الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كان كتاب الترمذي على كثرة ما فيه من الأحاديث، لم يسقط العمل بشيء منه، إلا بحديثين، فكيف يُظن أنه لا صحيح إلا ما في كتابي البخاري ومسلم؟!.
القسم الثاني: في الغريب والحسن وما يجري مجراهما
قد تقدم في القسم الأول ذكر الصحيح المتفق عليه، والمختلف فيه: يدخل في هذا القسم عند من خالف في صحته.
وللغريب أنواع أخرى من جهات متعددة، فرُبّ حديث مخرج في الصحيح، وهو غريب من جهة طريقه، مثل حديث جابر بن عبد الله في حفر الخندق، وجوع
النبي صلى الله عليه وسلم وتعصيبه بطنه، وذكر أهل الصفة، وهو حديث طويل قد أخرجه البخاري (1) ، وقد تفرد به عبد الواحد بن أيمن عن أبيه وهو من غرائب الصحيح.
ومثل حديث عبد الله بن عمرو لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف وقوله: «إنا قافلون غدًا
…
» الحديث، وقد أخرجه مسلم (2) في كتابه، وهو غريب تفرد به السائب بن فروخ الشاعر عن ابن عمرو.
ومن الغرائب: غرائب الشيوخ، مثل قول ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبيع حاضر لباد» رواه الربيع بن سليمان عن الشافعي عن مالك عن نافع عن
(1) 7/304، 306 في المغازي باب غزوة الخندق.
(2)
3/1402، 1403 في الجهاد والسير - باب غزوة الطائف رقم (1778) .
ابن عمر (1) ، ولم يروه عن مالك غير الشافعي، ولا الشافعي غير الربيع.
ومن الغرائب: غرائب المتون، كما روى محمد بن المنكدر عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الدين متين، فأوغِل فيه برفق
…
» (2) . الحديث. فهذا غريب المتن، وفي إسناده غرابة أيضًا.
ومن الغرائب: الإفراد، وهو أن ينفرد أهل مدينة واحدة عن صحابي بأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يرويها عنه أهل مدينة أخرى، أو ينفرد به راو واحد عن إمام من الأئمة وهو مشهور، مثل ما حدث حماد بن سلمة عن أبي العُشَرَاء عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، ما تكون الذكاة إلا في الحلق واللَّبَّة؟ فقال:«لو طعنت في فخذها أجزأ عنك» (3) فهذا حديث تفرد به حماد بن سلمة (4) عن أبي العشراء، ولا يُعْرَف لأبي العشراء إلا هذا الحديث، وإن كان
(1) مسند الشافعي 2/154 كتاب " البيوع " وقد أخرجه مالك مطولاً في " الموطأ " 2/683 باب النهي عن بيع الحاضر للبادي، والبخاري 4/309 باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل، ومسلم 3/1155 باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وفي الباب عن ابن عباس وجابر وأنس عند مسلم.
(2)
وتمامه " فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " ذكره الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1/62 وقال: رواه البزار وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل هو كذاب، وضعفه الحافظ في " التقريب " وترجمه الذهبي في " الميزان " بقوله: ضعفه ابن المديني والنسائي، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: واه، وقال أبو زرعة: لين الحديث.
(3)
أخرجه أحمد 4/334 وأبو داود رقم 2825 والترمذي رقم 1481 و 3956 والنسائي 7/228 كتاب " الصيد والذبائح " باب ذكر المتردية في البئر. وابن ماجه رقم 3184، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث، ونقول: أبو العشراء مجهول، كما في " التقريب ".
(4)
في المطبوع " مسلمة " وهو خطأ.
مشهورًا عند أهل العلم، وإنما اشتهر من حديث حماد.
وربّ حديث يُحدث به رجل من الأئمة وحده، فيشتهر لكثرة من يرويه عنه، مثل ما روى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الولاء وهبته» (1) هذا حديث لا يُعرف إلا من حديث عبد الله بن دينار رواه عنه عُبيد الله بن عبد الله بن عمر، وشعبة، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس وغير واحد من الأئمة.
ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون فيه، وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه، مثل ما روى مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين: صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير» ، فزاد مالك في هذا الحديث «من المسلمين» (2) .
(1) أخرجه البخاري 5/121 كتاب " العتق " باب الولاء وهبته و 12/37 كتاب " الفرائض " باب الولاء لمن أعتق، ورواه مسلم رقم (1506) كتاب " العتق " باب النهي عن بيع الولاء وهبته، وكذلك رواه أحمد وأصحاب " السنن " الأربعة.
(2)
هو في " الموطأ " 1/284 والبخاري 3/293، 294 ومسلم 2/686 باب زكاة الفطر على المسلمين، وأخرجه أحمد وأصحاب " السنن " وقد أطلق أبو قلابة الرقاشي ومحمد بن وضاح وابن الصلاح ومن تبعه أن مالكاً انفرد بهذه الزيادة دون أصحاب نافع. قال الحافظ: وهو متعقب برواية عمر بن نافع المذكورة في الباب الذي قبله (يعني في البخاري) وكذا أخرجه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع بهذه الزيادة. وقال النووي في " شرح مسلم ": رواه ثقتان غير مالك عمر بن نافع والضحاك، وقد ذكر الحافظ في " الفتح " ما وقع له من رواية جماعة غيرهما فانظره.
وروى أيوب السِّختياني، وعبيد الله بن عمر، وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، ولم يذكروا فيه «من المسلمين» .
فأخذ جماعة من الأئمة بحديث مالك، واحتجوُّا به، منهم الشافعي، وأحمد ابن حنبل، وغيرهما.
قالوا: إذا كان للرجل عبيد غير مسلمين، لم يؤدِّ عنهم صدقة الفطر.
فإذا زاد حافظ ممن يُعتمد على حفظه وثقته. قُبِلَ ذلك منه، وكان الحديث مع ذلك غريبًا لهذه الزيادة.
وربَّ أحاديث مشهورة في أيدي الناس، متداولة بين الأئمة، لم يخرّج منها في الصحيح شيء.
وربَّ أحاديث خُرجت في الصحيح، وهي غير مشهورة ولا متداولة بين الأئمة.
وربَّ حديث شاذ انفرد به الثقة، إلا أنه لا أصل له، ولا يتابع عليه، فيخالف فيه الناس، ولا يعرف له علة يعلل بها، فإن الحديث المعلل: هو ما عُرفت علته، فذكرت، فزال الخلل منه.
والشاذ: ما لا يعرف له علة.
وربَّ حديث يروى من أوجه كثيرة، وإنما يُستغرب لإسناده.
مثل: ما حدَّث أبو كُريب وأبو هشام الرفاعي، وأبو السائب، والحسين ابن الأسود قالوا: حدثنا أبو أسامة عن بُريد بن عبد الله بن أبي بردة عن
جده أبي بردة عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في مِعي واحد» هذا حديث غريب من قبل إسناده، فإنه قد رُوي هذا الحديث من غير وجه (1) ، وإنما استُغرب من حديث أبي موسى لا غير.
قال الترمذي [رحمه الله] : ما ذكرنا في كتابنا - يعني «الجامع» الذي له - حديث حسن، فإنما أردنا حُسن إسناده عندنا، كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يُتَّهَمُ بالكذب ولا يكون الحديث شاذًا، ويروى من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن (2) .
فالحديث الحسن إذًا: واسطة بين الصحيح والغريب (3) ، والله أعلم.
هذا آخر القول في [الباب] الثالث من هذه المقدمة
(1) أخرجه مالك في " الموطأ " 2/924 بابا ما جاء في معي الكافر، والبخاري كتاب " الأطعمة " باب المؤمن يأكل في معي واحد، ومسلم رقم (2062) كتاب " الأشربة " باب المؤمن يأكل في معي واحد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
وقد اعترض الحافظ العراقي على الترمذي بأنه حكم في " جامعه " على أحاديث بالحسن، مع أنها لم ترد إلا من وجه واحد، مثل حديث إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة عن أبيه، عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك " والترمذي نفسه قال في شأن هذا الحديث: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا نعرف في الباب إلا حديث عائشة.
(3)
قال ابن الصلاح في " المقدمة " ص 33: الحديث الحسن قسمان، أحدهما: الحديث الذي يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه ولا هو متهم بالكذب في الحديث، أي: لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مفسق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من
⦗ص: 179⦘
تابع راويه على مثله أو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً أو منكراً. القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكراً، ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذاً أو منكراً سلامته من أن يكون معللاً، وجمهور الفقهاء وأكثر أهل العلم بالحديث على أن الاحتجاج بالحسن جائز كالاحتجاج بالصحيح ولو كان الحسن أقل درجة منه، ولقد أدرج جماعة من المحدثين الحسن في الصحيح، منهم ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، مع اعترافهم بأنه دونه رتبة.