الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعبد به عقلاً، وأن التعبد واقع سمعًا، بدليل قبول الصحابة لخبر الواحد، وعملهم به في وقائع شتى لا تنحصر، وإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله وقضاته وأمراءه وسُعَاته إلى الأطراف، وهم آحاد، وبإجماع الأمة على أن العامي مأمور بإتباع المفتي وتصديقه، مع أنه ربما يخبر عن ظنه، فالذي يخبر عن السماع الذي لا شك فيه أولى بالتصديق.
الفصل الثاني: في الجرح والتعديل، وفيه ثلاثة فروع
الفرع الأول: في بيانهما وذكر أحكامهما
الجرح: وصف متى التحق بالراوي والشاهد سقط الاعتبار بقوله، وبطل العمل به.
والتعديل: وصف متى التحق بهما اعتُبِرَ قولهما وأُخِذَ به.
ثم التزكية والجرح: هل يُشترط فيهما عدد المزكِّي والجارح، أم لا؟ فيه خلاف.
قال قوم: لا يشترط العدد في الرواية، ويشترط في الشهادة.
[وقال آخرون: يشترط فيهما](1) .
وقال آخرون: لا يشترط فيهما، والأول أصح (2) ، لأن الرواية نفسها تثبت
(1) ما بين معقفين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن المطبوع.
(2)
ورجحه الآمدي " في الإحكام في أصول الأحكام " 2/121 ونقله عن الأكثرين، ونقله
⦗ص: 127⦘
ابن عمرو بن الحاجب في " المختصر " 2/64 أيضاً عن الأكثرين، وقال ابن الصلاح في " المقدمة " ص 119: والصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره أنه يثبت في الرواية بواحد، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر فلم يشترط في جرح راويه وتعديله بخلاف الشهادة.
بالواحد، فكان جرحها وتزكيتها أولى.
أما سبب الجرح، فيجب ذكره دون سبب التعديل، إذ قد يجرح بما لا يراه جارحًا، لاختلاف المذاهب فيه (1) .
وأما العدالة: فليس لها سبب واحد، فتفتقر إلى ذكره.
وقال قوم: مطلق الجرح يُبْطل الثقة، ومطلق التعديل لا تحصل به الثقة، لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر، فلابد من ذكر سببه.
وقال آخرون: لا يجب ذكر سببهما جميعًا، لأنه إن لم يكن بصيرًا بهذا الأمر، فلا يصلح للتزكية والجرح، وإن كان بصيرًا، فأي معنى للسؤال؟ .
(1) قال أبو عمرو بن الصلاح في " المقدمة " ص 117: وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه لينظر فيما هو جرح أم لا. وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله، وذكر الخطيب الحافظ أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل البخاري ومسلم وغيرهما، لذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل أبو داود السجستاني، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه، ومذاهب النقاد للرجال غامضة ومختلفة. وقال العلامة عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن البخاري المتوفى سنة 730 هـ في كشف الأسرار شرح أصول البزدوي 3/68: أما الطعن من أئمة الحديث فلا يقبل مجملاً – أي: مبهماً – بأن يقول: هذا الحديث غير ثابت، أو منكر، أو فلان متروك الحديث، أو ذاهب الحديث، أو مجروح، أو ليس بعدل من غير أن يذكر سبب الطعن، وهو مذهب عامة الفقهاء والمحدثين.
والصحيح: أن هذا يختلف باختلاف أحوال المزكي، فمن حصلت الثقة ببصيرته، وضبطه يُكتفى بإطلاقه، ومن عُرِفَت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشرط العدالة، فقد يُراجَعُ ويستَفْسَر.
أما إذا تعارض الجرح والتعديل، فإنه يُقدم الجرح (1) ، فإنه اطلاع على زيادة وصف ما اطلع عليها المعدل ولا نفاها، فإن نفاها، بطلت عدالة
(1) جاء في " طبقات الشافعية " للعلامة التاج السبكي في ترجمة أحمد بن صالح المصري 1/188 ما نصه: الحذر كل الحذر أن تفهم أن قاعدتهم " الجرح مقدم على التعديل " على إطلاقها، بل الصواب أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه، وندر جارحوه، وكان هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره لم يلتفت إلى جرحه. وفيه أيضاً 1/190: قد عرفناك أن الجارح لا يقبل منه الجرح وإن فسره في حق من غلبت طاعاته على معاصيه، ومادحوه على ذاميه، ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك منافسة دنيوية كما يكون بين النظراء أو غير ذلك، وحينئذ فلا يلتفت لكلام الثوري وغيره في أبي حنيفة، وابن أبي ذئب وغيره في مالك، وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح ونحوه، ولو أطلقنا تقديم الجرح لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون.
نقول: وقد غفل عن هذا الأصل العظيم – أو تغافل – الشيخ ناصر الألباني في كتابه " الأحاديث الضعيفة " 5/76، 78، فنبز الإمام أبا حنيفة المتفق على جلالته بسوء الحفظ، تقليداً لمقالة من طعن فيه بسبب العداوة المذهبية، ولم يذكر إلى جانب ذلك أقوال مزكيه ومعدليه – وهم بحمد الله تعالى أئمة أثبات ثقات – وهو مناف للروح العلمية النزيهة، وما نقله عن عُداة هذا الإمام وخصومه لا يلتفت إليه عند المحققين من العلماء ذوي النصفة، كما تجد ذلك مفصلاً في " الرفع والتكميل " و " التعليق الممجد " للإمام اللكنوي "، و " تأنيب الخطيب " و " مقدمة نصب الراية " للعلامة الكوثري، وغيرها. وكفى بالعداوة المذهبية مسوغاً لرد كل ما قيل في حق هذا الإمام العظيم من أقاويل مزيفة ظالمة.
وما مثل من يتكلم في مثل هذا الإمام إلا كما قال أعشى قيس:
كناطِحٍ صخرةً يوماً لِيَفْْلِقَها
…
فلم يضِرْها وأوهى قَرْنَهُ الوَعِل
المزكي، إذ النفي لا يُعلم إلا إذا نفى جرحه بقتل إنسان مثلاً، فقال المعدِّل: رأيته حيًا بعده، وحينئذ يتعارضان.
وقال قوم: إن عدد المعدل إذا زاد، قُدِّم على الجارح، وهو ضعيف، لأن سبب تقدم الجرح إنما هو اطلاع الجارح على مزيد وصف، فلا ينتفي بكثرة العدد.
والتزكية: تكون بالقول (1) أو بالرواية عنه، أو بالعمل بخبره، أو بالحكم بشهادته.
وأعلى هذه الأسباب: صريح القول. وتمامه أن يقول: هو عدل رضي، لأني عرفت منه كيت وكيت، فإن لم يذكر السبب، وكان بصيرًا بشروط العدالة، كفى.
وأما الرواية عن المزكي، فقد اختلف في كونها تعديلاً، والصحيح: أن من عرف من عادته، أو من صريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا عن عدل، كانت الرواية تعديلاً، وإلا فلا (2) ، إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كل من سمعوه ولو
(1) وتكون باستفاضة عدالته، واشتهاره بالتوثيق والاحتجاج به بين أهل العلم، وشيوع الثناء عليه كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة وشعبة والثوري وابن عيينة وابن المبارك والأوزاعي ويحيى بن معين وابن المديني ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر، قال القاضي أبو بكر الباقلاني: الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية إذا لم يكونا مشهورين بالعدالة والرضى، وكان أمرهما مشكلاً ملتبساً ومجوزاً فيهما العدالة وغيرها، والدليل على ذلك أن العلم بظهور سرهما، واشتهار عدالتهما أقوى في النفوس من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة.
(2)
الصحيح في هذا ما ذهب إليه ابن الصلاح والنووي والعراقي وغيرهم، من أن رواية الثقة عن شخص لم يعرف حاله لا يكون توثيقاً له، ولو كان الراوي معروفاً بأنه لا يروي إلا عن ثقة، كمالك وشعبة ويحيى القطان، لجواز رواية العدل عن غير العدل، فلم تتضمن روايته عنه تعديله، وكذلك
⦗ص: 130⦘
لا يجزئ التعديل على الابهام من غير تسمية المعدل، فإذا قال: حدثني الثقة، أو نحو ذلك مقتصراً عليه، لم يكتف به على الصحيح حتى يسميه، لأنه وإن كان ثقة عنده فربما لو سماه لكان ممن جرحه غيره بجرح قادح، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع تردداً في القلب، قال السخاوي: من كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد، وبقي بن مخلد، وحريز بن عثمان، وسليمان بن حرب وشعبة والشعبي وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ويحيى بن سعيد القطان.