الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الكناية)
مصدر قولهم: كنيت به عن كذا أكنى من باب ضرب، وكنوت أكنو من باب نصر أي: تكلمت بما يستدل به عليه، أو تكلمت به وأردت غيره أو تكلمت بلفظ يحاذيه جانبا حقيقة ومجازا، والمعنى الأخير قريب من المعنى المصطلح عليه أعني قوله:(لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه)(1) وقد أشار إلى فائدة قوله مع جواز إرادته معه، وهو إخراج المجاز عن التعريف بقوله:(فظهر أنها تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى الحقيقي مع إرادة لازمه) إلا أنه لم يقل فخرج به المجاز، مع أنه أخصر وأوضح في المقصود؛ ليكون مع الإشارة إلى هذه الفائدة تنبيها على أن العمدة في الفرق بين الكناية والمجاز هو هذا الذي هو الوجه الأول للفرق الذي ذكره السكاكي.
والوجه الثاني من الفرق الذي ذكره، وهو قوله:«وفرق بأن الانتقال فيها من اللازم» إلخ ليس بشيء، وكما يخرج به المجاز تخرج بعض الحقائق الصريحة كلفظ الصلاة المستعملة في الدعاء بحسب اللغة، فإنه يصدق عليها لفظ أريد به لازم معناه، لكن لا تجوز إرادته معه؛ إذ لا تجوز حين التكلم باصطلاح اللغة إرادة المعنى الشرعي، فضلا عن إرادته معه، فلا حاجة لإخراجها إلى اعتبار حيثية اللزوم، أي: لازم معناه من حيث إنه موضوع له، لا من حيث إنه لازم الموضوع له.
فإن قلت: ما فائدة قوله: معه، وهل لا يكفي للفائدتين المذكورتين مجرد قوله: مع جواز إرادته؟
قلت: يكفي لهما ذلك، لكن فيه التنبيه على أن إرادة اللازم أصل، وإرادة المعنى تبعية إرادة اللازم، ولينتقل منه إلى اللازم كما يفهم من قولنا: جاء زيد مع عمرو؛ ولهذا يقال: جاء فلان مع الأمير، ولا يقال: جاء الأمير معه،
(1) لازم المعنى وهو المقصود يقال له معنى كنائي، وملزومه يقال له معنى حقيقي، وجواز إرادة المعنى الحقيقي في الكناية بالنظر إلى ذاتها، وقد تمتنع إرادته فيها لعارض يمنع من إرادته.
والممنوع هو الجمع بين المعنى ولازمه، على وجه يكونان مقصودين استقلالا، ولا مانع من الجمع على وجه يكون أحدهما تابعا للآخر، ووسيلة إلى قصده وفهمه، لكن فيه: أن استعمال كلمة «مع» في قوله: مع جواز ليس كما ينبغي؛ لأن إرادة لازم المعنى ليس تابعا لجواز إرادته معه، إلا أن يقال: إن كلمة مع تدخل على المتبوع من المتشاركين، وجواز إرادة معناه مع لازمه لم يشارك اللازم في الإرادة، فتأمل.
ومعنى قوله: «إنها تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى الحقيقي» أن إرادة المعنى الحقيقي فارق بينهما؛ فإنها جائزة في الكناية، كما ذكره في التعريف، وممتنعة في المجاز كما دل عليه تعريف المجاز. وحينئذ لا يتجه ما ذكره الشارح أن ما به المخالفة جواز إرادة المعنى الحقيقي، مع إرادة لازمه لا إرادته.
فبين التعريف وقوله من جهة إرادة المعنى الحقيقي، مع إرادة لازمه تناف؛ لأنه لا يتفرع ظهور أن المخالفة من جهة إرادة المعنى الحقيقي، مع إرادة لازمه، ولا حاجة في دفعهما إلى تقدير الجواز، كما ذهب إليه الشارح.
فإن قلت: قد صرح صاحب الكشاف أن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (1) وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ كناية مع امتناع المعنى الحقيقي في حقه تعالى، فتمتنع إرادته، فالتقييد بقوله: مع جواز إرادته معه يخرج كثيرا من الكنايات.
قلت: منهم من يقول: معنى جواز إرادته معه جواز إرادته في الجملة، وفي بعض المواد فلا تخرج كنايات يمتنع جواز إرادة المعنى الحقيقي في بعض المواد، ولا يخفى أنه في غاية البعد على أنه تدخل هذه الكناية في تعريف المجاز؛ لأنه يصدق عليه أنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له؛ لعلاقة مع قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له.
وقال الشارح في المختصر: إن المراد مع جواز إرادته معه من حيث إنها كناية وامتناع الإرادة في هذه الأمثلة بواسطة خصوص المادة، وهو كلام خال عن التحصيل، مع أنه يوجب الدور في تعريف الكناية، وتدخل هذه الأمثلة في
(1) طه: 5.
تعريف المجاز.
والتحقيق: نه إذا امتنع إرادة المعنى الحقيقي فهي مجاز، وإنما جعل الكشاف الأمثلة المذكورة من باب الكناية، لا كنايات.
وقد صرح بأنها مجازات متفرعة على الكناية بمعنى: أنها استعملت في المعنى الكنائي كثيرا بحيث قطع النظر عن المعنى الحقيقي، فصار ذلك بسبب استعماله في محل امتنع فيه المعنى الحقيقي، فانقلبت الكناية مجازا، لكن إذا يمكن المعنى الحقيقي ويكون منتفيا بجعل كناية كما في بسط اليد في من فقدت يده لنقصان في الخلقة، فإن استعماله في كرمه كناية لإمكان المعنى الحقيقي فيه.
وفيه بحث؛ لأنه كما أن امتناع المعنى الحقيقي قرينة مانعة عن إرادته، كذلك انتفاؤه.
قال الشارح: وفي الإيضاح: أن الفرق بينه وبين المجاز من هذا الوجه أي:
من جهة إرادة المعنى، مع جواز إرادة لازمه، وهو ليس بصحيح، اللهم إلا أن يراد بالمعنى ما عني باللفظ، وهو لازم المعنى الموضوع له، ويلازم المعنى معناه الموضوع له، وفيه ما فيه، هذا كلامه، وكأنه أراد أن فيه: أن المعنى الموضوع له هو الملزوم كما سيذكره، وفيما رأيناه من نسخ الإيضاح أن من جهة إرادة المعنى مع إرادة لازمه، فلا يتجه عليه شيء.
فإن قلت: قد صرح في المفتاح أن الكناية يراد بها معناها مع لازمه، حيث قال: إذا استعملت الكلمة إما أن يراد معناها وحده، أو غير معناها وحده، أو معناها وغير معناها معا، والأول الحقيقة، والثاني المجاز، والثالث الكناية، فينبغي أن تعرف الكناية بما أريد به معناه مع لازمه.
قلت: زيف هذا الكلام منه بأنه لا شبهة في أنه كثيرا ما يقال: طويل النجاد، لمن لا نجاد له، فهو كناية مع أنه ليس هناك إرادة المعنى الحقيقي، وجعل الموثوق به ما يشعر به كلامه في الفرق الأول بين الكناية والمجاز؛ حيث قال: إن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها فلا يمتنع في قولك: فلان طويل النجاد إن أريد طول نجاده من غير ارتكاب تأول مع إرادة طول قامته، فإنه يشعر بجواز إرادة المعنى مع لازمه. وبناء هذا التعريف على هذا، لكن فيه
بحث؛ لأن انتفاء النجاد قرينة مانعة عن إرادته على ما عرفت.
ولنا بحث نذكره لك، وإن حان الإسهاب للإطناب رجاء أن نجدد نشاطك في السماع، فإنه معجب للألباب، وهو أنه يمكن أن تجعل الكناية كلها حقائق صرفة، ويكون قصد ما يجعل معنى كنائيا من قبيل قصد النتيجة بعد إقامة الدليل، فيكون قولنا: فلان كثير الرماد، حقيقة صرفة ذكرت دليلا على أنه مضياف، فيكون التقدير: فهو مضياف، ولا يكون هناك استعمال كثير الرماد في المضياف.
(وفرق) لم ينسبه إلى السكاكي (1)، مع أنه ذكره في كتابه؛ لأنه لا يخصه كما صرح به في الإيضاح (بأن الانتقال فيها) أي: في الكناية (من اللازم إلى الملزوم) كالانتقال من طول النجاد الذي هو لازم لطول القامة إليه.
(وفيه) أي في المجاز (من الملزوم إلى اللازم) كالانتقال من الغيث الذي هو ملزوم النبت إلى النبت.
ولا يخفى أن هذا لا يظهر في الاستعارة؛ لأن الأسد ليس ملزوما للرجل الشجاع، وكذا في كثير من المجازات المرسلة، ولو جعلت ملزومات بالقرينة فالكناية أيضا ملزومة بالقرينة.
(ورد) هذا الفرق يمنع أن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم (بأن اللازم ما لم يكن ملزوما لم ينتقل منه) إلى الملزوم (2)؛ لأن اللازم من حيث إنه لازم يجوز أن يكون أعم من الملزوم، ولا دلالة للعام على الخاص، وفيه أنه إن عرف علاقة اللزوم بين اللازم والملزوم ينتقل منه إليه، لا محالة.
وإن لم يعرف لا ينتقل من الملزوم أيضا (وحينئذ) أي: حين إذ كان اللازم ملزوما (يكون الانتقال من الملزوم إلى اللازم) كما في المجاز، فلا يتحقق الفرق.
والسكاكي أيضا معترف بأن اللازم ما لم يكن أخص أو مساويا لم ينتقل منه إلى الملزوم.
(1) انظر المفتاح- 213.
(2)
لأن هذا اللازم قد يكون أعم من الملزوم كلزوم الحيوان للإنسان، ولا دلالة للعام على الخاص.