الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النقع المقيد بالليل المقيد إنما يريدون أن لا اعتداد فيما يحتمل تشبيه مركب بمركب، لما سواه من الاحتمالات، وأنه لا ينبغي أن يلتفت إلى القصد في هذا الشعر إلى تشبيه السيوف بالكواكب، والحجامة بالليل؛ ولهذا نفاه الشيخ في هذا البيت وأثبت تشبيه المركب بالمركب، ولم يلتفت إلى نفي تشبيه المقيد بالمقيد، مع أنه لا معين تشبيه المركب بالمركب بدونه، لظهور أنه كالتشبيهات المتفرقة في حكم الساقط مع التشبيه المركب. والعاقل يكفيه الإشارة، والبليغ يكتفي بأدنى تبليغ.
[أو مختلفان]
(و) المركب الحسي (فيما) أي: تشبيه (طرفاه مختلفان) بالإفراد والتركيب، وهو قسمان أشار إلى الأول بقوله:(كما مر في تشبيه الشقيق) بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد].
ولو قال كما مر في تشبيه الشقيق وما سيجيء في تشبيه نهار مشمس قد شابه زهر الربى؛ لكان مستوفيا للأقسام.
وهاهنا بحث، وهو أنه لا يظهر أن المقصود بالتشبيه الشقيق، لا الهيئة الحاصلة من نشر أوراق الشقيق المحمرة على ساقاته الخضر، بل الظاهر من قوله إذا تصوب أو تصعد، أن النظر في المشبه والمشبه به على الحركات أيضا.
(ومن بديع المركب الحسي) أي: الغاية في الشرف والبلاغة في القاموس البديع الغاية في كل شيء، وذلك إذا كان عالما أو شجاعا أو شريفا.
(ما) أي: وجه شبه (يجيء في الهيئات) والصفات (التي تقع عليها الحركة) أي تتركب من تلك الهيئات كقول النحويين: ولا يتأتى الكلام إلا في اسمين أو في فعل واسم، لكن لا بد من اعتبار تغليب بأن يراد الهيئات ما يشمل الهيئات المجردة والهيئة وما يقارنها من أوصاف الجسم؛ ليصح جعل ما يجيء فيها على وجهين إذ أحد وجهيه ما جاء في الهيئة وما يقارنها من وصف الجسم وإلا فلا يصح قوله.
(ويكون على وجهين):
أحدهما: أن يقترن أي: يوصل من قرنت الشيء بالشيء من حد نصر وصلته به، والمراد أن يقترن في اعتبار العقل وتركيبه (بالحركة غيرها من
أوصاف الجسم كالشكل واللون)، ومع ذلك في قوله يجيء في الهيئات تسامح، والمراد أنه يجيء في الحركات الواقعة على الهيئات يرشد إلى ذلك قوله فيما بعد من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة، مع تموج الإشراق.
وأصل هذا الكلام ما نقل عن الشيخ في أسرار البلاغة: اعلم أنما يزاد به التشبيه سحرا أن يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركات والهيئة المقصودة في التشبيه على وجهين.
أحدهما: أن يقترن بغيرها من الأوصاف. والثاني: أن تجرد هيئة الحركة، حتى لا يراد غيرها، فجعل الشيخ الهيئات طرف التشبيه لا وجه الشبه المركب، وجعل الهيئة المقصودة بالتشبيه على وجهين؛ لأنه يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة فيرى كلامه عن شائبة اضطراب، ولم يحتج إلى تكلف.
(كما) أي وجه شبه (في قوله) أي: ابن المعتز أو أبي النجم [(والشمس كالمرآة في كفّ الأشلّ)](1) أي: الرجل الأشل، والشلل أي: اليبس في اليد، أو ذهابها، والمراد هاهنا المرتعش؛ لأن عديم اليد ويابسها لا يكون في كفه مرآة.
وقد صرح به السيد السند في شرحه للمفتاح.
(من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق) الظاهر أن يضم إليه تموجه، فيقول: وتموجه إلا أنه أخره عن قوله: (والحركة السريعة المتصلة)؛ لأنه مسبب عنها، وعدل عن قول المفتاح، وشبه تموج الإشراق إلى قوله (مع تموج الإشراق)؛ لأنه مغلق إذ إضافة الشبه إلى الإشراق معنى، والتركيب من قبيل حب رمانك لمن لا رمان له وله حب رمان؛ إذ لا تموج للإشراق؛ لأنه اضطراب موج البحر، بل له ما يشبه التموج فحذف الشبه، وأراد بالتموج الاضطراب.
(1) انظر البيت في الإيضاح: 214، 228، 236، والبيت ترددت نسبته بين ابن المعتز والشماخ بن ضرار، وأبي النجم، وابن أخي الشماخ واسمه جبار بن جزء بن ضرار، وهو الأصح إذ هو ضمن أرجوزة طويلة له مثبتة في ديوان عمه الشماخ.
(حتى يرى الشعاع) بالضم كالشعة الذي تراه من الشمس كالجبال مقبلة عليك إذا نظرت إليها أو الذي تراه ممتدا كالرياح بعيد الطلوع، وما أشبه، وبالفتح له معان أخر لا يناسب المقام وتفصيلها في القاموس.
(كأنه بهم) كيعم (بأن ينبسط) أي: يزيد الانبساط، تقول: هممت بالشيء إذا أردته (حتى يفيض) أي: يسيل استعار الفيض للشعاع كما استعار التموج للإشراق للآلاف من أجزاء الكلام ورعاية لغاية الانتظام (من جوانب الدائرة، ثم يبدو له) أي: يندم، وأصله بداله رأي آخر غير الأول، وإسناد الندامة إلى الشعاع عديل لإثبات الإرادة له وملايم له (فيرجع من الانبساط) الذي بداه (إلى الانقباض) كأنه مجمع من الجوانب إلى الوسط وهذه الهيئة إنما يظهر في الشمس بعد تجديد النظر إليها ليتبين جرمها، بخلاف المرأة فإنه يؤدبها في بادي النظر؛ فلذا جعلت مشبها بها للشمس.
(والثاني) من الوجهين (أي: تجرد) الحركة (عن غيرها) ولا يلاحظ منها غيرها من أوصاف الجسم.
(فهناك أيضا لا بد من اختلاط حركات) أي: امتزاجها ومزج العقل وتركيبه إياها (إلى جهات مختلفة) يتعلق بالحركات، أي: لا بد من أن يتحرك بعض الجسم إلى اليمين وبعضه إلى الشمال مثلا، أو يتحرك تارة إلى اليمين، وتارة إلى الشمال مثلا، فتدبر ولا تقتصر، وإلا لكان وجه الشبه مفردا.
ومعنى قوله أيضا أنه كما لا بد من حركات لا بد من كونها إلى جهات مختلفة، وهذا أظهر مما فسره الشارح به من أنه كما لا بد في الوجه الأول من أن يقرن الحركة بغيرها لا بد في الوجه الثاني أيضا من اختلاف حركات مختلفة بالجهات فإن قلت: لا شبهة في إمكان انتزاع الهيئة المركبة عن حركات مختلفة بالسرعة والبطء إلى جهة واحدة، وعن حركات الأجسام إلى جهة واحدة.
قلت: لعله أراد أنه لا بد لهذا القسم من بديع المركب الحسي من الاختلاط المذكور، فإنه لو انتفى لم يبق مركبا كما أشار إليه بقوله (كحركة الرحى والسهم لا تركيب فيها) أو بقي، ولم يكن بديعا كما ذكرت، إلا أنه اكتفى بذكر ما هو أبعد لزوما لانتفاء الشرط فتأمل.
ويؤيد ما ذكرنا ما قال الشيخ: كل هيئة من هيئات الجسم في حركاته إذا لم يتحرك إلى جهة واحدة فمن شأنه أن يفر ويندر، وكلما كان التفاوت في الجهات التي يتحرك إليها أبعاض الجسم أشد كان التركيب في هيئة المتحرك أكثر.
(بخلاف حركة المصحف في قوله) أي: قول ابن المعتز [(وكأنّ البرق مصحف قار) اسم فاعل من قرأ، حذفت همزته بعد قلبها لانكسار ما قبلها، كما قلب في بادي الرأي، لذلك كما ذكر في التفسير (فانطباقا مرّة وانفتاحا)](1) أي ينطبق انطباقا مرة وينفتح انفتاحا مرة، إلا أن يكون الانطباق والانفتاح في البرق سريعا دون مصحف القارى، إلا أن يندم القارى عن القراءة فيجعله منطبقا عقيب الانفتاح، فالمصحف يتحرك إلى العلو في الانطباق وإلى السفل في الانفتاح من لطيف ذلك قول الشاعر في صفة الرياض:
حفّت بسرو كالقيان تلحّفت
…
خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنّها والرّيح جاء يميلها
…
تبغي التّعانق ثمّ يمنعها الخجل (2)
السرو: اسم جنس، يطلق على القليل والكثير، والقيان: ككتان جمع قنية كرحمة، وهي الجارية مغنية كانت أو غيرها، والتلحف: أخذ الشيء لحافا، والقوام: القامة وحسن الطول، والخجل كالفرس، التحير والدهش من الاستحياء، ومقتضاه أن يكون معتد لا على وزن اسم المفعول مصدرا ميميا فيكون مبالغة في وصف القامة بالاعتدال.
(وقد يقع التركيب) أي: التركيب في الطرف كان أو في الوجه، والأشبه أن يجعل اللام للعهد إشارة إلى التركيب البديع، ويؤيده أنه قال في الإيضاح:
ومن لطيف ذلك قول أبي الطيب، وأشار بكلمة قد إلى قلته؛ نظرا إلى التركيب في الحركات (في هيئة السكون كما) أي: كتركيب (في قوله) أي: قول أبي الطيب، وهذا هو الوجه دون قول الشارح كما أي كوجه الشبه الذي في قوله بشاهد سوق التركيب، وبيان المصنف لكلمة ما، فإنه ذكر في بيانه تركيب المشبه، لا وجه الشبه، إذ الإقواء والهيئة الحاصلة من موقع كل عضو من الكلب
(1) انظر البيت في الإيضاح: 215.
(2)
البيتان لابن المعتز أو الأخيطل الأهوازي الملقب ببرقوقا، وهما في الإيضاح:216.
في إقعائه هي المشبه، والهيئة الحاصلة من جلوس البدوي المصطلي، وموقع كل عضو منه في جلوسه المشبه به.
وينبغي أن يجعل التركيب في هيئة السكون أيضا على وجهين.
أحدهما: أن تجرد عن غيره من صفات الجسم، كما في قوله:(في صفة كلب) أي: نعته [(يقعي) من الإقعاء، وهو مشترك بين (جلوس) الكلب على استه، وجلوس الحيوان مع التساند إلى ما وراءه (البدويّ المصطلي)](1) اسم فاعل من الاصطلاء، وهو الاستدفاء بالنار. وفي تشبيهه بالبدوي المصطلي مبالغة في استدامته على الإقعاء، كاستدامة البدوي المصطلي على هذا النوع من الجلوس، وفي وصفه بالاستدامة على الإقعاء ترتبه لوضع بجدل القوائم فإنها لا تفتر ولا تصرر بالإقعاء تتمته بأربع مجدولة لم تجدل أي بقوائم محكمة الخلق.
يقال: فلان مجدول الخلق أي: محكم الخلق، وأصل المجدول المفتول. وقوله لم تجدل: أي: لم تفتل من طاقات، بل خلقت محكمة مع عدم الفتل.
ويحتمل أن يراد بنفي الجدل نفي جمعها كما يكون للكلب في غير صورة الإقعاء من الهيئة الحاصلة، أي:(من) تركيب (الهيئة الحاصلة من موقع) أي: من وقوع (كل عضو منه) وسكونه (في إقعائه) ومن تركيب الهيئة الحاصلة من موقع كل عضو من البدوي المصطلي في جلوسه، ومن تركيب القدر المشترك بين الهيئتين.
وثانيهما: أن يقرن بالسكون غيره من أوصاف الجسم من الشكل واللون وغيره، كما في قول الشاعر في صفة مصلوب:
[وكأنّه عاشق قد مدّ صفحته] أي: عرض وجهه. [يوم الوداع إلى توديع مرتحل].
أو قائم من نعاس فيه لوثته
…
مواصل لتمطّيه من الكسل (2)
فإن المشبه والمشبه به فيه الهيئة الحاصلة من هيئة السكون في مد صفحته
(1) البيت أورده القزويني في الإيضاح: 216 وعجزه: بأربع مجدولة لم تجدل.
(2)
البيتان في الإيضاح: 216 وهما للأخيطل الأهوازي، والصفحة: باطن الكف، واللوثة: الاسترخاء، وهذا مثال لهيئة السكون المضاف إليها غيرها من أوصاف الجسم.
واصفرار الوجه الذي يكون للمصلوب والعاشق، أو لقائم من النعاس الاسترخاء الذي في القائم من النعاس ومواصلة التمطي، وزاد اللطف في التشبيه بالقائم من النعاس الممتطي المواصل للتمطي لأجل الكسل فإن في ملاحظة التمطي، وبيان سببه تفصيلا في التشبيه ليس في التشبيه بالتمطي؛ لأنه أمر جلي ولطف التركيب على حسب التفصيل.
(و) المركب (العقلي) من وجه الشبه (كحرمان) مصدر حرمت الشيء كعلمه وضربه منعه الشيء فهو مضاف إلى (الانتفاع) إضافة المصدر إلى مفعوله الثاني.
وقوله: (بأبلغ نافع) صلة الانتفاع وقوله: (مع تحمل التعب في استصحابه) متعلق بالحرمان ومرتبط به (في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (1) جمع سفر بكسر السين أي الكتاب.
قال في الإيضاح: فإنه منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها ببعض، وذلك أن روعي من الحمار فعل مخصوص، وهو الحمل وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا، وهو الأسفار التي هي أوعية العلوم وأن الحمار جاهل بما فيها، وكذا في جانب المشبه.
هذا كلامه، ولا يخفى أن الجهل في جانب المشبه تنزيلي تخييلي، ولو جعل المرعى أن الحمار غير منتفع بها لكان مشتركا بينه وبين أهل التوراة بلا تكلف وتصرف.
(واعلم أنه قد ينتزع من متعدد) أي: يجعل المتعدد منتزعا منه، سواء كان المنتزع طرفا أو وجه شبه فلا ضمير في ينتزع، وجعل الشارح فيه ضمير وجه الشبه، ويؤيده الضمير في قوله:
(فيقع الخطأ لوجوب انتزاعه عن أكثر) ونحن نجعل الضمير للمنتزع المفهوم من الفعل.
فإن قلت: هل حاصل هذا التحقيق إلا أنه قد يقع الخطأ لالتباس الشيء
(1) الجمعة: 5.
بغيره مقامه، فما الفائدة للتعرض له؟ وما وجه تخصيصه بالانتزاع فإنه يجري في جميع التشبيهات؟ قلت: المقصود الفرق بين وجه التشبيه المركب والمتعدد بأنه في الأول لا يمكن إسقاط شيء من متعدد، وذكر بخلاف الثاني فإنه لا يخل بالتشبيه الاكتفاء بالبعض منه، ولا يذهب عليك أن من جهات الفرق أنه لا يمكن الزيادة على المتعدد الأول، بخلاف الثاني، وأنه قد يقع الخطأ أيضا بأن ينتزع من متعدد، ويجب الانتزاع بأقل منه، وهذا أنسب مما يستفاد من الإيضاح أن المقصود الفرق بين التشبيه المركب والتشبيهات المجتمعة بأنه يمكن الإسقاط في الثاني دون الأول؛ فإنه لو حذف شيء من التشبيهات المجتمعة لم يتطرق خلل بالتشبيهات الباقية، وأن يختل الغرض من الكلام، كما في: زيد يصفو ويكدر، فإنه لو حذف يكدر كان تشبيه زيد بالماء الصافي بحالة، وإن اختل الغرض من الكلام، وهو وصف زيد بالقعر بخلاف التشبيه المركب فإنه لو حذف شيء مما يوجد منه المركب لم يبق التشبيه بحاله.
واعلم أن المقصود بزيد ويصفو ويكدر زيد ماء ويصفو ويكدر فيكون من قبيل زيد أسد، بل كأنه أسقط الناسخ ماء فلا يرد أن زيدا يصفو استعارة بالكناية لا تشبيه، كما ذكره الشارح أو استعارة تبعية كما ذكره السيد السند.
(كما إذا انتزع من الشطر الأول من قوله [كما أبرقت قوما عطاشا غمامة) حكى أبرقت السماء صارت ذات برق، وفي القاموس والصحاح: أبرقت المرأة تحسنت وتزينت، والناقة شالت بذنبها وتلحقت، وليست بلاقح، ويصح كل من الثلاثة في البيت، لكن لا بد لنصب قوما من تضمين معنى الإطماع، ولا يخفى حسن المعنى الأخير، بحيث يمنع عن الالتفات بغيره، فإن الغمامة هنا كالناقة المتلقح في أنها ترى ما ليس لها، وتدعي كذبا.
وأما ما ذكره الشارح أن في الأساس أبرقت لي فلانة، إذا تحسنت لك وتعرضت، فالمعنى هاهنا أبرقت الغمامة للقوم، أي تعرضت لهم فحذف الجار، وأوصل الفعل ففيه أن الحذف والإيصال سماعي، لا يتجه بناء الكلام عليه ما لم يثبت السماع، وأن أبرقت لي لتضمين الإبراق معنى التعرض كما يفيده قوله:
وتعرضت، واكتفاء الصحاح والقاموس في تفسير أبرقت بتزينت، ولا يصح
الحذف والإيصال فيما يحتاج إلى التضمين؛ لأن الجار قرينة التضمين وحذفه إخلال بالقرينة، فتأمل.
(فلمّا رأوها أقشعت) أي تفرقت (وتجلّت)] (1) أي: انكشفت، ولا بد هنا من تجريد لما عن معنى السببية، وجعله لمجرد الظرفية فانتزاع وجه الشبه من مجرد، وقوله كما أبرقت قوما عطاشا غمامة، وجعل المشبه به منتزعا من مجرد خطأ (لوجوب انتزاعه من الجميع) أي جميع البيت (فإن المراد التشبيه) للحالة المذكورة في الأبيات السابقة.
(باتصال ابتداء مطمع) للغمامة (بانتهاء مؤيس) فالباء دخلت على المشبه به كما هو المتبادر أو المراد أن التشبيه للحالة المذكورة بظهور الغمامة لقوم عطاش، ثم تفرقها وانكشافها في اتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس، على أن الباء بمعنى في، وهو غير عزيز في كلام العرب. وبما ذكرنا ظهر ضعف ما قال الشارح:
إن معنى قوله باتصال بواسطة اتصال يعني باعتبار أن يكون وجه الشبه والمقصود المشترك فيه اتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس؛ لأن البيت مثل في أن يظهر للمضطر إلى الشي الشديد الحاجة إليه أمارة وجوده، ثم يفوته ويبقى تحسره وزيادة ترح، فالباء في قوله باتصاله ليست هي التي تدخل في المشبه به؛ لأن هذا المعنى مشترك بين الطرفين والمشبه به ظهور الغمامة، ثم انكشافها، بل هي مثل الباء في قولهم التشبيه بالوجه العقلي أعم، فليتأمل.
وينبغي أن لا يخفى أيضا أن المراد ليس مجرد الانتزاع الاتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس بلا انتزاع اتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس بالتدريج بأن يظهر أمارة اليأس ثم يصير الناس بناء؛ لئلا يفوت فائدة ذكر اقشعت، فالقوم أيضا لم يحفظ عن الخطأ بالكلية فبالله اعتصم إن النفس لأمارة بالسوء إلا من عصم.
(والمتعدد الحسي) عطف على الواحد الحسي.
(1) البيت أورده القزويني في الإيضاح: 218، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح: 107 وقبله:
لقد أطمعتني بالوصال تبسما
…
وبعد رجائي أعرضت وتولت
وقوله: أبرقت: بمعنى تحسنت وتعرضت لهم، فما بعده منصوب بنزع الخافض، والغمامة السحابة، وقوله: أقشعت، وتجلت بمعنى تفرقت وانكشفت، وقد نسب بعضهم البيت إلى كثير، ولكنه لا يوجد في تائيته.
(كاللون والطعم والرايحة في تشبيه فاكهة) هي التمر كله على الأصح، ومنهم من أخرج منها التمر والعنب والرمان، مستدلا بقوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (1) ودليله لا يثبت تمام دعواه مع أنه جعل علماء التفسير عطف النخل والرمان من قبيل عطف جبريل على الملائكة. (بأخرى) أي بفاكهة أخرى.
(والعقلي) عطف على الحسي (كحدة النظر وكمال الحذر) كالنظر والنظر الاحتراز.
(وإخفاء السفاد) كالعماد، أي: نزو الذكر على الأنثى قيل: لم ير أحد ذلك منه، وفي المثل:«هو أخفى سفادا من الغراب» وقيل لا سفاد له، بل أمره ما أنشأه بالطاعمة وهو إدخال منقاره في منقارها. وحكى في كمال حذره أنه كان يوصي إلى ولده أن يطير إذا رأى الإنسان إذا توجه إلى الأرض مخافة أن يأخذ الحجر لضربه، فقال ولده: أنا أطير إذا رأيته لعله كان الحجر في يده.
(في تشبيه طاير) أو غيره (بالغراب والمختلف) عطف على الحسي والعقلي على المختلف، أي: متعدد بعضه حسي وبعضه عقلي (كحسن الطلعة) أي:
الوجه (ونباهة الشأن) أي: شرفه مصدر نبه مثلثة: رواه ابن طريف.
(في تشبيه إنسان بالشمس واعلم أنه قد ينتزع الشبه) كالفرس والعلم وكأمير المثل، صرح به القاموس كالصحاح لكن الشارح فرق بأن الشبه كالفرس بمعنى التشابه، وفي كلام الصحاح إشارة إليه وأراد به وجه الشبه (من نفس التضاد) أي: التنافي سواء كان تضادا أو تناقضا أو شبه تضاد (لاشتراك الضدين فيه ثم ينزل) التضاد (منزلة التناسب بواسطة تمليح) أي: إتيان بما فيه ملاحة وظرافة (أو تهكم) أي: استهزاء وسخرية، وقد يجتمعان.
قال الإمام المرزوقي في قول الحماسي:
أتاني عن أبي أنس وعيد
…
فسلّ لغيظه الضّحّاك حسّي
إن قائل هذه الأبيات قد قصد بها الهزء والتمليح، هذا والضحاك أبو أنس، وأسل أي ابتلى بالسل (فيقال للجبان ما أشبهه بالأسد وللبخيل هو حاتم)
(1) الرحمن: 68.
فكل من المثالين محتمل لكل منهما، ولهما معا فكلام الشرح والمختصر أنه إن كان الغرض مجرد الملاحة من غير قصد إلى استهزاء فتمليح، وإلا فتهكم محل نظر.
والقسمة الصحيحة ثلاثية أورد الشارح على هذه العبارة أنه يستفاد منه أن وجه الشبه نفس التضاد حتى اتخذه البعض مذهبا وفساده ظاهر، إذ لو قلنا للبخيل هو حاتم في التضاد لم يكن فيه تهكم ولا تمليح، ولا حاجة حينئذ إلى قوله، ثم نزل منزلة التناسب، بل لا معنى له أصلا.
هذا وأيضا لا يفهم من قولنا: هو حاتم إلا أنه الحاتم في الجود، حتى لا يتأتى لنا أن نقول المراد هو حاتم في التضاد، وأيضا وجه الشبه حينئذ نفس التضاد، لا ما ينتزع منه.
وأجاب بأن المراد أنه نزل أحد الضدين منزلة الآخر للاشتراك في التضاد، ولجعل وجه الشبه، ويتجه عليه أن التنزيل سابق على الانتزاع، فلا يصح التراخي المستفاد من كلمة ثم.
وأجاب عنه السيد السند في حواشي شرحه على المفتاح بأن القصد إلى التراخي في الرتبة إذ العمدة في التشبيه التنزيل المذكور وما سبق كالتوطئة له، ولا يخفى أنه تكلف.
والحق أن يقال: المراد، وقد يقصد إلى انتزاع وجه الشبه من نفس التضاد، ثم ينزل منزلة التناسب فينزع.
فإن قلت بعد: لم يقع ثم موقعه، والحق الفاء.
قلت: كما يكون ثم لتراخي أول المعطوف عن المعطوف عليه يكون لتراخي آخره، والتنزيل منزلة التناسب إنما يتم بالتهكم أو التمليح كما أشار إليه بقوله:
بواسطة تمليح أو تهكم، فهو من تتمته فيتراخى التنزيل بآخره عن قصد الانتزاع.
هكذا ينبغي أن يبحث عن دقائق الكلام، وتوضيح سرائر المقام، ولا يبعد أن يقال: انتزاع وجه الشبه تحصيله بتكلف وإعمال نظر، فالمراد أنه يجعل نفس التضاد واعتبار التضاد وجه شبه تكلف لا يرتكب إلا لداع؛ فلذا عبر عنه بانتزاع، ثم ينزل ذلك التضاد المعتبر في مقام التشبيه منزلة التناسب بواسطة تمليح
أو تهكم، فينزل أحد الضدين منزلة الآخر، ويصير وجها للشبه بالآخرة.
فلهذا يحصل التمليح أو التهكم، ولا يصح التصريح بالتضاد في بيان وجه الشبه ويصح العطف بثم؛ لأن جعل التضاد وجه الشبه سابق على التنزيل، وبعد التنزيل ينقلب وجه الشبه إلى الضد التنزيلي فيقصد أولا في هو حاتم إلى أنه كالحاتم في التضاد، فإذا جعل التضاد وسيلة الجمع بينهما نزل منزلة التناسب فيصير بخله كرما تنزيلا، فيصير وجه الشبه الكرم التنزيلي، فلا يصح في مقام التصريح بوجه الشبه إلا أن يقال: هو حاتم في الكرم، ولعل المقصود في أمثال هو حاتم للبخيل أنه جانب الضد نهاية كما أن الحاتم نهاية في الجانب الآخر والتمليح في أنه أفاد كمال بخله في صورة كمال الكرم، والتهكم في أنه بالغ في كمال بخله مع إراءة أنه مبالغ في كرمه.
والشارح العلامة جعل التمليح هنا بمعنى الإشارة إلى قصة أو مثل أو شعر نادر، وجعل هو حاتم للتمليح لا للتهكم، ورده الشارح عليه بأنه اشتباه التمليح بالتلميح، وبأنه لا إشارة فيه إلى قصة لحاتم ورده حق، لكن الظاهر أن اعتبار التمليح في هو حاتم باعتبار الإشارة إلى المثل عند الشارح العلامة؛ لأن قولنا:
هو حاتم بمنزلة المثل في كمال الكرم (وأداته) أي: أداة التشبيه، أي: آلته، والأداة لغة الآلة سمي بها ما يتوسل به إلى التشبيه اسما كان أو فعلا أو حرفا، وقد بعد كل البعد من قال: إطلاق أداة التشبيه من خلط العربية بالفلسفة، ومن فروع تسميتهم الحرف أداة، على عكس تسمية المنطقيين أداة السلب بحرف السلب.
(الكاف): حرفا كانت أو اسما، والثاني يكون في الضرورة، والسعة عند الأخفش والجزولي، ويخصه سيبويه بالضرورة، ويلزم الكاف إذا دخلت على أن المفتوحة كلمة ما فيقال كما أن زيدا قائم، ولا يقال كأن زيدا قائم؛ لئلا يلتبس بكلمة كان.
(وكأن): جمعها مع الكاف مبالغة لمذهب غير الخليل (1) من أن كأن كلمة
(1) الخليل: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري، الإمام صاحب العربية ومنشيء علم العروض، ولد سنة 100 هـ وتوفي 170 هـ.
موضوعة للتشبيه؛ لأن في مذهبه من أن كأن زيدا أسد في الأصل أن زيدا كالأسد غير صورة الجملة، والمعنى على ما كان والكاف من دواخل الخبر معنى وأن المفتوحة صورة رعاية لدخول الكاف عليها صورة مكسورة معنى تكلفات عنها مندوحة، وفي عدها مطلقا من أداة التشبيه موافقة لما اشتهر في عبارة جمهور النحاة، من أنها للتشبيه وعدم المبالاة بما قال الزجاج إنه للتشبيه إذا كان الخبر جامدا، نحو كأن زيدا أسد، وللشك إذا كان مشتقا نحو كأنك قائم لتفرده في هذا التفصيل، فإن قوى ما ذكره من التعليل، وهو أن الخبر إذا كان مشتقا عين الاسم والشيء لا يشبه نفسه ووجهه أن ضمير المشتق عين الاسم، والمشتق عين الضمير، ولا تنصرنه بما يختلج في الوهم أنه كما لا يشبه الشيء نفسه لا يحمل عليه نفسه؛ لأنه ما لا يلتفت إليه نظر العقل؛ لأن وجوب حمل الخبر على الاسم مم (1)، وأما ما يقال في دفع ما ذكره إن كأن زيدا قائم في تقدير كأن زيدا شخص قائم، لكن لما حذف الموصوف وجعل الاسم بسبب التشبيه كأنه الخبر صار الضمير يعود إلى الاسم لا إلى الموصوف المقدر نحو كأنك قلت: مما يعجب، وإن رضى به الشارح وذلك: لأن الشخص القائم إن كان عين زيدا فلا يصح التشبيه، وإن كان غيره فلا يصح جعل ضميره لزيد، قوله: جعل الاسم لسبب التشبيه كان الخبر برده أنه مع ذكر أداة التشبيه لا يجعل المشبه به كأنه المشبه، ولأن موصوف الجملة لا يحذف إلا بشرط، فقد هناك.
لكن الشارح قال: والحق أنه قد يستعمل للظن، سواء كان الخبر جامدا أو مشتقا نحو كأن زيدا أخوك، وكأنه فعل كذا وقد كثر في كلام المولدين.
(ومثل وما في معناه) نحو: شبه وشبه، ونحوه درج ما يشتق من المتماثلة والمشابهة والمضاهاة، وما يؤدي معناه فيه يحتاج إلى تمحل جعل ما في معناه أعم مما في معناه باعتبار المعنى المطابقي أو التضمني، وإلا فلا يشتمل لشبه ونحوه، ولم يستغن بقوله مثل وما في معناه عن ذكر الكاف، وكأن لأن الحرف لا يكون في معنى الاسم والفعل، لاستقلال معناهما دونه
نعم لك أن تخص الكاف سابقا بالحرف، وتدخل الكاف الاسمي في سلك
(1) كذا بالأصل.
ومثل وما في معناه، ولا يبعد أن يجعل من أدوات التشبيه صيغة التفعل نحو:
تحلم وتصبى وتشيخ فإنه في معنى حليما وصار صبيا وصار شيخا.
ولا يخفى أنه لم يصر شيخا، بل صار كالشيخ في صدور أفعاله عنه وظهور صفاته منه.
(والأصل في نحو الكاف)(1) أي: الأصل في الكاف ونحوها، ومثل هذه العبارة تعارفت في مثل هذا المعنى، والمراد بنحو الكاف ما لا يدخل إلا على أحد أركان التشبيه، وهو ما يكون الداخل عليه مجرور إلا غير، واحترز به عن نحو كأن ويشبه ويشابه بل عن مماثل فإن قولنا: زيد مماثل عمر ولم يل المماثل المشبه به، بل المشبه، وهو الضمير المستتر فيه؛ ولذا قيدنا المجرور بقولنا: لا غير؛ إذ عمرو في المثال المذكور تجوز نصبه. وقال الشارح: أراد بنحو الكاف ما يدخل على المفرد كالكاف بخلاف كان وتماثل وتشابه، وفيه أن تماثل وتشابه لا يدخل على الجملة، بل على المفرد كالكاف ومثل إلا أن يتكلف بأنه أراد بالمفرد الواحد وتماثل وتشابه ونحوهما يدخل على المتعدد (أن يليه المشبه به)(2) قد ذكروا حكم الكاف ونحوها وأهملوا حكم كأن ونحوها إذ لا يفهم من بيانهم إلا أن ليس الأصل فيها أن يليها المشبه به ولا يعلم أن ولي غيره واجب أو أصل أو ولي المشبه به وغيرها سيان، فيقول تجب أن يلي كأن المشبه؛ لأن المشبه به الخبر وتقديم الخبر على اسم الحروف المشبهة لا يجوز في غير الظرف والخبر هنا لا يكون ظرفا، فتأمل.
وفي الأفعال وأشباهها الأصل أن يليه المشبه؛ لأنه الفاعل، ويجوز العدول عن الأصل تقديم المشبه به على المشبه؛ لأن تقديم المفعول على الفاعل، ثم نقول: الغرض من هذا التحقيق أن ما ليس بمشبه به قد يقع في الصورة موقعه،
(1) نحو الكاف: كل ما يدخل على المفرد كلفظ مشابه ومماثل، أما غير الكاف ونحوها وهو ما يدخل على الجملة أو يكون جملة بنفسه، فالأصل فيه أن يدخل على المشبه، كلفظ كأن مما يدخل على الجملة، وكلفظ يشابه مما يكون جملة بنفسه والمشبه في نحو- زيد يشابه عمرا- هو الضمير العائد على زيد لا زيد.
(2)
وإما لفظا نحو- زيد كأسد- أو تقديرا نحو قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ تقديره أو كمثل ذوي صيب، بدليل قوله بعده: يَجْعَلُونَ.
وذلك لا يخص بالكاف ونحوها. وحق البيان في هذا المقام أن يقال: الأصل في الكاف ونحوها أن يليه المشبه به، وفي كأن أن يكون خبره المشبه، وفي الأفعال وشبهها أن يكون مفعولاتها المشبه بها، وقد يخالف ذلك نحو وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ (1) الآية وكأن مثل الحياة الدنيا ماء أنزلناه إلى آخر الكلام، وتشبيه الحياة الدنيا ماء إلى آخره، بل يقول قد يقع غير المشبه به أيضا في موقعه كما في قوله:[وكأن النجوم بين دجاها] فإن النجوم ليست مشبها بها، بل الهيئة، وقس عليه. قال الشارح المحقق: المراد أعم من أن يليه المشبه به لفظا نحو: زيد كالأسد أو كزيد الأسد، ومن أن يليه تقديرا كقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ (2) الآية فإن التقدير أو كمثل ذوي صيب فحذف ذوي بقرينة الضمائر الطالبة له وحذف مثل بقرينة جعله مشبها بها لمثلهم يشهد بأن مثل الآية مما يلي الكاف المشبه به، دون غيره كون المقدر كالملفوظ فيما بينهم وكلام الكشاف والإيضاح، وما صرح به المصنف في الإيضاح حيث قال: وأما قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ (3) فليس منه يعني من قبيل ما لا يلي المشبه به الكاف؛ لأن المعنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى الله.
هذا ويتبادر من عبارة الإيضاح أنه حذف من بين كلمة ما، وقال كان الحواريون أنصار عيسى حين بيّن، ولا يرشد إلى صحته حذف قاعدة فهو بيان لحاصل المعنى، ولهذا قال: لأن المعنى ولم يقل؛ لأن التقدير كونوا أنصار الله ككون وقت قول عيسى، فالمحذوف مضاف ومضاف إليه كما صرح به المفتاح.
وإضافة الكون إلى الوقت إضافة المظروف إلى الظرف على نحو ضرب اليوم وهذا مما أخفى على أقوام فاشتبه عليهم أنه كيف يضاف الكون إلى الوقت، ولا يبعد أن يجعل ما في كما قال موصولة أي: كالكون الذي قال عيسى لأجله من أنصاري إلى الله، والأوجه أن التشبيه إلى نفس القول يجعل قول عيسى بمنزلة
(1) الكهف: 32.
(2)
البقرة: 19.
(3)
الصف: 14.
كون الحواريين أنصار الله في سرعة إجابتهم له، وظاهر قوله تعالى: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ (1) يقتضي أن يكون المعنى كما كان الحواريون أنصار الله؛ لا كما كان الحواريون أنصار عيسى، إلا أن يقال تقديره نحن أنصار نبي الله لاستدعاء ظاهر من أنصاري إلى الله.
ذلك (وقد يليه غيره) أي: قد يلي الكاف ونحوها غير المشبه به مما يكون له مدخل في المشبه به، وذلك إذا كان المشبه به هيئة منتزعة وذكر بعد الكاف بعض ما ينتزع عنه الهيئة ولا خفاء في كثرته، فالتقليل باعتبار الإضافة، وقد أشار إلى هذا بقوله:(بنحو وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ (2) ولا يخفى أنه يمكن رعاية الأصل في جميع ما هو من هذا القبيل بتقدير المثل، والحال والشأن، لكنهم رأوهم مستغنين عن جميع ما هو عن الحذف لو أهملوا رعاية هذا الأصل فأهملوه وراعوا أصل أخراهم هو عدم الحذف، وقد يراعونه في مقام الاستغناء عن الحذف إذا كان لا بد في المقام من حذف شيء؛ لأنه بعد الوقوع في الحذف لضرورة يهون ارتكابه فيرتكب لأدنى داع، ومنه قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ الآية لأن حذف ذوي ضروري للضمائر، وحذف المثل؛ لأنه أنسب بجعل المشبه المثل، وأشد ملايمة له؛ ولهذا القدر لا يقدمون على التقدير فيما لا تقدير ضروريا (وقد يذكر فعل ينبئ عنه) الظاهر ينبئ به أو ينبئ إياه في القاموس إنباءه إياه ربه، فكلمة عن متعلقة بالكشف المتضمن للإنباء، والأولى وقد يذكر ما ينبئ عن التشبيه ليتناول، نحو: أنا عالم أن زيدا أسد، وزيد أسد حقا أو بلا شبهة، وكأن زيدا أسد إذا كأن للظن، ومما لا يشتبه أن ليس مقصود المصنف أن يذكر فعل يدل على نفس التشبيه، فإنه مستفيض كثير مثل يشبه ويشابه ويضاهي ويماثل، بل المراد فعل ينبئ عن حال من أحوال التشبيه على أنه لا يتبادر من قولنا إنباء فلان عن فلان إلا أنه أظهر حالا من أحواله لا أنه أفاد تصوره سيما مع قوله إن قرب وقوله إن بعد، فما ذكره الشارح أن في كون الفعل منبئا عن التشبيه نظرا للقطع بأنه لا دلالة للعلم والحسيان على التشبيه، بل الدال عليه عدم صحة
(1) الصف: 14.
(2)
الكهف: 45.
الجمل وتعين قصد التشبيه لإصلاح الكلام، فلو قال إنه ينبئ عن حال التشبيه من القرب والبعد لكان أنسب ضعيف.
(كما في علمت زيدا أسدا أن قرب) التشبيه أي: نسب إلى القرب لما في العلم من الدلالة على تيقن الاتحاد وتحققه فيفيد مبالغة في التشبيه، وأن الشبه بحيث تيقين بينهما الاتحاد.
قال الشارح: دلالته على قوة المشابهة لما في العلم من الدلالة على تحقق التشبيه وتيقنه، وفيه نظر وهو إنما يصحح وجها لتقريب التشبيه في علمت أن زيدا كالأسد.
(و) كما في (حسبت) زيدا أسدا (إن بعد) التشبيه لما في الحسيان من الدلالة على الظن والتخمين، ففيه إشعار بأن في شبهة الاتحاد فيفيد قوة للمشابهة دون قوة أفادها ذكر العلم. وينبغي أن يعلم أن قولنا: أشك أن زيدا أسد أيضا أبلغ من قولنا زيد كالأسد، فإن إيقاع المشابهة في الشك في الاتحاد يفيد قوة للمشابهة بلا شبهة.
ومن نفايس سوانح هذا المقام أنه قد يدخل ما ينبئ عن حال المشبه به نحو:
قد علمت أن غرة الصباح وجه الخليفة، فإنه يفيد المبالغة في كون وجه الخليفة أتم من الغرة (والغرض منه) أي: من التشبيه (في الأغلب يعود إلى المشبه)؛ لأن التشبيه بمنزلة القياس في ابتناء شيء على آخر، فكان الغرض عائدا إلى المشبه الذي كالمقيس، وقوله في الأغلب لما سيأتي من أنه قد يعود إلى المشبه به.
فإن قلت: فيما سيأتي ما يدل على أنه قليل، وقوله في الأغلب يدل على أنه غالب.
قلت: القلة بالإضافة لا ينافي الغلبة.
(وهو) أي: الغرض (بيان إمكانه) أو وجوبه أو امتناعه أو وقوعه، فالاقتصار على الإمكان من ضيق العطف في البيان، فبيان الإمكان (كما في قوله [فإن تفق) أي: تعل بالشرف (الأنام)] كسحاب الخلق، أو الجن والإنس، أو جميع ما على وجه الأرض [(وأنت منهم فإنّ المسك بعض دم
الغزال)] (1) فإنه أراد أن الممدوح به قد فاق الخلق؛ بحيث لم يبق بينهم وبينه مشابهة، والحال أنه منهم والفائق على هذا الوجه كالممتنع أن يكون من المفوق فاحتج لإثبات كونه منهم بأن حاله كحال المسك، فإن المسك بعض دم الغزال، وقد فاق الدماء بحيث لم يبق له مشابهة بها وجعل الدليل لدفع إنكار كونه منهم أبلغ من جعله لدفع إنكار تفوقه؛ لأن المناسب بمقام المدح هذا، واعرفه ودع ما اشتهر أنه لدفع إنكار تفوقه، وهو منهم فالتشبيه معتبر في نظم البيت ومن المطويات فيه ومن مقدمات الحجة المشار إليها بقوله: فإن المسك بعض دم الغزال، فلا يرد أن جعل البيت من قبيل الشبيه لبيان الإمكان فرية بلا مرية؛ إذ لا تشبيه فيه نعم الأنسب بمقام المدح أنه يجعل التشبيه لبيان الوقوع إذا لإمكان كثيرا ما يعرى عن الوقوع.
(أو حاله) عطف على إمكانه (كما في تشبيه ثوب بآخر في السواد) ويتجه أنه هل البليغ نختار التشبيه على الإخبار عنه بالسواد، فإن هذا أسود أوضح وأخصر من هذا كهذا في السواد، ويمكن أن يقال في التشبيه يستفاد خصوصية السواد ولا يستفاد في الإخبار، ولا يدخل بهذا في بيان المقدار؛ لأن بيان المقدار مسبوق بمعرفة الحال وبيان اللون في أول الأمر مثلا، وإن كان على وجه يتضمن معرفة المقدار لا يعد من بيان المقدار.
وفي كلام السيد السند من شرحه للمفتاح إشعار بذلك حيث قال في شرح قول المفتاح: أو لبيان مقدار حاله يعني أن حاله معلومة، فيراد بيان مقدارها في الشدة والضعف والقلة والكثرة إلى غير ذلك، ومقابله بيان الحال وما يتبعها ببيان الإمكان ونظايره مع أنها من الأحوال بناء على أن المتبادر من الحال ما بعد الوجود.
(1) البيت للمتنبي في ديوانه 3/ 151، من قصيدة يرثي فيها والد سيف الدولة. انظر البيت في الإيضاح:
220، والإشارات: 187، والفاء في قوله- فإن المسك- للتعليل، والجواب محذوف تقديره فلا غرابة في ذلك، والتشبيه في البيت يسمى معنويا وضمنيا ومكنيا عنه، لأنه ذكر في الكلام لازم التشبيه وهو وجه الشبه- فوقان الأصل- وأريد الملزوم وهو التشبيه، ومن ذلك قول ابن الرومي:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم
…
كلا لعمري ولكن منه شيبان
كم من أب قد علا بابن ذرى شرف
…
كما علا برسول الله عدنان
(أو مقدارها كما في تشبيه ثوب بالغراب في شدته) أي شدة السواد.
(أو تقريرها) عطف على البيان أي تقرير حالها، ولا يخفى أن التقرير لا يخص الحال، فإنه يصح أن يكون لتقرير الإمكان أو تقرير مقدر الحال، وإلا يفيد أن يجعل ضمير تقريرها إلى المذكورات، ويفسر قوله وتقريرها بتقرير شيء منها (كما في تشبيه من لا تحصيل من سعيه) أي: قصده أو عمله أو كسبه (على طائل) أي: فضل أو غنى أو سعة (بمن يرقم) من حد ينصر أي: يكتب أو يخطط (على الماء) وقيد المفتاح الرقم بكونه في حضور المخاطب؛ إذ التقرير فيه أقوى لإعانة المشاهدة في ذلك، كما لا يخفى.
ولك أن تستفيده من صيغة الحال في عبارة المصنف.
قال الشارح: وتبعه السيد رحمهما الله في تقرير التقرير أنك تجد فيه من تقرير عدم الفائدة وتقوية شأنه ما لا تجده في غيره؛ لأن الفكر بالحسيات أتم منه في العقليات لتقدم الحسيات وفرط الإلف بها، وفيه أن هذا المثال لا يخص بتقرير حال غير الحسي، بل يشتمل تقرير بعض حسيات لا تقرير لعدم نفعها كتقرر عدم نفع الرقم على الماء.
(وهذه) الأغراض (الأربعة) وكذلك غرض إلحاق الناقص بالكامل، فقد فات المصنف في ضبط الأغراض، وفي بيان مقتضاها أيضا وفي درجة تقرير الحال؛ لأن إلحاق الناقص بالكامل يستلزمه تكلف ومخالفة لما في المفتاح؛ حيث جعله مقابلا له (يقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم، وهو به أشهر) في الصحاح الشهرة وضوح الأمر، وفي القاموس: ظهور الأمر في شنعة يعني فظاعة، وبالجملة الشهرة يقتضي عموم أعلم الناس به، وهذه الأغراض لا تطلب إلا أن يكون المخاطب أعلم بحال المشبه به، بل بيان الإمكان والحال والمقدار لا يقتضي علم المخاطب بوجه المشبه في المشبه حتى يتضح صيغة التفضيل، بل يجب في بيان الحال أن يكون المخاطب جاهلا بالمشبه، وكذا في بيان الإمكان والمقدار وأيضا بيان هذا الشرط في هذا المقام مستغن عنه؛ لأنه سيبينه في تقسيم التشبيه إلى المقبول والمردود إلا أن يقال الغرض منه هنا الإشارة إلى وجه كون الغرض في الأغلب عائدا إلى المشبه ووجه إيهام التشبيه المقلوب كون المشبه به أتم من
المشبه.
قال الشارح: وظاهر هذه العبارة أن كلا من الأربعة يقتضي ذلك، ولا يقتضيه إلا تقرير الحال: لأن النفس إلى الأتم الأشهر أميل، فهو بزيادة التقرير والتقوية أجدر، وأما بيان المقدار فيوجب أن لا يكون وجه الشبه فيهما متفاوتا ويوجب أن يكون على نحو واحد فيهما ليتبين المقدار على ما هو عليه؛ ولذلك قالوا كلما كان وجه الشبه أدخل في السلامة عن الزيادة والنقصان كان التشبيه أدخل في القبول، يعني هذا الكلام العام منهم مخصوص ببيان المقدار، وكذا بيان الإمكان يقتضي الأعرفية دون الأتمية، كبيان الحال، فإنه يصح تشبيه الثوب الأسود بما يساويه في بيان سواده، بل المساواة أحق؛ لأنه أسلم من الإيقاع في خلاف الواقع.
هذا كلامه مع تنقيح ومزيد توضيح.
وفيه أبحاث لا يخل عدم الإشارة إليها، بل عدم تصريح.
الأول: أن قولهم يقتضي جواز التفاوت في بيان المقدار كما لا يخفى، لأنه جعل الأدخل في السلامة عن التفاوت أدخل في القبول، ولم يجعل المتفاوت عن القبول بمعزول.
ولك أن ترتكب تأويل قوله: أدخل في القبول بكونه أقرب إلى القبول، ولا يلزم منه إثبات القبول.
والثاني: إذا قلت في مقام التهكم لقصور العامة: هو كظل الرمح يكون التشبيه لبيان مقدار طوله مع التفاوت بينهما، ويمكن دفعه بأن المراد بعدم التفاوت عدم ادعاء أو بحسب الواقع فإنه في بيان المقدار الادعائي لا بد من عدم التفاوت ادعاء. وفيه أن في إلحاق الناقص بالكامل أيضا ادعاء عدم التفاوت، وبينهما فرق دقيق لا يقودك إليه إلا توفيق فاختبر فطانتك، هل لك منها رقيق.
الثالث: أنه لو كان في بيان الإمكان وجه الشبه في المشبه به أتم لكان التشبيه في إدخال المشبه في حيز الإمكان أقوى؛ لأنه إذا كان أقوى مما يستبعد متحققا كان هذا المستبعد أولى بالإمكان.
الرابع: أن في اقتضاء التقرير الأمرين نظرا؛ إذ في تشبيه المعقول بالمحسوس
تقرير حال المعقول؛ لأن إلف النفس بالمحسوس أكثر، وإن لم يكن المحسوس أتم في وجه الشبه، وقد بالغ فيه سابقا كل المبالغة، وإن لم يذكر مما ذكره فيه الابتداء إلا أن يراد بالاقتضاء اقتضاء أولوية، وفي عبارته إرشاد إليه فإن قلت: لم خصص هذه الأربعة بذلك، وعبارة السكاكي كالصريح بأن التزيين والتسوية والاستطراف أيضا يشاركها في ذلك؟ .
قلت: لأنها لا يقتضى الأتمية ولا الأعرفية.
قال الشارح: كلما كان المشبه به أندر وأخفى كان التشبيه بتأدية هذه الأغراض أوفى، ووجه ما قال في الاستطراف ظاهر، وفي التزيين والتسوية أن حسن ما لم يشتهر أكثر تأثيرا فيمن يشاهده وأعجب، وكذا قبح ما لم يشتهر قبحه؛ لأن إلف النفس ليسهل أمر المألوف، ويسكن شغف المشغوف، ولما لم يظهر ما ذكرنا من الوجه أنكر كثيرون ما ذكره فيما سوى الاستطراف كيف لا، وقد شرط السكاكي الأعرفية في التزيين والتسوية؟ ! ولا يخفى أنه لا يصير ما فعله السكاكي حجة عليه؛ لأنه حمله على الأعرفية بالغرض، والسيد السند حمله على الأعرفية في وجه الشبه، وبين وجهه بأن وجه الشبه في تشبه وجه أسود بمقلتي الظبي مثلا ليس له مطلقا السواد، وإلا فلا تزيين، بل هو السواد المخصوص اللطيف الذي يميل إليه الطبع ويقبله، ولا شك أن مقلة الظبي بهذا أعرف، وكذا الحال في التسوية وفيما ذكروه من وجهين:
أحدهما: أن الملازمة المشار إليها بقوله وإلا فلا تزيين مسلمة؛ لأنه بمجرد التشبيه بالمزنين يخيل زينه، ويحصل للطبع ميلان إليه. وثانيهما: أنه إذا اعتبر وجه الشبه السواد اللطيف، فوجه الشبه في المشبه به أتم باعتبار اللطيف.
وهذا كلام وقع في البين فلنرجع إلى ما كنا فيه ونقل هذا مخالفة منه مع السكاكي أو إشارة إلى أن ليس على ما يفيده عبارته معول، بل كلامه مؤول، ولولا مخالفة الإسام بعد تطويل الكلام فيما يجب في شأنه الاهتمام لاقتفينا الشارح بنقل كلامه، وبيان طريق تأويله مع بعده عن المقام وكونه من فضول الكلام.
(أو تزيينه) عطف على بيان إمكانه أو تقريره أي: تزيين المشبه عند السامع (كما في تشبيه وجه أسود بمقلة) أي: شحمة العين التي تجمع السواد والبياض،
أو هي السواد والبياض أو الحدقة، والمراد هنا المعنى الأول وصحة التشبيه مبنية على ما نقله الشارح عن الأصمعي (1) في بحث الإطناب في شرح قوله:
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا (2)
أن عين الظبي والبقر الوحشيين إنما يظهرها البياض والسواد بعد الموت، وأما حال الحياة فعيونهن سود كلها.
(الظبي) معلوم، وكتشبيه صوت حسن بصوت داود، وكتشبيه جلد ناعم بالحرير، وكتشبيه النكهة بريح المسك، وكتشبيه طعم البطيخ بالعسل، فقولنا:
تزيينه عند السامع أحسن من قول الشارح: في عين السامع، وقس عليه.
قوله: (أو تشويهه) يقال: شوهه الله قبحه (كما في تشبيه وجه مجدور) يقال: جدر وجدر فهو مجدور ومجدر، أي خرج منه الجدري (بسلخة) هي العذرة (جامدة) لا طراوة فيها (قد نقرتها) أي: ضرتها يعني بالمنقار (الديكة) بكسر الدال وفتح الياء جمع ديك على وزن. قيل: وهو معلوم، وقد يطلق على الدجاجة (أو استطرافه) أي: عد المشبه طريفا حديثا (كما) أي: كاستطراف (في تشبيه فحم) هو كتمر وتمر، وكأمير الجمر الطافي (فيه جمر) في القاموس الجمر النار المتقد، فلا حاجة إلى قوله (موقد يتجر من المسك موجه الذهب لإبرازه) متعلق بمفهوم ما فإنه عبارة عن استطراف أو تشبيه، وجعله الشارح متعلقا بمقدر أي: إنما استطرف المشبه في هذا التشبيه لإبراز المشبه في (صورة الممتنع عادة) لا عقلا لإمكان ذوبان المسك مع كثرته جدا حتى يعد بحرا.
(وللاستطراف) المطلق لا الاستطراف في المثال المذكور؛ ولذا لم يأت بالضمير لتبادر الذهن منه إلى الاستطراف في المثال.
(وجه آخر) غير الإبراز في صورة الممتنع عادة (وهو) أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن إما مطلقا كما مر (في تشبيه الفحم، وإما عند حضور المشبه كما في قوله) أي: قول ابن العتاهية في وصف البنفسج [ولازورديّة] بكسر
(1) الأصمعي: هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب على بن أصمع الباهلي، أحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، ولد عام 122 هـ وتوفي عام 216 هـ.
(2)
البيت لامرىء القيس في ديوانه: 217، وتمامه: وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب، وهو في الإيضاح:
192، والمصباح:231. والجزع: الخرز اليماني الذي فيه سواد وبياض.
الراء هو الظاهر الثابت في نسخ رواية المفتاح كذا ذكره السيد السند في شرحه [(تزهو)] لكثر زهي على صيغة المجهول، وزها لغة قليلة، والمعنى تتكبر وتفتخر [(بزرقتها)] لو كانت الزرقة راجحة على الحمرة عند القائل، وفي التعبير عن البنفسج بلازوردية نوع إشعار إليه كأن الباء في قوله بزرقتها للسببية، ولو كانت مرجوحة فالباء بمعنى مع، وكان البيت تعجبا عن تكبرها [(بين الرّياض)] لا يبعد أن يقصد به معنى علانية يعني تزهو علانية، لا على وجه الخفاء [(على حمر)] جمع أحمر [(اليواقيت)] جمع ياقوت معرب من الجواهر، ويكون أحمر وغير أحمر وأجوده الرماني وله منافع كثيرة ينفع الوسواس والخفقان وضعف القلب شريا ولجمود الدم تعليقا، ففي التكبر عليه مزيد تعجب، والمراد بحمر اليواقيت شقايق النعمان، وفي جعلها عين الشقايق وأوراقها شبيهة باليواقيت لونا وشكلا إشارة، وجعل اللازورد منسوبا إليه للبنفسج إشارة إلى تفاوت الشبهين؛ لأن الشقايق وأوراقها شبيهة باليواقيت لونا وشكلا بخلاف البنفسج. فإنه لا يشبه اللازورد إلا لونا، وبهذا ظهر أن تفسير حمر اليواقيت بالأزهار الحمر، دون تفسيرها بالشقايق مبني على الغفلة عن الدقايق، وفيه أيضا أوجه تعجب لتكبر البنفسج [(كأنّها فوق قامات ضعفن بها)] أي: بسببها لثقلها وطول مكثها فوق نزل التعظيم منزلة العظم والجسامة [(أوائل النّار في أطراف كبريت)](1) هي حجارة توقد بها، وجاء بمعنى الياقوت الأحمر والذهب أيضا، فإن صورة اتصال النار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة بحر من المسك موجه الذهب، لكن يندر حضورها عند حضور صورة البنفسج فيستطرف بمشاهدة عناق بين صورتين متباعدتين غاية التباعد.
وللشيخ عبد القاهر وجه آخر وهو أنه أراك شبها لنبات غصن برق وأوراق رطبة من لهب نار في جسم يستولي عليه اليبس ومبنى الطبايع على أن الشيء إذا ظهر من موضع لم يعهد ظهوره منه كان ميل النفوس إليه أكثر ولا يذهب عليك أنه يجري في تشبيه الفحم، فإنه أراك شبها لأمر موجود من أمر ممتنع الوجود؛ ولهذا الشيخ الضعيف وجوه أخر، وهي أنه أراك شبها بين جسم ثقيل لا تقوى
(1) البيتان لابن المعتز، أوردهما القزويني في الإيضاح: 222، والطيبي في التبيان 1/ 273، والعلوي في الطراز 1/ 267. اللازوردية: البنفسجية نسبة إلى اللازورد، وهو حجر نفيس.
لحمله قامته، وبين جسم لطيف في غاية اللطافة لا يتوهم في شأنه ثقل أو شبها بين أوائل النار، والأمر الدائم أو أنه جعل قامات البنفسج كبريتيا ونفسه أوائل النار فجعل النار مع الكبريت مجتمعة غير معينة للكبريت أو جعل النار والكبريت ذات رايحة طيبة، ويمكن أن يجعل من الإبراز في صورة الممتنع عادة فإن الكبريت الموقدة لا يتكثر في موضع واحد عادة.
ولا يخفى أنه فات القوم من وجوه الاستطراف إبراز الشيء في صورة الممتنع عقلا، وكأنهم لم يلتفتوا إليه لعدم وقوعه في كلام البلغاء.
(وقد يعود) الغرض (إلى المشبه به) ويمكن تربيع قسمة الغرض.
ثالث الأقسام: أن يعود الغرض إلى ثالث هو تحصيل العناق بين صورتين متباعدتين غاية التباعد، فإنه أمر مستطرف مرغوب للطباع جدا.
ورابعها: أن يعود الغرض إلى المشبه والمشبه به جميعا، وهو جعلهما مستطرفين بجمعهما؛ لأن كلا من المتباعدتين يستطرف إذا تعانقا.
(وهو ضربان: أحدهما) وهو الكثير الشايع حتى أوهم صاحب المفتاح قصر العائد إلى الغرض المشبه به عليه في أول بيانه إشارة إلى كثرته إلى حد كأنه ليس غيره، وصرح بقلة الثاني، ثانيا: حيث قال: وربما كان الغرض بيان كونه أهم، ولم يلتفت المصنف إليه، واقتصر على بيان أنه ضربان، فاختصاره هذا مخل، وقد تداركه في الإيضاح؛ حيث قال: وأما الثاني فيكون في الغالب (إيهام أنه أتم من المشبه) في وجه الشبه (وذلك في التشبيه المقلوب) وهو أن يجعل الناقص في وجه الشبه مشبها به قصدا إلى ادعاء أنه زائد.
كذا في الشرح، ولا يخفى أنه يجوز أن يكون التشبيه المقلوب مبنيا على تسليم أنه أتم من المشبه إذا كان بينك وبين مخاطبك نزاع في ذلك وأنت جاريت معه، وأنه يصح التشبيه المقلوب في تشبيه للتزيين والتشبيه والاستطراف لادعاء أن الزينة في المشبه به أتم أو القبح أكثر أو ادعاء أن المشبه به أندر وأخفى، ولا يظهر اختصاصه بصورة إلحاق الناقص بالكامل.
(كقوله) أي: قول محمد بن وهيب [(وبدا) أي: ظهر (الصّباح) هو أول النهار وضوءه يعني حمرة الشمس في سواد الليل (كأنّ غرّته) هي كالغر غرة
بضمهما بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، فيقال: غرة الصبح لبياضه (وجه الخليفة حين يمتدح)] فإنه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من غرة الصباح في الوضوح، والبعد عن ظلمة العبوس.
قال المصنف: وفي قوله حين يمتدح دلالة على اتصاف الممدوح بمعرفة حق المادح، وبالارتياح له وكونه كاملا في الكرم والاتصاف بالبشر والطلاقة عند استماع المديح. هذا، ولا يخفى أن في إبراز يمتدح مجهولا تربية لطيفة لذلك يعرفه الذكي، فإنه يشعر بأنه لا مدخل في ذلك لخصوصية مادح، ثم أقول لك: أيها الفطن العارف بمقدار اللطايف، المتخلص عن ربقة التقليد، المتعرف بخفايا حسن المعاني، كالقايف إن الشعر يجوز أن يكون تشبيها غير مقلوب بأن يكون تشبيه غرة الصباح بوجه الخليفة في سرعة انتشارها، ولا يخفى أن سرعة انتشار الطلاقة في وجه الخليفة أتم منها بالنسبة إلى انتشار ضوء الصبح.
(و) الضرب (الثاني) من الغرض العائد إلى المشبه به (بيان الاهتمام به كتشبيه الجايع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة بالرغيف) لا في مجرد الإشراق والاستدارة، كما ينبىء عنه ظاهر هذه العبارة، بل في استلذاذ النفس به، فإن استلذاذ النفس بالرغيف ليس باعتبار استدارته وإشراقه فحسب.
(ويسمى هذا) النوع من الغرض (إظهار المطلوب) قال السكاكي: لا يحسن المصير إليه إلا مقام الطمع في تسني المطلوب، يعني تيسره كما يحكي عن الصاحب ابن عباد (1) أن قاضي سجستان دخل عليه فوجده الصاحب متغنيا فأخذ يمدحه حتى قال: وعالم يعرف بالسنجري، وأشار للندماء أن ينظموا عن أسلوبه ففعلوا واحد بعد واحد إلى أن انتهت النوبة إلى شريف من البين، فقال: أشهى إلى النفس من الخبز، فأمر الصاحب أن يقدم له مائدة دقيقة أشهى إلى النفس من الخبز تشبيه مقلوب في المآل؛ لأنه جعل زائدا على الخبز في المشترك بينهما، وهو كونهما مشتهى للنفس.
(هذا) الذي ذكرناه من جعل أحد الشيئين مشبها، والآخر مشبها به إنما يكون (إذا أريد إلحاق الناقص) في وجه الشبه كذا في الإيضاح (حقيقة) كما
(1) ابن عباد: هو أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، توفي سنة 433 هـ.
في التشبيه الذي يعود الغرض منه إلى المشبه أو ادعاء كما في التشبيه الذي يعود الغرض منه إلى المشبه به.
(بالزائد) كذلك.
قال الشارح: وهذا الكلام محل نظر؛ لأن ما تقدم كله ليس ما يقصد فيه إلحاق الناقص في وجه الشبه بالزائد على ما قررنا فيما سبق. هذا، ويمكن دفعه بأن المراد أن هذا الذي ذكر من جعل أحد الطرفين مشبها والآخر مشبها به لكون أحد الطرفين أتم حقيقة أو ادعاء إذا أريد
…
إلخ (فإن أريد الجمع بين شيئين في أمر)(1) مركبا كان أو مفردا حسيا كان أو عقليا واحدا كان أو متعددا، وذلك تارة يكون في المتساويين في وجه الشبه وتارة يكون في المتفاوتين من غير قصد إفادة التفاوت (فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه)(2) احترازا من ترجيح أحدها المتساويين هذه العبارة قاصرة، ولا تشتمل مثل قولنا تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي، فإنه ليس العدول فيه من التشبيه إلى الحكم بالتشابه فأحسن ترك التشبيه إلى إفادة التشابه. وهذا الخلل إنما وقع من قبل المصنف؛ حيث غير عبارة المفتاح إلى التشابه بقوله: إلى الحكم بالتشابه، وخفى على من تلاه إلى أن وفقت بالإفادة فاغتنم السعادة.
قال المفتاح تفاديا عن ترجيح أحد المتساويين، وكأنه أراد التفادي عن إيهام ترجيح أحد المتساويين، وإلا لوجب ترك التشبيه فيختل قوله فالأحسن ويبطل تجويز التشبيه.
ولك أن تجعل وجه ترجيح التشابه حفظ السامع عن توهم زيادة المشبه به، وتوقي البيان عن الالتباس؛ لأن ظاهر العبارة الإلحاق لا التشارك (كقوله) أي قول أبي إسحاق الصابي ([تشابه دمعي إذ جرى) أي: كل وقت جرى، ففائدة الطرف التعميم يؤيده صيغة تسكب المفيدة للاستمرار (ومدامتي) المدام: المطر
(1) هذا إما لأن المقام يقتضي المبالغة في ادعا التساوي، وإما لأن الغرض إفادة أصل الاشتراك، فيكون المقصود إفادة التساوي ادعاء أو حقيقة.
(2)
مثله الحكم بالتساوي ونحوه، وليس من ذلك نحو: شابه زيد عمرا- إن كان من صيغ المشاركة؛ لأن صيغة- تفاعل- تدل على إسناد الفعل ابتداء لاثنين، أما صيغة- فاعل- فتدل على الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل على المفعول، ولا يفهم منها وقوعه من المفعول على الفاعل إلا بالالتزام.