الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولك في ضبط المراتب الثمانية أن الوجه والأداة إما مذكوران معا أو ليس شيء منهما مذكورا، أو المذكور الوجه فقط أو الأداة وعلى التقادير الأربعة فإما لمن يذكر المشبه أو لم يذكر، فقول المصنف:
[وأعلى مراتب التشبيه]
(وأعلى مراتب التشبيه في قوة المبالغة باعتبار ذكر أركانه أو بعضها) إشارة إلى المراتب الثمانية، وقوله: باعتبار متعلق، بمعنى الفعل المستفاد من إضافة المراتب إلى التشبيه، فإنه في معنى مراتب يثبت للتشبيه.
وقال الشارح: إنه متعلق بالاختلاف الدال عليه سوق الكلام؛ لأن أعلى المراتب إنما يكون بالنظر إلى عدة مراتب مختلفة، كأنه قيل: وأعلى المراتب في قوة المبالغة إذا اعتبر اختلاف المراتب باعتبار ذكر الأركان كلها، أو بعضها، وما ذكرنا أقصر طريق فاقتصر عليه.
ومن البين أنه لا مبالغة باعتبار ذكر جميع الأركان فضلا عن قوة المبالغة، وأن جعل الكلام آيلا إلى أن أعلى مراتب التشبيه في قوة المبالغة باعتبار أحد الذكرين كذا وكذا، وذا لا يتوقف على أن يكون لكل من الذكرين مدخل في ذلك، فليكن ذكر جميع الأركان مما لا مدخل له في هذا الحكم تكلف جدا، فقوله: باعتبار متعلق بمفهوم إضافة المراتب إلى التشبيه، كما حققنا لا إلى قوة المبالغة كما يتبادر.
ووهم فاعترض بما ذكر لك، وإن حذف أحدهما من مراتب قوة التشبيه، لا من أعلى مراتبها لأنه لا قوة لما دونه من المراتب، كما حكم به، بل ليس من مراتب قوة المبالغة أيضا؛ لأنه ليس فيما دونه مبالغة حتى يعد من مراتب قوة المبالغة، بل من مراتب المبالغة فليس حذفهما أيضا أعلى المراتب في قوة المبالغة، بل أعلى المراتب في المبالغة، ولو قال: وأعلى مراتب التشبيه في المبالغة لم يتجه هذا.
(حذف وجهه وأداته) معا (فقط) بدون حذف شيء من المسند والمسند إليه، وفسره الشارح بقوله: أي بدون حذف المسند وله أيضا وجه لا يخفى على من إليه وجه الكلام.
(أو مع حذف المشبه) مع اعتباره في نظم الكلام؛ إذ لو أعرض عنه وترك
بالكلية لترقى من التشبيه إلى الاستعارة.
(ثم) أي الأعلى بعد هذه المرتبة على أن ثم للتراخي في الرتبة، هذا هو المتبادر، وإليه جرى بيان الشارح، وقد عرفت ما فيه، ولك أن تفسره بأن بعد هذه المرتبة الأعلى (حذف أحدهما كذلك) أي: فقط أو مع حذف المشبه بقرينة قوله (ولا قوة لغيره) فلا يتجه ما عرفت من لزوم كونهما أعلى بعد المرتبة الأولى مع أنه ينافي قوله ولا قوة لغيره، ونفي القوة عن غير المذكورين من الأمرين يفيد ثبوت المبالغة فيه، ولا مبالغة مع ذكر الوجه والأداة ذكر المسند أولا فنفى قوة المبالغة بنفيها، فحاصل الكلام أن مراتب التشبيه باعتبار ذكر الأركان أو بعضها ثمانية اثنتان فيهما مزيد مبالغة في التشبيه هما ما حذف وجهه وأداته مع حذف المسند وبدونه، وأربع فيها مبالغة في التشبيه هي ما حذف وجهه وأداته مع حذف المسند وبدونه اثنتان لا مبالغة فيهما، هما ما ذكر وجهه وأداته مع حذف المسند أو ذكره.
وفرق الشارح بين حذف الوجه والأداة في شرح المفتاح بأن المبالغة في الأول أقوى، وجعله من مقتضيات كلام المفتاح، وفي الشرح بأن الثاني أقوى، واختاره السيد السند، وأنكر كون الأول من مقتضيات كلام المفتاح؛ ووجهه أن في حذف الأداة جعل المشبه عين المشبه به، بخلاف حذف الوجه فقط؛ إذ ليس فيه إلا عموم وجه الشبه، وفيه نظر؛ لأن الشركة في جميع الأمور أيضا ينفي المغايرة ويوجب الاتحاد لا يقال ذكر الأداة يوجب المغايرة؛ لأنا نقول صحة الحمل أيضا يوجب المغايرة، ويمكن أن يقال تكفي المغايرة بحسب التعقل في صحة الحمل دون التشبيه بعموم الوجه المستفاد من ذكر الوجه يتخصص بما يجامع الإثنينية.
ووجه الشارح كون الصورتين الأوليين أقوى من الأربع المتوسطة بأن المبالغة إما بعموم وجه الشبه، أو بجعل المشبه به عين المشبه فما اشتمل عليهما فهو أقوى مما اشتمل على أحدهما وتوجيهه عندي بأن الأقوى في المبالغة دعوى الاتحاد، فإذا لم يقارنها ما يحل بها بقي على مقتضاها، وإلا فيتنزل عنه إلى مرتبة دونه ففي حذف الوجه والأداة تحقق دعوى الاتحاد بلا شائبة فتور، وفي حذف الأداة فقط يختل دعوى الاتحاد بذكر الوجه المنبئ عن المغايرة.
وقد جرى المصنف في هذا البيان على ما عليه المحققون، ورجحه الشيخ في أسرار البلاغة من أن نحو: زيد أسد، وأسد بحذف زيد، وتقديره لقرينة وأمثاله مما نسب فيه المشبه به إلى المشبه، أو أضيف إليه نحو: لجين الماء تشبيه لا استعارة كما ذهب إليه البعض، وهذا نزاع لفظي مبني على جعل الاستعارة اسما لذكر المشبه به، مع خلو الكلام عن المشبه على وجه ينبئ عن التشبيه أو اسم لذكر المشبه به لإجرائه على المشبه مع حذف كلمة التشبيه، على ما ذكره الشارح.
والأوجه أنه مبني على أنه هل يكفي في الاستعارة دعوى أن المشبه من جنس المشبه به ومن أفراده، أو هي عبارة عن كون دعوى أنه من جنسه مفروغا عنها مسلمة، والتعبير عنه باسم المشبه به، فعلى الأول أمثال زيد أسد، استعارة، وعلى الثاني تشبيه؛ لظهور قصد التشبيه فيها بأدنى تأمل؛ لأن الدعوى تشعر بالمبالغة في التشبيه، لظهور كذب الحقيقة، فيصار إليها، بخلاف صورة التغيير فإنه يحتاج الانتقال عنها إلى قصد التشبيه إلى مزيد تأمل؛ لأن الدعوى التي ينتقل منها إلى التشبيه غير مقصودة، بل أمر مفروغ عنه، فيحتاج الانتقال عنها إلى تدقيق النظر وإحضارها، ثم إنه نقل عن أسرار البلاغة أن إطلاق الاستعارة في: زيد الأسد، لا يحسن؛ لأنه يخص به دخول أدوات التشبيه من غير تغيير لصورة الكلام، فيقال: زيد كالأسد، بخلاف ما إذا كان المشبه به نكرة، نحو زيد أسد، فإنه لا يحسن زيد كأسد، وإلا لكان من قبيل قياس حال زيد إلى المجهول، وهو أسد ما إذ المراد بأسد فرد ما؛ ولهذا يحسن: كأن زيدا أسد: لأن المراد بالخبر المفهوم، فالتشبيه بالنوع لا بفرد ما فليس كالتشبيه بالمجهول، وإنما يحسن دخول الكاف بتغيير صورته، ونقل النكرة إلى المعرفة بأن تقول: زيد كالأسد، فإطلاق اسم الاستعارة هاهنا لا يبعد ويقرب الإطلاق مزيد قرب بأن يكون النكرة موصوفة بصفة لا يلائم المشبه به نحو: فلان بدر يسكن الأرض، وشمس لا تغيب، فإن التقدير أداة التشبيه فيه مزيد غموض، ويحتاج إلى كثرة التغيير كأن يقول: هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض، وكالشمس إلا أنه لا تغيب.
وقد يكون في الصفات والصلات التي نجري في هذا القبيل ما تحول تقدير أداة التشبيه فيه فيشتد استحقاقه لاسم الاستعارة، ويزيد قربه منها كقوله:
أسد دم الأسد الهزبر خضابه
…
موت فريص الموت منه يرعد (1)
فإنه لا سبيل إلى أن يقال المعنى أنه كالأسد، وكالموت؛ لما في ذلك من التناقض؛ لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل على أنه دونه أو مثله، وجعل دم الهزبر الذي هو أقوى الجنس خضاب يده دليل على أنه فوقه، وكذا في الموت، وأيضا يلزم أن يثبت للأسد المعروف ما ليس له فظهر أنه إنما أريد أن يثبت من الممدوح أسد له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للأسد، فهو مبني على تخييل أنه زاد في جنس البدر واحد له تلك الصفة، فليس الكلام موضوعا لإثبات التشبيه بينهما، بل لإثبات تلك الصفة، فالكلام فيه مبني على أن كون الممدوح أسدا أمر يقرر ويثبت، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة فمحصول هذا النوع من الكلام أنك تدعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختص بصفة عجيبة لم يتوهم جوازها، فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى.
هذا، وفيه نظر من وجوه:
أما أولا: فلأن المقصود من زيد أسد المبالغة في تشبيه زيد بهذا الجنس بادعاء أنه فرد منه، فلا يستدعي جعله تشبيها حسن تقدير أداة التشبيه أو إمكانه، بل يكفي فيه الانتقال منه إلى المبالغة في التشبيه والقصد إليه.
وأما ثانيا: فلأن نحو: فلان بدر يسكن الأرض، يحسن فيه دخول الكاف من غير كثرة تغيير الصورة كأن يقال فلان مثل البدر يسكن الأرض فيجعل يسكن الأرض صفة مثل المضاف إلى البدر، وجعله وصفا للبدر حين حذفه؛ لكون البدر قائما مقامه.
وأما ثالثا: فلأن نحو [أسد دم الأسد الهزبر خضابه] ليس المقصود منه ادعاء
(1) البيت للمتنبي في ديوانه: 1/ 92 من قصيدة في مدح شجاع بن محمد الطائي المنيحي، ومطلعها: -
اليوم عهدكم فأين الموعد؟
…
هيهات ليس اليوم عهدكم غد
الموت أقرب مخلب من بينكم
…
والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
والبيت في الإيضاح: 257. الهزبر: الشديد البأس، الفريص: جمع فريصة، وهي لحمة في الكتف ترتجف عند الخوف، أسد: خبر لمحذوف أي هو أسد، دم مبتدأ خبره خضابه.
حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختص بصفة عجيبة لم يتوهم جوازها، بل المقصود منه التشبيه بما ادعى حدوثه على الوجه المذكور، والمفهوم من التشبيه كون الممدوح مثل هذا الفرد الذي هو أقوى الأفراد أو دونه، ولا يناقض ذلك كون هذا الفرد المشبه به أقوى الجنس بأن يكون دم ما تعارف كونه أقوى الجنس خضاب يده.
نعم؛ المشبه به أمر خيالي لا تحقق له فقد لاح بما ذكرنا أن الحق ما عليه ظاهر كلام المصنف من جعل أمثال زيد أسد، تشبيها مطلقا، ولا يقدح فيه ما ذكره الشيخ، وأما ما ذكره الشارح في بحث الاستعارة من أنا لا نسلم (1) أن قولنا: زيد أسد، يجب أن ينصرف إلى معنى قولنا: زيد كالأسد، لعدم صحة حمل الأسد؛ لعدم توقف صحة الكلام عليه، فليكن في تقدير زيد رجل شجاع بأن يكون الأسد مستعار للرجل الشجاع بقرينة حمله على زيد، فليس بشيء؛ لأنه لا ينكر إمكان جعل الأسد في المثال المذكور الاستعارة إنما ينكر كونه استعارة، مع كون التشبيه بين زيد والأسد؛ لأن الاستعارة لا تجامع مع ذكر المشبه أو تقديره، ولا خفاء في أنه على ما ذكره ليس زيد مشبها، بل المشبه رجل شجاع، وهو ليس بمذكور في نظم الكلام ولا مقدر، فالأظهر أن نحو أسد على استعارة؛ لأن تعلق الجار به حينئذ أوضح؛ لأنه في معنى يجترئ وإن أمكن التعلق حين قصد التشبيه أيضا لتضمنه معنى الاجتراء؛ لكونه وجه الشبه.
وقد جعل السكاكي نحو: لقيت من زيد أسدا تشبيها، والمصنف أخرجه من تعريف التشبيه باشتراط أن لا يكون على وجه التجريد ولم يجعله أحد استعارة، وإنما خالف السكاكي فيه؛ لأن الإتيان باسم المشبه به ليس لإثبات التشبيه؛ إذ لم تقصد الدلالة على المشاركة، وإنما التشبيه مكنون في الضمير لا يظهر إلا بعد تأمل.
ولم تجعل الاستعارة بالاتفاق؛ لأنه لم يجر اسم بالمشبه به على المشبه لا باستعماله فيه ولا بإثبات معناه له، وهذا النزاع لفظي راجع إلى تغيير التشبيه، كذا يستفاد من الشرح.
(1) في الأصل (نم) وما ذكرناه أوفق للسياق.
ونحن نقول: في لقيت من زيد أسدا تجريد أسد من زيد؛ لجعل زيد أسدا، وهذا الجعل يتضمن تشبيه زيد بالأسد، حتى صار أسدا بالغا غاية الجنس، حتى تجرد عنه أسد، لكن هذا التشبيه مكنون في الضمير خفي؛ لأن دعوى أسديته مفروغ عنها منزلة منزلة أمر متقرر، لا يشوبه شائبة خفاء، ولا يجعل السكاكي هذا من التشبيه المصطلح، وكذلك يتضمن التشبيه تجريد الأسد الحقيقي عنه؛ إذ لا يخفى أن المجرد عنه لا يكون إلا شبه أسد فينصرف الكلام إلى تجريد الشبه، فهو في إفادة التشبيه بحكم رد العقل إلى التشبيه بمنزلة حمل الأسد على المشبه، فهو الذي سماه السكاكي تشبيها.
ولا ينبغي أن ينازع فيه المصنف معه، وكيف لا وهو أيضا في تقدير المشبه والأداة كأنه قيل: لقيت من زيد رجلا كالأسد، ولا تفاوت في ذلك بينه وبين زيد أسد.
***