الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أو نقيضه لما مر) في باب التشبيه من تنزيل التضاد (1) منزلة التناسب بواسطة تمليح أو تهكم.
(نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2) أي: أنذرهم، استعيرت البشارة التي هي الإخبار بما يظهر سرورا في المخبر للإنذار الذي هو ضدها بإدخال الإنذار في جنس البشارة على سبيل التهكم.
وللنظم توجيهات أخر، وهي أنه أمر نبي الرحمة بإنذار لهم شبيه بالتبشير في انشراح صدره، فيه إزالة لانقباضه من الإنذار عنه، فتكون استعارة البشير للإنذار الجامع كونهما مرغوبين له صلى الله عليه وسلم، وأنهم في استماع الإنذار كمن يستمع التبشير؛ لعدم مبالاتهم به؛ فالاستعارة لجامع المشابهة في عدم الخوف منهما، وأنهم في الجد في اكتساب العذاب الأليم كالراغب فيه، فإنذارهم به شبيه بالإخبار بمرغوب، فيكون كالتبشير فاحفظها؛ فإنها من إفاضة العليم الخبير.
[وباعتبار الجامع قسمان]
(وباعتبار الجامع) يراد به وجه الشبه، وسمى في باب التشبيه: وجه الشبه؛ لأنه سبب التشبيه، وهنا جامعا؛ لأنه أدخل المشبه تحت جنس المشبه به ادعاء، وجمعه مع أفراد المشبه به تحت مفهومه.
(قسمان؛ لأنه إما داخل في مفهوم الطرفين) لم يستغن عن هذا التقسيم للاستعارة بما مر من أن وجه الشبه إما داخل في مفهوم الطرفين أو خارج عنه؛ لأن كل تشبيه لا يكون مبني على الاستعارة، على أن وجوب كون الجامع أخص بالمشبه به يوهم امتناع دخوله في مفهوم الطرفين؛ لما تقرر أن الذاتي لا يتفاوت في الأفراد. ووجه صحة أن ما تقرر إنما هو في ذاتيات الماهيات الحقيقية، دون المفهومات الاعتبارية.
(نحو) قوله عليه السلام: «خير الناس رجل يمسك بعنان فرسه (كلما سمع هيعة) أي: صوتا يفزع منه أو صوتا يخافه من عدو (طار إليها)» (3)
(1) التضاد هو: تقابل الأمرين الوجوديين اللذين لا يجتمعان وقد يرتفعان كالبياض والسواد، والتناقض:
تقابل الأمرين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان وأحدهما وجودي والآخر عدمي كحيوان ولا حيوان.
(2)
آل عمران: 21.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب: فضل الجهاد والرباط (4/ 553 - 554)، بلفظ: «خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه
…
».
إسناد طار إلى الرجل مجاز، أي: طار فرسه بسعيه إليها.
وتتمة الحديث: «أو رجل في شعفة في غنيمة حتى يأتيه الموت» يعني صلى الله عليه وسلم:
استعار الطيران لعدو الفرس، والجامع داخل في مفهومهما.
(فإن الجامع بين العدو والطيران، هو قطع المسافة بسرعة وهو داخل فيهما)(1)؛ إذ الطيران: قطع المسافة بسرعة الجناح، والعدو: قطعها بالأقدام بسرعة، أو الأول قطع المسافة في الهواء، والثاني قطعها في الأرض.
واعترض عليه الشارح: بأن السرعة غير داخلة في مفهوم الطيران، بل هو مجرد قطع المسافة بالجناح غايته أنه في الأكثر بالسرعة.
هذا، والشيخ فرّق بين العدو والطيران، والإنسان والفرس والأسد، بأن الأولين من جنس واحد، هو المرور، وقطع المسافة، وإنما الاختلاف بالسرعة؛ لأنها مما يقبل الشدة والضعف، وذلك لا يوجب اختلافا في الجنس، بخلاف الأسد والإنسان، فعلى هذا للاستعارة تقسيم آخر هو أن الطرفين إما من جنس واحد، أو من جنسين، لكن في حصر ما به الاختلاف في السرعة، بل في جعلها ما به الاختلاف نظر لا يخفى على من نظر فيما سبق.
(وإما غير داخل) عطف على قوله: (إما داخل)، وغير الداخل في مفهومهما يحتمل أن يكون داخلا في مفهوم أحدهما، كما في تشبيه العدو بالطيران في قطع المسافة بسرعة، فإنه داخل في مفهوم العدو دون الطيران، كما حقق.
وقد خالف بين تقسيم التشبيه باعتبار دخول وجه الشبه وخروجه، وبين تقسيم الاستعارة فقال في تقسيم التشبيه: وجهه إما غير خارج عن حقيقة الطرفين، أو خارج عنهما، فجعل الخارج عن أحد الطرفين داخلا في القسم الأول، وهنا جعله داخلا في القسم الثاني، ولو أردت تطبيقهما فاجعل الداخل في الطرفين في تأويل الداخل في أحدهما، وحينئذ يندفع اعتراض الشارح على التمثيل باستعارة الطيران للعدو.
(1) بأن يكون جنسا أو فصلا لمفهومهما.
(كما مر) من استعارة الأسد للرجل الشجاع، فإن الشجاعة خارجة فيه عن الطرفين لظهور أن الأسد موضوع للحيوان المخصوص، والشجاع وصف له، والمستعار له هو الرجل الموصوف بالشجاع، والصفة خارجة، ولا تعويل على ما قال الشيخ في «أسرار البلاغة» من أن الأسد موضوع للشجاعة، لكن في تلك الهيئة المخصوصة، لا للشجاعة وحدها.
(وأيضا) تقسيم آخر للاستعارة باعتبار الجامع وهو أنها (إما عامية) منسوبة إلى العامة (وهي المبتذلة لظهور الجامع فيها نحو: رأيت أسدا يرمي، أو خاصية) منسوبة إلى الخاصة (وهي الغريبة) أي: البعيدة عن العامة، أو عن كل أحد إلا أن الخاصة يدركونها بسرعة سيرهم.
(والغرابة قد تكون في نفس الشبه (1) كما في قوله) أي: قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له بأنه مؤدب: أنه إذا نزل عنه، وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه حتى يعود إليه.
(وإذا احتبى قربوسه) القربوس محرّكة، ولا يسكّن إلا للضرورة، وهو:
حنو السرج على ما في القاموس. وفي الصحاح: المعتمد الذي رأيناه القربوس للسرج، فالقربوس مقدم السرج، ولا حاجة إلى حذف مضاف أي: مقدم السرج كما يوهمه عبارة الشارح، حيث قال: قربوسه أي: مقدم سرجه. وفي الصحاح: القربوس السرج (بعنانه علك) مضغ (الشّكيم) كالشكيمة الحديدة المعترضة في فم الفرس (إلى انصراف الزّائر).
يعني إلى انصرافي، عبّر عن نفسه بالزائر للدلالة على كمال تأدبه؛ حيث يقف مكانه، وإن طال مكثه كما هو شأن الزائر للحبيب يدل عليه ما قبله
عوّدته فيما أزور حبائبي
…
إهماله وكذاك كل مخاطر
والمخاطر: طالب الشفاء على خطر هلك، أي: مثل ذاك الرجل، يريد نفسه في تعويد فرسه كل مخاطر، شبه هيئة وقوع العنان في القربوس ممتدا إلى جانبي فم الفرس بهيئة وقوع الثوب في ركبة المحتبي ممتدا منحدرا إلى جانبي ظهره،
(1) يعني بالشبه التشبيه أي في التشبيه نفسه لا في الجامع، بأن يكون تشبيها نادرا لبعد ما بين الطرفين، كما في البيت، فإن أحدهما من وادي القعود والآخر من وادي الركوب مع ما في ذلك من كثرة التفصيل.
فاستعار له الاحتباء، وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب أو غيره على تلك الهيئة.
(وقد تحصل) الغرابة (بتصرف في العامية كما في قوله)
ولما قضينا من منى كلّ حاجة
…
ومسّح بالأركان من هو ماسح
وشدّت على دهم المهاري رحالنا ولم ينظر الغادي الّذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
(وسالت بأعناق المطيّ الأباطح)(1)
التمسيح: كالمسح المهاري: كالصحاري والجواري، جمع المهرية، وهي الناقة المنسوبة إلى مهرة بن حيدان بطن من قضاعة، والأباطح: جمع أبطح، وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصى. والنظر محركا يجيء بمعنى الانتظار.
يريد: لما فرغنا عن أداء مناسك الحج، ومسحنا أركان البيت عند طواف الوداع، وشددنا الرحال على المطايا وارتحلنا، ولم ننظر الغادي الذي هو رائح للاستعجال أخذنا في الأحاديث وأخذت المطايا في سرعة السير، استعار السيلان للسير الحثيث في غاية السرعة للإبل، والشبه فيه ظاهر عامي، لكن قد تصرف فيه بما أفاده اللطف والغرابة.
(إذ أسند الفعل) يعني سالت (إلى الأباطح دون المطي) أو أعناقها حتى أفادت أنه امتلأت الأباطح من الإبل، كما في نهر جار، فإنه إنما يسند الجريان إلى النهر إذا امتلأت الإناء بحيث لا يتميز من الماء.
(وأدخل الأعناق في السير) حيث جعلت الأباطح سائلة مع الأعناق، فجعل الأعناق سائرة إشارة إلى أن سرعة سير الإبل وبطئه إنما يظهران غالبا في الأعناق، ويتبين أمرهما فيه وسائر الأجزاء يستند إليهما في الحركة، وتبعهما في الثقل والخفة.
هذا ما ينظر في هذا المقام، ولا يخفى أن النجاة من السيل يكون بأخذ أمر يحفظ الغريق عن الغرق، فجعل الأحاديث كأعمدة أخذ بكل طرف منه واحد من المصاحبين يسهل عليهم سيلان المطايا، بعد جعل سيرهن سيلا تصرف دقيق،
(1) الأبيات لكثير عزة في الإشارات ص 217 والشطر الثاني من البيت الثالث في الإيضاح: (176).
بلغ التشبيه معه مرتبة يخص بها أخص الخواص.
ثم إنه يمكن حمل التشبيه على ما هو خاصيّ في أصله، بأن يقال: لم يقصد تشبيه السير بالسيل في السرعة، بل تشبيه المطايا، وهي الإبل التي لها لون السيل بنفس السيل في الاتصال والحمرة والسرعة، وتشبيه أعناقها المرتفعة المتحركة بما يجري على السيل، ولا يخفى أن هذا تشبيه مركب مبتدع في غاية الدقة.
ولك أن تريد بالأباطح: الطرق، فيكون من تشبيه الطرق بالأباطح، بعد تشبيه السير بالسيل في السرعة، فيكتنف تشبيه السير بالسيل بضم تشبيه الطرق بالأباطح إليه دقة وخصوصا.
قال المصنف: وقد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل، كما في قول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطّى بصلبه
…
وأردف أعجازا وناء بكلكل:
ألا يا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل (1)
أراد وصف الليل بالطول، فاستعار له صلبا يتمطى به؛ إذ كان كل ذي صلب يزيد شيء في طوله عند تمطيه، ثم بالغ في ذلك، جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا، ثم أراد أن يصفه بالثقل على قلب ساهرة، والشدة والمشقة فاستعار له «كلكلا» أي: صدرا ينوء به أي: يثقل به، هذا كلامه.
قال الشارح: والظاهر: أن هذا من قبيل الاستعارة بالكناية، كاليد للشمال، يعني: ليس مما نحن فيه من الاستعارة المصرحة، ولا يخفى أن التقسيم إلى العامية والخاصية مما يجري في الاستعارة بالكناية أيضا؛ لأنه دائر على ظهور الجامع وغرابته.
فلا يبعد أن يصير الاستعارة بالكناية في الليل باعتبار تشبيهه المبتذل
(1) الأبيات لامرىء القيس في ديوانه: (117) من معلقته المشهورة.
كموج البحر: يعني في ظلمته وكثافته، أرخى سدوله: أرسل ستوره ويريد بها ظلمته، تمطى بصلبه: تمدد بجسده، أردف أعجازا: تابع أواخره بأوائله، بككل: بمعنى حط وبمعنى بعد، الأولى بالمقام أي: حط بصدره.
بالإنسان، باعتبار شيوع خطابه غريبة تجمع عدة استعارات تخييلية، فيكون البيت نظيرا لما نحن فيه، وتنبيها على جريان هذا التقسيم فيه.
(و) الاستعارة (باعتبار الثلاثة) أي: المستعار له، والمستعار منه، والجامع (ستة أقسام) لأن الاستعارة التي جامعها عقلي، وليس طرفاها حسيين، طرفاها إما عقليان أو مختلفان، فهذه ثلاثة أقسام أشار إليها. ثانيا:
والاستعارة التي طرفاها حسيان جامعها إما عقلي وإما حسي، وإما مختلف بعضه حسي وبعضه عقلي، فهذه ثلاثة أقسام أخر أشار إليها أولا، ولا يخفى أن استعارة العقلي للحسي ينبغي أن لا يجوز عند من لا يجوز تشبيه المحسوس بالمعقول، فكفى شاهدا عليه وقوعه في القرآن على ما سيذكره المصنف.
وأن ما جعله تقسيما باعتبار الثلاثة تقسيمان: تقسيم باعتبار الطرفين رباعي، وهو أن الطرفين إما حسيان أو عقليان أو مختلفان، وتقسيم باعتبار الجامع ثلاثي، وهو أن الاستعارة جامعها إما حسي أو عقلي أو مختلف جمعهما، وسماه تقسيما باعتبار الثلاثة، ووجهه خفي والأصفى لكل شربه، والأشهى له ما هو خير به.
وقد جعل السكاكي هذا التقسيم خماسيا لإهمال ما وجهه مختلف، ويعتذر له تارة بأن لم يوجد له مثال في التنزيل، وندر استعماله، وتارة بأنه داخل باعتبار فيما وجهه حسي، وباعتبار فيما وجهه عقلي، ولما كان جعل الأقسام ستة مخالفا لما ذكره السكاكي استدل عليه بقوله:(لأن الطرفين إن كانا حسيين، فالجامع إما حسي نحو قوله تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ (1) الخوار بالضم من صوت البقر والغنم والظباء والنعام (فإن المستعار منه ولد البقرة، والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حلي) الحلي كقفل، وبالفتح ما يزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة، جمعه حلي كدلي أو هو جمع، والواحد حلية كظبية.
(القبط) بالكسر: أهل مصر، وإليهم تنسب الثياب القبطية بالضم على غير قياس.
(1) طه: 88.
(والجامع الشكل) لا وجه لترك الخوار.
(والجميع حسي) يدرك بالبصر، والخوار يدرك بالسمع، وفي كون الآية استعارة بحيث إذ جسدا له خوار صريح في أنه لم يكن عجلا؛ إذ لا يقال للبقر:
إنه جسد له صوت البقرة، وقد أبدل من العجل بدل الكل، وظاهر أنه ليس عين العجل، فلا محالة المراد بالعجل مثل العجل، فهو نظير حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (1) فإن بيان الخيط بالفجر أخرجه من أن يكون استعارة إلى التشبيه، فكذا إبدال جسد له خوار من عجلا أخرجه من أن يكون استعارة، فهو تشبيه بليغ مجمل، ذكر فيه وصف المشبه وحده، وبه ظهر ضعف ترك المصنف من التشبيه المجمل ما ذكر فيه وصف المشبه وحده، بناء على عدم الظفر به في كلامهم، كما ذكره الشارح.
ومثّل السكاكي هذا القسم بقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (2) قائلا: فالمستعار منه هو النار، والمستعار له هو الشيب، والجامع بينهما هو:
الانبساط، ولكنه في النار أقوى، والطرفان حسيان، ووجه الشبه حسي.
هذا، واعتذر المصنف عن ترك التمثيل به بأن فيه تشبيهين:
الأول: تشبيه الشيب بشواظ النار في البياض والإنارة، وهذا استعارة بالكناية، وكلامنا في الاستعارة التحقيقية.
نعم، صح التمثيل من السكاكي؛ لأن كلامه في الاستعارة مطلقا.
والثاني: تشبيه انتشار الشيب في الشعر باشتعال النار في سرعة الانبساط، مع تعذر تلاقيه فهذه الاستعارة تصريحية، لكن الجامع فيها عقلي.
هذا، ويتجه عليه: أن السرعة كالانبساط حسية، وتعذر التلاقي عقلي، فالجامع مختلف، لكن المتجه لا يضره.
ويتجه أيضا: أنه لما كان الاشتعال الذي هو قرينة الاستعارة بالكناية مستعارا للانتشار المذكور، وهو أمر محقق، فقد وجد الاستعارة بالكناية بدون التخييلية، وسيصرح في فصل الاعتراضات على السكاكي أنه باطل بالاتفاق،
(1) البقرة: 187.
(2)
مريم: 4.