الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير امتنان، كما وهب لنا الفياض المنان، وإن طال الكلام وحال السآم بينك وبين الأفهام؛ لأنه منشط وللسآم مسقط فنقول:
فرق بين المعنى التعريضي المجازي وبين المجاز فإنك في المجاز تنصب القرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي، وفي التعريض تريد الحقيقة للانتقال إلى المعنى التعريضي من غير استعمال اللفظ فيه؛ لأنه لا يكون التلفظ به من غير إرادة معنى باللفظ إلا أن المعنى التعريضي تصرف النفس بالكلية عن الالتفات إلى ما أريد به إلى الالتفات إلى ما هو في عرض اللفظ، وكذلك فرق بين التعريضي على سبيل الكناية وبين الكناية، فإنه في الكناية لا يكون القصد إلا إلى غير الموضوع له، وإن قصد الموضوع له كان للانتقال إلى الغير بخلاف التعريض على سبيل الكناية كما في آذيتني فستعرف فإن التفات النفس واهتمامها إلى وعيد المخاطب وغيره على سواء.
[فصل: أطبق البلغاء على أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة]
(فصل)(أطبق) أي: أجمع من قولهم: أطبق القوم على الأمر: أجمعوا (البلغاء على أن المجاز والكناية أبلغ) يقال ثناء أبلغ، أي: مبالغ فيه، فالمعنى أن المجاز والكناية مما بولغ فيهما مبالغة أكثر، حيث بولغ في تقرير معنييهما وتحقيقهما، فقوله: أبلغ شاذ من وجهين:
أحدهما: أنه أخذ من المزيد، كقولهم: هو أعطاهم للدينار والدرهم.
وثانيهما: أنه بمعنى المفعول، ولك أن تجاوز الشذوذ الثاني إلى التجوز في وصف اللفظ بكونه مبالغا في تقرير معناه وتحقيقه، وإنما لم يجعلوا الأبلغ من البلاغة، فيكون المعنى أن كلاما فيه كناية ومجاز أبلغ من كلام فيه الحقيقة الصرفة، ويكون وجه الأبلغية كونه أكثر مبالغة؛ لأن كثرة المبالغة لا توجب البلاغة مطلقا في مقام يستدعي المبالغة. فرب حقيقة أبلغ من المجاز؛ لوقوعها في مقام لا يسع المبالغة.
قال الشارح المحقق والسيد السند في شرحي المفتاح: يراد بالبلغاء علماء البيان على ما هو الظاهر؛ لأنهم هم الذين يظهر منهم الإجماع، ويمكن أن يراد جميع البلغاء، ويجعل إجماع أهل السليقة بحسب المعنى، حيث يعتبرون هذه المعاني في موارد الكلام، وإن لم يعلموا هذه الاصطلاحات.
(من الحقيقة)(1) أي: الحقيقة المفردة، وأما الحقيقة المركبة التي هي الكناية فالمجاز ليس أبلغ منها؛ لاشتراكهما في وجه المبالغة، فقوله (والتصريح) تطويل إلا أن تجعله عطفا تفسيريا للحقيقة (لأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم) هذا متفق عليه بين المصنف والسكاكي؛ لأنه وإن جعل الكناية ذكر اللازم أي:
التابع وإرادة الملزوم أي: المتبوع، لكنه جعلها مشاركة للمجاز في الانتقال من الملزوم إلى اللازم؛ لأن اللازم ما لم يصر ملزوما لا ينتقل منه.
ويرد على كون المجاز أبلغ من الحقيقة أن منه المجاز غير المقيد، وهو لفظ المقيد المراد به المطلق، فإنه إذا نظر إلى ما أريد بهذا القبيل من المجاز كان قائما مقام أحد المترادفين، فكما أن أحد المترادفين إذا أقيم مقام الآخر لم يقصد به معنى آخر، بل ذلك المعنى بعينه، فلا يعد مقيدا، كذلك المشفر إذا أقيم مقام الشفة لم يقصد به إلا تلك الحقيقة، أعني: العضو المخصوص.
وذلك القيد الذي جردت الحقيقة عنه تابع عارض لها، كأنه بمنزلة أمر خارج عن مفهوم المشفر، فلا يترتب على قيامه مقام الشفة فائدة، بخلاف إطلاق الأصابع على الأنامل في يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ (2) فإنه يفيد مبالغة، وكذا إطلاق اليد على القدرة يفيد تصويرها بصورة ما هو مظهر لها.
وهذا كلام وقع في البين فلنرجع إلى ما كنا فيه، والمجاز الغير المقيد لا يكون أبلغ من الحقيقة، كيف ولا يصدق في حقه (فهو) الظاهر فهما (كدعوى الشيء ببينة) قال السيد السند في شرح المفتاح في بحث المجاز الغير المقيد:
وأيضا في كل من هذين الإطلاقين يعني إطلاق الأصابع واليد دعوى الشيء ببينة كما سيأتي، وليس ذلك في المشفر الاتحاد المعنى حقيقة، فيجب أن يحمل المجاز على المجاز المقيد، وبين كونهما كدعوى الشيء ببينة بأن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم.
(1) أبلغ: أفعل تفضيل يجوز أن يكون مأخوذا من البلاغة بمعناها اللغوي أي أفضل وأحسن، ويجوز أن يكون مأخوذا من البلاغة على مذهب الأخفش في جواز بناء أفعل التفضيل من الرباعي، وهو الظاهر من كلام عبد القاهر، وقد قيل: إن المجاز المرسل لا مبالغة فيه فلا يكون أبلغ من الحقيقة، والحق أن المجاز المرسل فيه مبالغة أيضا إلا ما كان منه خاليا عن الفائدة.
(2)
البقرة: 19.
وفيه أن ما ثبت أن الانتقال فيهما من الملزوم في التصور إلى اللازم، ووجود الملزوم في التصور لا يستلزم وجود اللازم، وكأنه أشار الشارح المحقق إلى هذا حيث قال: هذا أي اقتضاء وجود الملزوم اللازم ظاهر، وإنما الإشكال في بيان اللزوم في سائر أنواع المجاز، هذا وكثيرا ما لا يتنبه لمراده، فيظن أن الإشكال في بيان اللزوم الذهني، فيعترض بأنه بعد ما بين الشارح في أوائل بحث المجاز اللزوم، فلا وجه لدعوى الإشكال هنا، وليس بشيء؛ لأن ما سبق بيانه هو اللزوم الذهني، والتنبه على وجود الملزوم اللازم الخارجي، فأين ذلك من هذا؟ !
(و) أطبقوا على (أن الاستعارة أبلغ من التشبيه؛ لأنها نوع من المجاز).
أقول: بعد وضوح كون الاستعارة مجازا، والتشبيه حقيقة ليس ذكر هذا الإطباق بعد ذكر الإطباق الأول إلا تطويلا، وإنما ذكره المفتاح لإفراده بدليل آخر، سوى الدليل المشترك بين المجازات، وهو أن التشبيه يتضمن الاعتراف بكون المشبه به أكمل من المشبه في وجه الشبه، ثم كون التشبيه حقيقة يرده ما حقق أن قولنا: زيد كالبدر عبارة عن كونه في غاية الحسن، وأن نسبة التشبيه إلى الاستعارة كنسبة الكناية إلى المجاز.
ومما يجب أن ينبه عليه أن المصنف توهم أن ما ذكره السكاكي أن للاستعارة مزية على التشبيه، فإن في التشبيه الاعتراف بنقصان المشبه عن المشبه به دون الاستعارة، يرد ما حققه الشيخ عبد القاهر؛ حيث قال: وليس السبب في كون المجاز والكناية أبلغ أن أحدا من هذه الأمور يفيد زيادة في نفس المعنى لا يفيدها خلافه، بل لأنه يفيد تأكيدا لإثبات المعنى، لا يفيد خلافه؛ إذ لا يفيد: رأيت أسدا زيد من: رأيت رجلا يساوي الأسد في الشجاعة، إنما فضيلة الأول لاشتماله على تأكيد فاته الثاني، وهكذا لا مزية للكثير الرماد على المضياف في كثرة القرى، بل لاشتماله على تأكيد فاته المضياف، مع اتحاد المقصود منهما.
ووجه الرد: أن ذلك لا يصح في الاستعارة بالنسبة إلى التشبيه، إذ رأيت أسدا يفيد شجاعة الأسد، وزيد كالأسد يفيد شجاعة دون شجاعة الأسد، ثم نصر الشيخ بأن مراده ليس السبب في كل صورة ذلك، ورفع الإيجاب الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي، فالسبب في كل صورة تأكيد إثبات المعنى بخلاف خلافهما.
وأما المزية في المعنى فربما تكون كما في الاستعارة والتشبيه دون غيرها ودونها وغير التشبيه كما في: رأيت أسدا، ورأيت رجلا يساويه في الشجاعة.
وقال الشارح: هذا استنباط معنى قد غلط فيه، كما هو عادته في استنباط المعاني من عبارات الشيخ لافتقارها إلى تأمل وافر، بل مراد الشيخ: أن شيئا من هذه العبارات لا يوجب ثبوت المزية في الواقع، كما ذكر هو نفسه أن الخبر لا يدل على ثبوت المعنى ونفيه، مع أنا قاطعون بأن المفهوم من الخبر أن هذا الحكم ثابت أو منفي؛ وذلك لأن الدلالة اللفظية قد تتخلف عن المدلول.
ورده السيد السند: بأن هذا معنى ركيك فاسد؛ لأن ما نفاه الشيخ حينئذ مما لا يذهب إليه وهم، حتى يدفع، فإنهما لا يوجبان ثبوت أصل الشجاعة وأصل القرى في الواقع، فكيف يتوهم إيجابهما لثبوت أصل المعنى فيه، والإنصاف أن المتبادر من كلام الشيخ ما فهمه المصنف، وأن المغلط غالط والتشنيع ساقط.
هذا ونحن نقول: لو كان المراد ما ذكره الشارح لما وفي نفي ما نفاه الشيخ لإثبات أن الأبلغية لمجرد التأكيد، فليكن لاعتبار زيادة في المفهوم، لكن الإنصاف أن مراد الشيخ ليس ما ذكره المصنف، كما أنه ليس ما ذكره الشارح، وإن كان ما ذكره المصنف أقوى، بل مراده: أن ليس للأبلغية لإفادة شيء من العبارات مزية في المعنى، دون خلافها، وإلا لم يكن المقيس عليه للحقيقة والمجاز معنى واحد، وهذا كلام حق.
والمراد بقولنا: جاءني أسد، ليس إلا المراد بزيد كالأسد، وإلا لم يكن بجعله أبلغ منه دون زيد كالحمار معنى، وإنما التفاوت بادعاء المساواة في جاءني أسد وتأكيد تلك الدعوى بجعله عين الأسد، وإنكار كون زيد أنقص، بخلاف زيد كالأسد، فإن فيه اعترافا به، وبخلاف زيد والأسد، سواء فإنه لا يؤكد دعوى التسوية والادعاء وتأكيده لا يفيد مزية في الحق، بل مجرد تأكيد ومبالغة فيه، فما يدل عليه جاءني أسد على تقدير صدقه لا يوجب ثبوت المزية في الواقع، بخلاف الخبر فإنه على تقدير صدقه يوجب ثبوت مضمونه، فبين ما ذكره في الخبر وما ذكره في هذا المقام بون بعيد.
هذا آخر ما وفقنا من شرح الفن الثاني، بعد شرح الفن الثالث، ووهبنا ما فيهما من الغرائب والبدائع، نسأله التوفيق للترقي إلى شرح المقدمة والفن الأول، والحفظ من الموانع.
إلهي هب لنا أقوى الذرائع، التوفيق لاتباع أجل الشرائع، وبصرنا في أنوار العمل بأسرار المعارف والبدائع، واغتناما بإفاضة معاني بيانك العلية عن العلوم الرسمية والصنائع. بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين في الوقائع.
***