الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من التدقيقات.
هذا كلامه، وليس بذاك؛ فإن السكاكي أدرج في كتابه مقدمات حكمية واصطلاحات عقلية، فلا بد للشارح لكلامه أن يخوض في تفصيل مرامه، فليس منطق افتخار إلا بالسكاكي، ويشهد لذلك أنه يشكو الشارح فيما بعد عن السكاكي، ويقول: لا يتفرع على أمثال هذه التقسيمات أحكام متفاوتة، فهي قليلة الجدوى. وكان هذا ابتهاج من السكاكي باطلاعه على اصطلاحات المتكلمين.
[وجه التشبيه]
(ووجهه) أي: وجه التشبيه (ما يشتركان) أي: الطرفان (فيه) بحكم التشبيه فيئول المعنى إلى ما دل على اشتراكهما فيه، فلا يرد نحو ما أشبهه بالأسد للجبان؛ لأن الشجاعة ليست مشتركة بينهما، مع أنها وجه الشبه للدلالة على مشاركتهما فيها، ولا يلزم أن يكونا من وجوه التشبيه فيه: زيد كالأسد، الوجود والجسمية والحيوانية.
ويتجه أنه يلزم أن يكون الطرفان قبل الدلالة على الاشتراك فيه طرفين إلا أن يتجوز، وأخرج التعريف مخرج من قتل قتيلا، ولا يخفى أن الوجه ليس أحوج إلى التعريف من الطرفين، كما يوهمه كلامه.
وهما دل على اشتراكهما في شيء.
قال الشارح: المراد بكلمة: ما معنى له مزيد اختصاص بهما، واستشهد فيه بقول الشيخ عبد القاهر: إن التشبيه الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء نفسه خاصة، كالشجاعة في الأسد، والنور في الشمس، ولا يخفى أن الشاهد لا يدل إلا على مزيد اختصاص بالمشبه به، ثم نقول: لما كان ظاهر عبارة الشيخ موهما لوجوب كون وجه الشبه خارجا عن الطرف، وكونه وصفا ثابتا للشيء في نفسه من غير اعتبار معتبرا ومختصا بالمشبه به، مع أن الظاهر أن ذلك شرط كون التشبيه مقبولا، وهو غير معتبر في مفهوم وجه الشبه، ولا في مفهوم التشبيه أسقطه المصنف عن تعريف التشبيه، ولم يعتبره في تعريف وجه الشبه ووضع موضع الوصف كلمة ما ليشمل الجزء بلا خفاء وذكر قوله (تحقيقا أو تخييلا) تصريحا بأن وجه الشبه لا يجب أن يكون من أوصاف الشيء
في نفسه فتعديل تعريف المصنف باعتبار أمور تجعله موافقا لكلام الشيخ عدول عن طريق سلكه.
قال المصنف: (والمراد بالتخييل) أن لا يكون وجوده في المشبه به إلا على تأويل، وكأنه اقتصر في البيان على ما أوجده، وإلا فمفهوم ما يشتركان فيه تخييلا أعم؛ ولذا قال الشارح: هو أن لا يوجد في أحد الطرفين أو كليهما إلا على سبيل التخييل والتأويل (نجوما) أي: وجه شبه (في قوله) يعني القاضي التنّوخي (1) المنسوب إلى قبيلة تنوخ المسماة بمفعول من تنخ بالمكان أقام به سموا به لأنهم اجتمعوا فأقاموا في مواضعهم، ووهم الجوهري (2)، فجعل النسبة إلى تنوخ من قبيل تقول. (وكأنّ النّجوم) جمع نجم كأنجم وهو الكوكب (بين دجاه) أي:
دجى الليل، والمرجع في البيت السابق، وروى دجاها فالضمير لليلة أو للنجوم، فالإضافة لأدنى ملابسة، والدجى كالعلى جمع دجية، وهي الظلمة بناء ومعنى (سنن) جمع سنة، وهي في اللغة السيرة، ومن الله حكمه وأمره ونهيه، وما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم مع الترك أحيانا (لاح) أي: ظهر (بينهنّ ابتداع)] (3).
الابتداع: الإنشاء، والبدعة: الحدث في الدين بعد كماله، والمراد بالابتداع على ما بين وجه التشبيه إحداث البدعة، ولا يخفى أن طرفي البيت لا يتلايمان فإنه جعل النجوم بين الدجى، والسنن بينهن الابتداع، والملايم أن تجعل بينهن الدجى أو السنن بين الابتداع وتحصيل الملائمة كما يمكن باعتبار القلب في الأول يمكن باعتباره في الثاني وأشار إليهما.
أما إلى الأول فبقوله: من خصوله من خصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود، فإن مفهومه أن جعل الدجى بين النجوم. وأما إلى الثاني فبقوله بالسنن بين الابتداع، وأشار إلى ترجيح الثاني بإيراد تفصيله وتوضيحه دون الأول، وكان وجه الترجيح أن التأويل دار بين المتقدم والمتأخر ترجيح المتأخر،
(1) القاضي التنوخي هو: علي بن محمد بن داود بن فهم.
(2)
الجوهري: أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، لغوي من الأئمة، أشهر كتبه «الصحاح» توفي بنيسابور 3393 هـ.
(3)
البيت للقاضي التنوخي في المصباح ص 110 وأسرار البلاغة ص 183 والإيضاح 336 والمفتاح ص 451 بتحقيقنا.
ويكون أحرى به؛ لئلا يكون كالعمل قبل الحاجة، وكنزع الخف قبل الوصول إلى الماء، لكن لا يخفى أن الأول أنسب بالمقام وأبلغ، كيف؟ وفيه بيان كثرة النجوم وغلبتها على ظلام الليل كغلبة السنن في الإسلام على البدعة، والنكتة في القلب حينئذ الإشارة إلى أن الواقع كون الدجى ظرفا للنجوم، والقول بكون الدجى بين النجوم كما هو المقصود في هذا المقام بقرينة المشبه به قول تخييلي؛ لأنه كذلك تخييل في المرأى لغلبة النجوم على الدجى كما أن قلب سنن بين الابتداع للإشارة إلى أن السنن هي الأصل الذي حدث فيها البدعة، واللائق بأن يجعل ظرفا للبدعة دون العكس، وإن دعت الحاجة إليه.
وقال الشارح: هو للإشارة إلى كثرة السنن، حتى كانت البدعة هي التي تلمع بينها (فإن وجه الشبه فيه) أي: في هذا التشبيه (هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض، في جوانب شيء مظلم أسود) هي الظلمات، ولا يخفى أن جعل الظلمة وإن كان لها وجه من أنها مظلمة بذاتها كما أن الضوء مضيء بذاته، لكن جعلها سوداء وقابلته اللون مما لا يوجد له مساغ، فلا يكون تلك الهيئة في المشبه أيضا إلا تخييلا، ولا يكون تحقيقا كما يلوح من قوله:(وهي غير موجودة في المشبه به إلا على طريق التخييل) إلا أن يقال لإيراده بالتحقيق ما ثبت في الواقع، ولا ينمحي بالتدقيق، وإنما هو ما يكون في المرأى، ولا يحوج إلى تكلف أو خيال للنفس، فإنه كالرؤيا ولا يخفى أنه يرى بين النجوم أمور مظلمة سود تؤول عند التحقيق بالتدقيق إلى ظلمات صرفة، وهو منشأ قوله بين دجاه دون أن يقول بين أمور مظلمة سود.
(وذلك) أي: وجودها في المشبه به على طريق التخييل (أنه) أي: لأنه وهذا أظهر مما في الشرح من جعل ذلك إشارة إلى بيان وجودها في المشبه به بطريق التخييل، أي: بيانه بأنه والضمير للشأن (لما كانت البدعة، وكل ما هو جهل يجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة فلا يهتدي للطريق ولا يأمن من أن ينال مكروها) من الوقوع في مهلكة أو العثور على داهية مهلكة (شبهت)، جواب لما، أي: البدعة ونظائرها من الجهالات (بها) أي: بالظلمة (ولزم بطريق العكس أن تشبه السنة، وكل ما هو علم بالنور) ووجه جعل تشبيه
السنة بالنور فرع تشبيه البدعة بالظلمة دون العكس أن العلم قد يكون مع الضلال، كما في العالم الغير العاقل، والجهل لا ينفك عن الضلال، أو أن التنفير عن البدعة متقدم على الترغيب بالسنة، فالتشبيه في البدعة أسبق أو أن ظلمة الكفر كانت سابقة قد ارتفعت بالسنة، فتشبيه الجهل والبدعة يستحق أن يكون سابقا على تشبيه العلم والسنة، وجعل السكاكي كلا منهما مستقلا.
(وشاع ذلك) أي: كل من التشبيهين (حتى يخيل أن الثاني) أي: كل ما هو علم (مما له بياض وإشراق) قدم الثاني على خلاف ترتيب الوجود والذكر السابق لقوة شاهده وشرفه، (نحو) قوله عليه السلام «(أتيتكم بالحنيفية) أي:
بالملة الحنيفة المنسوبة إلى الحنيف أي: الثابت على الإسلام (البيضاء)» هذا لا يدل إلا على ثبوت البياض، دون الإشراق كما هو المرعى، ولو أريد بالبيضاء الشمس وجعلت صفة للحنيفية بتأويلها بالمشرقة كقولك مررت بزيد الأسد، أي: الجريء لم يدل إلا على تخييل الإشراق.
(والأول على خلاف ذلك كقولك: شاهدت سواد الكفر من جبين فلان، فصار) لذلك الشيوع المستلزم للتخييل المذكور (تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع كتشبيهها) أي: بالنجوم بين الدجى (ببياض الشيب في سواد الشباب) في القبول والرواج (أو بالأنوار (1) مؤتلقة) بالقاف أي: لامعة (بين النبات الشديدة الخضرة) التي يرى أسود فنبه به على أن المحقق أعم من المحقق في الواقع أو في المرأى وبادي النظر، كما أشرنا إليه.
وقد جعل صاحب المفتاح البيت من التشبيه المقلوب على نحو:
وبدا الصّباح كأنّ غرّته
…
وجه الخليفة حين يمتدح (2)
ففيه ادعاء أن نور السنن صار بحيث يشبه به نور النجوم، وأن الابتداع فوق الظلمة في الإظلام وليس لك أن تجعل الكاف للتشبيه وأن من الحروف المشبهة
(1) جمع نور بفتح النون، وهو الزهر الأبيض أو الزهر مطلقا.
(2)
البيت أورده السكاكي في المفتاح: 451 بتحقيقي، وعبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة: 181 وعزاه لمحمد بن وهيب، وفخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز: 220، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات:
191، والقزويني في الإيضاح: 223، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح: 1/ 108. والبيت في مدح الخليفة المأمون. الغرة: البياض في الجبهة.
بالفعل فيصير المعنى: وككون النجوم بين دجاها سنن لاح بينهن ابتداع، أي:
كتلك الهيئة تلك الهيئة فيخرج بذلك التشبيه عن كونه مقلوبا؛ لأنه وجب زيادة ما بعد الكاف إذا دخل على أن فيقال كما أن ولا يقال كان؛ لئلا يلتبس بكأن من الحروف المشبهة.
(فعلم) من تصوير وجه التشبيه وأنه المشترك بين الطرفين (فساد جعله في قول القائل: النحو في الكلام كالملح في الطعام، كون القليل مصلحا والكثير مفسدا؛ لأن المشبه) أي: النحو (لا يحتمل) أي: لا يحتمل سببا بين (القلة والكثرة) لا أنه ليس مردودا بينهما، ويتعين فيه أحدهما، كيف وإذا روعي في جميع أجزاء الكلام فقد حصل النحو، وإن أهمل في جزء فلا نحو في الكلام، فوجه الشبه هنا أن الكلام يصلح بوجوده ويفسد بعدمه، بمعنى أنه لا ينتفع به لفوات الدلالات، بل ليضر به للانتقال إلى غير المقصود كما أنه لا ينتفع البدن بطعام لا ملح فيه، بل يستضر به ويمرض ولا يقتصر الفساد على فوت الانتفاع، بل كما لا لذة لطعام لا ملح فيه لا لذة لكلام لا نحو فيه ولو سلم أنه برعايته في بعض أجزاء الكلام يحصل النحو، فالفساد بقلته لفوته في البعض لا بكثرته.
قال صاحب المفتاح: وربما أمكن تصحيح جعله، فقال الشارح: فكأنه أراد بكثرة النحو استعمال الوجوه العربية والأقوال الضعيفة، ونحو ذلك مما يفسد به الكلام، وفيه أن استعمال الوجه غريب بدل الوجه المستفيض لا تجعل النحو كثيرا في الكلام فكأنه أراد بكثرة النحو إيراد الكلام محتملا لوجوه مختلفة، ومحتمل التطبيق على قواعد متباينة فيوجب تحير السامع لصيرورة المركب بمنزلة المفردات المشتركة.
(وهو) أي وجه التشبيه (إما غير خارج عن حقيقتهما) أي: حقيقة شيء من الطرفين (كما في تشبيه ثوب بآخر في نوعهما أو جنسهما أو فصلهما) أو في الجنس والفصل.
(أو خارج) عن حقيقة واحد منهما أو المراد غير خارج عن حقيقة كلا الطرفين، أو خارج عن حقيقة كليهما، ولا يخفى أن تشبيه الإنسان بالفرس في