الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأي في تنظيم العائلة
وتحديد النسل
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
مسئول العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامية
وعضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
تحرير محل النزاع:
نود في البدء أن نوضح أننا سنركز في هذا البحث على خصوص (تنظيم النسل) ونعني به (التخطيط الصحيح والشرعي لامتلاك الزوجين عددًا معينًا من الأولاد ينسجم مع قدرتيهما على القيام بحق الوالدية والتربية من جهة كما ينسجم مع قدرة المجتمع الذى.. يعيشان فيه على توفير متطلبات الحياة السعيدة من جهة أخرى) .
وبإدخالنا القيد (الشرعي) نخرج به كل أسلوب ثبتت حرمته أو اشتهرت من قبيل (الإجهاض) و (التعقيم الكامل) وأمثالهما.
وكذلك لا يشمل بحثنا الأهداف المرفوضة شرعًا وإنما يركز على خصوص الأسباب المشروعة والمتعارفة:
فما هو الموقف من هذه العملية؟ هل نرفضها مطلقا أم نقبلها مطلقا؟ أم نقول بالتفصيل بين الصعيد الفردى والإلزام الحكومي؟
أنصار وجوب الإطلاق وأدلتهم:
إذا طالعنا أدلة أنصار وجوب الإطلاق في هذا الموضوع وعدم جواز التنظيم مطلقا لاحظناها تركز:
أولًا: على أنماط متعددة من النصوص الشرعية التي تؤكد على الأمور التالية:
- ذم العادات الجاهلية في وأد البنات وقتل الأولاد خوفًا من قلة الرزق والإملاق.
- اعتبار من يموت بلا ولد هالكا.
- التركيز على امتلاك الولد الصالح.
- التركيز على انتخاب المرأة الولود.
- جعل الولد من نعم الله.
- الدفع للإكثار من التوالد.
- النهي عن التبتل والانقطاع عن الولد.
- تعليم المؤمنين بعض الأدعية لحصول الولد.
وغير ذلك من النصوص الشريفة التي تؤدي بمجموعها للقول بأن الإسلام يدعو بكل وضوح إلى الإكثار من النفوس الصالحة.
وها نحن نذكر بعض هذه الروايات:
1-
ففي صحيحة محمد بن مسلم أن أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قال: ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غدًا في القيامة)) (1) .
2-
وفي رواية جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلا لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله)) (2) .
3-
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي حديث ((الأربعمائة)) قال: تزوجوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كثيرًا ما كان يقول: ((من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج، واطلبوا الولد فإني أكاثر بكم الأمم غدًا)) (3) .
4-
وفي صحيحة جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال: ((إن خير نسائكم الولود الودود العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها)) الحديث (4) .
5-
وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال: يا نبي الله إن لي ابنة عم لي قد رضيت جمالها وحسنها ودينها لكنها عاقر فقال: لا تزوجها إن يوسف بن يعقوب لقي أخاه فقال: يا أخي كيف استطعت أن تزوج النساء بعدي؟ فقال: إن أبي أمرني، فقال: إن استطعت أن تكون لك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح فافعل، قال: وجاء رجل من الغد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم له: تزوج سوآء ولودًا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة. فقال: فقلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما السوآء؟ قال: القبيحة (5) .
(1) رواه الصدوق في الفقيه ومعاني الأخبار أخرجه عنه في الوسائل، الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2، ج 14، ص 3
(2)
رواه الصدوق في الفقيه، وأخرجه عنه في الوسائل الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 3، ج 14، ص 3
(3)
رواه الصدوق في الفقيه والخصال ص 14 - 615 وأخرجه عنه في الوسائل الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 6، ج 14، ص 3 - 4
(4)
الوسائل، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2، ج 14، ص 14
(5)
الوسائل، الباب 15 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1، ج 14، ص 33
أقول: فتراه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تزوج العاقر التي لا تلد واستدل بقول يعقوب النبي الذي قد أمر بثقل الأرض بتسبيح الذرية مهما استطاع وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتزوج السوآء الولود ومعلوم أن كون المرأة سوآء غير مندوبة عنده كما تدل عليه كلماته الأخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم وآله: ((أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهًا وأقلهن مهرًا)) (1) . بل إن مراده صلى الله عليه وسلم أن كون الزوجة ولودًا كثيرة الولادة والأولاد مطلوب جدًّا حتى إنه لو دار الأمر بين الجميلة غير الولود والسوآء الولود فالسوآء الولود هي الأولى والمتعينة. ويستفاد من نقل كلام النبي يعقوب عليه السلام أن كثرة الولد وثقل الأرض بتسبيحه مندوب في جميع الشرائع الإلهية.
6 -
وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ((تزوجوا بكرا ولودا ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقرًا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة)) (2) .
7 -
وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((أكثروا الولد أكاثر بكم الأمم غدا)) (3) .
8 -
وفي سنن البيهقي بإسناده عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة.)) خ. ((ولا تكونوا كرهبانية النصارى)) (4) .
9 -
وفيها قال عمر بن الخطاب والله إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبح الله (5) .
(1) الوسائل، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 8، ج 14، ص 16
(2)
الوسائل، الباب 16 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1، ج 14، ص 33 أخرجه عن الكافي
(3)
الوسائل، الباب 1، من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 8، ج 15، ص 96
(4)
البيهقي، كتاب النكاح، باب الرغبة في النكاح، ج 7، ص 78
(5)
البيهقي، كتاب النكاح، باب الرغبة في النكاح، ج 7، ص 79
10 -
وفيها بإسناده عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد، أفأتزوج بها؟ فنهاه رسول الله، ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم:((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم)) (1) . وأخرجه الحاكم في المستدرك بتقديم (الولود)، وقال: إن هذا حديث صحيح الإسناد. وصححه الذهبي في التلخيص. وأخرجه النسائي في سننه في باب كراهية تزوج العقيم. وأخرجه أبو داود أيضًا في سننه في باب النهي عن تزوج من لم تلد من النساء.
11 -
وفيها بإسناده عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يأمرنا بالباءة (بالنساء. خ د) وينهانا عن التبتل نهيا شديدا ويقول: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء (الأمم، خ ل) يوم القيامة)) (2) .
12 -
وفيها بإسناده عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: ((خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله)) الحديث (3) .
13 -
وفي سنن ابن ماجه بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: ((انكحوا فإني مكاثر بكم الأمم)) (4) . إلا أن في السند طلحة بن عمر والمكي الحضرمي وقد ورد عن الزوائد أنه متفق على تضعيفه.
ونكتفي بهذا المقدار وهي باقة من النصوص كثيرة في هذا الصدد.
ثانيًا: - كما تمسك أنصار هذا الرأي بالدافع الفطري الذي يحقق استمرار النوع البشري عن طريق التوالد وأن أي وقوف أمامه يعني مخالفة الفطرة بل وسوء الظن بالله تعالى الذي أرسل هذا الدين فطريا، وضمن للإنسان رزقه بشكل واضح، وأكد أن الطبيعة كافية تماما لكل ما يحتاجه أبناء الإنسان، أما النقص فهو ناتج من ظلم الإنسان وكفره {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (5) .
(1) البيهقي، كتاب النكاح، باب استحباب التزوج بالودود الولود، ج 7، ص 81، المستدرك كتاب النكاح، ص 162، ج 2، النسائي، ج 6، ص 6 - 65، أبو داود، ج 2، ص 297 الرقم2050
(2)
البيهقي، كتاب النكاح باب استحباب الزواج بالودود الولود، ج 7، ص 82
(3)
البيهقي، كتاب النكاح باب استحباب الزواج بالودود الولود، ج 7، ص 82
(4)
سنن ابن ماجه، باب تزوج الحرائر والولود، ج 1، ص 599، الرقم 1863
(5)
سورة إبراهيم الآية 34
ثالثًا: كما ركزوا على الدوافع الاستعمارية والصهيونية والإباحية للقائلين بتحديد النسل وأشاروا من خلال ذلك إلى الحرب الديموغرافية التي يشنها الأعداء ضد الأمة الإسلامية لتقليل عددها وإضعاف قوتها.
رابعًا: على إبطال كل الدوافع المدعاة لهذا التحديد.
من خلال مناقشة نظرية مالتس التي تؤمن بأن (التصاعد العددي لنمو الإمكانات الغذائية لا يمكنه اللحوق بالتصاعد الهندسي للتوالد البشري) تعرضوا للرد عليها بالحجة وإبطالها، ثم حاولوا التشكيك في دلالة الروايات على جواز العزل أو قالوا بأنها لحالات فردية خاصة ولا يمكن استفادة الإطلاق في الجواز منها.
أنصار إمكان التنظيم ومستندهم:
أما أنصار إمكان تنظيم النسل فهم يركزون على ما يلي:
أولًا: الاستناد إلى الأحاديث التي تجيز (العزل) والتي على أساسها أفتى أئمة المذاهب الأربعة بجوازه مع إذن الزوجة بل أفتى مالك وأبو حنيفة والشافعي بالجواز دون تقيده بإذن الزوجة.
أما الإمامية فالمشهور لديهم هو جواز العزل
يقول الإمام الخميني (لا إشكال في جواز العزل. في غير الزوجة الدائمة الحرة وكذا فيها مع إذنها وأما فيها بدون إذنها ففيه قولان، أشهرهما الجواز مع الكراهية وهو الأقوى بل لا يبعد عدم الكراهة في التي علم أنها لا تلد وفي المسنة والسليطة والبذية والتي لا ترضع ولدها كما أن الأقوى عدم وجوب دية النطفة عليه وإن قلنا بالحرمة وقيل بوجوبها عليه للزوجة، وهي عشرة دنانير وهو ضعيف للغاية)(1) .
وهناك روايات في هذا الموضوع نذكر منها ما يلي:
1 -
صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (ع)(يعني الصادق) عن العزل؟ فقال: ذاك إلى الرجل يصرفه حيث شاء.
2 -
وعن محمد بن مسلم عن الباقر (ع) قال: (لا بأس بالعزل عن المرأة الحرة أن أحب صاحبها وإن كرهت ليس لها من الأمر شيء) .
(1) تحرير الوسيلة ج 2 ص 242
3 -
وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (أنه سئل عن العزل فقال: أما الأمة فلا بأس، فأما الحرة فإني أكره ذلك إلا أن يشترط عليها حين يتزوجها) .
4 -
وعن يعقوب الجعفي قال: سمعت أبا الحسن (ع) يقول: لا بأس بالعزل في ستة وجوه: المرأة التي تيقنت أنها لا تلد والمسنة والمرأة السليطة والبذية والمرأة التي لا ترضع ولدها والأمة.
5 -
جاء في الصحيحين عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) .
ثانيًا: الاستناد لأصل الإباحة في أصل الزواج وفي أصل الإنجاب خصوصا مع عدم تضرر أي من الجانبين ورضاهما.
ثالثًا: الاستناد إلى ما يترتب من ضرر فردي أو اجتماعي أحيانا وهذا أمر يشخصه الفرد في الحالة الفردية والحاكم في الحالة الاجتماعية.
ولقد حاول هؤلاء التركيز على أن الإسلام إذ يدعو لتكثير الذرية إنما يطلب بطبيعة الحال ما يمكن أن يباهي به النبي صلى الله عليه وسلم الأمم الأخرى وهي الذرية الصالحة والولد الطيب، فإذا أدت كثرة الإنجاب إلى فقدان القدرة على التربية لم تكن محبذة إسلاميا.. وربما كانت قلة العيال أحد اليسارين.
وقد ركزوا لا على نظريات مالتس أو دواعي الغربيين وإنما على الأرقام الفعلية للنمو وضعف الإمكانات في قبال ذلك.
القول بالتفصيل:
وربما رأينا من يجنح للقول بالتفصيل بين الحالات الفردية والمنع الاجتماعي بحجة أن المباح على نوعين:
أ - ما يتفق مع حكم الأصل بأن ينطوي على فائدة عامة للفرد والمجتمع كالتمتع بالطيبات.
ب - ما لا يتفق مع حكم الأصل من الإباحة الأصلية العامة وإنما دخله حكم العفو أو الإباحة بالنسبة لأشخاص بأعيانهم أما المجال الأول فللحاكم الشرعي التدخل في منعه لمصلحة.
وأما الثاني فليس له ذلك ومسألتنا من هذا القبيل بل ربما يبدو من بعض العلماء قوله بعدم وجود أصل الإباحة فالأصل المنع إلا برخصة باعثة ويعتبر ذلك مما يقتضيه التفكير السليم (1) . ولا مبيح للتحديد على المستوى الجماعي.
(1) الأستاذ عبد المجيد بن ياكل في بحثه. ص 10
الرأي المختار:
يمكننا في مسألة جواز تنظيم الأسرة بتحديد النسل أن نلاحظ النقاط التالية لنصل إلى الرأي المختار في النتيجة:
النقطة الأولى: لا ريب - بملاحظة النصوص الكثيرة والمتنوعة - في أن الشريعة تحث على الإنجاب وتكثير النسل باعتباره مبدأ عاما وأصلا اجتماعيًّا يعتمده المسلمون، وقد بينت النصوص أن ذلك لكي تقوى به الأمة الإسلامية ويباهي بها الرسول باقي الأمم، وطبيعي ذلك باعتبار الأمة الإسلامية يراد لها أن تقود البشرية كلها حضاريًّا؛ لأنها خير أمة أخرجت للناس ولا يمكنها أن تحقق وظائفها وهي ضعيفة من حيث العدد الكمي.
إلا أن من الواضح أن التكاثر المراد ملحوظ فيه الجانب الكيفي أيضًا فالتركيز كله على الذرية الصالحة الطيبة المتقية التي تحمل أمانة الآباء وتخلفهم في حمل الرسالة الإسلامية والقيام بأعباء الخلافة الإلهية، وحينئذ فقط يفرح المجتمع الإسلامي بالإنجاب والتوالد الكثير.
ومن الواضح أيضا أن الإسلام من خلال ذلك يعطي رأيه في أمثال نظرية (مالتس) التي تتحدث عن بخل الطبيعة في مجال استيعاب معدلات النمو الإنساني في حين أننا نعلم أن الطبيعة تحوي طاقات ضخمة تستوعب أضعاف ما هو موجود اليوم إذا توفر أمران، أولهما شكر النعم الإلهية بالاستفادة الأفضل وتحسين أساليب الإنتاج باستمرار وعدم التبذير والإسراف في الاستهلاك وصرف الأموال على الحروب والأعمال المعادية للإنسانية أو التافهة، وثانيهما العدالة في التوزيع وضمان الحقوق الإنسانية التي ركز عليها الإسلام للإنسان كإنسان.
يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (1) . فالمشكلة الحقيقية تكمن في ظلم الإنسان وكفره.
(1) سورة إبراهيم الآية 32 - 34
النقطة الثانية: ما هو المرجع عند الشك في حكم شرعي لم يمكن إثباته ولا نفيه؟ في مثل هذا المورد يتم البحث على صعيدين:
الأول: صعيد الأصل العملي العقلي.
الثاني: صعيد الأصل العملي الشرعي.
أما على الصعيد الأول: فهناك مسلكان.
المسلك الأول: وهو مسلك نفي الحكم التكليفي عند الشك فيه استنادًا إلى قاعدة عقلية هي (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) .
والمسلك الثاني: مسلك حق الطاعة (كما يسميه السيد الصدر) وهو يؤمن بأن حق الطاعة للمولى الحقيقي حق واسع الأبعاد بحيث يشمل كل حكم تكليفي حتى ولو كان محتملا فقط ويؤمن هذا المسلك بأن العقل الإنساني الوجداني يؤمن بهذه السعة للمولى الحقيقي.
أما المسلك الأول فهو يركز على عدم وجود عقاب ما لم يقم دليل قطعي على الحكم مستدلا تارة بأنه لا مقتضى للتحرك وفق الحكم مع عدم الوصول القطعي للتكليف، والعقاب هنا قبيح عقلا.
والواقع أننا لو آمنا بضيق دائرة حق الطاعة بحيث لا تشمل التكاليف المشكوكة لكان هذا الكلام صحيحا ولكنه أول الكلام فيجب تحديد دائرة حق الطاعة أولا وهل تشمل التكاليف المحتملة أم لا؟
كما يستشهد أصحاب هذا المسلك بالعرف العقلاني الجاري بعدم العقاب عند عدم البيان ولكن يجب هنا التمييز بين المولى الحقيقي والمولى العرفي.
وهناك أدلة أخرى ذكرت لهذا المسلك.
وعلى أي حال فإن آمنا بالمسلك الأول كان مقتضى الأصل العقلي عند الشك في أي حكم تكليفي هو البراءة العقلية من التكليف، وإن آمنا بالمسلك الثاني كان علينا الاحتياط العقلي.
هذا، إذا لم يكن هناك أصل شرعي في البين وقد ذكر العلماء أن الأصل الشرعي موجود ومقدم على الأصل العقلي وهو ما يسمى بالبراءة الشرعية من التكليف عند الشك فيه واستدلوا على ذلك بالكتاب الكريم والروايات.
أما الكتاب العزيز فقد استدلوا منه بآيات منها:
قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} (1) . وهذه الآية شاملة للشبهات الموضوعية والحكمية.
ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) . فكلمة (الرسول) مثال على إرسال ما يوضح الحكم.
ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) .
أما من الروايات:
فقد ورد عن الصادق (ع) قوله: (كل شيء مطلق حتي يرد فيه نهي (4) .
كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة)) (5) .
وضعف السند مجبور بشهرته والاستناد إليه وإذا شئنا التفصيل في البحث لزمنا الرجوع إلى الكتب الأصولية (6) .
(1) سورة الطلاق الآية 7
(2)
سورة الإسراء الآية 15
(3)
سورة التوبة الآية 115
(4)
جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات الباب الثامن، الحديث 15
(5)
جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات الباب الثامن، الحديث 3
(6)
راجع قبلا دروس في علم الأصول للسيد الصدر ص 29، 64
ونخلص من هذا البحث إلى:
أنه في الموارد المشكوكة الحكم يكون الأصل العملي فيها البراءة الشرعية وحينئذ فارتكاب العمل مباح.
ولا معنى حينئذ للقول بالمنع ما لم يأت دليل مبيح ومسألتنا هنا موضوع لهذا البحث فليس هناك أي دليل على حرمة تحديد النسل وما ذكر من الأدلة المانعة لا يمكن أن تنهض على هذه الحرمة.
في حين أن حلية العزل بشرائطه دليل على إباحة التنظيم بلا ريب ولكن حتى لو لم تتم هذه الحلية فإن الأمر يبقي مشكوكًا والأصل الشرعي هنا هو البراءة عن الحكم التكليفي الإلزامي بعد أن لم يصلنا دليل قطعي على الحرمة.
النقطة الثالثة:
حول سعة دائرة ولاية الحاكم الشرعي.
وهنا بحوث مفصلة نحاول أن نذكر منها ما يرتبط بموضوعنا بكل اختصار:
ما هي مساحة الولاية؟
ما يمكن استفادته من الأدلة الشرعية أن الحاكم الشرعي يقوم بالوظائف التالية:
1 -
التصرف في الأموال العامة وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
2 -
إقامة الحدود الإسلامية.
3 -
إصدار الأحكام في المساحة المباحة من التشريع الإسلامي كالإلزام بالمباح أو تحريمه تحقيقا لمصلحة اجتماعية ضرورية مثل تحديد الأسعار ومنع الاستيراد.
4 -
توحيد الموقف الاجتماعي كما في الأهلة والجهاد.
5 -
تشخيص موارد التزاحم الاجتماعي بين الأحكام فإذا ما تزاحم حكم شرعي اجتماعي مع حكم آخر ولم يكن بالإمكان الإتيان بهما معا كان من وظيفة الحاكم تشخيص هذا المورد وتقديم الأهم على المهم.
6 -
إلزام الأفراد بالعمل بواجباتهم وفق وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) . وهل هناك فرق بين المباحات للأفراد والمباحات بشكل عام؟
لا تجد هناك ما يبرر هذا الفرق. إلا أن يقول أحد: إن الإسلام أراد لبعض الأحكام أن تكون مباحة دائما للأفراد كالزواج والطلاق والاستمتاع والحرية وليس للدولة الإسلامية أن تحد منها أو تضع لها قيودا حتى ولو كان ذلك بمقتضى مصلحة عامة ملزمة.
والظاهر: أن التأمل في نوع إباحة المشي والأكل المعين مثلا وإباحة الطلاق ينتهي إلى وجود فرق بينهما، من حيث كون النوع الثاني من الحلال الذي يعتمده الشارع حلالًا، وحينئذ فتجب مراعاة ذلك ولكن ذلك بالنسبة لأصل هذه والأمور لا لتقييداتها وحينئذ فللدولة الإسلامية إذا رأت المصلحة أن تقيد الزواج مثلا بالكتابة لدى كاتب العدل أو الطلاق ببعض القيود.
هذا إذا لم ينته الأمر إلى نوع من التزاحم بين بقاء هذه الإباحة مطلقة وبقاء النظام الاجتماعي العام وهو الأهم حتما فهو المقدم عقلا وشرعا.
وتحديد النسل بقانون هو في الواقع تقييد لهذا الحكم المباح ولا مانع منه بناء على ما قدمناه.
(1) راجع لمعرفة التفاصيل (حول الدستور الإسلامي في مواده العامة) للكاتب 2 ص، 60، 61
النتيجة:
بعد معرفة المقدمات الماضية نستطيع أن نلخص الرأي المختار في موضوع بحثنا على النحو التالي:
أولًا: في الحالات الطبيعية يرى الإسلام الإنجاب وفتح المجال لتكثير عدد المسلمين لما يؤدي إليه ذلك من قوة لهم.
ثانيًا: للفرد عندما يرى حاجة لتحديد النسل وتنظيم الأسرة أن يستخدم إحدى الطرق المشروعة لذلك ومنها (العزل) مع مراعاة ما يشترطه الفقهاء أحيانًا من قبيل حصول رضا الزوجين وعدم الإضرار بحق الزوجة.
ثالثًا: ينبغي أن لا تلجأ الدولة الإسلامية إلى مسألة تحديد النسل بقانون مهما أمكن، وذلك:
أولًا: لأنه خلاف التوجه الإسلامي الاجتماعي العام.
ثانيًا: لأن فيه تضييقا لا مبرر له على المسلمين ولما فيه من صعوبة عملية شاقة الأمر الذي يلجئ للارتفاع بمستوى الإنتاج بمفهومه الواسع واستيعاب الطاقات الجديدة لتنتقل رأسا للقيام بالواجب الاجتماعي والنهوض بالأمة بدلا من العمل على التحديد.
وثالثًا: وعندما تواجه الدولة ضائقة عامة وتتحق المصلحة الملزمة لنوع من التنظيم والتحديد فلا مانع منه ولها القدرة للإلزام بهذا المباح إلى فترة معينة وبتعبير آخر لها القدرة على تقييد هذا الحكم المباح لصالح المجتمع حتى تمر الأزمة الاجتماعية ويعود الحال إلى وضعه الطبيعي.
ورابعًا: على أن للدولة الإسلامية أن تقوم بالتحديد لا على أساس ولايتها بل على أساس ما يتولد من الانفتاح المطلق من أَضرار اجتماعية كبرى إن قلنا بأن حديث (لا ضرر) يشمل الضرر الاجتماعي وسوء الحال في المجتمع، وهو الظاهر.
محمد علي التسخيري