الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في انتشار علم الحديث، ومبدإِ جمعه وتأليفه
حيث ثبت ما قلناه في المقدمة، من كون علم الحديث من العلوم الشرعية، وأنه من أصول الفروض، وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه، ولذلك يَسَّرَ الله سبحانه وتعالى له أولئك العلماء الأفاضل، والثقات الأماثل، والأعلام المشاهير، الذي حفظوا قوانينه، واحتاطوا فيه، فتناقلوه كابرًا عن كابر، وأوصلوه كما سمعه أولٌ إلى آخر، وحبَّبه الله إليهم لحكمة حفظ دينه، وحراسة شريعته. فما زال هذا العلم من عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه - والإسلام غض طري، والدين محكم الأساس قوي (1) - أشرف العلوم، وأجلَّها لدى الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين بعدهم، وتابعي التابعين، خلفًا بعد سلف (2) ، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله عز وجل، إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يُسْمَعُ من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه، وانقطعت الهمم على تعلُّمه، حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد
(1) في المطبوع " قوياً " وهو خطأ، لأنه خبر بعد خبر.
(2)
في المطبوع: يعظمه وأهله الخلف بعد سلف.
ويقطع الفيافي والمفاوز الخطيرة، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً في طلب حديثٍ واحدٍ ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرِّحلة طلب ذلك الحديث لذاته. ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوى بعينه، إما لثقته في نفسه، وصدقه في نقله، وإما لعلو إسناده، فانبعثت العزائم إلى تحصيله.
وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معولين على ما يسطرونه، محافظة على هذا العلم، كحفظهم كتاب الله عز وجل، فلما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في
الأقطار، وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والذهن يغيب، والذكر يهمل، والقلم يحفظ ولا ينسى (1) .
فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة، مثل عبد الملك بن جريج،
(1) على أنه ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يكتبون بعضاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أو لغيرهم، من ذلك كتابة بعض الصحابة لأبي شاه - وهو رجل من أهل اليمن - بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة من خطبه، ومنه ما ذكر أبو هريرة من شأن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، ومنه ما كان من قصة صحيفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها شيء من العلم، وكل ذلك في الصحيح، ومن ذلك كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، أخرجه النسائي والدارمي وغيرهما.
ومالك بن أنس، وغيرهما ممن كان في عصرهما. فدوَّنوا الحديث.
حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام «كتاب ابن جريج (1) » وقيل: «موطأ مالك» -رحمة الله عليهما.
وقيل: إن أول من صنف وبوَّب الربيع بن صبيح (2) بالبصرة.
ثم انتشر جمع الحديث وتدوينه، وسطره في الأجزاء والكتب، وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين، أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، - رحمهما الله - فدونا كتابيهما، وفعلا ما الله مجازيهما عليه من نصح المسلمين، والاهتمام بأمور الدين، وأثبتا في كتابيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته، وثبت عندهما نقله.
وسيجيء فيما بعد من هذه المقدمة شرط كتابيهما، وذكر الصحيح والفاسد مشروحاً مفصلاً إن شاء الله تعالى، وسميا كتابيهما «الصحيح من الحديث» وأطلقا هذا الاسم عليهما، وهما أول من سمى كتابه ذلك،
(1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلس ويرسل، خرج له الجماعة. مات سنة مئة وخمسين أو بعدها وقد جاوز السبعين.
(2)
هو الربيع بن صبيح - بفتح الصاد كما ضبطه الحافظ في " التقريب " - السعدي البصري صدوق سيئ الحفظ وكان عابداً مجاهداً.
وقد ذكروا أن أول من جمع الحديث ابن جريج بمكة وابن إسحاق ومالك في المدينة، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالري، وابن المبارك بخراسان، وكل هؤلاء من رجال القرن الثاني الهجري، وما جمعوه من الحديث كان مختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
ولقد صدقا فيما قالا، وبرَّا فيما زعماً (1) ، ولذلك رزقهما الله من حسن القبول في شرق الأرض وغربها، وبرها وبحرها، والتصديق لقولهما، والانقياد لسماع كتابيهما، ما هو ظاهر مستغن عن البيان، وما ذلك إلا لصدق النية، وخلوص الطوية، وصحة ما أودعا كتابيهما من الأحاديث.
ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف والجمع والتأليف، وكثر في أيدي المسلمين وبلادهم، وتفرقت أغراض الناس، وتنوعت مقاصدهم، إلى أن انقرض ذلك العصر الذي كانا فيه حميدًا (2) عن جماعة من الأئمة والعلماء قد جمعوا وألفوا: مثل أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمهم الله جميعاً - وغيرهم من
العلماء الذين لا يحصون كثرة. وكأن ذلك العصر كان خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهى.
ثم من بعده نقص ذلك الطلب بعد، وقل ذلك الحرص، وفترت تلك الهمم، وكذلك كلُّ نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها (3) فإنه يبتدئ قليلاً قليلاً، ولا يزال ينمى ويزيد، ويعظم إلى أن يصل
(1) الزعم هنا بمعنى الظن الراجح.
(2)
في المطبوع: ذلك العصر الحميد.
(3)
في المطبوع: وغيرهم.