الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جعلت أسنة على رماحهم عند الطعن، فصارت الأسنة في النفاذ كألسنتهم.
هذا وأقول: في بيت أبي الطيب مزيد مبالغة في نفاذ كلامهم ليس في بيت البحتري، حيث جعل أسنتهم مشبهة بألسنتهم على التشبيه المقلوب، لكن مع ذلك بيت البحتري أبلغ لكثرة ما فيه من المزايا.
(وثالثها) أي ثالث الأقسام وهو ما يكون أبعد عن الذم، لكون الثاني مثل الأول (كقول الأعرابي أبي زياد:
([ولم يك]) بحذف نون يكون في الجزم لكثرة استعماله ([أكثر الفتيان]) بالكسر جمع فتى بمعنى السخي [مالا] وفي الإيضاح وما إن كان أكثرهم سواما السوم بالفتح الإبل الراعية [ولكن كان أرحبهم ذراعا](1) الذراع بالكسر طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى والساعد، وقد يذكر فيهما، ورحب الباع والذراع ورحبهما أي سخي، والباع قدر مد اليدين.
(وقول أشجع) يمدح جعفر بن يحي [يروم الملوك مدى جعفر ولا يصنعون لما يصنع]: [وليس بأوسعهم في الغنى ولكنّ معروفه] أي إحسانه [أوسع](2).
[وأما غير الظاهر]
(وأما غير الظاهر فمنه أن يتشابه المعنيان) معنى البيت الأول، ومعنى البيت الثاني (كقول جرير:[فلا يمنعك]) على لفظ النهي ([من أرب]) على وزن فرس وحبر الحاجة ([لحاهم]) بالضم والكسر جمع لحية بالكسر ([سواء ذو العمامة]) بالكسر وهي المغفر والبيضة وما يلف على الرأس وحملها على الأولين أبلغ، وعلى الثالث أوفق بقوله:[والخمار] بالكسر أي سواء رجالهم ونسائهم، وقد ربي تلك التسوية باستعمال ذو فيهما على السواء.
(وقول أبي الطيب) في سيف الدولة يذكر خضوع بني كلاب وقبائل العرب:
(ومن في كفّه منهم قناة
…
كمن في كفّه منهم خضاب) (3)
(1) البيت في الإيضاح لأبي زياد الأعرابي، والإشارات:(312)، وفيه الشطر الأول:«وما إن كان أكثرهم سواما» والبيت لموسى في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كما يقوله الصولي في كتابه «الأوراق» .
(2)
البيت لأشجع السلمي في جعفر بن يحيى البرمكي، وقبله:
يروم الملوك مدى جعفر
…
ولا يصنعون كما يصنع
وانظر البيت في الإيضاح: (355)، والإشارات:(312).
(3)
انظر البيت في الإيضاح: (356). قناة: رمح. خضاب: صبغ حناء.
فتعبير جرير بذي العمامة كتعبير أبي الطيب عنه بمن في كفه منهم قناة، وكذا التعبير عن المرأة بذات الخمار، وبمن في كفه منهم خضاب، وفي بيت أبي الطيب مزيد مبالغة حيث جعل المنهي للحرب كالمرأة المنتقبة التي في يدها الخضاب، فإنها أضعف من المرأة الخادمة المتمرنة على العمل، والسعي المتحملة للشدائد، وفيه صنعة التوجيه فإنه يحتمل المدح بالشجاعة بأن يحمل على أن في يده منهم قناة، كمن في كفه منهم خضاب، لتلطيخه بدم الخصم، وله احتمال آخر يخرجه عن تشابه المعنيين، وهو أن من في كفه منهم قناة ليس القناة في كفه إلا زينة لكفه، ولا يتأتى منه فائدة سوى الزينة، كمن في كفه منهم خضاب، إذ ليس الخضاب إلا زينة، وهذا هكذا، وإن يدل على ضعفهم لكن لا بالتسوية بين النساء وبينهم.
في الإيضاح: ولا يغرك من البيتين المتشابهين أن يكون أحدهما نسيبا والآخر مديحا أو هجاءا أو افتخارا أو غير ذلك، فإن الشاعر الحاذق إذا عمد إلى المعنى المختلس لينظمه احتال في إخفائه، فغير لفظه، وعدل به عن نوعه ووزنه وقافيته.
(ومنه) أي من غير الظاهر (النقل وهو أن ينقل المعنى إلى محل آخر كقول البحتري: [سلبوا]) أي ثيابهم [(وأشرقت)] أي دخلت في شروق الشمس [الدّماء] كائنة ([عليهم]) فعليهم حال من الدماء مثل ([محمرّة]) أي غير مخلوطة بما يغير لونها [فكأنّهم لم يسلبوا](1)، لأن الدماء المشرقة صارت بمنزلة ثياب لهم. [(وقول أبي الطيب [يبس النّجيع]) هو من الدم ما كان إلى السواد [(عليه)] أي على السيف [(وهو مجرّد من غمده فكأنّما هو مغمد)](2)
، لأن الدم اليابس له بمنزلة الغمد له، فنقل أبو الطيب المعني من القتلى والجرحى إلى السيف، وإذا وقع هذا النقل في المتشابهين زاده خفاء في الأخذ.
(ومنه) أي من غير الظاهر (أن يكون معنى الثاني أشمل من) معنى الأول (كقول جرير:
(1) البيت في ديوانه: (1/ 76)، والإيضاح:(357)، والإشارات:(713).
(2)
البيت في ديوانه: (1/ 337) من قصيدة يمدح فيها شجاع بن محمد الطائي، وهو في الإيضاح:(357)، والإشارات:(313).
إذا غضبت عليك بنو تميم
…
وجدت النّاس كلّهم غضابا) (1)
لأنهم يقومون مقام الناس كلهم، فجعلهم بمنزلة كل الناس، هكذا ذكره الشارح، بل المتبادر أنهم نزلوا منزلة كل الناس في الغضب، فيكون أخص من قول أبي نواس من وجهين، وقول أبي نواس كتبه إلى هارون حين غار على الفضل البرمكي لكثرة أفضاله وأمر بحبسه:
قولا لهارون إمام الهدى
…
عند احتفال المجلس الحاشد
أنت على ما بك من قدرة
…
فلست مثل الفضل بالواحد (2)
وليس من الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
فأمر هارون بإطلاقه، ولا يخفى أن التفاوت الموجب لعدم الظهور العموم والخصوص، سواء كان الأول أشمل أو الثاني، فالأولى أن يقال: أن يكون أحدهما أشمل إلا أن يقال: عموم الأول يتضمن شمول الحكم لكل خاص، فالإتيان بخاص من خواصه سرقة محضة ظاهرة، بخلاف خصوص الأول، فإنه لا يستلزم الحكم الخاص الحكم على العام، فليس فيه سرقة محضة، بل يشبه أن يكون فيه تدارك ما فات الأول، وبهذا عرفت أن أخذ الثاني الأخص من معنى الأول داخل في أخذ المعنى بعينه.
(ومنه) أي من غير الظاهر (القلب، وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول كقول أبي الشيص) الخزاعي:
(أجد الملامة في هواك لذيذة
…
حبّا لذكرك فليلمني اللّوّم) (3)
جمع لائم كطالب وطلب، والأمر للدعاء، لأن المناسب الطلب على سبيل الخضوع للوم، لأنهم محسنوه، والمراد: كل لائم كما يقتضيه المقام.
(وقول أبي الطيب: [أأحبّه]) الاستفهام للإنكار فهو في معنى لا أحبه،
(1) البيت لجرير في ديوانه: (78) من قصيدة يهجو فيها الراعي النميري والإشارات: (313)، والإيضاح:(357).
(2)
الأبيات لأبي نواس من قصيدة يمدح فيها الفضل بن الربيع، انظر ديوانه:(146)، والبيت الأخير في الإيضاح:(357)، والإشارات:(314).
(3)
أبو الشيص: محمد بن رزين الخزاعي، والبيت في الإيضاح (357)، والإشارات:(314).
والنفي راجع إلى القيد الذي هو قوله [(وأحبّ فيه ملامة) لأنه حال لتقديره:
بأنا أحب، أو لتجويز كون المضارع المثبت حالا بالواو للضرورة، أو على سبيل الشذوذ، وأما تجويز البعض الحال بالواو إذا كان مضارعا مثبتا مطلقا، كما يشعر به كلام الشارح، فلم يعثر عليه مع التفحص البليغ، وأما جعل النفي للمجموع بجعل الواو للعطف ففيه تقصير، لا يراد ما يحتمل انتفاء حبه احتمالا ظاهرا، وفي اختيار أحبه على لا أحبه التحرز عن ذكر لا أحبه، وضمير فيه في قوله ([وأحب فيه]) كضمير أحبه لكن بتقدير مضاف أي أحب في حبه على طبق في هواك، أو إلى الحب المذكور في أأحبه معنى [(إنّ الملامة فيه] أي في حبه) على أحد الوجهين [من أعدائه](1) أي ممن يعادونه، فكيف أحب الملاقاة مع أعدائه، وفيه أن الملامة قد تكون من أحبائه الذين لا يرون اللوم لائقا بدعوى حبه! أو المراد بأعدائه من يعاديهم على أن يكون الأعداء جمع عدو، بمعنى المفعول، وحينئذ يصفو المعنى عن ثبوت التردد، وإنما بين السبب في البيتين على النقيضين لأن الأحسن في هذا النوع أن يبين السبب إلا أن يكون ظاهرا كما في قول أبي تمام:([ونغمة معتف جدواه]) أي ([أحلى على أذنيه من نغم السّماع])(2) قوله جدواه مفعول معتف، وقول أبي الطيب:[والجارحات عنده نغمات سبقت قبل سيبه بسؤال] فإن كلا من التلذذ بسؤال السائل والتألم لفوت العطاء قبل السؤال منشأه كرم في غاية الكمال، وهو أظهر من أن يخفى بدون ذكره الحال.
(ومنه: أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه ما يحسنه) تحسينا ذاتيا أو عرضيا، وأما إذا أخذ كل المعنى ويضاف إليه ما يحسنه فهو من الأخذ الظاهر الذي الثاني فيه أبلغ (كقول الأفوه) الأفوه وهو في اللغة الواسع الفم، أو طويل الأسنان بحيث خرجت من الشفتين:[وترى الطّير] جمعه طائر ويقع على الواحد
(1) البيت في ديوانه: 2/ 103 من قصيدة مطلعها:
القلب أعلم يا عذول بدائه
…
وأحقّ منك بجفنه وبمائه
فومن أحب لأعصينّك في الهوى
…
قسما به وبحسنه وبهائه
والبيت في الإيضاح: (357)، والإشارات:(314).
(2)
البيت في الإيضاح: 357. نغمة معتف جدواه: صوت طالب معروفه.
وجمع طيور وأطيار [(على آثارنا)] جمع أثر بمعنى العلم أي مستعلية على أعلامنا متوقفة فوقها، فتكون الأعلام مظللة بها ([رأي عين]) الرأي كالرؤية مصدر يرى ورأي العين أي يرى الشيء بعينه، وهذا إذا كان قريبا، وأما إذا كان بعيدا فلا يرى إلا شبحا يتميز عن الغير ([ثقة]) مفعول له متعلق على آثارنا أي كائنة على آثارنا لوثوقها ([أن]) أي بأن متعلق بثقة ([ستمار])(1) أي ستطعم من لحوم من نقتلهم لاعتيادنا بذلك، فأفاد تكرار غلبتهم على الخصم (وقول أبي تمام:[قد ظلّلت]) أي ألقى عليها الظل (عقبان أعلامه) أي أعلامه التي هي كالعقبان في سرعة وصولها إلى الخصم واصطياده للخصم ([ضحى بعقبان طير]) العقبان كالحرمان جمع عقاب ([في الدّماء نواهل]) النهل أول الشرب، وإبل نواهل، ويكون خرص الشرف في أوله أكثر، ووصفهم بالنواهل باعتبار المشارفة على النهل ([أقامت]) أي عقبان الطير ([مع الرّايات]) أي الأعلام اعتمادا على أنها ستطعم لحوم القتلى ([حتّى كأنّها من الجيش]) أي أقامت مختلطة مع الجيش [إلا أنّها لم تقاتل](2) فإن أبا تمام لم يلم بشيء) أي لم يقصد شيئا (من معنى قول الأفوه رأي عين، وقوله ثقة أن ستمار) بيان لكون الأخذ أخذ بعض المعنى، لكن في عدم إلمامه بمعنى رأي عين نظر، لأنه عبارة عن القرب، ويفيده التظليل. وما ذكره الشارح في دفعه من أن التظليل يجوز أن يكون مع البعد بأن يكون الطير في جو السماء، بحيث لا يرى أصلا يدفعه أن قوله: أقامت مع الرايات يفيد أن التظليل مع القرب، على أن المتبادر من ظللت القرب كما لا يخفى.
(لكن زاد) أبو تمام (عليه) أي على الأفوه أو على البعض المأخوذ، والأول يوافق الإيضاح، والثاني يلائم قوله: ويضيف إليه بعض ما يحسنه بقوله: إلا أنها لم تقاتل، وبقوله: في الدماء نواهل، وبإقامتها مع الرايات، حتى كأنها من
(1) الأفوه: هو ابن عمرو، والبيت في ديوانه:(130)، والإشارات:(314)، والإيضاح:(358).ستمار: ستطعم.
(2)
البيتان لأبي تمام في ديوانه: (3/ 82) من قصيدة في مدح المعتصم، والإشارات:(314)، والإيضاح:(358). عقبان: جمع عقاب، وهو طائر من الجوارح قوي المخالب أعقب المنقار، وهو المراد بعقبان الطير في الشطر الثاني، أما عقبان الأعلام فهي تماثيل صغيرة من نحاس ونحوه موضوعة في أعلى الرايات، والإضافة على معنى اللام، أو أن العقبان مشبه به مضاف للمشبه.
الجيش، ولا يظهر وجه عدم ذكر الزيادات على الترتيب. (وبها) أي بالزيادات الأخيرة (يتم حسن الأول) أعني قوله: إلا أنها لم تقاتل، إذ ذكر إقامتها مع الرايات هو الذي يوهم مقاتلتها، ويحوج إلى هذا الاستدراك.
وقيل: المراد إنه بهذه الزيادات يتم حسن البيت الأول من بيتي أبي الطيب، ولا يبعد عن الصواب، ويوافق عبارة الكتاب، ويكون بحذاء قول الإيضاح، وهذه الزيادة حسنت قوله، وإن كان قد ترك بعض ما أتى به الأفوه، وعلى التفسير الأول يكون بحذاء قول الإيضاح، وبذلك يتم حسن قوله: إلا أنها لم تقاتل، ففي ما قاله الشارح، والتفسير الأول هو الموافق للإيضاح، وعليه التعويل نظر.
(وأكثر هذه الأنواع) المذكورة لغير الظاهر (ونحوها مقبولة) قد نبه بقوله:
(ونحوها) على أن غير الظاهر لا ينحصر فيما ذكره، وللعقل في استخراج نظائر لها مجال، لكن وجه إدراج الأكثر خفي جدا.
(منها) أي من هذه الأنواع. والصواب: أي من هذه الأنواع ونحوها، بل منها أي من السرقة لأن حسن التصرف في كل سرقة كذلك.
(ما يخرجه حسن التصرف من قبيل الاتباع إلى حيز الابتداع وكل ما كان) أي كل نوع من هذه الأنواع (يكون أشد خفاء) كونه أخذا (كان أقرب إلى القبول) أي إلى نهاية القبول، وإلا فالجميع مقبول، وبعد يتجه أن نهاية القبول خرجت عن هذا البيان فتأمل.
(هذا) أي هذا الذي ذكرناه من ادعاء سبق أحدهما واتباع الثاني، وكونه مقبولا ومردودا، وتسمية كل بالأسامي المذكورة وغير ذلك مما سبق، فإفراد هذا بتأويل المشار إليه بما ذكر، فلا منافاة بينه وبين التأكيد بقوله (كله) إنما يكون إذا علم أن الثاني أخذ من الأول بأن يعلم أنه كان يحفظ قول الأول حين نظم، أو بأن يخبر هو عن نفسه أنه أخذه منه.
(وإلا فلا) يكون شيء منها إذ لا يصح ادعاء السبق فضلا عما يترتب عليه، وإنما لا يصح ذلك الادعاء لجواز (أن يكون الاتفاق) أي اتفاق القائلين (من قبيل توارد الخاطرين) أي مجيئه على سبيل الاتفاق (من غير قصد إلى الأخذ)