الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكان الغضا (وإن هم شبّوه) أي: أوقدوا نارا، الغضا (بين جوانح) أي:
ضلوع تحت الترائب (وضلوع)] (1) جمع ضلع كعنب، يريد بنار الغضا، نار الهوى، فالضمير الأول للغضا بمعنى، والثاني لحقيقته.
واعلم أنه قد يراد باللفظ نفسه وبالضمير معناه وبأحد الضميرين نفس اللفظ، وبالآخر معناه.
ويدخل في التعريف التعريف عند من يجعل نفس اللفظ معناه، وأما عند من لا يجعله، وهو التحقيق فإما أن يجعل داخلا في التعريف بضرب من التكلف بأن يراد بالمعنى أعم من المعنى، وما في حكمه أو لا يجعل، ويجعل ملحقا بالاستخدام.
[اللف والنشر]
(ومنه: اللف والنشر، وهو ذكر متعدد على التفصيل) متعلق بالذكر بتضمين معنى الاشتمال، ولا يبعد أن يقال على هذه لبيان الوتيرة، ويتعلق بكل فعل ويتعدى به كل فعل، ويطلبه للكشف عن وتيرته وعلامته صحة إدخاله على الجهة أو الطريقة؛ ولذا قال في الإيضاح على جهة التفصيل.
(أو الإجمال)(2) فاحفظه عنا إن كان قابلا للاحتمال، فقوله على التفصيل أو الإجمال للتعميم، وليكون في التعريف توطئة لبيان الأقسام، ويكون البيان على أشد انتظام وقوله (ثم) ذكر (ما لكل) بكلمة، ثم احترز عن تقديم التفصيل على الإجمال، فيما إذا كان اللف مجملا؛ لأنه ليس منه؛ ولهذا قدم اللف في تسميته، أي: ثم ذكر ما لكل (واحد) من المتعدد (من غير تعيين)(3) احترز به عن التقسيم، والمراد سلب التعيين مطلقا بأن لا يقصد المتكلم إلى معين، وإن كان قاصرا في التعيين غير واف بما قصده.
وبهذا يفرق بين التقسيم المختل واللف والنشر، وسيجيء لهذا تتمة بيان في بحث التقسيم.
وأخرج بقوله (ثقة بأن السامع يرده إليه) ما لو ترك تعيين ما لكل عدم
(1) انظر البيت في الإيضاح: (312).
(2)
هذا هو اللف.
(3)
هذا هو النشر، فلو عين كان من التقسيم الآتي لا من اللف والنشر.
الوثوق؛ لأنه إن كان الترك مع قصد الإضافة كان الكلام خارجا عن البلاغة، فلا يكون ما عمل فيه محسنا، وإن لم يكن مع قصده لم يكن لفا ونشرا، ولا يكون هناك محسن بديعي.
بقي أمران:
أحدهما: أن يذكر متعدد، ويضاف إلى البعض ماله، ويضاف إلى الباقي أنه ليس له شيء بعدم التعرض لماله، فيقال: جاء محبي وعدوى ومن لا أعرفه، فأكرمت وشتمت، فأفيد أن المحب مكرم، والعدو مشتوم، والثالث غير ملتفت إليه بشيء.
ولا يصدق عليه التعريف؛ لأنه لم يذكر فيه ما لكل، إلا أن يقال: المراد بذكر ما لكل إفادته التي تكون غالبا بالذكر.
وثانيهما: أن يذكر متعدد على التفصيل ثم يؤتى بمجمل مشتمل على متعدد برد السامع من المفصل ما لكل مما ذكر في المجمل إليه فيقال: أعطاني زيد وعمرو وبكر سبعة دنانير، فيما إذا تقرر أن أنعام زيد أربعة، وعمرو اثنان وبكر واحد لا يزيد عليه أبدا فيرد زيد إلى أربعة وعمرو إلى اثنين وبكر إلى واحد، ولا يخفى أنه لا يقصر عما إذا قدم الإجمال، اللهم إلا أن يقال: تأخير المجمل لم يعهد في كلامهم، والوارد في هذا التركيب أعطاني سبعة دنانير زيد وعمرو وبكر، فبناء التعريف على الواقع فإن وجد على هذا النظم فليجعل ملحقا باللف والنشر، فأحسن التأمل، وأجمل التجمل يكن لك أفضل التجمل.
(فالأول)(1) وهو أن يكون المتعدد على سبيل التفصيل (ضربان؛ لأن النشر إما على الترتيب اللف) بأن يكون المذكور في النشر أولا للمذكور في اللف أولا، وهكذا، وليسم اللف والنشر المرتب (نحو وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ أي:
خلق لكم اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (2) ذكر الليل والنهار على التفصيل، ثم ذكر فائدة خلق الليل، وهو السكون فيه، وفائدة خلق النهار، وهو الابتغاء من فضل الله فيه، على الترتيب من غير تعيين؛ لأن
(1) هو ذكر متعدد على جهة التفصيل ثم ما لكل واحد إلخ.
(2)
القصص: 73.
السامع بنفسه يعرف أن السكون فائدة خلق الليل، وابتغاء شيء من الفضل فائدة النهار، ولا يلزم من جعل ضمير فيه إلى الليل تعيين السكون له؛ لأنه لا تعيين إلى كونه ظرفا للسكون، ولا يلزم من ذلك كونه فائدة خلق الليل؛ لجواز أن يكون السكون في الليل من فوائد وجود النهار، وابتغاء الفضل في النهار من فوائد وجود الليل، واللف والنشر هنا باعتبار رد فائدة الخلق إلى الخلق، لا باعتبار رد المظروف إلى الظرف؛ إذ هو بهذا الاعتبار تقسيم، ففي هذه الآية تقسيم ولف ونشر، فاحفظه؛ فإنه مما أنعم الله علينا، ولم يهتد لوجهه الشارح الجليل، فأجاب عن الإشكال بأنه لا تعيين في ضمير فيه؛ لأنه يحتمل الرجوع إلى النهار، وتبعه المحقق شريف زمانه في شرحه للمفتاح، وستعرف أن القصد إلى التعيين، وإن لم يكن المعين وافيا كافي في التقسيم، والشارح يعترف به هذا، ولا يلزم من كون خلق الليل للسكون أن يجب فيه السكون شرعا؛ إذ لا يجوز مخالفة ما أراد الله؛ لأنه لبيان معظم فائدته، وأغلب ما يتعلق به، وهكذا ولتبتغوا من فضله.
(وإما على غير ترتيبه) وذلك قسمان بأن يكون على عكس ترتيبه، وأن يكون مخالفا لترتيبه.
قال الشارح: وليسم الأول معكوس الترتيب، والثاني مختلط الترتيب، وسماه في شرح المفتاح المشوش، والأول المعكوس.
وقيد بعض من على تقييده وثوق المشوش بكسر الواو، وفي الصحاح:
التشويش: التخليط، وأنكر القاموس ثبوته في اللغة، وقال وهم الجوهري، وصوابه التشويش.
(كقوله) أي: قول ابن حيوش بالمهملة والياء المثناة التحتانية، والواو المعجمة على وزن تنور، والحيوش الشيخ الطبراني كنيته ابن رزق الله.
[(وكيف أسلو) سلاه وعنه كرضى ودعا نسيه (وأنت حقف) هو الرمل العظيم المستدير يشبه به الكفل في العظم والاستدارة (وغصن وغزال لحظا) هو للغزال (وقدّا) للغصن (وردفا)](1) للحقف، والثاني كقوله هو شمس وأسد
(1) البيت في ديوانه: (2/ 47)، والإيضاح:(314)، والمصباح:(247) الحقف: الجملة من الرمل.
وبحر جواد وبها وشجاعة. وأراد بقوله: (والثاني) ذكر المتعدد على سبيل الإجمال (نحو وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(1) فقد ذكر اليهود والنصارى إجمالا لا يضمر الجمع أو قولهما إجمالا بإسناد القول إليهما إجمالا، وعلى الثاني كلام الإيضاح، ثم ذكر ما لكل من الفريقين أو القولين ولما كان المتعدد المجمل منهما، سواء كان القولين أو الفريقين شرح هذا المثال بخلاف باقي الأمثلة؛ فقال (أي: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فكف) (2) أي: بين القولين أو الفريقين (لعدم الالتباس) وعدم مظنة إرادة حكمها جملة بأن الداخل في الجنة أحد الفريقين لا غير، كما هو ظاهر النظم.
(للعلم بتضليل كل فريق صاحبه) أي: نسبة كل فريق صاحبه إلى الضلال بالمعنى المقابل للاهتداء أو بمعنى الهلاك.
قال الشارح في شرحه على المفتاح: وقد جرى الاستعمال في اللف الإجمالي على أن يذكر النشر بكلمة أو كما في الآية؛ لأن الذي وقع عليه الاتفاق هو أحد القولين، وإنما الموكول إلى فهم السامع هو التعيين، وتوضيح ما ذكره أن في اللف الإجمالي تشريك الجماعة المذكورة، كما في المذكور المفصل، وليس تشريكهم بكون كل من تلك المفصل لكل، وإلا لم يكن لفا ونشرا، بل تشريكهم في أن لكل واحد من هذا المفصل، والمتكفل لهذا المعنى كلمة أو.
اعلم أنه أثبت صاحب الكشاف نوعا من اللف. وقد وصفه بأنه لطيف المسلك لا يهتدي لوجهه إلا الثقاة من علماء البيان، في قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (3) حيث قال الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
(1) البقرة: 111.
(2)
أي بقوله: «وقالوا» والأصل وقالت اليهود وقالت النصارى، وأما النشر فبقوله:«إلا من كان هودا أو نصارى» .
(3)
البقرة: 185.
شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة الفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله: لتكملوا العدة، علة الأمر بمراعاة العدة ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر.
ولعلكم تشكرون أي: أراد أن تشكروا علة الترخيص والتيسير.
هذا كلامه، وأورد عليه من أن المعلل المذكور أمر الشاهد بصوم الشهر، ولم يعين له علة.
ومما عين له علة تعليم كيفية القضاء، وهو لم يذكر في المعللات المذكورة فتطبيق العلل منه غير موافق لبيان ما شرع.
وأجاب عنه الشارح المحقق بأن قوله من أمر الشاهد في تفصيل المعللات ليس لأنه معلل بشيء من العلل، بل هو توطئة وتمهيد ليفرع الترخيص ومراعاة العدة وكيفية القضاء عليه، يشهد بذلك أنه لم يقل من أمر المرخص بإعادة حرف الجر، كما قال ومن الترخيص وفي أمر المرخص بعدة من أيام أخر دلالة واضحة على تعليم كيفية القضاء.
هذا كلامه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان توطئة للثلاثة كان من الداخلة عليه داخلة على الثلاثة، فينبغي أن لا يدخل من على الترخيص أيضا.
نعم لو كان توطئة لمجرد أمر المرخص بعدة من أيام أخر لكان لما ذكره وجه.
فالجواب:
أولا: أن قوله: ولتكملوا العدة علة الأمر بمراعاة العدة شامل لمراعاة عدة الشهر، ومراعاة عدة أيام أخر.
وإن رده الشارح بأنه لا معنى لتعليل أمر الشاهد بصوم الشهر بإكمال عدة أيام الشهر، والشريف المحقق بأن القصد في التعليل بتكميل العدة إلى أن قضاء ما فات، وتلافي المطلوب بقدر الإمكان واجب، ولما كان المطلوب أولا صوم أيام مخصوصة بعدة معينة، وقد فات بعذر أمر برعاية العدة حفظا له عن الفوات بالكلية، وتحصيلا له بقدر الإمكان، فلا معنى لجعل كمال العدة في الأداء علة
لأمر الشاهد بصوم الشهر؛ لأنا نقول أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص بعدة من أيام أخر، لتكملوا العدة؛ إذ الشاهد يسهل عليه صوم الشهر فلا يفوته الإكمال، والمرخص يعسر عليه الإكمال لو صام في الشهر، فيكون عرضه لفوات الإكمال، فبالرخصة يسهل عليه؛ فتعليل أمر الشاهد بالإكمال في الأداء له معنى لطيف، ولا يجب أن يكون تعليل أمر المرخص بالتكميل؛ لأن تلاقي المطلوب واجب، بل التعليل لتخصيص الشاهد بصوم الشهر، وتخصيص صاحب العذر بالرخصة فيكون تعليل الأمرين بإكمال العدة في غاية الحسن.
وثانيا: بأنه جعل من تفصيل المعلل ما ليس بمعلل، وترك في التفصيل ما هو معلل إشارة إلى أن ظاهر اللف والنشر غير ما هو حقيقته.
وهذا الذي خص معرفته، والاهتداء به بالثقاة، كما ستعرف تفصيله.
وهذا كلام وقع في البين فحان أن ترجع إلى ما كنا فيه من أن ذلك النوع اللطيف من اللف الذي اهتدى إليه صاحب الكشاف ما هو، فقال الشارح المحقق إنه ذكر بالكل بين ذكر المتعدد أولا تفصيلا، وثانيا إجمالا، فيقع اللف بين نشرين:
أحدهما مفصل، والآخر مجمل.
وفيه أن وقوع النشر بين لفين يتصور على أربعة أوجه، لا يعرف لتخصيص اللطف بما ذكره وجه وأنه يصدق على نحو: ضربت زيدا، وأكرمت عمرا، للتأديب والإحسان أي: فعلت ذلك حقا، فإن الثاني لم يذكر للف، بل لتحقيق ما سبق تأكيده، فالأولى أن يقال إنه ذكر ما لكل بين ذكر المتعدد أولا وثانيا معلقا بالثاني، كما في الآية.
وقال السيد السند شريف زمانه: لا يخفى أن وقوع النشر بين لفين مفصل ومجمل لا يقتضي لطف مسلكه، بحيث لا يهتدى إليه إلا الثقاة، بل لا بد هناك من أمر آخر، وإن كنت في ريب مما ذكر، فتأمل فيما أورد من المثال هل هو بهذه المثابة من الدقة واللطافة.
ما أظن ذا طبع سليم يحكم بذلك، فالوجه أن هذا النوع عبارة عن لف يحتاج تحصيل بعض ما لف فيه إلى دقة نظر، كما أن في الآية تحصيل تعليم القضاء كذلك.
ويكون في رد بعض ما لكل إليه دقة كما في تعليل الأمر بمراعاة العدة بإكمال العدة، فإن فيه إشارة إلى أن تلافي المطلوب بقدر الإمكان واجب إلى آخر ما سمعته، ويكون المتعدد كل منه أو بعض منه صالحا للرد إلى غير ما ذكر له بحسب الظاهر.
لكن بالتأمل الصادق ينكشف أنه لم يرد إليه.
هذا تنقيح ما ذكره.
قلت: ما ذكره كلام محقق لا غبار عليه، ولا يتوقف لطف النشر على جميع ما ذكر، بل كل منها يوجب لطفه، فقد بلغ لطف الآية الغاية، ومن موجبات لطفه أن يكون اثنان من المتعدد معا متعلق واحد من النشر، كما ذكرنا وأن يكون المتعدد مذكورا بلفظ واحد يستنبط منه على الترتيب، فيقع الترتيب في الاستنباط، لا في الذكر صريحا؛ فإن قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1) مشتمل على الترخيص وتعليم كيفية القضاء وأمر المرخص برعاية العدة، فالترتيب المرعي في النشر باعتبار أنه يستفاد منه رعاية العدة أولا ثم كيفية القضاء من كون يوم بيوم، ثم الترخيص؛ وبهذا اندفع أنه لم يذكر المتعدد أولا مفصلا؛ لأنه أدى بلفظ واحد هذا.
وأما ما ذكره الشارح بأنه لا يعرف له لطف لا يهتدي إليه، فلا يتجه؛ لأن ذكر ما لكل بعد المتعدد يوجب جعله نشرا للمتعدد، فإذا تعلق بالمجمل بعده يئس السامع عن كونه نشرا له، ثم لما نظر فوجد المجمل عين مفصل سبق وجد أنه متعلق بالسابق معنى، فهو نشر للسابق فيه مزيد دقة؛ لأنه نشر بحسب المعنى من غير أن يكون في اللفظ اقتضاء، بل مع اقتضائه خلافه، ويمكن بيان الآية على وجه لا يحتاج إلى حذف شيء.
لكن عاقني مخافة التطويل عن هذا الكلام الجميل، فعسى أن أوفق لأذكره في تفسيره، في تفسير لكتابه يشتمل على نقيره وقطميره متوكلا عليه، ومتوسلا ببشيره ونذيره.
(ومنه: الجمع وهو أن يجمع بين متعدد) في الذكر (في حكم) أي: في
(1) البقرة: 184.
محكوم به واحد.
قال المحقق التفتازاني في شرح المفتاح: وهو أن يحكم على المتعدد بكلي، وإنما قيد المتعدد بالتعدد في الذكر؛ لئلا يدخل فيه البنون زينة الحياة الدنيا المحكوم به الواحد ما يكون واحدا في المعنى، وإن تعدد في اللفظ، وإلا لم يكن قوله:
فوجهك كالنّار في ضوءها
…
وقلبي كالنّار في حرّها (1)
جمعا وتفريقا، ففي بيانه قلق وخفاء، وكان وجه تحسينه إبراز الشيء في هيئات مختلفة في تركيب واحد، تارة في هيئة الكثرة، وأخرى في هيئة الواحدة.
ولا يظهر عدم عد المحكوم عليه الواحد بالمحكوم به المتعدد منه، فإنه يشاركه في هذا المعنى كأن يقال: زينة الحياة الدنيا مال وبنون، وذلك المتعدد منه قد يكون اثنين.
(كقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)(2) وقد يكون أكثر قدم الآية على الشعر، على عكس ما في المفتاح؛ ليكون النشر على الترتيب، وذكر الآية مع الترتيب حسب (نحو [إنّ الشّباب والفراغ) والخلاص من الشغل المانع عن اتباع الهوى (والجده) على وزن العدة بمعنى الاستغناء، صحح السكاكي في كتابه أنه بالكسر، وأشكل ذلك على شارحيه، فإنه من شعر أبي العتاهية على وزن الكراهية لقب أبي إسحاق محمد بن إسماعيل بن سويد، وأوله: علمت يا مجاشع، اسم فاعل ابن مسعدة فقوله: إن الشباب في حيز العلم، فيجب فتح الهمزة.
ونحن نقول: يجوز أن يكون البيت من الأشعار المشهورة التي ضمنها أبو العتاهية، يعني: قد علمت هذا البيت المشهور.
فائدة: قال صاحب القاموس: أبو العتاهية لقب أبي إسحاق وليس كنيته، كما وهم الجوهري، وهذا غريب مخالف للمشهور من أن اللقب لا يصدر بالأب والابن والأم والبنت، وكل علم كذلك فهو كنية.
(مفسدة للمرء) فيه تغليب أو كونه مفسدة للمرأة يعلم بطريق الأولى،
(1) البيت لرشيد الدين الوطواط، أورده الجرجاني في الإشارات 374، الإيضاح 315.
(2)
الكهف: 46.
والمفسدة كالمصلحة ضدها (أيّ مفسدة] (1) ومنه التفريق وهو إيقاع تباين بين أمرين) أي: عدم شركة أحدهما مع الآخر في وصف مختص بالآخر، فالمراد بالتباين ما يقابل المشابهة.
ولا يخفى أن ذكر المتعدد في الجمع والتثنية هنا يوهم أنه مختص بأمرين؛ فينبغي أن يقول بين متعدد.
(من نوع) ليس احتراز عن إيقاع تباين بين أمرين من نوعين؛ فإنه لا يكون، بل توضيحا وتفصيلا.
ولا فائدة في قوله في المدح أو غيره إلا التعميم والتوضيح، ووجه تحسينه يعلم مما ذكرنا في الجمع.
(كقوله) أي: قول الوطواط [(ما نوال الغمام وقت ربيع) مع أن الربيع وقت ثروة الغمام (كنوال الأمير يوم سخاء) مع أن يوم السخاء يوم فقر الأمير؛ لكثرة السائلين وكمال بذله.
(فنوال الأمير) أي: كل نوال منه (بدرة) أي: جلدة ولد الضأن (عين) أي: مملوءة من الدراهم. وقال في الشرح: هي عشرة آلاف درهم.
وأنكر في القاموس أن تكون بدرة عين البدرة؛ اسم لعشرة آلاف أو سبعة أو خمسة. قال: بل هي جلدة السخلة.
(ونوال الغمام) أي: كل نوال منه (قطرة ماء)] (2) فلا يرد أن الظاهر قطرات ماء.
ومن لطيف هذا قوله:
من قاس جدواك بالغمام فما
…
أنصف في الحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحكا أبدا
…
وهو إذا جاد دامع العين (3)
(1) البيت لأبي العتاهية، في ديوانه:(448) من أرجوزة ذات الأمثال، والطراز (3/ 142) والمصباح:(247)، والإيضاح:(314).
(2)
البيتان للوطواط في الإيضاح: (314)، والطراز:(3/ 141) والإشارات: (274)، والمصباح:(247) بلا عزو.
(3)
البيتان ينسبان للوطواط، وللوأواء الدمشقي، محمد بن أحمد.
(ومنه التقسيم) شدة اتصال التقسيم باللف والنشر يقتضي أن لا يفصل بينهما بشيء، ولا يقع بينهما التفريق.
(وهو ذكر متعدد، ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين) الأخصر ثم تعيين ما لكل.
قال المصنف يخرج بقيد على التعيين اللف والنشر، ولم يذكره السكاكي؛ فيكون التقسيم عنده أعم؛ إذ يبعد أن يكون التعريف أعم.
قال الشارح: ولقائل أن يقول إن ذكر الإضافة مغن عن هذا القيد؛ إذ ليس في اللف والنشر إضافة ما لكل إليه، بل يذكر فيه ما لكل، حتى يضيفه السامع إليه ويرده عليه، فليتأمل؛ فإنه دقيق، وفيه نظر؛ لأن ذكر ما لكل ليس بلا إضافة إليه؛ لأن التركيب يدل على الإضافة، ووضعه على إفادة أن كلا منهما بواحد من المتعدد، ولكن لا تعيين، والتعيين مفوض إلى السامع، فإضافة ما لكل إليه يلزم ذكر ما لكل، إلا أنه إضافة إجمالا، بلا تعيين وتفصيل، فتأمل؛ فإن هذا هو الدقيق.
(كقوله) أي: قول المتلمس جرير بن عبد المسيح:
[(ولا يقيم) أحد؛ فإنه المستثنى منه المحذوف، أي: لا يتوطن في مواطن الظلم (على ضيم) أي: مع ظلم (يراد به) أي: بذلك الأحد (إلّا الأذلّان) أفعل من الذل (عير الحيّ) العير: الحمار الوحشي والأهلي، وإضافته إلى الحي عينته للأهلي، وجعل الشارح تعينه؛ لأنه المناسب (والوتد هذا) عير الحي (على الخسف) أي: الذل (مربوط برمّته) صلة الربط، أي بقطعة حبل بالية يسهل الخلاص معه عن الربط، أو مربوط على الذل بتمامه من فرقه إلى قدمه، كما يقال: ذهب فلان برمته (وذا) أي: الوتد (يشجّ) أي: يشق رأسه بالدق (فلا يرثي له) أي: للوتد، ولا يدقه ولا يرحم (أحد)](1) ولا يخفى أن عدم الرحم مشترك بين غير الحي والوتد فالأولى أن يجعل ضمير (له) لكل منهما، ويجعل قوله (فلا يرثي) متفرعا على الربط، والشج، ولا يخفى أن هذا وذا وإن كانا لا يتعينان لشيء مما أشير إليه؛ لكن الحكم المذكور مع كل منهما قرينة على أنه
(1) انظر البيتين في الإيضاح: (315).
إشارة إلى المعين، فإن الربط يلائم العير والشج والوتد، فبهذا اندفع أن الإضافة في هذا البيت على التعيين.
وقد مر في بحث اللف والنشر ما يغنيك عن هذا الجواب، فارجع إليه فإنه المرجع والمآب.
(ومنه) أي من المعنوي (الجمع مع التفريق) فيه أنه لا معنى لجعل الجمع مع التفريق قسما من المحسن؛ لأنه من قبيل اجتماع القسمين، وكذا أخواه؛ لا يقال: ليس حسن الجمع مع التفريق حسن الجمع والتفريق؛ بل حسن جمع الجمع مع التفريق، وهما متضادان؛ لأنا نقول: فحينئذ لا معنى للاقتصار على الثلاثة، بل ينبغي أن يعد من المحسنات جمع الطباق، مع التناسب، ولا يبعد أن يقال:
فليكن هذا أيضا من المحسنات؛ إلا أنهم لم ينتبهوا له، وتنبهوا واكتفوا بالتنبيه عليه باعتبار نظائره عن بيانه.
(وهو أن يدخل شيئان في معنى وتفرق بين جهتي الإدخال) لو أريد بقوله: «الجمع مع التفريق» المعنى التركيبي لاستغنى عن التعريف كما استغنى في قوله: الجمع مع التفريق والتقسيم، فتأمل.
(كقوله) أي: الوطواط:
(فوجهك كالنّار في ضوءها
…
وقلبي كالنّار في حرّها) (1)
أدخل قلبه، ووجه الحبيب في الشبه بالنار، وفرق بينهما بين جهتي الإدخال باختلاف وجه الشبه، والأظهر أنه أراد بجعل القلب كالنار في الحر أنه يحرق؛ لا أنه يحترق كما ذكره الشارح، ولو قيل: فوجهك وقلبي كالنار في ضوءها وحرها لكان جمعا مع التفريق، ولفا ونشرا، وقد قصد بتشريك قلبه مع وجهه بيان مناسبة بينهما تقتضي التأليف وبتميز وجهه عن قلبه التحرز عن تحقق مماثل لوجهه في الحسن.
(ومنه: الجمع مع التقسيم) التقسيم هنا بمعناه الحقيقي أي ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه؛ لأنه حصل بالجمع ذكر المتعدد. وأما التقسيم المصرح والضمني في قوله: (وهو جمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه أو العكس) فهو
(1) تقدم تخريجه.
بمعنى إضافة ما لكل من المتعدد إليه لا ذكر المتعدد ثم الإضافة.
(فالأول) أي الجمع قبل التقسيم (كقوله) أي أبي الطيب في مدح سيف الدولة (1):
(حتّى أقام على أرباض خرشنة
…
تشقى به الرّوم والصّلبان والبيع
للسّبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا
…
والنّهب ما جمعوا والنّار ما زرعوا)
(حتى) للعطف على قاد المقانب في البيت السابق، وليس بحرف جر كما توهمه عبارة الشارح، متعلق بالفعل في البيت السابق؛ أعني قاد المقانب، لأن الجار لا يدخل على الفعل (أقام) أي سيف الدولة، واختاره على أحاط؛ إشارة إلى تصميم عزمه على فتح القلاع والحصون؛ حتى أنه يتوطن حولها ولا يفارقها، حتى تفتح، ولتضمين معنى الاستعلاء أي مستعليا على الأرباض، كما هو شأن أهل الجرأة في محاربة الحصون.
قال: (على أرباض) وهي جمع ربض بمعنى السور، وهذا التضمين ألطف من تضمين التسليط كما جاء به الشارح (خرشنة) على وزن دحرجة: بلدة من بلاد الروم (تشقى به الرّوم) جنس للرومي، كما أن التمر جنس بالتمرة (والصّلبان) كغفران جمع صليب هو معبود النصارى (والبيع) جمع بيعة كقطعة، بمعنى: متعبدهم، يعني: قاد المقانب جمع مقنب، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل، حتى أقام حول هذه المدينة العظيمة حال كونه تشقي به شقاوة مستمرة هذه الأشياء بجميع أنواع الشقاوة؛ من السبي والقتل والنهب والإتلاف، فجمع الشقاوات تحت تشقى، ثم بقوله فصله (للسّبي ما نكحوا) أي: نكوحهن، أتى بلفظ (ما) لأنه قصد إلى مفهوم الصفة أي المنكوحة، وكذا في أخواته فهو على أصله، فلا حاجة إلى ما قال الناظرون برمتهم إنه لمراعاة الموافقة، بما جمعوا وما زرعوا، أو لإهانتهم بتنزيلهم منزلة غير العقلاء. وفي نكحوا تغليب أي ما نكحوا وينكحون لو بقوا، ليشمل من كانت من نسائهم صبية.
(والقتل ما ولدوا) من الذكور بقرينة ما يقابله، ولو قرئ «ولدوا» مجهولا
(1) البيتان للمتنبي في شرح ديوانه (التبيان) 1/ 419 - 425، والطراز ص 3/ 143 والإيضاح ص 315.
أي ولدوا منهم لصار مخصوصا بالذكور (والنّهب ما جمعوا والنّار ما زرعوا) أي:
للنار ما زرعوا، فأشجارهم للإحراق تحت القدر، ومزروعاتهم للطبخ، وحمله على كونه للإحراق والتضييع لا يناسب لمن همه فتح الحصن، إنما هو شأن العاجز عنه، القانع بمجرد إضرار أهل الحصن، ولم يلتفت المصنف إلى جعل التقسيم لما دخل تحت قوله:(وأرضهم لك مصطاف) أي: منزل للصيف (ومرتبع) أي:
منزل الربيع، في قوله الدهر معتذر، والسيف منتظر، وأرضهم لك مصطاف ومرتبع من الأرض، وما فيها في كونها خالصة للممدوح، كما في المفتاح؛ لأن نسخ ديوان أبي الطيب غير مختلفة في أن هذا البيت بعد قوله: للسبي إلخ بعدة أبيات؛ لا قبله كما في المفتاح.
(والثاني) أي التقسيم قبل الجمع (كقوله) أي حسان:
(قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم
…
أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا
(سجيّة) خبر (تلك منهم) صفة سجية، فصل بين الصفة والموصوف بمبتدأ الموصوف (غير محدثة إنّ الخلائق) جمع خليقة بمعنى الطبيعة والخلق أو الناس، وعلى الأول أشرها صاحب البدع (فاعلم) اعتراض بالفاء (شرّها البدع)(1) على وزن عنب جمع بدعة على وزن حكمة، مؤنث بدع كعلم بمعنى الأمر الذي وجد أولا، وقد جاء بمعنى الحدث في الدين بعد الاستكمال، أو ما استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال، والمناسب هنا الأول، ولا حاجة إلى جعله مجازا عن المستحدثات متفرعا على المعنى الثاني كما في الشرح، ولا يخفى أن المصراع الأخير يفيد أن شر الخلائق مسلوبة عنهم، وهو لا يليق بمقام المدح؛ واللائق إثبات خير الخلائق لهم؛ إلا أن يقال: المقصود تعريض مخالفتهم بأن لهم شر الخلائق، فصل في البيت الأول ما تحت سجية منهم غير محدثة.
(ومنه: الجمع مع التفريق والتقسيم) قد عرفت وجه عدم تعريفه (كقوله تعالى: (يوم) منصوب بتقدير: اذكر، أو بقوله: لا تكلم (يأت) أي أمر الله، بجعل الضمير لله؛ فحذف المضاف، أو يأتي اليوم أي هوله؛ بجعل الضمير
(1) البيتان لحسان بن ثابت في ديوانه: (238)، والإيضاح:(316)، والطراز (3/ 144)، والمصباح:(249).
لليوم، وحذف المضاف كذا قيل، ولك أن تجعل: لا تَكَلَّمُ- بتأويل عدم التكلم- فاعل- يأتي كما جعلوا (تسمع بالمعيديّ) مبتدأ (نفس) بشيء إِلَّا بِإِذْنِهِ (1) أي: بإذن الله، وقول الشارح أي: لا تكلم نفس بما ينفع من جواب أو شفاعة- يوجب أن لا يكون نفي التكلم مطلقا بغير إذنه؛ بل كانوا يتكلمون بما لا ينفع، وظاهر الآية يخالفه، فلا يعدل عنه إلا لداع، والمستثنى منه محذوف: أي لا تكلم بشيء بسبب من الأسباب إلا بإذن الله، ولا يبعد أن يراد بإذنه ما أذن فيه، فيكون مستثنى من شيء، ولا يحتاج إلى تقدير غيره، ولا تدل الآية على ثبوت الإذن حتى تنافى قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (2) لجواز أن لا يكون التكلم إلا بإذنه، وينبغي الإذن فينبغي التكلم فنفي الإذن في الآية الأخرى لا ينافيه؛ بل يكشف عن حاله، فلا حاجة إلى ما قيل إن في هذا اليوم مواقفا؛ فالإذن في موقف، ونفيه في آخر، أو المأذون فيه الكلام الحق، والممنوع عنه العذر الباطل، وإلى ما يمكن أن يقال الإذن في بعض اليوم، والمنع في بعض آخر.
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ تفريق لا جمع تحت النفس التي عمت بوقوعها في سياق النفي، والمراد بالشقي: الشقي المطلق، وكذا بقوله: وَسَعِيدٌ (3)، فيكون التفريق ظاهرا؛ لكن لا يكون حاصرا، ولا بأس به؛ لأنه ليس في النظم ما يدل على إرادة الحصر. وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (4) أي: احتباس النفس بحيث يدخل ويخرج بشدة، ويشقه أو صوت الحمير خالِدِينَ فِيها
…
الآية تقسيم وإضافة ما لكل منهما إليه بالتعيين ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ (5) قيل: هو في العرف للتأبيد، فلذا أكد به الخلود، وقيل: المراد سماوات الآخرة وأرضها، وهي أبدية، وردّ بأن تأكيد الخلود بما لا يعرف تأبيده لا يليق، ويمكن أن يجاب، بأنه جاز أن تكون معروفة فيما بين
(1) هود: 105.
(2)
المرسلات: (35، 36).
(3)
هود: 105.
(4)
هود: (106).
(5)
هود: (107).
المؤمنين، قبل نزول هذه الآية، أو بأنه مما يعرف بالقياس إلى سماوات الدنيا وأرضها الباقية ببقائها، ونحن نقول جاز أن يكون المراد بالسماوات الجهات العلوية، وبالأرض مقابلها.
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (1) أي: غير مقطوع، بل ممتد إلى غير النهاية، وهذا الاستثناء مما أعمل فيه العرب أفكارهم، واختلفت في توجيهه المعتزلة وأهل السنة، وأكثر كل منهما على الآخر إنكارهم، ولبيانه مقام آخر سنبينه في مقامه إن وفقنا والأجل تأخر؛ لكن مما لا أثر له فيما بينهم ويخاف أن يفوت ما قد وهبنا الحي الذي لا يموت فنذكره لك، وهو أن الغرض من الاستثناء تعليق الخلودين بمشيئة الله، لا إخراج زمان من أزمنة كون الفريقين في الدارين، إلا أنه يخرج من أزمنة خلود بعض الأشقياء في النار بعض الأزمنة؛ للعلم بتعلق مشيئة الله به من الشرع، ولا يخرج من أزمنة الخلود في الجنة شيء للعلم بعدم ذلك التعلق به.
(وقد يطلق التقسيم على أمرين آخرين) فله ثلاثة معان: ولا يخفى أن الأنسب أن لا يفصل بين المعاني بشيء، إلا أن يقال أخره عن الجمع مع التفريق والتقسيم؛ ليعلم أن التقسيم المعتبر في هذا القسم هو الأول دون شيء من الآخرين.
(أحدهما: أن يذكر أحوال الشيء مضافا إلى كل ما يليق به) يرد عليه أنه يصدق على بعض ما هو لفّ ونشر مرتب كأن يقال: [ثقال خفاف إذا لاقوا أو دعوا] فلا بد من قيد الإضافة بقولنا على التعيين، ومع ذلك يصدق على ذكر متعدد من الأحوال ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين، كأن يقال: لي كسب علم وكسب مال، فذلك للآخرة، والثاني للدنيا، مع أنه تقسيم بالمعنى الأول إلا أن لا يحترز عن صدقه على هذه الأمور، والأظهر أن المراد ذكر أحوال الشيء مضافا إلى كل، مع ذكره ما يليق، وهو المتبادر فافهم.
(كقوله) أي: أبي الطيب (ثقال) صفة مشايخ في البيت السابق أي ثقال
(1) هود: (107، 108).
لشدة وطأتهم على الأعداء، أو ثباتهم على اللقاء (إذا لاقوا) أي: حاربوا، (خفاف) مسرعين إلى الإجابة (إذا دعوا) إلى كفاية بهم (كثير إذا شدّوا) لأن واحدا منهم يقوم مقام جماعة (قليل إذا عدّوا)(1) ذكر أحوال المشايخ مضافا إلى كل منها ما يناسبها، والإضافة إلى كل ما يناسبه يتحقق فيما إذا كان المناسب للأحوال واحدا، وأضيف إلى الجميع فلا يجب في التقسيم كون المناسب على قدر الحال.
(والاستيفاء أقسام الشيء) أي: التقسيم الحاصر (كقوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ككتاب جمع أنثى ووَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً (2) هو على وزن الغفران كالذكور جمع الذكر خلاف الأنثى، والتزويج بمعنى الإنكاح يتعدى إلى مفعولين بنفسه، وبمعنى التقريب إلى الثاني بالباء، قال تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (3) أي: قربناهم، وهو المناسب في الآية فقوله تعالى: ذُكْراناً وَإِناثاً منصوبان بنزع الخافض ولو قال ويزوج من يشاء لتعين الواو فلما عدل إلى الضمير الراجع إلى (من) في الجمل السابقة تبدل الواو ياء، وللتنافي بين التزويج والإفراد بالنسبة إلى فرقة واحدة والتوافق بالنسبة إلى فرقتي، وعلق التزويج بالفرقتين السابقتين حتى احتاج إلى العطف بأو، ولم يعلق بفرقة ثالثة؛ ليعطف بالواو كما في الجمل الباقية تنبيها على أن المشيئتين السابقتين ليس شيء منهما واجبا عليه تعالى، ولا هذه المشيئة، فتدبر. كذا أفاده المحقق شريف زمانه.
وفيه بحث؛ لأن التنافي مطلقا لا ينافي الواو، ولا يجامع أو، ألا ترى أنه لو قيل يهب زيدا إناثا إن شاء، ويهبه الذكور إن شاء يتعين الواو مع أن المقيس عليه واحد، فينبغي أن يجعل مناط اختيار الواو والتنافي مع التصريح بالشرط، وفي تحقيق استيفاء الأقسام في الآية نظر، وإن بينه الشارح المحقق بأن الإنسان إما أن يكون له ولد أو لا يكون، وإذا كان فإما أن يكون ذكرا أو أنثى؛ لأنه فرق بين ما ذكره الشارح وبين ما في الآية؛ لأن في الآية إما أن يكون له إناث أو
(1) البيت في الإيضاح: (317) لأبي الطيب المتنبي.
(2)
الشورى: 49، 50.
(3)
الطور: 20.