الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكور، أو كلاهما، وإما أن يكون عقيما، يبقى ما يكون له أنثى واحدة وذكر واحد ويكون له كلاهما، وإرادة الجنس بالجمع المنكر بعيد، وأيضا إذا جعل ضمير (يزوجهم) للفرقتين السابقتين بقي قسم آخر وهو تزويج الذكور والإناث لغيرهما، ويمكن دفعه بأن من يشاء سابقا مأخوذا على وجه لا يخرج عنه شيء.
هذا ثم في الآية تقسيمان: أحدهما استيفاء أقسام الإنسان وثانيهما استيفاء أقسام الولود. قال صاحب الكشاف: إنما قدم ذكر الإناث لأن سياق الآية يدل على أنه تعالى يفعل ما يشاء لا ما يشاءه الإنسان، فكان ذكر الإناث الآتي من جملة ما لا يشاءه الإنسان أهم، لكنه يجبر تأخير الذكور، عرفهم لأن في التعريف تنويها بالذكر، وكأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الذين لا يخفى عليكم، ثم أعطى كلا الجنسين حقهما من التقديم والتأخير تنبيها على أن تقديم الإناث لم يكن لتقدمهن؛ بل لمقتضى آخر.
هذا ويمكن أن يقال: سوق الآية يدل على أن الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا، مواهبه تعالى، يجب الشكر عليها، ولما كانوا يبغضون الإناث قدمهن في جعلها موهبة، لأنها أهم في المقام وأحرى بالاهتمام، ونكرها لأن اللائق بشأنهن الستر والمجهولية، بخلاف الذكور؛ فإن اللائق بهم التعين والظهور، ثم ذكرهما على ما يقتضيه أنفسهما من التنكير والتقديم والتأخير.
[ومنه التجريد]
(ومنه: التجريد، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها): لا يشمل بظاهره نحو: لقيت من زيد وعمرو أسدين، ولا نحو: لقيت من زيد أسدين أو أسودا، فالأولى أن يقال: من أمر ذي صفة، أو أكثر أمر آخر، أو أكثر مثله.
[ومنه المبالغة المقبولة]
(مبالغة لكمالها فيه)(1) أي لأجل المبالغة بكمال تلك الصفة، ولو قلت:
لقيت من فلان في ذلك الأمر حتى كأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة، إلى
(1) اعترض على هذا التعريف بأنه لا يشمل ما كان من التجريد نحو: «لا خيل عندك تهديها ولا مال» ؛ لأنه لم يجرد شيئا مثل نفسه في صفة من الصفات، وإنما جرد من ذاته ذاتا أخرى من غير اعتبار صفة، فالأحسن تعريف التجريد بأنه انتزاع أمر من آخر مطلقا، والأحسن أيضا أن تجعل نكتتة العامة التفنن في الأسلوب كالالتفات لتقاربهما، وإن كان مبنى الالتفات على اتحاد المعنى، ومبنى التجريد على التغاير بينهما بحسب الاعتبار. [بغية الإيضاح 4/ 39].
حيث ينتزع منه موصوف آخر بتلك الصفة، ولو قلت: لقيت من فلان أسدا؛ للتهكم كما تقول للجبان ما أشبهه بالأسد- لا يصح فيه إنه انتزع منه مبالغة لكمالها فيه؛ بل مبالغة لنقصانها فيه، فيلزم خروجه عن تعريف التجريد إلا أن يتكلف بإنه لأجل المبالغة في الكمال تهكما، ولزم من تلك المبالغة المبالغة في النقصان، وبعد يتجه أنه كما إن التجريد يفيد المبالغة الاستعارة أيضا تفيد المبالغة، فالذي أوجب جعل الثاني من دواخل البلاغة والأول من توابعها، وأنه لا معنى لجعل التجريد مقابلا للمبالغة المقبولة- وعد كل منهما محسنا برأسه، بل هو أيضا من صور المبالغة، ومبني هذا التعريف على أن التجريد بدعوى إمكان الانتزاع من أمر ذي صفة آخر مثله. وأما لو كان بدعوى تجسم الشجاعة في زيد مثلا وصيرورته أسدا، وكذلك تجسم صفات كمال أخرى فيه وجعلها أجساما أخر حتى صار زيد كجماعة فتقول: لقيت من زيد أسدا أي أسد بعض زيد هو جماعة من الأسد، والبحر، والحاتم، مثلا بدعوى أنه تجسم فيه الشجاعة بالأسد والعلم والبحر والكرم لحاتم، فإذا لقيته لقيت جماعة كلا منهم الأسد، وتقول لقيت فيه أسدا، ولقيت فيه بمعنى فيه أسد على ما أظن لم ينطبق عليه التعريف، ولا يخفى أن اعتبارنا أقرب وأدق فاحفظه قاطعا ربقة التقليد فإنه أحب، وبالمصلحة أوفق.
(وهو) أي: التجريد (أقسام: منها نحو قولهم: لي من فلان صديق حميم) يريد بهذا القسم ما يكون بكلمة (من) وبعض النحاة جعل التجريد من نواحيها، وبعضهم جعله راجعا إلى الابتداء، وقد جعلناها تبعيضية فتذكر، وأيّا يعجبك اختر، والصديق الجيب يستوي فيه الواحد والواحدة والتثنية والجمع، وقد يفرق بين المذكر والمؤنث بالتاء، والحميم القريب، وقد يكون للجمع والمؤنث.
(أي بلغ من الصداقة) أي المحبة (حدا أي طرفا أصبح معه) أي مع ذلك الحد (أن يستخلص منه) أي: من فلان (آخر) أي صديق حميم (مثله فيها) أي: في الصداقة الكائنة مع القرابة.
(ومنها نحو قولهم: لئن سألت فلانا) يحتمل أن يكون سؤال رفع الحاجة فيكون التشبيه بالبحر في السماحة، وأن يكون سؤال رفع الجهل فيكون التشبيه
بالبحر في كثرة العلم (لتسألن به البحر) وأراد بنحو قولهم ما يكون بالباء الداخلة على المنتزع منه إذ ما يكون مع الباء الداخلة على المنتزع قسم آخر في مقابلة هذا القسم، وإنما لم يجعل التجريد مع «من» قسمين كالباء؛ لأنه لم يجد فيه القسم الثاني. وجعل بعضهم «الباء» للتجريد، وبعضهم للسببية، وقد جعلناها بمعنى «في» فتذكر. وقال الرضى: إن نحو: لقيت من زيد أسدا، ونحو: لتسألن به البحر، على حذف مضاف. أي: لقيت من لقاء زيد ومن جهته أسدا ولتسألن بسؤاله البحر، والغرض: التشبيه بالأسد والبحر.
وقال الشارح المحقق: هذا التقدير ضعيف في مثل قولنا: لي من فلان صديق حميم؛ لفوات المبالغة في تقدير حصل لي من حصوله صديق هذا، يعني:
تشبيهه بالصديق يفوت المبالغة في الصداقات، وهو صديق.
قلت: يفوت المبالغة لو كان هذا الكلام في حق الصديق الحميم، أما لو كان في حق الصديق الذي ليس بحميم، أو في حميم ليس بصديق، أو في من ليس شيئا منهما، فالمبالغة متحققة، فيجوز أن لا يقع مثله إلا في من ليس متصفا بمدخول حرف التجريد، ويكون شبيها به.
(ومنها نحو قوله: ) في كون المنتزع مما دخله «باء» المعية (وشوهاء) أي:
ربّ شوهاء، وهي من الخيل: الطويلة الرائعة، أو المفرطة رحب الشدقين والمنخرين، وكل منهما صفة محمودة في الخيل. (تعدو بي) أي: تسرع. (إلى صارخ الوغى) أي: مستغيث في الوغى: وهو الحرب (بمستلئم) أي: لابس لامة وهي: الدرع، و «الباء» للملابسة أو المصاحبة. (مثل الفنيق) هو:
الفحل المكرم عند أهله (المرحّل) من رحل البعير: أشخصه عن مكانه وأرسله.
أي: تعدو بي ومعي من نفسي لابس درع لكمال استعدادي للحرب.
بالغ في استعداده للحرب حتى انتزع منه مستعدا آخر لابس درع، هذا هو المشهور.
ويمكن أن يكون: (بمستلئم) متعلقا بقوله: صارخ الوغى. أي: مستغيث في الحرب مستعد له، بحيث ينتزع منه مستعد آخر، وذلك أبلغ في وصفه بالشجاعة؛ لأنه جعله في غاية الكمال إلى أن بلغ بحيث يسرع إلى مستغيث
يستغيث مع كمال استعداده، ولا يخاف ممن اضطر في يده مثل ذلك المستغيث، وعلى التقديرين يحتمل أن يريد بالفنيق: المرحل، المنتزع منه، فيكون مشبها للصورة المنتزعة بالمنتزع منه، في كونه فحلا مكرما، مشخصا من مكانه، مرسلا إلى جانب العدو.
(ومنها) ما يكون بدخول «في» على المنتزع منه (نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ (1) أي: في جهنم وهي دار الخلد).
قال الشارح: لكنه انتزع منها دارا أخرى، وجعلها معدة في جهنم لأجل الكفار؛ تهويلا لأمرها ومبالغة في اتصافها بالشدة، هذا وفيه نظر، لأن انتزاع دار الخلد يفيد المبالغة في الخلود، لا في الشدة، ثم إنه يمكن أن لا تكون «في» للانتزاع، بل تكون لإفادة أن دار الكفار ومنزلهم بعض من جهنم، وكيف لا، وكثير منها مشغول بالفساق من المسلمين، بل هي أوسع أن يشغلها جميع من دخلها قال تعالى: هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (2).
(ومنها نحو قوله: ) أي: قول قتادة بن مسلمة الحنفي. قال الشارح: أي ما يكون بدون توسط حرف هذا، ولا يخفى أنه لا تقابل بينه وبين ما سيأتي، فالمراد: ما يكون بدون توسط حرف ومدخلية كناية، ومن غير مخاطبة الإنسان لنفسه. (فلئن بقيت لأرحلنّ) رحل كمنع. بمعنى: انتقل (بغزوة تحوي الغنائم) أي: تجمعها صفة غزوة، والفاعل ضميرها أو الضمير محذوف، أي:
تحوى فيها الغنائم، وهو التفات من المتكلم إلى الخطاب، ففي البيت ثلاثة التفاتات كل منها من قسم، وروي «نحو الغنائم» وجعله في شرح الحماسة أصلا.
وقوله: «تحوي الغنائم» رواية بعض، وهو يوجب كون:(أو يموت كريم) لغوا مستغنى عنه بقوله: «فلئن بقيت» فإنه منصوب بمعنى: إلا أن يموت كريم، وحينئذ يجب أن يجعل الاستثناء من جميع الغنائم، لا من الرحلة وإلا لغا، فتأمل.
(1) فصلت: 28.
(2)
ق: 30.
ولو لم تتحقق الرواية من الشاعر بالنصب لأمكن أن يرفع عطفا على (تحوي) أي: غزوة تجمع الغنائم أو أستشهد فيها، عبر عن قتله بالموت إشارة إلى أنه أرفع من أن يقتله الخصم، بل يموت لتحقق الأجل، وبالجملة عبر عن نفسه بالكريم إشارة إلى أنه بلغ في الكرم إلى حدّ صح أن ينتزع منه كريم آخر مثله، ولهذا لم يقل: أو أموت.
قال الشارح المحقق: وهذا بخلاف قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ (1) إذ لا معنى للانتزاع فيه، هذا كلامه.
والفرق خفي، ويجوز أن يكون:«أو يموت كريم» من وضع الظاهر موضع المظهر للتعظيم. فتأمل.
(وقيل: تقديره: أو يموت مني كريم) فيكون من القسم الأول (وفيه نظر) وهو: إما ما قال الشارح: من أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لحصول التجريد بدونه، وإما أنه يجوز أن يكون التقدير: أو يموت بي كريم، فلا وجه للجزم بأنه من القسم الأول.
وقال الشارح: وبهذا يسقط ما قيل: إنه أراد أن في كون البيت من التجريد نظرا؛ لأنه من باب الالتفات، وردّ بأن التجريد لا ينافي الالتفات، بل هو واقع بأن يجرد المتكلم نفسه من ذاته ويجعلها مخاطبا لنكتة كالتوبيخ في (تطاول ليلك بالإثمد)(2)
والنصح في قوله.
أقول لها إذا جأشت وجاشت
…
مكانك تحمدي أو تستريحي
هذا كلامه، ويؤيده: بأنه لو كان النظر ما قيل لم يكن لتخصيصه بالبيت وجه، بل يتجه على كون مخاطبة الإنسان نفسه تجريد، إلا أنه التفات إلا أن يقال: التفات عند السكاكي دون الجمهور.
(1) الكوثر: 1، 2.
(2)
صدر بيت لامريء القيس، وتمامه:
ونام الخلي ولم ترقد
والبيت من المتقارب وهو في ديوانه وخزانة الأدب (1/ 280).
ويردّ عليه: أن الالتفات من باب المعاني، فكيف يكون تجريدا معدولا في البديع، ويمكن أن يدفع بأن أصل الالتفات من باب المعاني، ووجوده بطريق التجريد من البديع، حتى لو لم يعتبر في الالتفات تجريد لم يخرج عن البلاغة لكان باب محسن.
وذكر المحقق شريف زمانه: أن مبنى التجريد على دعوى المغايرة والالتفات لإرادة معنى واحد في هيآت مختلفة، فمبناه على دعوى الاتحاد، فلا يجتمعان، نعم الرد مردود بمنع التجريد بكونه التفاتا، وما ذكره ضعيف؛ لأن إرادة المعنى الواحد في الواقع في صور لا تنافي دعوى التعدد.
(ومنها ما يكون) أي منتزع يكون مذكورا (بطريق الكناية): وفيه أنه لا تقابل بين ما يكون بحرف وما يكون بطريق الكناية، فإنه ما يكون بحرف أيضا قد يكون بطريق الكناية، نحو: لقيت من زيد طويل النجاد، وأيضا المنتزع قد يذكر بطريق الحقيقة نحو: لقيت من زيد عالما، وقد يذكر بطريق المجاز نحو: لقيت من زيد أسدا، وقد يذكر بطريق الكناية فجعل ما هو بطريق الكناية من الأقسام دون غيره لا بدّ له من داع، (نحو قوله: يا خير من يركب المطيّ) هو جمع مطية بمعنى: الدابة التي تمطو، أي: تسرع في سيرها (ولا يشرب كأسا بكفّ من بخلا) صفة كأس أو متعلق بيشرب، ذكر شربه بكف الجواد بطريق الكناية؛ لأنه إذا لم يشرب بكف بخيل وهو يشرب فيشرب بكف الجواد، وفيه بحث من وجهين:
أحدهما: أن نفي الشرب بكف البخيل لا يستلزم الشرب بكف الجواد، لثبوت الوساطة بين البخيل والجواد، ودفع بأن الاستلزام بمعونة المقام.
وثانيهما: أن إسناد الشرب بكف الجواد إلى نفس ذلك الجواد لا يقتضي انتزاع جواد منه كما أن قولنا: يا من يشرب بكفه، لا يقتضي انتزاع شخص آخر منه، فالقول بالتجريد قول بلا ثبت، ولذا قيل: إن الخطاب إن كان لنفسه فهو تجريد، وإلا فليس من التجريد في شيء، وإنما هو كناية عن كون الممدوح غير بخيل، فلا يرد ما أورده عليه الشارح المحقق: أن كونه كناية لا ينافي التجريد، وأنه إن كان خطابا لنفسه لم يكن إلا القسم المذكور بعده؛ لأنه مخاطبة الإنسان
نفسه بأن ينتزع من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سبق بها الكلام، على أنه لا يضر المعترض كونه عين ما جعل قسيما له؛ لأنه داخل في اعتراضه، وإن لم يصرح به، نعم يمكن إثبات التجريد بأنه يتبادر من قولنا: يا من يشرب بكف جواد جواد غيره، فبمقتضى مقام المدح إذا حمل على نفسه فالأولى أن يحمل على الانتزاع؛ لئلا يخرج بالكلية عن المغايرة المفهومة منه، مع أنه أبلغ من وصفه بالجود، وأنسب بما هو المقصود من الكناية، أعني: إيراد المعنى مستورا في لباس مزين.
(ومنها مخاطبة الإنسان نفسه) أي: تجريد في وقت مخاطبة الإنسان نفسه، ففي العبارة مسامحة، ولا خفاء في أنه ليس إلا تجريدا في صورة الالتفات على مذهب السكاكي، فمنها: إخبار الإنسان عن نفسه بطريق الغيبة، (كقوله: ) أي: أبي الطيب (لا خيل عندك تهديها) للممدوح (ولا مال فليسعد النّطق) بمدحه (إن لم تسعد الحال) أي: حالك، وهي: الفقير، إذ الفقر لا يسعد للإهداء، وإنما يسعد الغنى وهو عادته، فتفسير الحال بالغنى ليس كما ينبغي، والظاهر تفسيره بالفقر، ولك أن تحمل إسعاد النطق على العذر بالفقر في عدم الإهداء.
(ومنه المبالغة المقبولة) بخلاف المردودة، فإنها لا تكون من المحسنات، وفي عددها من المحسنات رد على من ردها مطلقا، وفي التقييد بالمقبولة رد من قبلها مطلقا، والشارح جعل التقييد بالقبول ردا عليهما، وأما ما يقال في رده مطلقا:
إن خير الكلام ما جاء على منهج الصدق، كما يشهد له قول حسان.
وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه
أي: شعر المرء على المجالس إن كيّسا وإن حمقا.
فإنّ أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
أي: صدق صدقا، ففيه: أنه فليكن المقصود: أن أشعر بيت ما يروج بحسن نظمه معناه، بحيث يعترف السامع بصدقه وإن كان كاذبا.
وأما ما يقال في قبولها مطلقا: إن أحسن الشعر أكذبه، قضية مشهورة اشتهرت بين العقلاء وتلقاها بالقبول معاشر الفضلاء، وأن خير الكلام ما بولغ
فيه، ولهذا استدرك النابغة علي حسان في قوله.
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
حيث استعمل في وصفه بالكرم «الجفنات» وقيدها بوقت الضحى، وهو وقت تناول الطعام، والمبالغة تقتضي جمع الكثرة ووجودها في كل وقت، وحيث قال في وصف شجاعته:«الأسياف» ، والمبالغة السيوف، ووصفها ب «القطر» ، والمبالغة الوصف بالسيلان، ففيه: أن أحسن الشعر أكذبه بالاشتمال على كذبات مقبولة لا تمجّها ذائقة الأسماع، ولا يتأذّى منها بالاستماع، وخير الكلام ما بولغ فيه بالمبالغة المقبولة، وأما استدراك النابغة على حسان فليس بحسان، لأنه بعد أن الحسان ممن يلتزم الصدق في الشعر، كما استدل عليه بشعره السابق أن استعارة القلة للكثرة غير غزيرة وفي وصف «الجفنات» ب «الغر» الذي هو جمع كثرة نوع إيضاح لها، وفي تقييد لمعان الجفنات في هذا الوقت مع كثرة الآكلين فضلا عن الأوقات الأخر، وصف السيف ب «القطر» هو الشائع دون وصفه بالسيلان، على أن كمال الشجاعة أن يقطع السيف سريعا، بحيث يتخلص من العضو قبل أن يصل إليه الدم، ويختلط به كثيرا، وبالجملة فالمصنف اختار مذهب القصد كما قال بعضهم: أحسن الشعر أقصده؛ لأن على الشاعر أن يبالغ فيما يصير به القول شعرا فقط، فما استوفى أقسام البراعة والتجويد أو جلّها، من غير غلو في القول، ولا إحالة في المعنى، ولم يخرج الموصوف إلى أن لا يوصف بشيء من أوصافه، لظهور الشرف في أبياته، وشمول التزيين لأقواله كان بالإيثار والانتخاب أولى.
وخالف في هذا الإيثار أكثر العلماء القائلين للشعر العالمين به، فإنهم اختاروا الغلو؛ لأن القائل البليغ إذا أدخل في بيانه المبالغة وأسقط عن نفسه مطابقة الوصف والموصوف، ورعاية المماثلة؛ اشتد فيما يأتيه إلى أعلى الرتبة، وظهر قوته في الصياغة، وتمهّره في الصناعة، فتصرف في الوصف كيف يشاء؛ لأن العمل عنده على المبالغة والتمثيل، لا المصادقة والتحقيق، كذا ذكره الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وجعل دليل من قال: أحسن الشعر أصدقه، أن تجويد قائله فيه مع كونه في آثار الصدق يدل على الاقتدار والحذق، وأشار إلى تفسير المبالغة
مطلقا وإلى تقسيمها لتتعين المقبولة والمردودة، ولذا لم يقل: وهي، بل قال:
(المبالغة أن يدعي لوصف بلوغه في الشدة والضعف حدا).
أما مفعول بلوغه كما قال الشارح: وحينئذ بلوغه فاعل يدعى، وأما مفعول يدعى وفاعله لوصف، وبلوغه بدل منه (مستحيلا أو مستبعدا)، قال الشارح: وإنما يدعي ذلك (لئلا يظن أنه) أي: ذلك الوصف (غير متناه) أي: في الشدة أو الضعف، وتذكير الضمير باعتبار عوده إلى أحد الأمرين المستفاد من كلمة «أو» وليس المستفاد أحد الأمرين مع تأنيث الشدة لتغليب الضعف لتذكيره، أو لتأويلهما بالأمرين، فسوق كلام الشارح دلّ على أن التعريف تمّ قبل التعليل، والتعليل بيان لفائدة المبالغة، وبهذا اندفع أن المبالغة المطلقة لا يشترط فيها أن يكون لهذا الغرض، وإنما كونها لهذا الغرض من شرائط قبولها، ونحن نقول: قوله «لئلا يظن» احتراز عن دعوى بلوغ الوصف حدّا مستحيلا، أو مستبعدا، لإفادة الواقع، لا لدفع الظن، فالدعوى المذكورة إنما تكون مبالغة إذا لم يقصد بها حقيقة الدعوى، بل دفع الظن، فإن كان المقام مقام المظنة فالمبالغة مقبولة، وإلا فمردودة، وجعل التبليغ والإغراق مقبولين مطلقا، بمعنى: قبولهما مطلقا في مقام المظنة، هكذا حقق المرام من كلام ذوي الأحلام.
(وتنحصر) أي: المبالغة لا بمجرد الاستقراء، بل بدليل قطعي، كذا في المختصر (في التبليغ والإغراق والغلو؛ لأن المدعى إن كان ممكنا عقلا وعادة) لو اكتفى بقوله:(عادة) لكفى، إذ الإمكان عادة يستلزم الإمكان عقلا (فتبليغ) والإمكان العادي: أن يكون الإمكان بحكم الوقوع في أكثر الأوقات أو دائما، فدخل في الإمكان عقلا ما يحكم بإمكانه العقل، أو وقوعه نادرا، لكنه خلاف العبارة، ولو لم تحمل العبارة عليه لبطل الحصر، والدليل:(كقوله) أي: امريء القيس يصف فرسا بأنه لا يعرق بكثرة العدو (فعادى عداء) العداء بالكسر: المولاة بين الصيدين، يصرع أحدهما على إثر الآخر في طلق واحد (بين معمول عادي لا عدا) كما عرف في محلّه (ثور) أي: ذكر من البقر الوحشي (ونعجة) أي: الأنثى منها (دراكا) أي: متتابعا (فلم ينضح بماء) أي
لم يترشح بماء، فلم يغسل بالماء (فيغسل) مجزوم على أنه عطف على مدخول «لم» .
وفائدة قوله: «فيغسل» : ضبط المبالغة عن الخروج عن حد الإمكان عادة؛ لأن عدم النضح مطلقا خارج عن حد العادة، لكن عدم النضح المستعقب لعدم الغسل داخل في حدّ العادة.
بالغ في عدم عرق هذا الفرس، بأنه بلغ حدّا مستبعدا، حيث عدا عدوا كثيرا، حتى صرع ثورا فنعجة بلا توقف بينهما، ولم يعرق عرقا بالغا حدّ الغسل، وذلك ممكن عادة، لكنه مستبعد.
(وإن كان ممكنا عقلا لا عادة فإغراق كقوله: ونكرم جارنا ما دام فينا) أي: ما دام في بيوتنا أو في جوارنا. ويؤيد الثاني قوله: (ونتبعه الكرامة حيث مالا) ادعى بلوغه في إكرام الجار حدّا يتبع الكرامة والعطاء على أثره، حيث مال، وهذا ممكن عقلا، لا عادة (وهما مقبولان) مطلقا من غير شرط، وقد عرفت معناه فتذكر.
(وإلا) أي: وإن لم يكن لا عادة ولا عقلا (فغلو كقوله: ) أي: أبي نواس، كخداع، الحسن بن هانيء الشاعر:
(وأخفت أهل الشّرك حتّى إنّ
…
هـ لتخافك النّطف التي لم تخلق)
بالغ في إخافة الممدوح أهل الشرك، بأنه بلغ في الشدة إلى أن خافه النطف التي لم تخلق، عبر عن الماضي بالحال حكاية، وهذا ممتنع عقلا وعادة، وكأنه مثّل به ولم يكتف بأمثلة الأقسام؛ لأن المبالغة ردت حيث لم يدخل عليها ما يقربها إلى الصحة، ولم يتضمن تخييلا حسنا، ويمكن أن يقال: يريد الشاعر:
«أنه يخافك» : أن النطف التي لم تخلق، فلا تخرج من خوفك إلى ساحة الوجود، فيتضمن تخييلا حسنا، وأن يقال: ليس من الغلو؛ لأن المراد بقوله:
«تخافك» المستقبل، يعني: تخافك النطف التي لم تخلق في وقت إخافتك في الاستقبال بعد وجودها، وبلوغها سنّ التمييز، وسماعها ما فعلت مع آبائهم.
(والمقبول منها أصناف، منها: ما أدخل عليه ما يقربه إلى الصحة نحو «يكاد» في: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (1) ومنها: ما يضمن نوعا
(1) النور: 35.