الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس مشفره غليظا فهو حكم كاذب، بخلاف ما إذا كان مجازا مرسلا (فاستعارة) انحصر المجاز في المرسل والاستعارة؛ لأنه لم يوجد مجاز يكون العلاقة المشابهة وغيرها معا؛ ولهذا أطلق قوله: وإلا فاستعارة وإلا فالاستعارة ما علاقة المشابهة لا غير، ويتجه عليه أنه لا وجه لتوسيط تقسيم المجاز بين قسمي التقسيم الأول له.
[الاستعارة واقسامها]
(وكثيرا ما) في نفسه لا بالقياس إلى المعنى السابق، حتى يكون المعنى السابق قل (تطلق الاستعارة) لم يضمر فاعل يطلق مع سبق ذكره؛ لأنه سبق مراد به معناه، والمراد هنا نفس اللفظ.
(على استعمال اسم المشبه به في المشبه)(1) الأولى على أخذ لفظ المشبه به للمشبه؛ ليستقيم أخذ المستعار منه، بلا تكلف، وليشمل استعارة الفعل والحرف، بلا تأويل، ولقد أكد ذلك الإطلاق بتفريع أثره عليه، فقال:(فهما) أي المشبه به والمشبه (مستعار منه ومستعار له، واللفظ) قد نبه على أنه أراد بالاسم اللفظ باستعماله فيما يقابل المسمى، لا ما يقابل الفعل والحرف (مستعار)؛ لأن اللفظ بمنزلة لباس طلب عارية من المشبه به؛ لأجل المشبه.
كذا في الشرح، والأولى لأنه كأمر طلب عارية، وقد وهم من قال: الأولى مستعار أيضا، أي كما أنه استعارة؛ لأن كونه استعارة ليس نتيجة الإطلاق المذكور، حتى يصح ذكر أيضا.
(والمرسل، كاليد في النعمة) بالكسر الخفض والدّعة، وبالفتح النعم.
قال المصنف: لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة، ومنها تصل إلى المقصود بها، ويشترط أن تكون في الكلام إشارة إلى المولى لها، يقال: اتسعت أيادي فلان عندي، ولا يقال اتسعت اليد في البلد، كما يقال: اتسعت النعمة فيها.
هذا، وينبغي أن يكون هذا الاشتراط مبنيا على عرف في استعمال اليد في النعمة، لا على توقف كونه مجازا عليه، وإلا لا نتقض تعريف المجاز بالصدق على
(1) هذا يقابل إطلاقها على الكلمة بحكم أنها قسم من المجاز، والحق أن هذا الإطلاق غير خاص بها؛ لأن المجاز كما يطلق على الكلمة يطلق على استعمالها.
يد مستعملة في النعمة من غير إشارة إلى المولى لها.
(وفي القدرة) والأولى أو القدرة تنبه، وهي صفة بها يتمكن العالم من الفعل والترك، فهي أخص من القوة، وهي صفة بها يتمكن الحيوان من مزاولة الأفعال الشاقة، وقد جمعهما المفتاح حيث قال: كما إذا أردت بها القوة أو القدرة، والمصنف رأى أن ذكر القوة غير ظاهر الجهة أو حشو فتركها؛ لأنها إما أن يريد بها المعنى المشهور، فاستعمال اليد فيها أقل قليل، وإما أن يريد بها القدرة، كما قيل فحشو.
قال المصنف: لأن أكثر ما يظهر سلطانها في اليد، وبها يكون البطش والضرب والقطع والأخذ، وغير ذلك من الأفعال التي تنبئ عن وجود القدرة ومكانها، والحاصل أن اليد بمنزلة العلة الفاعلية للنعمة، وبمنزلة العلة المادية أو الصورية للقدرة، وبهذا علم أن علاقة السببية والمسببية أعم من الحقيقية والتنزيلية، ولو جعلت اليد آلة لهما لم يبعد.
(والرواية في المزادة) هي وعاء يستقي به يطلق عليها الرواية التي هي البعير أو البغل أو الحمار يستقى عليه.
كذا في القاموس، فتفسير الشارح المزادة بالمزود الذي يجعل فيه الزاد، أي:
الطعام المتخذ للسفر سهو، والعلاقة كون البعير حاملا؛ لأنه كأنه العلة الفاعلية؛ لأنه به يصل المزادة إلى المستقي، ولما كان البحث عن المرسل في غاية العلة، ولذا قدمه على الاستعارة، وكان ذلك موهما لقلة استعماله، أزاح ذلك الوهم بتكثير الأمثلة، لكن ربما يشعر تكثير الأمثلة بأنه جرى على ما قيل أن المجاز يشترط فيه النقل كما في الآحاد حتى لا يجوز استعمال مجاز لم يسمع مع أن الصحيح أنه يتوقف على سماع نوع العلاقة حتى لا يجوز التجوز بعلاقة لم يسمع نوعها، وأما آحاد المجاز فلا يشترط فيه سماع دفعه بذكر تسعة أنواع من العلاقة من الأنواع الثلاثة والعشرين للمجاز المرسل، فإنهم ضبطوا أنواع العلاقة خمسة وعشرين اثنان للاستعارة الشكل، كما للفرس المنقوش والوصف، أعني: ما به الاشتراك غير الشكل والباقي للمجاز المرسل، وفي بعض شروح مختصر ابن الحاجب عدها سبعة وعشرين، ذكرناها في رسالتنا المعمولة في الاستعارة، مع مزيد تحقيق.
ولما اختار المذهب المختار كان حقه أن يستوفي أنواع العلاقة لتوقف العصمة عن الخطأ في التجوز على معرفتها، وكأنه اكتفى بذكر التسعة؛ لأنه اختار أن الأنواع خمسة، كما ضبط ابن الحاجب الشكل والوصف والكون عليه والأول والمجاورة، إلا أنه اكتفى عن ذكرها المجاورة بتعداد سبعة أقسام منها، من السببية والمسببية، والكلية والجزئية، والحالية والمحلية والآلية.
قال الشارح: أورد تسعة غير ما سبق، وما سبق لم يكن إلا السببية على ما حققه، وذكرنا لك فكأنه أراد بالمغايرة أن السابق سببية تنزيلية، وما ذكره سببية حقيقية لكن يأباه أنه قال: يرتقي ما ذكروا من أنواع العلاقة إلى خمسة وعشرين.
والمصنف قد أورد هنا تسعة غير ما سبق، فإنه يدل على أنه أورد تسعة من خمسة وعشرين، والسببية منها أعم من التنزيلية والحقيقية، وإلا لزادت على خمسة وعشرين، والظاهر من قوله:(ومنه) وبعض المجاز المرسل ففي الإخبار به عن (تسمية الشيء باسم جزئه) تسامح، لكنه تسامح أقرب مما وقع في المفتاح؛ حيث قال: المجاز المرسل نحو أن يراد الرجل بالعين، فالتوجيه إما أن يصرف منه عن التبعيض إلى الابتداء، أي: وناشئ من المجاز المرسل كذا، أو بحذف المضاف من المبتدأ، أي: منه ذو تسمية الشيء باسم جزئه.
وأما ما ذكره الشارح من أنه أعني أن في هذه التسمية مجازا مرسلا فوجهه خفي وتسمية الشيء باسم جزئه إنما يصح إذا كان الجزء مدارا في المعنى الذي قصد بالكل، كما أن مدار الرقابة على العين دون غيرها من الأعضاء، حتى لا يصح التعبير عن الرقب باليد، مثلا فلا يبعد أن يقصد بقوله:(كالعين في الربيئة) التقييد أيضا، والربيئة: الطليعة من رئابب القوم، إذا كنت طليعة لهم في مكان عال
(وعكسه كالأصابع) هي جمع أصبع بلغاتها التسع الحاصلة من ضرب حركات الهمزة في حركات الباء، ومن لغاتها: أصبوع، وجمعها: أصابيع. كذا في القاموس.
(في الأنامل) جمع أنملة بلغاتها التسع الواضحة من ضرب حركات الهمزة في حركات الميم، وهي من الأصبع ما فيه الظفر كذا في القاموس، وهو إشارة إلى
قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ (1) استعمل الأصابع في الأنامل؛ إذ ما يجعل في الأذن أنملة السبابة، هذا إذا أريد بأصابعهم تقسيم الجمع على الجمع كما هو المشهور.
أما لو أريد جعل كل منهم أصابعه في أذنه، ففيه ذكر الأصابع الخمس وإرادة أنملة، وفيه مزيد مبالغة كأنه جعل جميع الأصابع في الأذن، لئلا يسمع من الصواعق شيئا (وتسميته) أي: ومنه تسمية الشيء (باسم سببه نحو: رعينا الغيث) أي: النبات الذي سبّبه الغيث (أو مسببه) لم يقل: وعكسه تفننا، وكذا ذكر الواو في الأقسام تارة، وذكر أو أخرى (نحو: أمطرت السماء نباتا).
وشرط بعض في المسبب أن يكون غاية، فحينئذ يكفي ذكر تسمية الشيء باسم سببه، وأورد في الإيضاح من أمثلة تسمية السبب باسم المسبب قولهم: فلان أكل الدم.
قال الشارح: وظاهر أنه سهو؛ لأنه من تسمية المسبب باسم السبب؛ إذ الدم سبب الدية، والعجب أنه قال في تفسيره: أي الدية المسببة عن الدم.
هذا، ويمكن توجيه كلامه بأنه جعل الدية داعية إلى القتل، حتى لو لم يمكن رجاء النجاة بالدية لم يقدم القاتل بالقتل، ولا تنافي بينه وبين تفسيره؛ لأن المعلول من وجه قد يكون علة من وجه.
ألا ترى أن الغاية مسببة عن ذي الغاية فأشار إلى بيان مسببية الدية عن الدم، يعني أنها مسببة عنه؛ لأنه سببها في الخارج فلا تعجب من المصنف، وتعجب من الشارح، ثم تعجب؛ ولأنك معجبا برأيك الصالح، فإن الله هو الواهب الفاتح. (أو ما كان عليه) أي: تسمية الشيء باسم الشيء الذي كان هو عليه في الزمان الماضي (نحو: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ (2) اليتيم واليتمان في الإنسان من لا أب له، ما لم يبلغ الحلم.
وفي البهائم ما فقد الأم قبل استغنائه من الأم.
وإيتاء اليتامى أموالهم بعد الحلم، وهم ليسوا بيتامى حينئذ، فإطلاق اليتامى
(1) البقرة: 19.
(2)
النساء: 2.
عليهم بعلاقة أنهم كانوا يتامى من قبل.
(أو ما يئول إليه) أي: تسمية الشيء باسم ما يئول ذلك الشيء إليه في الزمان المستقبل (نحو: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً (1) أي: عنبا يئول إلى الخمر، إذ المقصود ليس خمرا.
هذا هو التفسير الظاهر الموافق لما ذكره جار الله، والبيضاوي.
وقال الشارح: أي عصيرا يئول إلى الخمر، وفيه خفاء؛ إذ العصر لا يتعلق بالعصير، كما لا يتعلق بالخمر إلا أن يئول العصر بالاستخراج بالعصر، ولا داعي إليه.
(أو محله) أي: تسمية الشيء باسم محله (نحو: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (2) النادي: مجلس القوم نهارا، أو المجلس ما داموا فيه، وفي التعبير عن أهل النادي به المبالغة في عجزهم عن الجواب كالنادي.
(أو حاله) أي: تسمية الشيء باسم حاله، فيكون على وتيرة نظائره، أو حال فيه كما هو الظاهر فيه (نحو: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ (3) أي: في الجنة) التي يحل فيها الرحمة، وفي التعبير عن الجنة بالرحمة دلالة على كثرة الرحمة فيها، حتى كأنها الرحمة نفسها (أو آلته نحو: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (4) أي: ذكرا حسنا) والتعبير عنه باللسان للدلالة على طلب ذكر لا ينقطع دلالته على خبره، كما لا تنقطع كلمات اللسان، وخص الآخرين بالتفسير بخفائهما.
فإن قلت: لم لا يجعل اللسان على حقيقتهما فيكون المعنى: «واجعل لي لسان صدق في الآخرين نافعا لي» ونفع اللسان بعده إنما هو بأن يذكر محاسنه.
قلت: لأن نسبة اللسان إلى الآخرين يكون باللام، لا بفى، بخلاف الذكر، فإن نسبته شاعت بفى، ويحتمل أن يكون المراد واجعل لي كلاما صادقا باقيا في
(1) يوسف: 36.
(2)
العلق: 17.
(3)
آل عمران: 107.
(4)
الشعراء: 84.
الآخرين أي: اجعل لي لساني متكلما بكلمات صادقة باقية في الآخرين بأن لا ينسى ولا ينقطع ولا يحرف.
ولا يذهب عليك أن العلاقة بتفصيلها معتبرة في الكناية أيضا؛ إذ لا فرق بين الكناية والمجاز عند المصنف إلا بامتناع المعنى الحقيقي في المجاز دون الكناية.
فإن قلت: كل من العلاقات لا يستلزم اللزوم، وقد سبق في مقدمة الفن أن كلا من المجاز والكناية لفظ أريد به لازم معناه.
قلت: لم تشترط العلاقة لتفيد اللزوم؛ إذ المعتبر اللزوم، ولو بالتأمل في القرينة، فلا يتوقف على العلاقة. فإن قلت: قد دل ما سبق على أن يذكر الملزوم وإرادة اللازم تحقق المجاز والكناية، فينبغي أن لا يتوقف على العلاقة.
قلت: ما سبق قاصر يجب أن يعتبر فيه ما يتم به.
فإن قلت: إذا اكتفى بالعلاقة واللزوم في الجملة، فأوجه اشتراطهم في الجزء أن يكون ملزوما للكل كالرقبة والرأس حتى لم يجوزوا إطلاق اليد على الإنسان.
قلت: ما سبق قاصر تجب العلاقة الجزئية بهذا الوجه لا مطلقا، لكن ينبغي أن يعلم أن مرادهم بكون الجزء ملزوما ليس كونه ملزوما بالمعنى المعتبر عند المصنف في المجاز والحقيقة، بل كونه متبوعا للكل حتى لا يوجد الكل بدونه؛ حيث قالوا: إن الرقبة ملزومة للإنسان؛ لأن الإنسان لا يوجد بدونها، بخلاف اليد، وهذا معنى الملزوم عند علماء البيان.
فإن قلت: ما من جزء إلا وشأنه أن الكل لا يوجد بدونه. قلت: هذا مشكل وإن أجابوا عنه بأن مبنى هذا على العرف فإن بعض الأجزاء مما لا يمنع فوته إطلاق اسم الكل عرفا كاليد، فإنها مع انتفائها يسمى الشخص إنسانا بخلاف الرأس؛ لأن العرف جعل الكل المسمى بالإنسان ما لم يعتبر فيه اليد مثلا، لا أنه مع اعتباره جزء جوز وجود الإنسان بدونه، وأطلق الإنسان.
ومما وقع للشارح المحقق في هذا المقام أنه اشتبه عليه الملزوم بهذا المعنى بالملزوم بمعنى سبق فاستعمله في تصحيح تحقق الملزوم بالمعنى السابق مع العلاقات.
فتمكن، ولا تتبع الزلة، وإن كنت مغلوبا خذ بربقة التقليد، فإنه ليس شأن من له فطنة ما إنما هو شأن بليد أي بليد.
(والاستعارة قد تقيد بالتحقيقية) عدل عن قول السكاكي، والاستعارة المصرح بها تنقسم إلى تحقيقية وتخيلية لوجهين: إما عن التقسيم إلى التقييد؛ فلأن التحقيقية قيد القسم لا نفسه؛ إذ لا يسمى القسم تحقيقية، بل استعارة تحقيقية.
وإما عن الاستعارة المصرح بها إلى الاستعارة، فلأن معنى التحقيقية محقق المعنى فبتقييد الاستعارة بالتحقيقية تخرج التخيلية؛ لأنه عند المصنف ليس لفظا فلا يكون محقق المعنى، وكذا الاستعارة بالكناية عنده نفس التشبيه المضمر في النفس، فلا يكون محقق المعنى، وأيضا ما هو الاسم هو الاستعارة التحقيقية المصرح بها التحقيقية، فلو قال: والاستعارة المصرح بها قد تقيد بالتحقيقية لأوهم ذلك وأفاد بلفظ «قد» إلى أن إطلاقها على الاستعارة التحقيقية قد تكون على إطلاقها؛ لتبادر الفهم إليها.
واعلم أن الاستعارة التخيلية تخرج بقيد التحقيقية عند السكاكي؛ لأن معناها شيء وهمي محض، كما ستعرف.
وأما الاستعارة بالكناية فإنما تخرج من المقيد؛ لأن المقيد بالتحقيقية عنده إنما تكون الاستعارة المصرح بها على ما عرفت، والاستعارة بالكناية داخلة في الاستعارة بالتحقيقية عند السلف؛ لأنه باللفظ المستعار المضمر في النفس، وهو محقق المعنى، ولا يذهب عليك أنه كما يقيد الاستعارة بالتحقيقية يقيد المستعار بالتحقيقي؛ لأن المستعار قد يكون تخييلا، وكذا الاستعارة بالمعنى المصدري، لكن لا لتحقق معناها، بل لتحقق معنى مستعار لها.
وعبارة المصنف لا يصلح أن يكون الاستعارة بالمعنى المصدري لإباء قوله لتحقق معناها عنه لا لإباء قوله كقوله: لدى أسد؛ لأنه مسامحة لا محالة؛ إذ المراد كأسد في قوله فليكن المراد كاستعارة أسد في قوله والضمير في قوله: (لتحقق معناها (1) حسّا أو عقلا) راجع إلى إفراد الاستعارة والمقيد سابقا إما لفظ الاستعارة عند من ليست مشتركة بالاشتراك المعنوي بين التحقيقية وبين التخييلية
(1) يعني به المعنى المجازي كما سبق، والمراد بالحسي هنا الحقيقي فلا يدخل فيه الخيالي، بل يدخل فيه الوهمي، ويكون من قسم الاستعارة التخييلية.
والمكنية عنده، وإما مفهومها عند القائل بالاشتراك المعنوي، فهناك استخدام.
ولقد نبه بهذا التعليل على حقيقة النسبة في التحقيقية، وهو أنه نسبة معنى الاستعارة إلى التحقيق فالحسي (كقوله) أي: قول زهير بن أبي سلمى:
[(لدي أسد شاكي السّلاح) في القاموس: شاك السلاح بتشديد الكاف، وشايكه وشاوكه وشاكيه: حديده، وفي الصحاح: شاك السلاح اللابس السلاح التام، وشائك السلاح وشاكيه: حديده، فقول الشارح: شاكي السلاح، أي:
تام السلاح لا يوافق شيئا منهما.
(مقذّف) هو كمعظم على ما في القاموس من رمى باللحم رميا إلى جسيم نبيل، وفسره الشارح بالشجاع أي: مرمى في الوقائع كثيرا تمامه (له لبد) كعنب جمع لبدة، وهو الشعر المتراكب بين كتفي الأسد، ويقال للأسد ذو لبدة، وفي المثل هو «أمنع من لبدة الإنسان» (أظفاره) جمع ظفره (لم تقلّم] (1) التقليم مبالغة القلم بمعنى القطع والمناسب أن يجعل المبالغة راجعة إلى النفي، ولا يجعل النفي داخلا على المبالغة ونظيره قوله تعالى: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (2) وتقليم الظفر كناية عن الضعف في حواشي الكشاف، فلان مقلوم الأظفار: أى ضعيف.
وفي المصراع مبالغات جعله ذا لبد فكأنه أسود؛ إذ لا يكون لأسد إلا لبدة وحصر اللبد فيه كما يفيده تقديم الظرف، والمبالغة في نفي الضعف.
(و) العقلي مثل (قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (3) أي الدين الحق) يوصف الدين بالحق لاشتماله على الأحكام المطابقة إذ الحق الحكم المطابق والدين أمر متحقق عقلا، وفي التعبير عنه بالصراط طلب الهداية التي تجعله كالمحسوس.
وذكر صاحب المفتاح في قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ (4) أن
(1) البيت لزهير في ديوانه: 23 من معلقته المشهورة التي يمدح فيها الحارث بن عوف، وهرم بن سنان. انظر البيت في الإيضاح: 254، 270.
(2)
ق: 29.
(3)
الفاتحة: 6.
(4)
النحل: 112.
الظاهر من اللباس عند أصحابنا الحمل على التخييل، وإن كان تحمل عندي أن يحمل على التحقيق، وهو أن يستعار لما يلبسه الإنسان عند جوعه من انتفاع اللون وتغيره ورثاثة هيئته.
هذا والمراد بقوله يحتمل: الاحتمال الذي يساوي التخييل، وينافي كون الظاهر، وإلا فالاحتمال لا ينافي الظاهر.
وهاهنا بحثان:
أحدهما: ما ذكره الشارح المحقق في هذا المقام، وهو أن الحمل على التحقيق مما ذكره الزمخشري؛ حيث قال: شبّه ما غشى الإنسان والتبس به من الحوادث باللباس؛ لاشتمال له على اللابس، إلا أنه يحتمل أن يريد بالحوادث الضرر الحاصل من الجوع، فيكون الاستعارة عقلية، وأن يريد انتفاع اللون ورثاثة الهيئة فيكون حسية كما ذكره السكاكي (1)، فلا يكون من عند السكاكي، وهذا البحث مما ذكره الإيضاح، إلا أنه قال: ظاهر كلام الزمخشري أنها عقلية، وظاهر كلام السكاكي أنها حسية، فالشارح خالف معه بأن كلام الزمخشري محتمل، وكلام السكاكي نص، وإن كان الحق معه في الأول، لكن ليس في الثاني؛ لجواز أن يكون ذكر انتقاع اللون ورثاثة الهيئة في كلام السكاكي على سبيل التمثيل، والأظهر أن مراد الزمخشري بالحوادث ما يعم الكل، ولا يخص بشيء من الحسي والعقلي. ويمكن دفع ما أورده الشارح بأن السكاكي أراد جمهور الأصحاب، ولم يرد بقوله عندي تخصيص الاحتمال بنفسه، بل إنه على خلاف جمهور الأصحاب موافق للزمخشري على أنه يمكن أن لا يريد بأصحابنا علماء المعاني، بل أهل عصره.
وثانيهما: ما ذكره السيد السند أن احتمال التخييل ركيك جدا لا يناسب بلاغة القرآن؛ فإن الجوع إذا شبه بشخص ضار، مجد فيما هو بصدده، فلا بد وأن يثبت له من لوازمه ما له مدخل في الإضرار دون اللباس الذي لا مدخل له فيه، هذا ويمكن دفعه بأن لباس الشخص ما يبرز فيه، فلما شبه الجوع بشخص أثبت له لباس يبرز فيه لا مطلق ما يكسوه، فإذاقة لباس الجوع عبارة عن إبرازها
(1) انظر المفتاح ص 201.
في معرض الجوع، وفيه إفادة أنها ابتليت بالجوع في الغاية، حتى كأنها نفس الجوع وبارزة في لباسه وظاهرة في معرضه؛ وللآية تتمة بحث يمنع من بيانه خوف الإسام، فليرجع إلى شروح «المفتاح» من أراد التمام.
وقد تم تصوير الاستعارة بما مر إلا أنه ذكر المصنف في الإيضاح هنا تعريفا له فقال: فالاستعارة ما تضمن تشبيه معناه بما وضع له، والمراد بمعناه ما عني به، أي: ما استعمل فيه فلم يتناول ما استعمل فيما وضع له وإن تضمن التشبيه به نحو أسد زيد، ورأيته أسدا، لاستحالة تشبيه الشيء بنفسه على أن المراد بقولنا: ما تضمن مجاز تضمن بقرينة تقسيم المجاز إلى الاستعارة وغيرها، والمجاز لا يكون مستعملا فيما وضع له هنا، وقد أفاد هذا التعريف أن اللفظ لا يستعار من المعنى المجازي، وإن كان مشهورا فيه.
وفي قوله: لاستحالة تشبيه الشيء بنفسه نظر؛ لأنه لا يتم في اللفظ المشترك، لأنه لو تضمن تشبيه معناه لما وضع له لا يجب فيه أن يكون معناه غير الموضوع له للزوم تشبيه الشيء بنفسه، لأنه لا يلزم فيه ذلك التعدد ما وضع له وإخراج الأسد في الأمثلة المذكورة عن التعريف مبني على ما استقر فيه رأيهم أن المراد: بزيد أسد دعوى اندراج زيد تحت مفهوم الأسد؛ ليتوسل بها إلى المبالغة في التشبيه فإن تم، تم، وإلا فلا.
ولا يتجه عليه ما ذكره الشارح أنا لا نسلم أن أسدا في: زيد أسد مستعمل فيما وضع له، بل هو مستعمل في رجل شجاع فيكون مجازا واستعارة، إذ أصله:
زيد رجل شجاع كالأسد، فحذفنا المشبه واستعملنا المشبه به في معناه فيكون استعارة، على أنا إن جوزنا كون زيد أسد محتملا لهذا التوجيه، فليس لأحد أن ينكر صحة أن يقصد به ما تقدم. فالمحترز عنه هو الأسد بهذا المعنى.
وأما ما ذكره السيد السند: من أن الحق مع القوم فإن الفرق بين قولنا: مر دي همجو شيرست زيد، وبين شيرست زيد، يكشف عن ذلك؛ فإن التشبيه في الأول راجع إلى ذات ما حمل على زيد، وفي الثاني إلى زيد مما لا ينفع، فإن من يقول: إن زيدا أسد في معنى: زيد رجل شجاع، يقول شيرست زيد معناه دي همجو شيرست زيد، فلا يفيده تبديل الفارسي بالعربي شيئا. وأعجب منه أنه قال:
إنما أخرنا زيدا في المثال الأول؛ لأنه لو قدم احتمل الكلام رجوع التشبيه إلى زيد، بناء على أن الخبر قصد به المفهوم، ولا معنى لرجوعه إليه، وأما في المثال الثاني فتأخيره للموافقة ودفع توهم استناد الفرق إلى التقديم والتأخير؛ لأن قولنا:
زيد بد مردي همجو شيرست، لا يحتمل إلا تشبيه ذات ما وإلا للغا ذكر مردي، وأن مردي همجو شيرست في صورة التقديم خبر لموجب احتمال رجوع التشبيه إلى زيد بحاله.
نعم لا ينكر جودة ما قال إنك إذا قلت: زيد أسد لم يحسن تقدير الأداة؛ لأن ظاهر دعوى حمل الأسد عليه، وأنه مندرج تحته مبالغة، فلو قدرت فاتت المبالغة، بخلاف ما إذا قلت: زيد الأسد، فها هنا ثلاث مراتب.
الأولى: ادعاء المشابهة بأداة التشبيه لفظا أو تقديرا نحو: زيد كالأسد، وزيد الأسد.
الثانية: ادعاء اندارجه تحت الأسد، كقولك: زيد أسد.
الثالثة: جعل اندراجه تحته مسلما، فالأولى تشبيه اتفاقا، والثالثة استعارة اتفاقا، وأما الثانية فقد ترقّت عن مرتبة صريح التشبيه؛ حيث سيق الكلام ظاهرا؛ لكونه فردا منه، لكن القصد حقيقة إلى إثبات الشبه بطريق المبالغة، ويجوز تقدير الأداة نظرا إلى المآل، وإن لم يحسن نظرا إلى الظاهر، ولا ينتقض ذلك بالاستعارة؛ لأن اللفظ هناك قد استعير بمعنى آخر، وأطلق عليه فتسميتها بهذا الاسم أولى؛ لمزيد اختصاص ومناسبة بينهما، ومن سماها استعارة فكأنه أراد التنبيه على ارتفاعها عن حضيض التشبيه، ولا بد له أن يفسر الاستعارة بما يتناولها أيضا، إذ تعريف المصنف لا يتناولها كما عرفت.
ومما يجب الاحتياط فيه مواضع اشتباه التشبيه بالاستعارة، فإنه ربما يشتبه لتعارض أماراتها حتى قال صدر الأفاضل: إذا ترك المشبه بالكلية وأتى بوجه الشبه ففيه إشكال، نحو: رأيت أسدا في الشجاعة؛ لأن ترك المشبه لفظا وتقديرا، وإجراء اسم المشبه به عليه يقتضي أن يكون هذا استعارة، وذكر وجه الشبه يقتضي أن يكون تشبيها، أي: رأيت رجلا كالأسد في الشجاعة قال الشاعر:
ولاحت من بروج البدر بعدا
…
بدور مها تبرّجها اكتنان
يعني لاحت من قصور مثل بروج البدر في البعد بقرات وحشية، هي كالبدور، إظهارهن زينتهن للرجال اختفاء، والمها: جمع مهاة، وهي البقرة الوحشية.
قال الشارح: فالظن أنّ مثل هذا تشبيه؛ لأن المراد بكون المشبه مقدرا أعم من أن يكون محذوفا جزء كلام، أو يكون في الكلام ما يقتضي تقديره، هذا يعني ما يقتضي اعتباره وكونه مرادا في معنى الكلام، وإن لم يكن تقديره على وجه لا يختل نظامه كذا يستفاد من كلام السيد السند، لكن لا يوجد ما لا يمكن تقدير المشبه بدون اختلال النظم، فإن في كل ما بعد استعارة يمكن تقدير «مثل» ، فيقال في: جاءني أسد، تقديره: جاءني مثل أسد، وفي: جاءني أسد في الشجاعة، جاءني مثل أسد في الشجاعة.
وينقدح من هذا أن إثبات الاستعارة في كلام العرب مشكل جدا، ومما جعلوه تشبيها قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (1)
واستدلوا عليه بأن بيان الخيط الأبيض بالفجر قرينة على أن الخيط الأسود أيضا مبين سواد الليل، ولا يخفى أن الخيط الأبيض إذا كان مشبها به لا يصح أن يكون مبيّنا بالفجر، بل المبين به المشبه المقدر في الكلام ففيه مسامحة، وأن البيان لا ينافي كون الخيط الأبيض استعارة؛ لأن استعمال الخيط الأبيض في الفحر، بناء على ادعاء دخوله تحت جنس الخيط الأبيض، فلو بين أن المراد بالخيط الأبيض، أي: فرد منه من فرديه المتعارف وغير المتعارف، لم يكن بعيدا.
ومن علامات الاستعارة التي ذكرها الشارح وعدها السيد جيدة: هو أن يصح وضع اسم المشبه مقامه، كما في: رأيت أسدا يرمي، فإنه يصح: رأيت رجلا شجاعا يرمي، ولا يفوت إلا المبالغة في التشبيه، وفيه أنه يصح في التجريد أيضا مثل ذلك، فيصح أن يقال في: لقيت من زيد أسدا، لقيت منه رجلا
(1) البقرة: 187.
شجاعا، ولما كان تقسيم المجاز إلى المجاز المرسل والاستعارة مبنيا على أن الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي احتاج إلى إثباته وإبطال كونه مجازا عقليا، فاشتغل عقيب التقسيم به تقريرا لتقسيمه، فقال:(ودليل أنها) أي: الاستعارة (مجاز لغوي كونها موضوعة للمشبه لا للمشبه به ولا الأعم منهما) وذلك معلوم من اللغة، ومسلم عند من يخالف في كونه مجازا لغويا، ويدعى كونه مجازا عقليا.
وما ذكره «المفتاح» والمصنف في بيانه توضيح للبديهي، وهو أنه لو كان الأسد موضوعا لأحدهما؛ لكان إطلاقه على الرجل الشجاع من جهة التحقيق، لا من جهة التشبيه ولا نقلب المطلوب بنصب القرينة، وهو منع الكلمة عن حملها على ما هي موضوعة له إلى إيجاب حملها على ما هي موضوعة له، وأيضا لو كان موضوعا للشجاع مطلقا لكان وصفا لا اسما.
هذا فلا مجال للمناقشة فيه، بأن كون المطلوب بنصب القرينة منع الكلمة عن حملها على ما هو موضوعة له (مم)(1)، بل المطلوب على هذا التقدير منعها عن حملها على بعض معانيها الموضوعة هي لها إلى إيجاب حملها على بعض آخر، كما هو شأن المشترك، وكون المستعار صفة لا يبطل في استعارة، مثل الناطق، والمراد بقوله: لا للمشبه أنه لم يوضع للمشبه لا وحدها ولا مع المشبه به، حتى يكون مشتركا بينهما، فلا يتجه أنه لم يستوف إبطال الاحتمالات، ولا يحتاج إلى أن يقال اكتفى بمشاركة هذا الاحتمال مع احتمال كونه موضوعا للمشبه في اللازم، وإنما احتاج إلى نفي كونه موضوعا لأعم منهما في إثبات كونه مجاز لغويا؛ لأنه لو كان موضوعا لأعم منهما يصح استفادة المشبه عنه بطريق الحقيقة، بأن يطلق العام لعمومه، ويقع على الخاص بمعونة القرينة من غير أن يستعمل في الخاص، كما إذا قلت: رأيت إنسانا فيما إذا رأيت زيدا ولم يرد بالإنسان إلا مفهومه، فإن العام حينئذ مستعمل فيما وضع له، لكنه قد وقع على الخاص من غير استعمال فيه، ومن اشتبه عليه إطلاق العام على الخاص لا بخصوصه بالاستعمال فيه بخصوصه ظن أنه مجاز.
(1) كذا بالأصل، ولعله اختصار لكلمة (ممتنع) والمصنف أو لعله الناسخ يكرر مثل ذلك مرارا طلبا للاختصار الذي يجلب التعقيد، وقد سبق نظير ذلك من قريب.
واعترض عليه بأنه لا دلالة للعام على الخاص بوجه من الوجوه.
على أن اعتراضه مما يتعجب منه؛ لأن الدلالة المعتبرة في المجاز تشمل الدلالة بمعونة القرينة.
وفيه بحث؛ لأنه إذا جوز أن لا يكون «نعم ما فعلت» مجازا في مقابلة من قال: أكرمت زيدا، بأن يكون فعلت واقعا باعتبار الخارج على الإكرام بالقرينة، وتكون القرينة مقيدة للعام المستعمل بعمومه لزم أن لا يوجد من قسم المجاز ما يكون عاما مستعملا في الخاص؛ إذ لا يوجد في عام قرينة صارفة عن المعنى الموضوع له، إذ كل ما يظنه قرينة صارفة، يحتمل أن يكون قرينة لوقوع العام على الخاص، ويكون العام معها مستعملا على عمومه، فلا يكون قرينة صارفة.
(وقيل: إنها مجاز عقلي) لا بمعنى إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس غير ما هو له بتأول، بل (بمعنى أن التصرف في أمر عقلي لا لغوي)(1) وهذا النفي مدار النزاع، وإلا فلا ينكر من يجعله مجازا لغويا هذا الادعاء؛ ولهذا تردد قول الشيخ عبد القاهر بين كونه مجازا لغويا، وبين كونه مجازا عقليا، فتارة أطلق عليها المجاز اللغوي، وتارة المجاز العقلي لا لالتباس حقيقة الأمر عليه، فإنه مما لا يتوهم في شأنه ذلك، بل للتنبيه على أنها ليست لمجرد نقل اسم، بل فيه احتمال عقلي؛ (لأنها لما لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به) بأن جعل الرجل الشجاع فردا من أفراد الأسد.
(كان): تامة جواب لما (استعمالها فيما وضعت له) متعلق بالاستعمال، فلا حاجة إلى ما في الشرح: أنه في تقدير: استعمالا فيما وضعت له يعني الأسد استعمل في مفهومه الحقيقي، وسراية الحكم عليه إلى الرجل الشجاع كسرايته إلى سائر أفراده الحقيقية بناء على إحاطته بالرجل الشجاع لقضية الادعاء المذكور، ولا يخفى أن مجرد ادعاء الدخول يكفي في كون الأسد حقيقة، سواء كان الدخول بدعوى أن للأسد فردين، متعارفا وهو ما له الهيكل المخصوص، وغير متعارف
(1) هذا أيضا خلاف لفظي كالخلاف السابق في التشبيه المؤكد أنه استعارة أو لا، ولا معنى للاشتغال بمثل ذلك في علم البيان، ويريد بقوله- بمعنى أن التصرف إلخ- أن المجاز العقلي هنا غير المجاز العقلي السابق في باب الإسناد الخبري من علم البيان.
راجع بغية الإيضاح 3/ 102.
وهو الرجل الشجاع، أو بدعوى ثبوت الهيكل المخصوص لزيد، فقول الشارح في شرح التنقيح: إن جعلها مجازا عقليا مبنيّ على اعتبار مرجوح هو دعوى الهيكل المخصوص للرجل الشجاع، والحق خلافه، وهو دعوى فرد غير متعارف لمفهومه مما لا وثوق به.
قال المصنف: والدليل على الادعاء أنه لولاه لما كانت استعارة؛ لأن مجرد نقل الاسم لو كانت استعارة لكانت الأعلام المنقولة كيزيد ويشكر استعارة، ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة؛ إذ لا مبالغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه، ولما صح أن يقال لمن قال: رأيت أسدا أنه جعله أسدا، كما لا يقال لمن سمى ولده أسدا أنه جعله أسدا؛ لأن جعل إذا تعدى إلى مفعولين كان بمعنى صيّر، ويفيد إثبات صفة لشيء حتى لا يقال: جعلته أميرا إلا إذا أثبت له صفة الإمارة.
هذا وفي الوجه الأول: أنه لا يلزم من انتفاء الادعاء أن يكون مجرد نقل الاسم استعارة، بل النقل لعلاقة المشابهة من غير وضع المنقول إليه.
وفي الوجه الثاني: أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة لمجرد أنه بمنزلة دعوى الشيء ببينة كما في سائر المجازات على ما سيأتي، وللادعاء دليل آخر، وهو: أنه لولاه لما امتنع استعارة العلم.
(ولهذا) أي: ولأن إطلاق اسم المشبه على المشبه به بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به (صح التعجب في قوله) أي: قول أبي الفضل بن العميد في غلام قام على رأسه يظلله:
[(قامت)(1) فاعله نفس (تظللّني) في الشرح: أي توقع الظلّ عليّ (من الشّمس) أي: من أجلها، ولدفع حرها أو المراد من الشمس تظللني نفس الغلام أي توقع عليّ ظلا حاصلا من الشمس، والأول هو الموافق لقوله:
شمس تظللني من الشمس (نفس أعزّ عليّ من نفسي) بالإضافة إلى ياء المتكلم أو بتنكير نفس وإشباع كسرته كما في الشمس أي: من كل نفس، وهو
(1) يصف ابن العميد غلاما جميلا قام على رأسه يظلله من الشمس، وإنما أنث الضمير في- قامت- لإسناده إلى نفس.
أبلغ:
(قامت تظللّني ومن عجب
…
شمس تظللّني من الشّمس) (1)
فلولا أنه ادعى له معنى الشمس الحقيقي لما كان لهذا التعجب معنى؛ إذ لا تعجب في أن يظلل إنسان حسن الوجه إنسانا آخر، وفيه نظر؛ لأنه يجوز أن يكون التعجب من استخدامه من بلغ في الحسن درجة الشمس أو من انقياده له وخدمته له.
(والنهي عنه) أي: عن التعجب (في قوله):
[(لا تعجبوا من بلى غلالته) هي ثوب يلاقي البدن (قد زرّ) أي: شدّ (أزراره على القمر)](2).
فلولا أن جعله قمرا حقيقيا لما كان للنهي من التعجب معنى؛ لأن الكتان إنما يسرع إليه البلى بسبب ملابسة القمر الحقيقي لا بسبب ملابسة إنسان كالقمر في الحسن.
(ورد بأن الادعاء) مسلم لكنه (لا يقتضي كونها مستعملة فيما وضعت له) فيما ادعى دخوله تحت مفهومها.
وفيه: أن الادعاء لو أوجب صحة كونها حقيقة لكفى، إذ معها لا ضرورة في القول بالتجوز، فدعوى كون المجاز عقليا لا يتوقف على اقتضاء الادعاء الاستعمال فيما وضعت له، بل يكفي فيه أن يقال: يصح أن يكون الأسد مثلا مستعملا في مفهومه، ويكون واقعا على الرجل الشجاع لادعاء أنه من أفراده كما سبق، فالجواب أن يقال: استعمال الأسد في مفهومه لا يوجب شموله للرجل الشجاع، وسراية الحكم كما في أفراده ما لم يقصد به، ويمكن أن يقال: إذا قلت:
رأيت أسدا، وحكمت برؤية رجل شجاع يمكن فيه طريقان:
(1) هو: لأبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد إمام الكتاب في القرن الرابع الهجري، وإليه تنسب الطريقة الكتابية التي راجت في عصره، وهو وزير لركن الدولة البويهي إلى أن مات سنة 360 هـ. والبيتان في الإيضاح:(259)، نهاية الإيجاز:(253)، المصباح:(129)، الطراز:(1/ 203).
(2)
البيت لابن طباطبا العلوي، وهو أبو الحسن محمد بن أحمد المتوفى سنة 322 هـ.
انظر البيت في الإيضاح: (259)، الطراز:(2/ 302)، نهاية الإيجاز:(253)، والمصباح:(129).
أحدهما: أن يجعل الأسد مستعارا لمفهوم الرجل الشجاع.
وثانيهما: أن يستعمله فيما وضع له الأسد، ويجعل مفهوم الأسد آلة لملاحظة الرجل الشجاع، ويعتبر تجوزا عقليا في التركيب التقييدي الحاصل من جعل مفهوم الأسد عنوانا للرجل الشجاع؛ فيكون التركيب بين الرجل الشجاع ومفهوم الأسد مبنيا على التجوز العقلي، وإن كان تقييديا، فلا يكون هناك مجاز لغوي.
ألا ترى أنه لا يجوز لغة في قولنا: لي نهار صائم؟ فقد حق القول بأن المجاز عقلي، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولما أراد الاستدلال أشار إلى وجه التعجب؛ والنهي عنه بحيث لا يقتضي إرادة المعنى الحقيقي، فقال:(وأما التعجب والنهي عنه فللبناء على تناسي التشبيه قضاء لحق المبالغة) ودلالة على أن المشبه بحيث لا يتميز عن المشبه به أصلا حتى إن كل ما يترتب على المشبه به يترتب عليه.
ولا يخفى أن الكلام قد تم بدونه، إذ التعجب والنهي عنه لم يجعلا دليلين على كونها مستعملة فيما وضعت له، بل استدل بهما على الادعاء، فلما سلم الادعاء، ومنع اقتضاءه كون الاستعارة مستعملة في معناها الحقيقي فلا حاجة إلى المنازعة في كون التعجب والنهي مبنيين على الادعاء، فليكونا مبنيين عليه؛ إذ لا ينافي المجاز اللغوي.
ولما كان في الاستعارة توهم كذب، وذلك يوجب أن لا يقع في القرآن وكلام الرسول، أشار إلى أنها تفارقه فقال:
(والاستعارة) أي: الذي يتضمنه الاستعارة من دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به (تفارق الكذب)، ولا تلتبس به لوجهين:
(بالبناء) أي: بسبب بناء الاستعارة، أي: ما تتضمنه (على التأويل) والصرف عن الظاهر الذي هو إفادة تلك الدعوى، واعتقاده إلى جعل أفراد الأسد متعارفا وغير متعارف من غير اعتقاد، بل بمجرد إبراز في هذه الصورة ليتوسل به إلى المبالغة في التشبيه، ولا كذب مع عدم الاعتقاد هو الكذب.
(ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر)، إذ لا يجامع الكذب نصب القرينة كما لا يجامع التأويل المذكور، فقد افترقت عن الكذب بالوجهين، ولك
أن تريد أن الكلام الذي فيه الاستعارة يفارق الكذب، إذ جاءني أسد يشتبه بالكذب، لولا شيء من هذين الوجهين هذا كله إذا أريد بالمفارقة نفي الاشتباه.
أما لو أريد نفي لزوم الكذب فلا حاجة إلى شيء من هذين التأويلين، لكن المراد بالمفارقة عن الكذب المفارقة في الجملة، إذ ربما كان ما قصد من المبالغة في شأن المشبه كاذبا غير مطابق.
ولقد حرر في هذا المقام كلام «المفتاح» (1) أحسن تحرير، وعدل عنه بألطف تغيير لما فيه من التطويل والخفاء؛ لأنه قال: والاستعارة لبناء الدعوى فيها على التأويل تفارق الدعوى الباطلة، فإن صاحبها يتبرأ عن التأويل، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إجراء الكلام على ظاهره، فإن الكذب لا ينصب دليلا على خلاف زعمه، وأنى ينصب وهو لترويج ما يقول راكب كل صعب وذلول؟ !
هذا ولما كان الباطل والكذب واحدا؛ إما مطلقا أو بالذات عند من فرق بينهما باعتبار مخالفة الواقع للقول في الباطل، ومخالفة القول للواقع في الكذب- كان الفرق بين الاستعارة والكذب مغنيا عن ذكر الباطل- فاكتفي لذلك بذكر الكذب، وصفى كلامه عن شوب التخصيص بلا مخصص؛ حيث لزم «المفتاح» من تخصيص التأويل بمفارقة الباطل، ونصب القرينة بمفارقة الكذب، وأغنى لمشتغل بكلامه عن مؤنة حمل الباطل على باطل غير معلوم البطلان عند متكلمه، وحمل الكذب على ما علم كذبه.
وتوجيه التخصيص ب «أن» للإشارة إلى أن الباطل الذي لم يعلم بطلانه في غاية البعد عن قصد تأويله فضلا عن نصب القرينة بخلاف الكذب فإنه لا ينافي قصد التأويل وأن لا يقع قط، وإنما ينافي نصب القرينة؛ إذ لا يخفى أنه في غاية الخفاء والإغلاق على أن ما هو المقصود لا يستدعيه، ولا التخصيص لوجه آخر مما يمكن أن يقال وهو أقرب من هذا المقال، لكن صرفنا عن بيانه لك خوف الملال.
(ولا تكون علما) قال الشارح في شرح «المفتاح» : لا يخفى أن المراد غير علم الجنس فإنه المتبادر من إطلاق العلم هذا، ولا يبعد أن يجعل علم الجنس علما
(1) المفتاح ص 198.
مخصوصا بالنحاة، لأنه علم اضطراري دعا إلى القول به أحكام نحوية، فحينئذ يدخل علم جنس في اسم الجنس فيدخل في الاستعارة الأصلية بلا كلفة بمحل في بيانه، والجملة عطف على قوله:(والاستعارة تفارق الكذب)، عطف جملة فعلية على جملة اسمية.
ولك أن تجعله عطفا على قوله: (تفارق الكذب)، فيكون التناسب مرعيّا.
(لمنافاته الجنسية) وبناء الاستعارة على جعل المستعار من أفراد المستعار منه بادعاء أن له قسمين: قسما متعارفا، وقسما غير متعارف، فلما لم يكن للعلم مفهوم كلي جنسي امتنع أن يستعار، ولامتناع أن يكون له الفرد، فضلا عن أن ينقسم إلى متعارف وغير متعارف.
قال المصنف: ولأن العلم لا يدل إلا على معين من غير إشعار بوصف فلا اشتراك بين معناه وغيره، إلا في مجرد التعيين، ونحوه من العوارض التي لا يكفي شيء منها جامعا في الاستعارة.
(إلا إذا تضمن نوع وصفيّة) الأولى نوع وصف؛ لأن الوصف مصدر لا يحتاج في أداء المعنى المصدري إلى إلحاق الياء المصدرية والمراد بتضمن الوصف:
أن يكون الوصف لازما للشخص، نظرا إلى ذاته أو بسبب اشتهاره بالوصف؛ فإن الوصف اللازم ينزّل منزلة الموضوع له، ويجعل الموصوف فردا متعارفا له، والمستعار له فردا غير متعارف.
هكذا ذكروه، وفيه أنه تكلف لا يوافقه الاستعمال فإن استعمال العلم في المشبه بدعوى العينية لا بدعوى إدخالهما تحت جنس.
وقد تنبه الشارح لهذا في «التلويح» ، فقال: التحقيق أن الاستعارة تقتضي وجود لازم مشهور، له نوع اختصاص بالمشبه به، فإن وجد ذلك في مدلول الاسم، سواء كان علما أو غير علم جاز استعارته، وإلا فلا. هذا كلامه، لا تقول: فليكن مراد المصنف أنه لا يكون علما إلا إذا اشتهر بوصف؛ لأنه لا بد للاستعارة من وجه شبه له مزيد اختصاص بالمشبه به؛ لأنا نقول: قد فصل المصنف هذا الكلام بما لا يحمل هذا التوجيه على أنه لا اختصاص لتضمن