر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والنووي.