الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَعون بابه بالأظافير (1) ، فهذا يوهم لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أنه مسند، وليس كذلك، إنما هو موقوف على صحابي حكى عن أقرانه من الصحابة فعلاً، ولم يُسنده واحد منهم (2) .
الفرع السابع: في ذكر التواتر والآحاد
وصول الحديث إلينا لا يخلو من أحد طريقين، إما بطريق التواتر، وإما بطريق الآحاد، ولكل واحد منهما شرح وبيان وأحكام يحتاج إلى ذكرها لئلا تخلو هذه المقدمة منها.
والكلام في ذكرهما ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: في ذكر التواتر، وهو حكم يتعلق بالأخبار
وحدُّ الخبر: ما دخله الصدق أو الكذب، أو تطرق إليه التصديق أو التكذيب، وذلك أولى من قولهم:«ما دخله الصدق أو الكذب» ، فإن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب، والإخبار عن المحالات لا يدخله الصدق.
(1) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " 2/515 من حديث أنس بن مالك أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالاظافير. وفي سنده أبو بكر بن عبد الله الأصفهاني وهو مجهول، ومحمد بن مالك بن المنتصر ذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال الذهبي: لا يعرف وأخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ص 19 من حديث المغيرة باللفظ الذي ساقه المصنف، وإسناده ضعيف.
(2)
هذا معنى كلام الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ص 19، وذكر الخطيب البغدادي في " الجامع بين آداب الراوي والسامع " مثل ذلك، ورده ابن الصلاح في " المقدمة " 12، بقوله: بل هو مرفوع، وهو بأن يكون مرفوعاً أحرى، لكونه أحرى باطلاعه صلى الله عليه وسلم، والحاكم معترف بكون ذلك من قبيل المرفوع، لأنه قد عد قوله " كنا نفعل " مرفوعاً، فهذا أحرى منه.
والتواتر يفيد العلم، وذلك ظاهر، لا خلاف فيه، إلا في قول ضعيف قليل وله أربعة شروط:
الشرط الأول: أن يُخْبِر عن علم لا عن ظن، فإن أهل بلد عظيم لو أخبروا عن طائر أنهم ظنوا أنه حمام، أو عن شخص أنهم ظنوا أنه زيد، لم يحصل لنا العلم بكونه حمامًا أو زيدًا.
الشرط الثاني: أن يكون علمهم ضروريًا مستندًا إلى محسوس إذا لو أخبرونا عن حدوث العالم أو عن صدق الأنبياء لم يحصل لنا العلم.
الشرط الثالث: أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد، فإذا نقل الخلف عن السلف، وتوالت الأعصار، ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر، لم يحصل العلم بصدقهم، لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه، فلابد فيه من الشروط، ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود - مع كثرتهم - في نقلهم عن موسى عليه السلام تكذيب كل ناسخ لشريعته، ولا بصدق الشيعة بنقل النص على إمامة علي - كرم الله وجهه-، والبكرية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه.
ولأن هذا وضعه الآحاد أولاً، وأفشوه، ثم كثر الناقلون في عصره وبعده في الأعصار، فلذلك لم يحصل التصديق، بخلاف وجود موسى عليه السلام وتحديه بالنبوة، ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للإمامة، فإن ذلك لما تساوى فيه الأطراف والوساطة، حصل لنا العلم الضروري الذي لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه، ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى
وأبي بكر وعلي.
والشرط الرابع: العدد، وعدد المخبرين ينقسم إلى ناقص، فلا يفيد العلم، وإلى كامل، فيفيد العلم، وإلى زائد يحصل العلم ببعضه، وتقع الزيادة فضْلة.
والكامل وهو أقل عدد يورث العلم، ليس معلوماً لنا، لكنَّا بحصول العلم الضروري نتبيَّن كمال العدد، لا أنَّا بكمال العدد نستدل على حصول العلم.
ثم العدد الذي يفيد العلم يفيده في كل واقعة وكل شخص، بحيث إنه متى وجد العدد أفاد العلم لكل من سمعه في كل (1) واقعة وذلك إذا تجرد الخبر عن القرائن.
فأما إذا اقترن الخبر بقرائن، فقد اختلف فيه (2)، فقال قوم: لا أثر لها.
وقال آخرون: لها أثر، فإن خمسة أو ستة لو أخبرونا عن موت شخص لم يحصل العلم بصدقهم، لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت حاسر الرأس حافيًا، ممزق الثياب، مضطرب الحال، يلطم وجهه ورأسه، وهو رجل كبير، ذو منصب ومروءة، لا يخالف عادته إلا عن ضرورة، فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك، فيقوم في التأثير مقام بقية العدد.
فدل ذلك على أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالأشخاص، فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأشياء، فيقوم ذلك مقام القرائن، وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين، أما متى انتفت القرائن، فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى، غير معلوم
(1) في المطبوع لم ترد كلمة " كل ".
(2)
في المطبوع " فقد اختلف كل فيه ".
لنا، ولا سبيل لنا إلى معرفته، لأنَّا
لا ندري متى حصل لنا العلم بوجود مكة، وبوجود الشافعي مثلاً عند تواتر الخبر إلينا، وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين، ويعسر علينا تجربة ذلك، وإن تكلفناها، فسبيل التكليف أن نراقب أنفسنا إذا قتل رجل في السوق مثلاً وانصرف جماعة من موضع القتل، ودخلوا علينا يخبرون عن قتله، فإن قول الأول يحرك الظن، وقول الثاني والثالث يؤكده، ولا يزال يتزايد تأكده إلى أن يصير ضروريًا لا يمكننا (1) أن نشكك فيه أنفسنا.
فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة، وحفظ حساب المخبرين وعددهم، لأمكن الوقوف، ولكن درك تلك اللحظة أيضًا عسير، فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدًا خفي التدريج، نحو تزايد ضوء الصبح إلى أن يبلغ حد الكمال، فلذلك بقي هذا في غطاء من الإشكال، وتعذر على القوة البشرية إدراكه.
فأما ما ذهب إليه قوم من تخصيص عدد التواتر بالأربعين، أخذًا بعدد الجمعة، وبالسبعين، أخذًا من قوله تعالى:{واختار موسى قومَه سَبعين رجلاً لميقاتنا} (الأعراف: الآية 155) وبثلاثمائة وبضعة عشر، أخذًا بعدد أهل بدر، فكل ذلك تحكمات فاسدة، لا تُناسب الغرض، ولا تدل عليه.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إن الأربعة ناقصة عن العدد الكامل، لأنها بينة شرعية تحصل بها غلبة الظن، ولا يُطلب الظن فيما يعلم ضرورة، قال: والخمسة لا تَوَقُّف فيها.
(1) في المطبوع ولا يمكننا.
فإذًا لا سبيل لنا إلى حصر العدد، لكنا بالعلم الضروري نستدل على أن العدد الذي هو كامل عند الله تعالى قد توافقوا على الإخبار.
وقد شرط قوم لعدد التواتر شروطًا فاسدة.
منها: أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد.
ومنها: أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد، وتختلف أوطانهم فلا يكونوا من محلة واحدة، وتختلف أديانهم، فلا يكونوا من مذهب واحد.
ومنها: أن يكونوا أولياء المؤمنين.
ومنها: أن يكونوا غير محمولين بالسيف على الإخبار.
ومنها: أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين، وهذا شَرَطَه الرافضة.
القسم الثاني: في أخبار الآحاد
وهي ما لا ينتهي إلى حد خبر التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلاً، فهو خبر واحد.
قال إمام الحرمين: ولا يُراد بخبر الواحد الخبر الذي ينقله الواحد، ولكن كل خبر عن جائز ممكن، لا سبيل إلى القطع بصدقه، ولا إلى القطع بكذبه، لا اضطرارًا ولا استدلالاً، فهو خبر الواحد وخبر الآحاد، سواء نقله واحد أو جمع منحصرون.
قال: وقد يُخبر الواحد، فيُعلَم صدقه قطعًا، كالنبي- صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به عن الغائبات، ولا يُعَدُّ من أخبار الآحاد.
وخبر الواحد لا يفيد العلم (1) ، ولكنا مُتَعَبَّدُون به.
وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يورث العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، أو سمَّوا الظن علمًا، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن.
وقد أنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً، فضلاً عن وقوعه سمعًا، وليس بشيء.
وذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد، وليس بشيء، فإن الصحيح من المذهب والذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأئمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين: أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلاً. ولا يجب
(1) سواء أكان مما اتفق الشيخان على روايته في " صحيحيهما " أم رواه أحدهما، أم رواه غيرهما على شرطهما، وسواء أكان في طريقه إمام أم لم يكن، وهو مذهب المحققين وأكثر العلماء، واستدلوا على هذا بجواز الخطأ والنسيان على الثقة عقلاً، ومع هذا الجواز العقلي لا يمكن ادعاء القطع، فإنه لا يمكن ادعاؤه إلا إذا انتفى ما يعارضه ويأتي عليه. قال الإمام النووي رحمه الله في " شرح مسلم " 1/20: فإنهم – أي: المحققين – قالوا: إن أحاديث " الصحيحين " التي ليست متواترة إنما تفيد الظن، لأنها آحاد، والآحاد إنما تفيد الظن كما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه، فإن أخبار الآحاد في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها ولا تفيد إلا الظن، وكذا " الصحيحان "، وإنما يفترق " الصحيحان " وغيرهما من الكتب في كون ما فيها صحيحاً لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقاً، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر فيه، وتوجد فيه شروط الصحيح، ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
نقول: ومن مارس صناعة الحديث وفحص متونها وأسانيدها وتتبعها تتبعاً دقيقاً لا يسعه إلا أن يسلم بما نقله الإمام النووي رحمه الله عن المحققين وارتضاه.