الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي ثبوته بخبر الواحد كلام سيأتي بيانه.
وقيل: إنه إذا قال: كانوا يفعلون كذا، فإنه يفيد أن جميع الأمة فعلت ذلك، أو فعل البعض، وسكت الباقون، أو فعلوا بأجمعهم فِعْلاً على وجهٍ ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليهم.
وبالجملة فإن الراوي إذا قال قولاً في محلِّ الاجتهاد، فلا يلزمنا تقليده، لأنه يحتمل أنه قال عن اجتهاد، واجتهاده لا يترجح على اجتهاد غيره، أما إذا قال قولاً لا محل للاجتهاد فيه، فَحُسْن الظن يقتضي أنه ما قاله إلا عن طريق، وإذا بطل الاجتهاد تعين السماع.
النوع الثاني: في نقل لفظ الحديث ومعناه
.
لا خلاف بين العلماء أن المحافظة على لفظ الحديث وحُرُوفه ونَقْطه وإعرابه أمر من أمور الشريعة عزيز، وحكم من أحكامها شريف، وأنه الأولى بكل ناقل، والأجدر بكل راوٍ، وحتى أوجبه قوم، ومنعوا من نقل الحديث بالمعنى.
والكلام في ذلك له تفصيل وشرح، فنقول:
قال العلماء: نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام علي الجاهل بمواقع الخطاب، ودقائق الألفاظ، أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر، والعام والأعم، فقد جوز له ذلك الشافعي وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء، ومعظم أهل الحديث.
وقال قوم: لا يجوز إلا إبدال اللفظ بما يُرادفه ويُساويه في المعنى، كما يُبدل القعود بالجلوس، والعلم بالمعرفة، والقدرة بالاستطاعة والحظر بالتحريم، ونحو ذلك.
وعلى الجملة: فيما لا يتطرق إليه تفاوت في الفهم وإنما ذلك فيما فُهم قطعاً، لا فيما فهم بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون. فانقسم القول في هذا إلى أربعة أقسام:
الأول:أن يكون الخبر مُحكماً، وحينئذ يجوز نقله بالمعنى لكل من سمعه من أهل اللسان، لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً دائماً، فإذا تعين معناه، ولم يقع الخلل في الوقوف عليه ممن عرف اللسان، رخص (1) في نقله بالمعني لحصول الغرض منه بلفظ آخر.
الثاني: أن يكون الخبر ظاهراً، ويحتمل غير ما ظهر، فلا يجوز النقل بالمعنى إلا للفقيه العالم بعلم الشريعة وطرق الاجتهاد، لأن المعنى وأن ظهر منه بظاهره، فقد احتمل مجازه، والخصوص في عمومه، فلا يرخَّص في نقله بالمعنى إلا للعالم بطرق الدين والفقه حتى يأمَن إذا كساه لفظًا آخر من الخلل، فلعل الجاهل بالفقه يكسوه لفظاً لا يحتمل صرف مجازه، ولا صرف خصوصه، ويكون المراد باللفظ المسموع، مجازَه أو خصوصَه، فتفوت الفائدة، أو ينقله بلفظ أعم من اللفظ
(1) في المطبوع " وخص ".
لجهله بالفرق بين الخاص والعام، فيوجب ما لا يوجبه الأول، فيلزمه المحافظة على اللفظ.
الثالث: أن يكون الخبر مشتركاً أو مشكلاً، فلا يجوز النقل بالمعنى على جهة التأويل، لأنه لا يوقف على معناه والمراد منه إلا بنوع تأويل، وتأويل الراوي لا يكون حجة على غيره، فإنه يكون ضرباً من القياس، فلا يحل نقله إلا باللفظ المسموع، ولا يظن بالعدل إذا نقل بلفظه إلا أحد القسمين الأولين اللذين يحلان له.
الرابع: أن يكون الخبر مجملاً، فلا يُتَصوَّر نقله بالمعنى، لأنه لا يوقف على معناه: وما لا يوقف على معناه، فلا يتصور نقله بمعناه، فيكون الامتناع بذاته لا بدليل يحجر الناقل عنه، ويكون ضرباً آخر من الحجَّة غير الضرب الأول.
والقول الضابط في نقل الحديث بالمعنى: أن اللفظ إذا كان مما يجب نقله للعمل بمعناه، فَوُقِفَ على معناه حقيقة، ثم أُدِّي بلفظ آخر بغير خلل فيه، سقط اعتبار اللفظ، فالنقل باللفظ عزيمة، وبالمعنى رخصة في بعض الأخبار، على التفصيل المذكور.
ويدل على ذلك: جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فَلأَنْ يجوز بالعربية أولى.
وذلك لأنا نعلم أنه لا تعَبُّد في اللفظ، وإنما المقصود هو المعنى
وإيصاله إلى الخلق، وليس ذلك كالتشهد والتكبير وما تُعبِّدَ لله فيه باللفظ (1) .
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نَضَّر (2) الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع ورُبَّ حاملِ فقهٍ وليس بفقيه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه» (3) .
قلنا: هذا الحديث هو الحجة، لأنه ذكر العلة، وهي اختلاف الناس في الفقه، فما لا يختلف فيه الناس من الألفاظ المرادفة لا يمنع منه.
وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد، نقل بألفاظ مختلفة، وذلك أدل دليل على الجواز.
(1) ذكر العلماء أن هذا الخلاف لا يجري في ثلاثة أنواع. النوع الأول: ما تعبد بلفظه كالتشهد والقنوت ونحوهما، صرح به الزركشي. والنوع الثاني: ما هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم التي افتخر بإنعام الله عليه بها، ذكره السيوطي في " التدريب ". والنوع الثالث: ما يستدل بلفظه على حكم لغوي إلا أن يكون الذي أبدل اللفظ بلفظ آخر عربياً يستدل بكلامه على أحكام العربية، ذكره جمهور النحاة. وهذا الخلاف أيضاً لا يجري في الكتب المصنفة، فإنه لا يجوز فيها أبدال لفظ بلفظ آخر وإن كان مرادفاً له، لأن الرواية بالمعنى إنما رخص فيها من رخص حين كان الحرج شديداً على الرواة في ضبط الألفاظ، وهذا غير موجود في ما اشتملت عليه الكتب.
(2)
جاء في " النهاية " نَضَره ونَضَّره وأنضره، أي أنعمه، ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق، وإنما أراد حسن خلقه وقدره.
(3)
أخرجه الترمذي رقم 2659، وابن ماجة 1/84 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وإسناده صحيح، وقال الترمذي: حسن صحيح، وفي الباب عن زيد بن ثابت، عند الترمذي وابن ماجة، وصححه ابن حبان، وعن جبير بن مطعم عند أحمد وابن ماجة.
قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله: كل من ضعَّف قوماً من الرواة، فإنما ضعفهم من قِبَل الإسناد، فزاد فيه أو نقص أو غَيَّره أو جاء بما يتغير فيه المعنى، فأما من أقام الإسناد وحفظه وغيّر اللفظ، فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم يتغير المعنى.
قال: وقال واثلة بن الأسقع رحمه الله: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم.
وقال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد.
وقال: كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله -يأتون بالحديث على المعاني.
وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا قلت لكم: إني أحدِّثكم كما سمعت فلا تُصدِّقوني، إنما هو المعنى.
وقال وكيع: إن لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس.
وقال: كان القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حَيْوَة رحمهم الله يُعيدون الحديث على حروفه.
وقال مجاهد: انْقُصْ من الحديث إن شئت، ولا تَزِدْ فيه.
وقال: وكان مالك بن أنس رحمه الله يُشدِّد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء والياء ونحو هذا.