الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى اللَّه على محمد وآله وصبحه وسلم
(1)
كتاب بدء الوحي
(1) باب تعبد النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان يأتيه الوحي، وما كان يدعو الناس إليه
1 -
قال عَلْقَمَةُ بن وَقَّاصٍ الليثي: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
2 -
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بُدِئَ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
1 - خ (1/ 13)، (1) كتاب بدء الوحي، (1)، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
من طريق سفيان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة به - رقم (1)، وأطرافه في (54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953).
2 -
خ (1/ 14 - 15)، (1) كتاب بدء الوحي، (3)، باب، من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة به. رقم (3). وأطرافه في (3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982).
الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حِرَاء فَيَتَحَنَّثُ فيه -وهو التعبد (1) - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: "قلت: ما أنا بقارئ"(2) قال: "فأخذني فَغَطَّني (3) حتى بلغ مني الجَهْدُ، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارى، فأخذني فَغَطَّنِي الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فَغَطَّنِي الثالثة.
ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3]، فرجع بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَرجُفُ فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال:"زَمِّلُوني، زملوني"، فزملوه (4) حتى ذهب عنه الرَّوْعُ، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر:"لقد خَشِيتُ على نفسي"(5).
(1)(فيتحنث فيه - وهو التعبد): يتحنث بمعنى يتحنَّف؛ أي: يتبع الحنيفية، وهي دين إبراهيم، أو التحنث: إلقاء الحِنْث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرَّج ونحوهما.
وقوله: (وهو التعبد) هو مدرج من كلام الزهري وتفسيره.
(2)
(ما أنا بقارئ) قيل: إن (ما) هنا نافية؛ أي: ما أُخسِنُ القراءة، فلما قال ذلك ثلاثًا قيل له:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ؛ أي: لا تقرؤه بقوتك ومعرفتك، ولكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلَّم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أُمِّيَّة، وقيل: إن (ما) هنا استفهامية، واللَّه أعلم.
(3)
(فغطني): أراد ضمني وعصرني، والغط: حبس النَّفَس، أو أراد غمني.
(4)
(فزملوه)؛ أي: لَفُّوه.
(5)
(لقد خشيت على نفسي)؛ أي: من الموت من شدة الرعب، أو من المرض، أو من دوام المرض، وقيل غير ذلك.
فقالت: كلا واللَّه ما يُخْزِيكَ اللَّه أبدًا، إنك لتصلُ الرَّحِمَ، وتحمل الكَلَّ (1)، وتَكْسِبُ المعدوم، وتُقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى، ابن عم خديجة، وكان امْرءًا تَنَصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العِبْرَاني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَبَر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس (2) الذي نزَلَ اللَّهُ على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا (3)، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أومُخْرِجِيَّ هم؟ " قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزَّرًا (4)، ثم لم يَنْشَبْ (5) ورقةُ أن توفي، وفَتَر الوحيُ.
(1)(الكَلَّ) -بفتح الكاف-: هو من لا يستقل بأمره.
(2)
(هذا الناموس): الناموس: هو صاحب السر، وقيل: إن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، والمراد بالناموس هنا، جبريل عليه السلام.
(3)
(يا ليتني فيها جذعًا): الجذع -بفتح الجيم والذال المعجمة-: هو الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابًّا؛ ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرًا أعمى.
(4)
(مؤزّرًا) بهمزة؛ أي: قويًّا، قيل: مأخوذ من الأزر وهو القوة، وقيل: ويحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته.
(5)
(لم يَنْشَبْ)؛ أي: لم يلبث، وأصل النشوب التعلق؛ أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات.
3 -
وقال جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما: قال -يعني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي- فقال في حديثه: "بَيْنَا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرُعِبْتُ منه، فرجعت فقلت: زَمِّلوني، زَمِّلوني، فأنزل اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] فَحَمِيَ الوحي وتتَابَعَ".
4 -
وعن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهو أشده عليَّ (1)، . . . . .
(1)(مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ): شبه الوحي بالجرس من حيث القوة، لا من حيث الطنين والطرب، وقوله:"وهو أشده عليَّ" يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح؛ لأن الفهم من كلامٍ مثل الصلصلة أشكلُ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، وقيل: سبب تلك الشدة: أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به. وقيل: إنما كان شديدًا عليه؛ ليستجمع قلبه، فيكون أوعى لما سمع، والظاهر أن هذه الشدة لا تختص بالقرآن، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
_________
3 -
خ (1/ 15)، (1) كتاب بدء الوحي، (3) باب، قال البخاري: قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر به. ثم قال عقبه: تابعه عبد اللَّه بن يوسف وأبو صالح، وتابعه هلال بن ردَّاد، عن الزهري. رقم (4) وأطرافه في (3238، 4922، 4923، 4924، 4925، 4926، 4954، 6214).
4 -
خ (1/ 13 - 14)، (1) كتاب بدء الوحي، (2) باب، من طريق مالك، عن هشام أبن عروة، عن أبيه، عن عائشة به، رقم (2). طرفه في (3215).
فيُفْصَمُ (1) عنِّي، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتَمَثَّل في الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول".
قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيتُهُ ينزل عليه الوحيُ في اليوم الشديد البرد فيُفْصَمُ عنه، كان جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا (2).
5 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لك كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحركهما.
وقال سعيد: فأنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل اللَّه تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 17]، قال: جمعه لك في صدرك، وتقرأه. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، قال: فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، ثم إن علينا أن نقرأه.
(1)(فيفصم عنه)؛ أي: يقلع ويتجلَّى ما يغشاني، والفصم: القطع.
(2)
(ليتفَصَّد عرقًا): مأخوذ من الفَصْدِ، وهو قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العَرَق، وفي قولها:"في اليوم الشديد البرد" دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي؛ لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه بشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.
_________
5 -
خ (1/ 15)، (1) كتاب بدء الوحي، (4) باب، من طريق أبي عوانة، عن موسى ابن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، رقم (5)، وأطرافه في (4927، 4928، 4929، 5044، 7524).
فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأ (1).
6 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدَارِسُهُ القرآن، فَلَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المُرسَلَةِ (2).
7 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل
(1) في "صحيح البخاري": "كما قرأه".
(2)
(أجود من الريح المرسلة)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم في الإسراع بالجود أسرع من الريح وعبَّر بالمرسلة؛ إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه، وقال النووي: في الحديث فوائد: منها:
الحث على الجود في كل وقت، ومنها: الزيادة في رمضان، وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه زيادة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إن كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويًا لفعلاه.
_________
6 -
خ (1/ 15 - 16)، (1) كتاب بدء الوحي، (5) باب، من طريق الزهري، عن عبيد اللَّه ابن عبد اللَّه، عن ابن عباس به - رقم (6)، وأطرافه في (1902، 3220، 3554، 4997).
7 -
خ (1/ 16 - 18)، (1) كتاب بدء الوحي، (6) باب، من طريق الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن عبد اللَّه بن عباس به، رقم (7).
أطرافه في (51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541).
إليه في ركب من قريش، وكانوا تجار، بالشام في المُدَّةِ (1) التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه، وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه.
فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا. قال (2): أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره.
ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا (3) عن هذا الرجل (4)، فإن كذبني فكذبوه، فواللَّه لولا الحياء من أن يَأْثِرُوا عليَّ كذبًا لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسَبُهُ فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من مَلِكٍ؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون، أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتدُّ أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يَغْدِرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مُدَّةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تُمَكِّنِّي كلمةٌ أُدْخِلُ
(1)(في المدة التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش)؛ يعني: مدة الصلح بالحديبية.
(2)
في "صحيح البخاري": "فقال".
(3)
في "صحيح البخاري": "سائل هذا الرجل".
(4)
"عن هذا الرجل": ليست في "صحيح البخاري".
فيها شيئًا غير هذه الكلمة (1). قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجَالٌ ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا اللَّه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصِّلَة.
فقال للتَّرْجُمَان: قل له: إني سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تُبْعَثُ في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحدكم منكم هذا القول. فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يَأْتَسِي بقولٍ قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. قلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب مُلْكَ أبيه، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على اللَّه، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاءهم. فذكرت أن ضعفاءَهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشتُه القلوب (2). وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تَغْدِرُ، وسألتك: بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا،
(1)(ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا)؛ أي: أنتقصه به.
(2)
(حين يخالط بشاشتُه القلوب)؛ أي: حين يخالط القلوب بشاشة الإيمان، وهو شرحه القلوب التي يدخل فيها.
فسيملك موضع قَدَمَيَّ هاتين (1)، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أَخْلُص (2) إليه لتجشمت (3) لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه (4).
ثم دعا بكتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دِحْيَة إلى عظيم بُصْرَى، فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد عبد اللَّه ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سَلَامٌ على من اتبع الهدى (5). أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، أَسْلِمْ يؤتك اللَّه أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (6) {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
(1)(موضع قدميَّ هاتين)؛ أي: بيت المقدس، وكنى بذلك؛ لأنه موضع استقرار، أو أراد الشام كله؛ لأن دار مملكته كانت حمص.
(2)
(أخلص إليه)؛ أي: أصل.
(3)
(لتجشمت)؛ أي: تكلفت الوصول إليه، وهذا يدل على أنه كان يتحقق أن لا يسلم من القتل إن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
(لغسلت عن قدميه) في "صحيح البخاري": "عن قدمه" بالإفراد.
والمراد أن ذلك مبالغة في العبودية والخدمة له. وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه -إذا وصل إليه سالمًا- لا ولاية ولا منصبًا، وإنما يطلب ما تحصل له به البركة.
(5)
(سلام على من اتبع الهُدَى) إن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؛ فالجواب أن المفسرين قالوا: معناه: سَلِمَ مِن عذاب اللَّه مَنْ أَسْلَم. ومحصل الجواب: أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدًا، وإن كان اللفظ يشعر به، لكنه لم يدخل في المراد؛ لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يُسَلِّمْ عليه.
(6)
(الأريسيين)؛ أي: الفلاحين، والمراد أهل مملكته، وقيل: الضعفاء والأتباع.
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ".
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصَّخَبُ، وارتفعت الأصوات، وأُخْرِجْنَا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ (1) أمْرُ ابن أبي كبشة (2) إنه يخافه مَلِكُ بني الأصْفَرِ، فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل اللَّه عليَّ الإسلام.
وكان ابن النَّاطُورِ -صاحب إيلياء وهرقل - سُقُفًّا على نصارى الشام- يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يومًا خبيث النفس (3)، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.
قال ابن الناطور: وكان هرقل حَزَّاءً (4) ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِكَ الخِتَان قد ظهر (5)، فمن
(1)(أَمِرَ) بفتح الهمزة وكسر الميم؛ أي: عَظُمَ.
(2)
(ابن أبي كبشة) أراد به النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: إن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض. وقال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني: هو رجل من خزاعة خالف قريشًا في عبادة الأوثان فعبد الشِّعْرَى فنسبوه إليه؛ للاشتراك في المخالفة، وقيل غير ذلك. واللَّه أعلم.
(3)
(خبيث النَّفْس)؛ أي: رديء النَّفْس غير طيبها؛ أي: مهمومًا.
(4)
(حَزَّاء)؛ أي: كاهنًا.
(5)
(ملك الختان قد ظهر)؛ يعني: دله نظره في حكم النجوم على أن ملك الختان قد غلب، وهو كما قال؛ لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبي صلى الله عليه وسلم إذ صالح كفار مكة بالحديبية، وأنزل اللَّه تعالى عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ؛ إذ فَتْح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي كان بينهم بالحديبية.
يختتن من هذه الأمة؟ [قالوا: ليس يختتن](1) إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أُتِيَ هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا: أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب. فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا مُلْك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحبٍ له بروميَّة، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يَرِمْ (2) حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبيٌ (3)، فأذن هرقل لعظماء الروم في دَسْكَرَةٍ (4) له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطَّلع فقال: [يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرُّشدِ، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا (5) حَيْصَةَ حمرِ الوَحْشِ إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت.
(1) ما بين المعكوفين مطموس في الأصل، وما أثبتناه من "البخاري".
(2)
(فلم يرم) بفتح أوله وكسر الراء؛ أي: لم يبرح مكانه.
(3)
(حتى أتاه كتاب من صاحبه. . . وأنه نبي) يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن هرقل لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه.
(4)
(دسكرة): القصر الذي حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه، وفتح أبواب البيوت التي حوله، وإنما فعل ذلك خشية أن يثبوا به.
(5)
(فحاصوا)؛ أي: نفروا، وشبههم بالوحوش؛ لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الإنسية، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل وعدم الفطنة، بل هم أضل.
فلما رأى هرقل نَفْرَتَهُمْ، وأَيِسَ من الإيمان (1) قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له، ورَضُوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل] (2).
* * *
(1)(وأَيِسَ من الإيمان)؛ أي: من إيمانهم لِمَا أظهروه، ومن إيمانه؛ لأنه شح بملكه، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه، ويُسْلِم ويُسَلِّمُوا بإسلامهم، فما أيس من الإيمان إلا بالشرط الذي أراده، وإلا فقد كان قادرًا على أن يفر عنهم ويترك ملكه رغبة فيما عند اللَّه.
(2)
ما بين المعكوفين مطموس في الأصل، وما أثبتناه من "البخاري".