الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الحقيقة والمجاز)
قوله: المجاز عديل بقوله التشبيه، بعد قوله: فانحصر في الثلاثة يعني انحصر المقصود من البيان في التشبيه والمجاز والكناية، فينبغي أن يقتصر على ذكر المجاز؛ لأنه المقصد الثاني من البيان، إلا أنه ذكر الحقيقة تنبيها على أن بحث المجاز يستتبع التعرض للحقيقة؛ لأنها ضد له، والأشياء إنما تتبين بأضدادها، فهذا اقتصار لقول المفتاح: الأصل الثاني من علم البيان في المجاز، ويتضمن التعرض للحقيقة.
هذا وقدم الحقيقة؛ لأن مدار الحقيقة، وهو الموضوع له أصل لما هو مدار المجاز أعني لازم الموضوع له، وسميت بالحقيقة المأخوذة إما من حقّ بمعنى ثبت، فيكون فعيلا بمعنى فاعل، أو من حقّ بمعنى علم، فيكون فعيلا بمعنى مفعول، والتاء على الوجهين للتأنيث عند صاحب المفتاح.
أما على الأول فظاهر؛ لأن فعيلا بمعنى فاعل يذكّر ويؤنث، سواء أجرى على موصوفه أولا نحو: رجل ظريف، وامرأة ظريفة. وأما على الثاني، فلأن الحقيقة تقدر منقولة من الوصف بمؤنث محذوف، وما يقال: إن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المؤنث والمذكر مخصوص بما إذا كان موصوفه مذكورا.
أما إذا كان محذوفا فيؤنث للمؤنث للالتباس، والتاء للنقل مطلقا عند الجمهور؛ لأن الوصف إذا نقل من الوصفية إلى الاسمية يلحق به التاء علامة للنقل، كما في الذبيحة.
وجعل الشارح توجيه «المفتاح» تكلفا مستغنى عنه بما ذكره الجمهور، ولعله تفصيل نظر المصنف عليه في الإيضاح.
وقال السيد: دعاه إليه أن الأصل في التاء التأنيث، ونحن نقول: الأصل في النقل النقل بالغلبة، فالظاهر أنه استعمل الحقيقة في الكلمة محذوفة الموصوف، حتى صارت اسما لها، وكذا التاء في الحقيقة التي هي صفة الإسناد لإطلاقها على النسبة، أو الجملة محذوفة الموصوف حتى صارت اسما لها، ولا يخفى أن الحقيقة
اللازمة على توجيه «المفتاح» مغنية عن الحقيقة المتعدية لاستغنائها عن تقديرها وصفا لمؤنث محذوف، بخلاف توجيه القوم فإن اللازمة والمتعدية فيه سيان، وسمي المجاز بالمصدر الميمي مبالغة في جوازه عن مكانه الأصلي، حتى كأنه عيّن الجواز حتى نصب قرينة له مانعة عن إرادة الموضوع له، بخلاف الكناية فإنها وإن جازت مكانها الأصلي، لكن لا بالكلية فاحفظه؛ فإنه وجه بديع يندفع به ما وجه به نظر المصنف أنه لو كان التسمية بالمجاز لكون اللفظ جائزا عن مكانه الأصلي لناسب التسمية بالجائزة، كالتسمية بالحقيقة، فالظن أن التسمية؛ لأن اللفظ طريق إلى المعنى يسلكه السامع من قولهم جعلته مجازا إلى حاجتي أي:
طريقا إليها.
(وقد يقيدان باللغويين)(1) رفعا لتوهم إرادة الإسناد، والأكثر حمل الإطلاق على اللفظ، والتقييد بالعقلي للإسناد؛ إذ في هذا التقييد حدوث التباس حدوث العام بالخاص، فهو كالهرب من ورطة إلى ورطة أشد منها، فتأمل.
وقد نبهك بهذا على ما يصونك عن الوقوع في توهم أن تقسيم كل من الحقيقة والمجاز إلى اللغوي والشرعي، والعرفي العام والعرفي الخاص تقسيم للشيء إلى نفسه، وإلى غيره، ومثل هذا التوهم غير عزيز، إذ الواهمة في أمرها غير فاترة لكل ذي فطنة ضعيفة قاصرة، حتى شاع مثله في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق إلى غير ذلك، والمؤلف عامة أمره مع الضعفاء، فينبغي أن لا يهمل في الذهاب عنها، حتى يكون آتيا بحق الوفاء والتذكير ليفيد أن اللغويين يغلبون المجاز على الحقيقة لتذكيره وكونه أهم.
(والحقيقة) آثرها على الضمير تنبيها على اختلاف المراد، فإن الأول من جملة اسم المبحث.
(الكلمة) خرجت به الأصوات فإنها ليست بكلمة؛ لأنها ليست بموضوعة كما حقق في محله (المستعملة فيما وضعت) تلك الكلمة (له) من المعنى (في اصطلاح
(1) إنما يقيدان بذلك ليخرج عنهما الحقيقة والمجاز العقليان، وقد سبقا في باب الإسناد الخبري من علم البيان، وبهذا يكون المراد باللغوي منهما ما قابل العقلي فيدخل فيه الشرعي والعرفي الآتيان.
به التخاطب) (1) إما متعلق بوضعت أو بالمستعملة بعد تقييدها بقوله: فيما وضعت له، ومعنى الظرفية اعتبار الاصطلاح، أي: المستعملة فيما وضعت له باعتبار اصطلاح به التخاطب، ونظرا إليه، فقول الشارح: تعلقه بالاستعمال وهم لا معنى له عند التأمل، لا يساعده التأمل، وقول السيد: وأيضا ينتقض التعريف بالمجاز الذي يخرج بهذا القيد على تقدير تعلقه بوضعت غير معتمد، فاحتزر بالمستعملة عن الكلمة قبل الاستعمال، فإنها لا تسمى حقيقة ولا مجازا، وبقوله: فيما وضعت له عن شيئين.
أحدهما: ما استعمل في غير ما وضع له غلطا، كقولك: خذ هذا الفرس مشيرا إلى كتاب بين يديك، فإن لفظ الفرس هنا قد استعمل في غير ما وضع له، وليس بحقيقة كما أنه ليس بمجاز.
والثاني: المجاز الذي لم يستعمل فيما وضع له، لا في اصطلاح به التخاطب، ولا في غيره كالأسد في الرجل الشجاع، كذا ذكره المصنف، ولا يخفى أن اللفظ المستعمل فيما وضع له غلطا أيضا ينبغي أن يخرج عن التعريف كأن يتلفظ بالإنسان موضع البشر غلطا، فإنه ليس حقيقة؛ إذ لا اعتداد بالاستعمال من غير شعور، فينبغي أن يراد بالمستعملة المستعملة قصدا، كما هو المتبادر من الأفعال الاختيارية، فخروج الغلط مطلقا من قيد المستعملة قبل ذكر قوله: فيما وضعت له، ثم ذكر أن قوله في اصطلاح به التخاطب احترازا عن القسم الآخر من المجاز، وهو ما استعمل فيما وضع له، لا في اصطلاح به التخاطب، كلفظ الصلاة يستعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا؛ إذ لم يوضع في هذا العرف للدعاء، بل في اللغة، ولا يخفى أن فائدة هذا القيد لا ينبغي أن يقتصر في زعم المصنف على إخراج هذا المجاز؛ لأنه كما يخرج هذا المجاز يخرج لفظ الصلاة التي استعملها الشارع في الدعاء غلطا، فإنه يتناولها الكلمة المستعملة فيما وضعت له في زعمه. نعم يقتصر عليها على ما مهّدنا لك، وما ذكره الشارح في المختصر من أن المراد باصطلاح به التخاطب اصطلاح به التخاطب بالكلام
(1) الأحسن أن يذكر في التعريف اللفظ بدل الكلمة ليشمل الحقيقة المركبة أيضا، كقولك- الصدق حسن- باعتبار الهيئة التركيبية لا باعتبار الإسناد، وقيل: إن المركب لا يطلق عليه حقيقة لغوية.
[بغية الإيضاح 3/ 76]
المشتمل على تلك الكلمة عدول عن المتبادر من غير قاسر؛ إذ المتبادر التخاطب بتلك الكلمة، بل عدول مع الزجر وهو أنه يلزم أن لا يدخل في الحقيقة الحقائق المعددة من غير تركيب وكلام. ولا يدخل مثل قولنا أريد توضيح الكلمة؛ فإن الكلمة فيه حقيقة، وليس باصطلاح به تخاطب هذا الكلام، بل تخاطب هذه الكلمة؛ ثم في تقديم الظرف إشارة لطيفة إلى أن التخاطب لا يكون باصطلاحين، ثم استعمال الاصطلاح يوجب إخلال التعريف؛ إذ لا يطلق في الاصطلاح على الشرع والعرف واللغة، بل هو العرف الخاص، فالأولى في وضع به التخاطب.
وأما ما يقال: إن هذا التعريف لا يصح على مذهب القائل بأن الواضع هو الله تعالى، وكذا عند من توقف فليس بشيء؛ لأن وحدة الواضع في جميع اللغات لا تستلزم وحدة الاصطلاح، بل يتفاوت مع ذلك اصطلاح التخاطب، وبعد ما أضفناك بما نظنك شبعان، بل ملآن لو لم نعرض عليك لذائذ أنعمنا بها لنا في الإحسان، فلا تعرض عنا فإنه، وإن لم يبق لك طاقة الاستفادة، فنقنع منك بالمشاهدة، فنقول كما لا بد للنحوي من ضبط ما يجري في الأصوات المشاركة للكلمات في كثرة الدوران على الألسنة في المحاورات، حتى نزّلوها منزلة الأسماء المبنية، وضبطوها فيما بينها، كذلك لا بد لصاحب البيان من الالتفات إلى دقائق وسرائر يتعلق بها فإن البلغاء أيضا يتداولونها تداول المجازات الدقيقة، فيقول للمرائي لفعله المعجب به، وهو في غاية الدناءة: وي؛ تعجبا تهكما، ويخاطبون بالنازل عن درجة العقلاء الملحق بالحيوانات بأصوات يخاطب بها الحيوان تنزيلا له منزلة الحيوان، فيجب أن يجعل تعريف الحقيقة والمجاز شاملا لها حتى أكاد أجترئ على أن أقول: المراد بالكلمة أعم من الكلمة حقيقة أو حكما، وكذا المراد بما وضعت له، وغير ما وضعت له، ثم نقول: لا يخفى أن كثيرا ما تستعمل الهيئة في غير ما وضعت له، فتخصيص الحقيقة والمجاز بالكلمة يفوت البحث عن سرائر تتعلق بالهيئات، ولولا مخافة الإسهاب للزمني الإطناب في كل مقام، لكثرة ما يفيضه الوهاب، لكن توهم ضيق حوصلة السامعين يمنعني عن أن أبوح بكثير ما خفي على ذوي الألباب، ولولا ذلك لكان مطاعمة قلبي للقلوب بما تلذ به طيور المعاني أكثر مما يسعه هواء، ويطبقه سماء، ثم عدم شمول تعريف