الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس في معرفته من الغرض أو وجه الدلالة (ضربان) أحدهما (خاصي في نفسه غريب) لا ينال إلا بفكر (و) الآخر (عامي تصرف فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة كما مر) في باب التشبيه والاستعارة من تقسيمها إلى الغريب الخاصي والمبتذل العامي، أما مع البقاء على الابتذال أو مع التصرف فيه بما يخرجه من الابتذال إلى الغرابة كما في الأمثلة المذكورة ثم (فالأخذ والسرقة) عطف السرقة على الأخذ للتفسير لأن هذا المعنى علم باسم السرقة سابقا دون الأخذ، والمقصود التنبيه على ترادف الأخذ والسرقة، وهذا أولى من أن يراد بالأخذ والسرقة، المسمى بهذين الاسمين، إذ لا موجب لصرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز (نوعان ظاهر وغير ظاهر) تذكير
الظاهر
وغير الظاهر لأنهما تفصيل النوع، فلا حاجة إلى اعتبار التغليب.
[السرقة والأخذ نوعان]
[الظاهر]
(أما الظاهر فهو أن يؤخذ المعنى كله إما مع اللفظ كله أو بعضه (1) أو وحده) قوله: أو بعضه عطف على اللفظ ووحده على قوله مع اللفظ.
قال في الإيضاح: إما مع اللفظ كله أو مع بعضه وإما وحده هذا قدم في تفصيل أقسام الظاهر، الأظهر فالأظهر، أو ما هو أكثر سرقة فالأكثر، ولهذا قدم الظاهر على غير الظاهر.
قال الشارح المحقق: فالنوع الظاهر بهذا الاعتبار ضربان: أحدهما أن يؤخذ المعنى مع اللفظ كله، أو بعضه، والثاني أن يؤخذ المعنى وحده، والضرب الأول قسمان، لأن المأخوذ مع المعنى من كل لفظة أو مع بعضه إما مع تغيير النظم أو بدونه، فهذه عدة أقسام، والأولى والقسم الأول من الضرب الأول قسمان، لأن تمام اللفظ المأخوذ مع المعنى إما مع تغيير النظم أو بدونه، لأنه الأوفق بما أشار إليها المصنف بقوله (فإن أخذ اللفظ كله) إلخ، وقوله (أخذ) مشتق من الأخذ الاصطلاحي لا من الأخذ اللغوي، فلا يتجه أنه لا بد من قيد يميزه عن التضمين حتى يصح قوله، فهو مذموم إذ التضمين أخذ اللفظ كله من غير تغيير لنظمه، - وليس بمذموم- وينبغي أن يعد من أقسام الظاهر ما يؤخذ اللفظ وحده من غير أخذ المعنى كما إذا كان مشتركا فيقصد به السابق المعنى الذي لم يقصده القائل
(1) مثل أخذ اللفظ مرادفه كما سيأتي.
الأول، كما إذا قال قائل: ما كان وقصده مثل معنى شعري شعري، فقال الآخذ: ما كان ما كان وأراد انتفاء ما كان بحيث كأنه لم يكن من أصله.
(من غير تغيير لنظمه) أي لتأليفه واختار النظم على التركيب وهو التركيب على حسب ما يقتضيه العقل لا التوالي في النطق، كيف ما اتفق، لأن السرقة إنما تكون لما له نظم وشأن، لا لما ركب كيف ما اتفق (فهو مذموم لأنه سرقة محضة) إبطال حق الغير وكذب محض ليس له تأويل صدق، كما يدل عليهما اسماه المذكوران بقوله (ويسمى نسخا) وهو في اللغة الإبطال (وانتحالا) وهو فيها ادعاء شيء لنفسه (كما حكي عن عبد الله بن الزبير) والزبير الشاعر، وهو غير عبد الله بن الزبير الصحابي المشهور أحد الأعلام، في القاموس، وهو القائل لعبد الله بن الزبير لما حرمه: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وراكبها، وفي الإيضاح الزبير مع اللام، ويوافقه القاموس (إنه فعل بقول معن بن أوس) المزني [إذا أنت لم تنصف] من الإنصاف وهو العدل [أخاك] أخوة الصداقة أو النسب [وجدته][على طرف الهجران إن كان يعقل](1) من باب ضرب أي إن كان يبقى عقله بعد ظلمك وفيه إشارة إلى أنه يصير مجنونا بظلمك وبهجران نفي عقله.
[ويركب حدّ السّيف](2) أي يرضى بأن يقتل بالسيف أو يرتكب ما هو بمنزلة القتل به.
[من أن تضيمه] أي من أجل ضيمك أي ظلمك فمن للأجل كما في قول الشاعر [من أجلك بالتي تيّمت قلبي] وفي الشرح بدل من أن تظلمه فجعل من للبدل [إذا لم يكن عن شفرة الضّيف] أي على ما في الصحاح [مزحل](3) أي مبعد سوى قبول الضيم، يقال: زحل من باب منع زحولا أي بعد، والمزحل
(1) قوله: «لم تنصف» بمعنى لم تعدل معه وتوفه حقه، وطرف الهجران: جانبه، والإضافة بيانية.
(2)
المراد بحد السيف ما يتحمله من الشدائد على سبيل الاستعارة، و «من» في قوله:«من أن تضيمه» للبدل أو للتعليل، والضيم: الظلم، وشفرة السيف: حده، والمراد به ما يتحمله من الشدائد أيضا، والمزحل: المبعد.
(3)
حد السيف: طرفه القاطع، شفرته: المراد به الصعب المؤلم من الأمور مجازا. تضيمه: تظلمه. مزحل:
منأى أي مكان النأى وهو البعد. انظر البيتين في الإيضاح: (349).
ما يعدل إليه، كذا في الصراخ والشعر حث على المداراة مع الإخوان، والتجنب عن الغلظة معهم، وإلا لم يبق صديق ولا ظهير، وفيه تلميح إلى قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (1) مع زيادة مبالغة.
حكي أن عبد الله دخل على معاوية فأنشد هذين البيتين فقال له معاوية:
لقد شعرت- بضم العين- بعدي يا أبا بكر. يعني: أخذت الشعر بعدي، ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معي فأنشد قصيدته التي أولها:
لعمرك لا أدري وإنّي لأوجل
…
على أيّنا تعدو المنيّة أوّل (2)
حتى أتمها وفيها هذان البيتان فأقبل معاوية على عبد الله بن الزبير وقال له:
ألم تخبرني أنهما لك فقال اللفظ له والمعنى لي، فهو أخي من الرضاعة، وأنا بشعره، يعني أنا أحق منه بشعره، والمقصود كمال الاتحاد.
(وفي معناه) أي معنى ما لم يغير فيه النظم في كونه مذموما وأن ليس منه بل مما أخذ فيه بعض اللفظ فيكون إعارة ومسخا، أو أخذ فيه المعنى وحده فيكون إلماما وسلخا، أو في معناه في كونه من النسخ والانتحال، وملحق به أو داخل فيه، ومعنى قولنا: في التعريف إما مع اللفظ كله (أن تبدل بالكلمات كلها أو بعضها ما يراد فها) لكن الظاهر أن كونه مذموما إذا لم يفسد التبديل للكلام حسن سجع أو موازنة، أو زيادة فصاحة أو سلاسة للشعر، فإن أفاد فينبغي أن يترجح على الأصل، ويزيد عليه قبولا، قال الشارح: كما يقال في قول الحطيئة
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي
ذر المآثر لا تذهب لمطلبها
…
واحبس فإنّك أنت الآكل اللابس (3)
أقول: يقال: رجل طاعم طعم حسن الحال في المطعم، ورجل كاس ذو كساء، فيكون المعنى أنت دنئ الهمة نهاية همتك الطعام والكساء، ولا بد لطلب المكارم من همة عالية، وكان الهذلي جعل الطعام اسم فاعل من طعمه كسمعه،
(1) آل عمران: 159.
(2)
البيت أورده القزويني في الإيضاح: (349). وجملة إن ومعموليها اعتراضية: تعدو. تعتدي. ويروي تغدو بغين معجمة، ومعناها: تروح.
(3)
البيتان للحطيئة في ديوانه، ودلائل الإعجاز:(471)، (487).
والكاسي اسم من كسيه، كرضى بمعنى لبسه أي أنت طالب التنعم والثروة والمكارم لا يحصل لطالبهما.
ومما وقع في بعض حواشي الشرح أنه قال: اللابس من اللبوس، وهو، لذوق، يقال: ما لاس لوسا أي ما ذاق ذوقا. ولو صح ما ذكره لكان مثالا لتمثيل البعض بالمرادف في أنه قريب من هذا أن يبدل بالألفاظ ما يضادها في المعنى، مع رعاية النظم والترتيب كما يقال في قول حسان:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
…
شم الأنوف من الطّراز الأوّل
سود الوجوه لئيمة أحسابهم
…
فطس الأنوف من الطّراز الأوّل
هذا ما سيأتي أن القلب من الأخذ الغير الظاهر يجب أن يخص منه هذه الصورة من القلب.
(وإن كان مع تغيير لنظمه) أي نظم اللفظ وضمير كان لأخذ اللفظ كله (أو أخذ بعض اللفظ سمي) هذا الأخذ (إغارة) لأن صاحبه لا يخفي نسبته إلى نفسه، وينسبه إلى نفسه عليا وثوقا له بأنه لا ينكر عليه لمغايرته للأول، فهو غصب ما للغير علانية (ومسخا) وهو في اللغة تغيير الصورة إلى ما دون منها، سمي هذا القسم باسم ما هو أكثر عيبا من أفراده لأن السرقة عيب فيناسب التسمية بما هو أشد عيبا.
(فإن كان الثاني أبلغ من الأول) الأول أفضل من الأول ليتناول الأفضل لمحسن بديعي، والأفضل لمحسن ذاتي، وجعل الأبلغ شاملا له لا يخرج عن تكلف (لاختصاصه بفضيلة) لا يوجد في الأول فيه أن الاختصاص بفضيلة وكذا يوجب كون الثاني أبلغ ما لم يفضل على الأول في الفضيلة، لجواز أن يكون اختصاص الأول أكثر.
(فممدوح) أي الأخذ ممدوح كما يقتضيه السوق، وفي الشرح أي فالثاني ممدوح فأدرك بحسن باعك الممدوح، واختر المعدل دون المجروح (كقول) فيه مسامحة والمثال ما أخذ سلم أو قول سلم، فالصحيح كقول سلم كذا بعد قول (بشار:[من راقب النّاس]) أي خاف: في الصحاح: راقب الله في أمره خافه (لم يظفر بحاجته وفاز بالطّيّبات) أي بطيبات الرزق، فكأنه إشارة إلى ما
في الآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (1)(الفاتك) أي الجريء الشجاع (اللهج)(2) أي المواظب على الأمر الذي أغرى به، وقد استمر المصنف على هذه المسامحة في الأمثلة، ولا يبعد أن يقال:
التمثيل للأمرين اللذين وقع الآخذ فيهما أعني مجموع المأخوذ والمأخوذ منه، فقوله: كقول بشار مثلا في تقديرهما كقول بشار (وقول سلّم الخاسر) بالخاء المعجمة يسمى بالخاسر لأنه باع مصحفا واشترى بثمنه ديوان شعر، ولأنه حصلت له أموال فبذرها على ما في القاموس، ولأنه اشترى بثمن مصحف ورثه عودا يضرب به، على ما نقله الشارح من الأساس:[(من راقب النّاس مات همّا)] مفعول له، وجعله تمييزا كما في الشرح يوجب كون المعنى مات همه، فيكون إسنادا إلى السبب، ومع صحة حمل الكلام على الحقيقة لا يصار إلى المجاز (وفاز باللّذّة الجسور)(3) أي الشديد الجراءة.
روى عن أبي معاذ رواية بشار أنه قال: أنشدت بشارا قول سلم فقال: ذهب والله ماء بيتي، فهو أخف منه وأعذب، والله لا أكلت اليوم ولا شربت، في الإيضاح، وقول الآخر:
خلقنا لهم في كلّ عين وحاجب
…
بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا (4)
وقول ابن نباته بضم النون بعده
خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم
…
عيونا لها وقع السّيوف حواجب (5)
فبيت ابن نباته أبلغ لاختصاصه بزيادة معنى وهو الإشارة إلى انهزامهم حيث وقع الطعن، والضرب على ظهورهم، ومن الناس من جعلهما متساويين، هذا كلامه، وقد شنع على من جعلهما متساويين بقوله: ومن الناس ولا يوجب ما
(1) البقرة: 172.
(2)
البيت لبشار في ديوانه: (60)، أورده القزويني في الإيضاح:(350)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات:(309).
(3)
البيت أورده القزويني في الإيضاح: (351)، والجرجاني في الإشارات:(309) وعزاه لسلم الخاسر.
(4)
انظر البيت في الإيضاح: (351) لابن نباته. خلقنا لهم: أحدثنا. سمر: جمع أسمر ويطلق على الرمح.
القنا: الرماح واحدها: قناة. البيض: السيوف واحدها أبيض. عينا وحاجبا: استعارتان لضربتي الرمح والسيف.
(5)
البيت والذي قبله لابن نباته في الإيضاح: (351).
ذكره فضل بيت ابن نباته لأن في بيت الآخر نهاية المبالغة في الشجاعة، حيث لم يقدر الخصماء مع المواجهة على منع سمر القنا من أعينهم، ودفع البيض عن حواجبهم، وتكرر الطعن والضرب على الأعين والحواجب اللاتي هن أبعد من وقوع الضرب عليهن، كيف في بيت ابن نباته استطراف في خلق الأعين والحواجب في الظهور على خلاف ما هو المعتاد، وأنهم شاهدوا مهابتهم حين الفرار كما شاهدوا حين الإقدام أيضا.
(وإن كان) الثاني (دونه) أي الأول لاختصاص الأول بفضيلة ترك التعليل لانسياق الذهن إليه من التعليل الأول وفيه ما عرفت (فهو) أي الأخذ أو الثاني (مذموم) مردود، وإنما جعل ما هو مذموم ثانيا وبادي النظر يقتضي أن يجعل ما هو أبعد من الذم ثانيا لأنه أقرب إلى الممدوح لنظر ثان لا يهمله، إلا بتوان، وهو أن الأبعد من الذم متوسط بين الممدوح والمذموم، والمتوسط من حيث هو متوسط متأخر عن الطرفين، كقول أبي تمام في مرثية محمد بن حميد كرويد، وكان قد استشهد في بعض غزواته:[هيهات] أي بعد المرثي وطال المسافة بيننا وبينه، لأنه وصل إلى الجنة وكم بينها وبين الدنيا الدنية، واللفظ خبر والمعنى على التحسر، فزاد في التحسر بأنه ليس لنا رجاء ما يتسلى به بعد، فقال [(لا يأتي الزّمان بمثله)] ليتسلى به وعلّل عدم إتيان الزمان بمثله بعلة طبيعية للزمان لا تنفك عنه وهو قوله [إنّ الزمان بمثله لبخيل] وبلغ فيه غاية التأكيد من ذكر إن واللام واسمية الجملة، وقد أفاد البخل به بطريق الأولى، لأنه إذا كان بخيلا بمثله فبخله به أولى، وقد أشار بإفادة استمرار بخل الزمان أنه لم يأت بمثله قبله، وأن الإتيان به كان خارق العادة.
والشارح جعل ضمير هيهات إما للنسيان المذكور قبله في البيت السابق، وهو قوله:
أنسى أبا نصر نسيت إذن يدي
…
من حيث ينتصر الفتى وينيل (1)
وإما لأن يأتي الزمان بمثله بدليل ما بعده، فهو إضمار قبل الذكر لضرورة
(1) البيتان في ديوانه من قصيدة في مدح محمد بن حميد: (226)، والإشارات:(309)، والإيضاح:(351).
الشعر، ولا ضرورة لارتكابه أو تخصيص بعد النسيان بالماضي، ولا اختصاص له هذا. قال الشيخ عبد القاهر في المسائل المشكلة: قال الشيخ أبو على الفارسي: في هذا البيت تقصير، لأن الغرض في هذا النحو نفي المثل، وأن يقال: هو امرؤ، وأنه لا يكون، فإذا جعل سبب فقد مثله بخل الزمان به فقد أخل بالغرض، وجوز وجود المثل، ولم يمنعه من حيث هو، بل من حيث بخل الزمان بأن يجود مثله، وفيه بحث، لأن تجويز المثل وأن ينافي أن مثله لا يكون لا ينافي أنه يغربل غرة المثل، وقلته يلائم بخل الزمان به.
(وقول أبي الطيب [أعدى الزّمان سخاؤه]) يقال: أعدى الأمر جاوز غيره إليه، فالمعنى: جاوزه سخاه إلى الزمان [فسخا به ولقد يكون به الزّمان بخيلا] لا يخفى أن هذا المصراع مأخوذ من المصراع الثاني لأبي تمام، وان كان بينهما فرق بأن أبا تمام جعل البخل متعلقا بمثله صريحا، وأبا الطيب بنفسه، لأن هذا المقدار من التفاوت لا ينافي الأخذ، ولم يشترط اتحاد المأخوذ والمأخوذ منه في المعنى من كل وجه، كما توهمه البعض، وأن مصراع أبي الطيب خال عن التقصير الذي أثبته أبو علي في مصراع أبي تمام، فلو تم التقصير لم يكن مصراع أبي الطيب دونه.
ومعنى البيت على ما ذكره ابن جني: أنه تعلم الزمان من سخائه فسخا به وأخرجه من العدم إلى الوجود، ولولا سخاؤه الذي استفاده منه لبخل به على الدنيا، واستبقاه لنفسه، وزيفه ابن فورجه وقال: هذا تأويل فاسد، وغرض بعيد، لأن سخاء من لم يوجد لا يوصف بالعدوى، فالمعنى أنه أعدى سخاء بعد وجوده الزمان، فسخا به علىّ وأسعدني بوصاله.
هذا وعلى التقديرين ففيه وصمة وضع المضارع مقام الماضي، لأنه قصد أن الزمان كان به بخيلا فعدل إلى المضارع للوزن كذا ذكره المصنف.
وأنا أقول: الأظهر أن المعنى أنه أعدى الزمان سخاءه فسخا بسبب عدوى سخائه فضمير به للعدوى، والباء للسببية، وليست صلة للسخاء، أي فسخا بما سخا به بسبب العدوى، ولقد يكون بعده الزمان به بخيلا، إذ ليس سخاء بعده يسري إلى الزمان، فيصير سخيا فيسخو به.
ثم إنه قال المصنف: أنا لا نسلم أن المعنى على الماضي، بل المعنى أن الزمان بهلاكه يكون بخيلا أبدا، فيبقى على وجه الدهر، ودفعه بأن الزمان لما سخا به والسخاء البذل للغير فقد خرج عن تحت تصرفه، فلا معنى للإخبار بأنه لا يسمح بهلاكه، لأن هذا الإخبار إنما يفيد في حق من يقدر على هلاكه، واعترض على الدفع بأن الزمان لما سخا به فقد خرج عن تحت تصرفه بالاتحاد، لأنه تحصيل الحاصل، وأما تصرفه بالإهلاك فباق، فله أن يسمح به، وأن يبخل.
وأجاب الشارح عن اعتراض المصنف: بأن احتمال الحمل على هذا المعنى لا يضر، لأنه مع ذلك الحمل أيضا أدون من مصراع أبي تمام، لاحتياجه إلى تقدير مضاف لا يدل عليه قرينة، على أن هذا المعنى مما لم يذهب إليه أحد ممن فسر البيت، والعلاوة ضعيفة، وقد عرفت في أثناء شرح مصراع أبي تمام اشتماله على ما يفضله على مصراع أبي الطيب فاحفظه.
(وإن كان) الثاني (مثله) أي مثل الأول (فأبعد) أي فهو أبعد أي فالثاني أبعد (عن الذم) من الثاني من القسم الثاني.
فإن قلت: هل يتأتى في القسم الثاني بعد من الذم، كما هو قضية صيغة الأبعد؟ قلت: نعم، الأقرب إلى الذم والأعرف فيه ما أخذ فيه اللفظ كله من غير تغيير لنظمه.
(والفصل الأول كقول أبي تمام: [لو حار]) أي نظر إلى الشيء فغشى ولم يهتد لسبيله ([مرتاد]) اسم فاعل من الارتياد بمعنى الطلب وإضافته إلى (المنيّة) بمعنى من [لم يجد إلا الفراق] فيستثني من قوله دليلا [على النّفوس] متعلق بقوله [دليلا](1) وقول أبي الطيب:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
…
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا (2)
الضمير في «لها» للمنايا وهو حال عن المنايا، وهو أقرب من جعله حالا من سبلا، كما في الشرح، ووجدت إما بمعنى العلم والمفعول الثاني قوله إلى أرواحنا
(1) البيت في الإيضاح: 352 لأبي تمام. حار: تحير ولم يهتد إلى وجه الصواب. مرتاد المنية: الباحث عن المنايا المنقب على النفوس ليهلكها، فالإضافة بيانية.
(2)
انظر البيت في الإيضاح: 352.
قدم على المفعول الأول، وإما بمعنى الإصابة. وقوله: أرواحنا حال قدمت على صاحبها لنكارتها، وقيل: جمع لها وأضيفت إلى المنايا وهي اللحمة المشرفة على الحلق، ويؤيده رواية يد المنايا، فقد أخذ المعنى كله مع بعض الألفاظ أعني المنية، ومرادف الفراق، ومرادف لم يجد ومرادف النفوس أعني الأرواح، وحكم الشارح بأن أخذ المرادف ليس إلا في الأرواح، وأما الفراق والمنية والوجدان فمن أخذ بعض الألفاظ بعينه محل نظر، ولا يخفى أن بيت أبي الطيب أفضل حيث حصر اهتداء المنايا إلى الأرواح في دلالة الفراق عليها بخلاف بيت أبي تمام فإنه جعل الفراق دليلا على تقدير خبره المنية له مطلقا، وحيث أفاد أن لا موت مع الوصال؛ إذ لا سبيل للموت إلا حال الفراق.
قال الشارح: وقوله: فهو أبعد من الذم إنما هو على تقدير أن لا يكون في الثاني دلالة على السرقة باتفاق الوزن والقافية، وإلا فهو مذموم جدا، كقول أبي تمام:
يقيم الظّنّ عندك والأماني
…
وإن قلقت ركابي في البلاد
وما سافرت في الآفاق إلا
…
ومن جدواك راحلتي وزادي (1)
وقول أبي الطيب:
وإنّي عنك بعد غد لغادي
…
وقلبي عن فناؤك غير عاد
محبّك حيثما اتّجهت ركابي
…
وضيفك حيث كنت من البلاد (2)
وهذا وفيه نظر؛ لأن المذمومة جدا مع الدلالة على السرقة مما لا ينبغي أن يخص هذا القسم الثاني، مما أجد فيه بعض اللفظ وكله، مع تغيير النظم، بل يجب أن يشرك بينه وبين القسم الثاني أيضا، فهذا القسم مع الدلالة على السرقة أيضا أبعد من الذم من القسم الثاني، فلا حاجة إلى تقييد قوله، فهو أبعد مما إذا لم تكن دلالة على السرقة، وأظن أنه سها في هذا المقام حيث قال المصنف في الإيضاح في هذا المقام: واعلم أن من هذا الضرب ما هو قبيح جدا، وهو ما يدل على السرقة باتفاق الوزن.
(1) البيتان في الإيضاح: 352 لأبي تمام. الأماني معطوفة على الظن. جدواك: عطائك.
(2)
البيتان في الإيضاح: 353.
والثانية أيضا كقول أبي تمام إلى آخر الأبيات المذكورة، فحمل الشارح قوله:
هذا الضرب على القسم الثالث من المسخ، والأظهر: أنه أراد بهذا الضرب ضرب المسخ من السرقة بأقسامها، لأن علة القبح مشتركة، وهي الدلالة على السرقة، ولما فرغ من الضرب الأول من النوع الظاهر من الأخذ والسرقة شرع في الضرب الثاني منه وهو أن يؤخذ المعنى وحده فقال.
(وإن أخذ المعنى وحده) وهو عطف على قوله: وإن أخذ اللفظ (يسمى) أي ذلك الأخذ (إلماما).
قال الشارح: من ألم بالشيء إذا قصده، وأصله من ألم بالمنزل إذا نزل به، هذا ووجه التسمية أنه قصد بلفظه معنى الغير، ولا يبعد أن يجعل الإلمام منقولا من مباشرة اللمم، لأنه بالنظر إلى أخذ اللفظ والمعنى بمنزلة اللمم من الكثرة.
(وسلخا) وهو نزع الشيء عن الشيء فكان لفظ الثاني نزع المعنى من اللفظ الأول.
وقال الشارح: النزع هو كشط الجلد عن الشاة، واللفظ للمعنى بمنزلة الجلد، فكأنه كشط من المعنى جلدا وألبسه جلدا آخر، هذا والسلخ جاء بكلا المعنيين.
(وهو ثلاثة أقسام كذلك) أي كذلك المذكور من الأقسام يعني ممدوحا ومذموما وأبعد من الذم، كما عرفته، وفي الشرح فسر كذلك بمثل ما يسمى إغارة ومسخا، وما ذكرنا أنسب بمقام معنيي الأقسام:
(أولها) أي أول الأقسام، وهو ما يكون ممدوحا لكون الثاني أبلغ من الأول (كقول أبي تمام:[هو] ضمير الشأن (الصنع) أي الإحسان وهو مبتدأ خبره الجملة الشرطية [(إن يعجل فخير وإن يرث) أي يبطر [فللرّيث في بعض المواضع أنفع](1) وقول أبي الطيب: [ومن الخير بطؤ سيبك]، أي تأخير عطائك [(عنّي أسرع السّحب في المسير الجهام]) (2) الجهام بالفتح: السحاب الذي لا ماء فيه، كذا في الصحاح وفي القاموس أوهراق ماءه يعني تأخر عطائك عني يدل على
(1) البيت أورده القزويني في الإيضاح: (353). هو: ضمير الشأن. الصنع: الإحسان. إن يرث: إن يتأخر ويبطىء. الريث: البطء.
(2)
البيت في الإيضاح: (353). سبيك: عطائك. الجهام: السحاب لا ماء فيه.
عظم نفعه، كالسحاب الذي يبطؤ في سيره، فإن نفعه كثير.
فبيت أبي الطيب مع اشتماله على زيادة بيان للمقصود بضرب المثل له بالسحاب يتضمن بسببه تشبيهه بالسحاب الماطر في كثرة منافعه، وفي إحياء الموهوب له كإحياء السحاب الأرض.
(وثانيها): أي ثاني الأقسام وهو ما يكون مذما لكون الثاني دون الأول (كقول البحتري: [إذا تألّق]، أي لمع ([في النّدى]) في الصحاح: الندى على فعيل، لكن في القاموس كفتى، هو مجلس القوم ما داموا فيه، فإن تفرق القوم فليس بندى، والشعر يساعد الصحاح ([كلامه المصقول])(1) أي المجلو، في الشرح فيه استعارة بالكناية، حيث شبه الكلام بالسيف، وأثبت له التألق والصقالة كإثبات الأظفار للمنية، وفيه أن إثبات اللمعان أو الصقالة تخييل، والآخر ترشيح، إذ التخييل لا يكون إلا واحدا.
والأوجه: أنه شبه الكلام بالبريق الصافي عن الكدر، وأراد بكونه مصقولا خلوصه عن الكدر، وأثبت اللمعان والخلوص عن شائبة الكدر، وجعل ذلك البريق ظاهرا من لسانه الذي كالسيف القاطع المصقول، وجعله بعضا من السيف، لأن اللسان يشبه رأس السيف، وضمن وصفه بكمال الفصاحة، وكون كلامه ماضيا كون سيفه قاطعا، ووصفه بالشجاعة، فليس فضل بيت البحتري في مجرد اشتماله على الاستعارة والتخييلية كما ذكره المصنف في الإيضاح، وتبعه الشارح، بل فيه تشبيهات دقيقة واستتباع لطيف أيضا.
(وقول أبي الطيب:
كأنّ ألسنتهم في النّطق على
…
رماحهم في الطّعن خرصانا) (2)
في الشرح: خرصان الشجر قضبانها، وخرصان الرماح أسنتها واحدها خرص بالضم والكسر، يعني لفرط مضيّ أسنة رماحهم ونفاذها كأن ألسنتهم عند النطق
(1) البيت في الإيضاح: (354). وتمامه:
......
…
خلت لسانه من عضبه
(2)
البيت أورده القزويني في الإيضاح: (354). خرصانا: مفعول ثان ل «جعلت» ، والخرصان: أسنة الرماح، واحدها خرص، يشبه ألسنتهم في الذرابة بأسنة رماحهم الماضية.