الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرية العرف في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وبعد.
الأحكام الشرعية إنما تعرف بالأدلة التي أقامها الشارع لترشد المكلفين إليها وتدلهم عليها، وتسمى هذه الأدلة بأصول الأحكام أو المصادر الشرعية للأحكام.
وهذه الأدلة تقسم إلى تقسيمات باعتبارات مختلفة، أي بالنظر إلى الجهة التي ينظر منها إليها، ونذكر فيما يلي تقسيمين من هذه التقسيمات.
التقسيم الأول: من جهة مدى الاتفاق والاختلاف على هذه الأدلة، وهي بهذا الاعتبار ثلاثة أنواع:
النوع الأول: وهو محل اتفاق بين أئمة المسلمين، ويشمل هذا النوع القرآن والسنة.
النوع الثاني: وهو محل اتفاق جمهور المسلمين، وهو الإجماع والقياس. وقد خالف في الإجماع النظام من المعتزلة وبعض الخوارج، وخالف في القياس الإمامية والظاهرية.
النوع الثالث: وهو محل اختلاف بين العلماء، ويشمل هذا النوع العرف (1) والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي. فمن العلماء من اعتبر هذا النوع من مصادر التشريع، ومنهم من لم يعتبره.
التقسيم الثاني: الأدلة من حيث ردوعها إلى النقل أو الرأي تنقسم إلى قسمين: نقلية وعقلية.
(1) العرف معتبر، إلا أن الاختلاف بين العلماء في اعتباره دليلًا مستقلًا أم لا، كما سيتضح لنا ذلك من خلال البحث إن شاء الله.
الأدلة النقلية: وهي الكتاب والسنة، ويلحق بهذا النوع الإجماع ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا على رأي من يأخذ بهذه الأدلة ويعتبرها مصادر للتشريع، وإنما اعتبر هذا النوع من الأدلة نقليًّا، لأنه راجع إلى التعبد بأمر منقول عن الشارع، لا نظر ولا رأي لأحد فيه.
الأدلة العقلية: وهي التي مرجعها النظر والرأي، وهذا النوع هو القياس، ويلحق به الاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب. وإنما كان هذا النوع عقليًّا، لأن مرده إلى النظر والرأي لا إلى أمر منقول عن الشارع (1) .
والقسمة التي ذكرناها، إنما هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، أما بالنسبة إلى الاستدلال بها على الحكم الشرعي، فكل نوع من النوعين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقول عن الشارع لا بد فيه من النظر واستعمال العقل الذي هو آداة الفهم، كما أن الرأي لا يكون صحيحًا معتبرًا إلا إذا استند إلى النقل، لأن العقل المجرد لا دخل له في تشريع الأحكام (2) .
الكتاب هو مرجع الأدلة كلها:
قلنا قبل قليل بأن الأدلة على نوعين، نقلية وعقلية، وعند النظر نجد أن الأدلة محصورة في الكتاب والسنة، لأن الأدلة الثابتة لم تثبت بالعقل، وإنما تثبت بالكتاب والسنة، لأن مرجع الأحكام إليهما، وهما المستندان لها وذلك من جهتين:
الأولى: دلالتهما على الأحكام الجزئية الفرعية، كأحكام الزكاة والبيوع والعقوبات ونحوها.
والثانية: دلالتهما على القواعد والأصول التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية كدلالتهما على أن الإجماع حجة وأصل للأحكام، وكذا القياس، ونحو ذلك.
ثم إن مرجع السنة إلى الكتاب وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن العمل بالسنة والاعتماد عليها واستنباط الأحكام منها، قد دل عليه القرآن الكريم، حيث قرن الله تعالى طاعته بطاعة رسوله في أكثر من موضع من كتابه الكريم قال عز شأنه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) .
وقد تكرر هذا الأمر منه سبحانه وتعالى في نصوص كثيرة من القرآن الكريم. وتكراره يدل على عموم طاعته سواء كان ما أتى به مما في الكتاب أو مما ليس فيه إلى نصوص أخرى تفيد هذا المعنى، مثل قوله تعالى:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) . وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) .
(1) انظر الوجيز في أصول الفقه، لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان، مطبعة الدار العربية ببغداد: ص145
(2)
انظر الوجيز في أصول الفقه، لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان، مطبعة الدار العربية ببغداد: ص145
(3)
سورة النساء: الآية 59.
(4)
سورة الحشر: الآية 7.
(5)
سورة النور: الآية 63.
والوجه الثاني: أن السنة إنما جاءت لبيان الكتاب الكريم وشرح معانيه بدليل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) .
والتبليغ يشمل تبليغ الكتاب وبيان معانيه، فالسنة مبينة لكتاب الله وشارحة لمعاينه ومفصلة لمجمله.
وعلى هذا فالقرآن هو أصل الأصول ومصدر المصادر ومرجع الأدلة جميعًا.
ترتيب الأدلة:
بما أن القرآن الكريم هو مرجع الأدلة جميعًا ومصدر المصادر كما قلنا، فمن البديهي إذن أن يقدم عليها عند الرجوع إلى معرفة الحكم الشرعي، فإذا لم يوجد الحكم فيه، وجب الرجوع إلى السنة، لأنها على ما ذكرنا مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه، فمن البديهي أن تأتي في المرتبة الثانية بعده، فإذا تعذر علينا الحصول على الحكم في السنة، لزم الرجوع إلى الإجماع، لأن مستند الإجماع نص من الكتاب أو السنة، فإن لم يكن إجماع في المسألة، وجب الرجوع إلى القياس.
فترتيب الأدلة في الرجوع إليها واستنباط الأحكام منها يكون على هذا النحو: الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى القول: بحجية الإجماع والقياس واعتبارهما مصدرين للأحكام الشرعية بالإضافة إلى الكتاب والسنة، وقد دل على هذا الترتيب آثار كثيرة، منها:
1-
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بكتاب الله، قال ((فإن لم تجد؟)) قال: أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ((فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟)) قال: أجتهد برأي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره، وقال ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) (3) .
(1) سورة النحل: الآية 44.
(2)
سورة المائدة: الآية 67.
(3)
الأحكام السلطانية، للماوردي، ص58 دار الكتب العلمية.
ووجه الدلالة بهذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أقره على الاجتهاد بالرأي إذا لم يجد الحكم في الكتاب والسنة، وما القياس إلا ضرب من ضروب الاجتهاد بالرأي.
2-
عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك أيضًا (1) .
3-
قال عمر بن الخطاب لشريح قاضيه في الكوفه: اقضِ بكتاب الله، فإن لم تجد فبقضاء رسول الله، أي سنته، فإن لم تجد فاقض بما استبان لك من الأئمة المهتدين، فإن لم تجد فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح (2) . ومثل هذا كان يقول عبد الله بن مسعود (3) .
العرف:
معنى العرف: العرف بضم العين، هو في اللغة ضد النكر (4) يقال أولاه عرفًا، أي معروفًا، وورد أيضًا بمعنى المكان المرتفع، يقال عرف الجبل ونحوه (5) . وقد يطلق على عرف الفرس – وهو الشعر على محدب رقبة الفرس – لارتفاعها، ويقال مثل ذلك في عرف الديك أيضًا (6) .
ويأتي بمعنى الجود والتتابع، ومنه طار القطا عرفًا، أي بعضها خلف بعض، وهو بفتح العين بمعنى الريح طيبة كانت أم منتنة، ولكن أكثر استعماله في الطيبة (7) .
وهو عرفًا ما اعتاده الناس وألفوه سواء كان قولًا أو فعلًا. وهذا هو عين تعريفه في اصطلاح الفقهاء.
فقد حكى ابن عابدين عن بعض الأئمة تعريف العادة والعرف بأنه "ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول"(8) . وعرفه الأستاذ الزرقا بقوله: "وهو عادة جمهور قوم في قول أو فعل"(9) . وبمثل هذا عرفه الأستاذ زيدان أيضًا (10) .
(1) انظر إعلام الموقعين: 1 /51.
(2)
إعلام الموقعين أيضًا: 1 /171.
(3)
إعلام الموقعين: 1 /52؛ وانظر الصنعاني في سبل السلام:4 /119.
(4)
مختار الصحاح، مادة (عرف) .
(5)
القاموس المحيط، كذا المعجم الوسيط، مادة (عرف) .
(6)
مختار الصحاح، مادة (عرف) أيضًا.
(7)
مختار الصحاح، مادة (عرف) أيضًا.
(8)
رسالة نشر العرف: ص3.
(9)
الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: ص 557.
(10)
الوجيز في أصول الفقه ص 253
العرف والعادة بمعنى واحد: إن العادة عند الفقهاء تعني العرف، فقولهم: هذا ثابت بالعرف والعادة لا يعني أن العادة عندهم غير العرف، وإنما هي نفسه، وقد ذكرت للتأكيد لا للتأسيس. قال ابن عابدين:"إن العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد"(1) .
تقسيمات العرف: والعرف كما تبين لنا من تعريفه قد يكون قوليًّا أو عمليًّا وقد يكون عامًا أو خاصًا، وهو بجميع هذه الأنواع قد يكون صحيحًا أو فاسدًا.
وها أنا أوجز الكلام في كل قسم من التقسيمات المذكورة:
1-
العرف العملي: وهو ما اعتاده الناس من أعمال سواء كان ذلك في معاملاتهم المالية أو عاداتهم الاجتماعية مثال الأولى: بيعهم بالتعاطي ودخول الحمامات العامة بدون تعيين مدة المكث فيها ولا مقدار الماء المستهلك وعقود الاستصناع. ومثال الثانية: تعارف الناس على أكل البر ولحم الضأن، واعتبار تقديم الطعام للضيف إذنًا له بالتناول ونحو ذلك.
2-
العرف القولي: وهو ما تعارف عليه الناس في بعض ألفاظهم بأن يريدوا بها معنى معينًا غير المعنى الموضوع لها (2) . وذلك مثل لفظ دابة، فإنها وضعت في الأصل لكل ما يدب على الأرض ثم خصصت عرفًا بذات الأربع. ومثل تعارف الناس على أن لفظ اللحم يراد به غير السمك ونحو ذلك.
والعرف بنوعيه العملي والقولي قد يكون عامًا إذا شاع وفشا بين عامة الناس في البلاد الإسلامية. والخاص منه ما كان مخصوصًا ببلد دون آخر أو بأرباب مهنة دون غيرها ولكل قوم أن يصطلحوا على ما شاؤوا من غير ما هو محرم.
فمن العرف العملي الخاص في العراق تقسيم المهر إلى معجل ومؤجل. ومن العرف القولي العام إطلاق لفظ الدابة على ذوات الأربع ولا يطلقونها على الإنسان، وتعارفهم على استعمال لفظ الطلاق على إزالة الرابطة الزوجية.
(1) رسالة نشر العرف: ص3.
(2)
أستاذنا زيدان في المصدر السابق: ص253.
ومن العرف القولي الخاص، الألفاظ التي اصطلح عليها أهل كل علم من العلوم أو أصحاب الحرف والصناعات التي يقصدون عند إطلاقها لفظًا اصطلاحيًّا معينًا.
والعرف القولي الخاص، يخصص العرف العام باتفاق الحنفية والشافعية، فإذا أطلقت الدراهم أو الدنانير في بلد، فإنه يراد بها النقد الغالب في تلك البلد.
أما الفعلي الخاص، فإنه مخصص للعام منه عند الحنفية دون الشافعية، فإذا قال رجل لآخر: اشترِ لي طعامًا أو لحمًا، فإنه ينصرف إلى البر ولحم الضأن عملًا بالعرف العملي (1) .
العرف الصحيح: هو ما تعارف عليه الناس ولم يخالف نصًّا من نصوص الشريعة، أو ما يدل دليل على بطلانه أو فساده. وذلك كتعارف الناس على أن ما يقدمه الخاطب إلى مخطوبته من ثياب ونحوها يعتبر هدية ولا يدخل في المهر. وكتعارف الناس في العراق على أن المهر المؤجل لا تستحقه الزوجة إلا بفرقة من طلاق أو موت.
العرف الفاسد: بعد أن وضحنا العرف الصحيح، تبين لنا بوضوح العرف الفاسد، فهو كل ما خالف نصًّا من نصوص الشريعة أو قام الدليل على بطلانه، وذلك كتعامل الناس بالربا أو اعتيادهم لعب القمار، وذلك مثل عقود التأمين على الحياة والعقود الواقعة تحت الغرر.
حجية العرف: العرف معتبر في كثير من الأحكام الشرعية العملية بين الناس لما له من تأثير واسع في استنباط الأحكام والاجتهاد فيها، وذلك لأن كثيرًا من أعمال الناس وألفاظهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم تقوم على ما اعتادوه وتعارفوه، فلا بد من النظر إلى هذا المألوف المتعارف حين استخراج الحكم الشرعي للمسائل المتجددة أو المشكلات التي تنشأ بين الناس. والقواعد الشرعية المعتمدة على النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات والمسائل المتجددة، وإنما تتخذ أساسًا في نصها أو روحها للاجتهاد وبيان الأحكام، والعرف يساعد في هذا الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم الواقعة وتطبيق الحكم الشرعي عليها، سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو في معاملاتهم وعقودهم، حتى أصبح العرف الصحيح ذريعة إلى تبدل الأحكام وتغيرها باختلاف أعراف الناس في بيئاتهم المختلفة وأماكنهم المتغايرة (2) . وهذا هو سر تغير اجتهادات الإمام الشافعي في مسائل كثيرة توصل إليها حين كان في بلاد العراق، فلما انتقل إلى مصر ورأى تغير أعراف الناس وعاداتهم، عدل عن كثير من أقواله في العراق، حتى صارت اجتهاداته الجديدة تعرف بالمذهب الجديد والتي عدل عنها بالمذهب القديم. والمالكية يقيمون للعرف وزنًا كبيرًا ويعتبرونه أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي.
ويتركون القياس إذا خالف العرف، وقد ورد عن القرطبي في باب الاستحسان أن من ضروبه ترك القياس لأجل العرف وهو يخصص العام ويقيد المطلق عندهم، وقد ذكر أبو العباس القرافي بأن العوائد تعتبر من الأدلة على مشروعية التصرفات (3) .
(1) ابن عابدية في رسالته نشر العرف: ص3.
(2)
راجع نظرية العرف للدكتور عبد العزيز الخياط: ص39.
(3)
راجع الفروق: 3 /288.
وذكر ابن نجيم الحنفي " بأن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا "(1) وقد ورد على لسان ابن عابدين أيضا " بأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص (2) ومن أقوالهم الدالة على حجية العرف " العادة محكمة ": " والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " وأراد بعضهم الاستدلال بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} على حجية العرف وكونه دليلًا معتبرًا في الشرع، ولكن هذه الحجة ضعيفة، لأن العرف في الآية هو المعروف وهو ما عرف حسنه ووجب فعله، وهو كل ما أمرت به الشريعة.
واحتج البعض (3) بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) على حجية العرف، وهذا الاستدلال ضعيف، فقد قال غير واحد من العلماء إنه موقوف على ابن مسعود، ودلالته تشير إلى حجية الإجماع لا العرف (4) ، إلا إذا كان مستند الإجماع عرفًا صحيحًا فتكون دلالته هذا الأثر قاصرة على نوع من أنواع العرف لا على مطلق العرف.
والحق أن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وهو في الحقيقة ليس بدليل مستقل ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، والدليل على ذلك أمور عديدة منها:
أولًا: وجدنا الشارع الحكيم يراعي أعراف العرف الصالحة، من ذلك إقراره لنوع من التعامل المالي عندهم كالمضاربة والبيوع والإجارات الخالية من المفاسد (5) كما استثنى السلم من عموم نهيه عن بيع الإنسان ما ليس عنده، لجريان عرف أهل المدينة به ونهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرايا، وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بمثله من التمر خرصًا، أي تخمينًا، لتعارف المجتمع هذا النوع من البيع وحاجته إليه فدلت هذه التصرفات من الشارع الحكيم على رعاية العرف الصالح الذي استقرت عليه معاملات الناس، أما العرف الفاسد، فقد أبطله وألغاه، كما فعل في كثير من عادات الجاهلية مثل التبني وعدم توريث النساء وغير ذلك.
(1) الأشباه والنظائر: ص 93.
(2)
انظر نشر العرف: ص4
(3)
انظر بدائع الصنائع، للكاساني: 5 /223؛ وكذا المبسوط، للسرخسي: 12 /138.
(4)
انظر الآمدي في الأحكام: 3 /112.
(5)
أستاذنا زيدان في مؤلفه الوجيز في أصول الفقه: ص 225
ثانيا: إن العرف في حقيقته يرجع إلى دليل من أدلة الشرع المعتبرة كالإجماع والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فمن العرف الراجع إلى الإجماع، الاستصناع ودخول الحمامات، فقد جرى العرف بهما بلا إنكار فيكون من قبيل الإجماع، والإجماع معتبر.
ومن العرف ما يرجع إلى المصلحة المرسلة لأن العرف له سلطان على النفوس، فمراعاته من باب التسهيل عليهم ورفع الحرج عنهم ما دام العرف صالحًا لا فاسدًا، كما أن في تحويل الناس عما تعارفوا عليه وألفوه، فيه مشقة وحرج، والحرج مرفوع لأنه مفسدة، وقد أشار إلى هذا المعنى السرخسي في مبسوطه حيث يقول:" لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا "(1) .
ثالثا: احتجاج الفقهاء بالعرف في مختلف العصور واعتبارهم إياه في اجتهادهم، دليل على صحة اعتباره، لأن عملهم به ينزل منزلة الإجماع السكوتي فضلًا عن تصريح بعضهم به وسكوت الآخرين عنه، فيكون اعتباره ثابتًا بالإجماع (2) .
وسلطان العرف كبير على الأحكام يدخل فيه جميع أبواب الفقة سواء أكان ذلك في العبادات أو المعاملات أو السير أو الأحوال الشخصية يقول جلال الدين السيوطي الشافعي: " اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثيرة، فمن ذلك سن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل الحيض والنفاس والطهر وغالبها وأكثرها
…
والبناء على الصلاة في الجمع والخطبة والجمعة بين الإيجاب والقبول والسلام ورده، والتأخير المانع من الرد بالعيب، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إقامة له مقام الإذن اللفظي وتناول الثمار الساقطة وفي إحراز المال المسروق وفي المعاطاة على ما اختاره النووي وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكساف في استئجار دابة الركوب، والحبر والخيط والكحل على من جرت العادة بكونها عليه
…
إلخ (3) .
شروط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام:
من أجل اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه، يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
أولًا: أن لا يكون مخالفًا للنص، بأن يكون عرفًا صحيحًا كما في الأمثلة التي ضربناها للعرف الصالح، قال ابن عابدين:" ولا اعتبار للعرف المخالف للنص، لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص "(4) وقد مثل للعرف الفاسد بما اعتاده العمال من الكشف عن العانة عند الاتزار وفي النزع مما حدا ببعض العلماء إلى القول: بأن السرة إلى موضع نبات الشعر، معتمدًا على تعامل بعض العمال بذلك فرد رحمه الله على هذا الرأي بقوله:" هذا ضعيف وبعيد، لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر "(5) ومن هنا يظهر لنا فساد ما اعتادته كثير من النسوة من كشف شيء من أجسامهن كالساق وشعر الرأس والصدر والرقبة وما سوى ذلك من أجزاء الجسم الأخرى مما لا يجوز كشفه أمام الرجل الأجنبي لمخالفته النصوص الصريحة الناهية عن ذلك، قال الله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية (6) .
(1) المبسوط: 13 /14.
(2)
أستاذنا زيدان في المصدر السابق.
(3)
انظر الأشباه والنظائر: ص99.
(4)
انظر رسالته في العرف: ص4.
(5)
انظر رسالته في العرف: ص4.
(6)
[سورة النور: الآية 31] .
ومن الأعراف الفاسدة أيضا، تعارف الناس كثيرًا من المحرمات كالربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصًّا.
ثانيا: أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا: ومعنى الاطراد أن تكون العادة كلية أي لا تتخلف، وقد يعبر عنها بالعموم، أي يكون العرف مستفيضًا شائعًا بين أهله معمولًا به من قبلهم، ومعنى الغلبة أن تكون أكثرية المعنى أنها لا تتخلف إلا قليلًا، والغلبة أو الاطراد إنما يعتبران إذا وجدا عند أهل العرف لا عند الفقهاء لاحتمال تغيرها من عصر إلى عصر (1) .
قال ابن نجيم: " إنما تعتبر العادة إذا طردت أو غلبت "(2) وقال السيوطي: " إنما تعتبر العادة إذا طردت فإن اضطربت فلا، وأن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف "(3) فقد قال الإمام الشافعي في باب الأصول والثمار: كل ما يتضح فيه اطراد العادة فهو المحكم بين الناس، ومضمره كالمذكور صريحًا أما لو تعارضت الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه، فهو مثار الخلاف (4)
وقد تفرع عن هذا الشرط عدة مسائل منها:
(أ) لو جرى عقد بين متبايعين بدراهم أو دنانير وكانا في بلد فيه عدة عملات مختلفة في المالية والزواج، انصرف البيع إلى الأغلب، لأنه هو المتعارف فنصرف المطلق إليه (5) ولو اضطربت العادة في البلد وجب بيان النقد عند البيع وإلا بطل العقد (6) .
(ب) ومنها استئجار الكاتب، فالحبر والأقلام عليه، وكذا الخيط والإبرة بالنسبة للخياط، عملًا بالعرف عند الأحناف وعند الشافعية فيه خلاف، الأصح كما ذكر الرافعي الرجوع فيه إلى العادة، فإن اضطربت وجب البيان وإلا بطلت الإجارة (7) .
(1) أستاذنا زيدان في المصدر السابق: ص 257.
(2)
انظر الأشباه والنظائر القاعدة السادسة: ص 94.
(3)
الأشباه والنظائر: ص 101.
(4)
الأشباه والنظائر: ص 101.
(5)
ابن نجيم في الأشباه: ص 95.
(6)
السيوطي في الأشباه: ص 101.
(7)
السيوطي في الأشباه: ص 101.
ثالثًا: أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر العرف المتأخر في التصرفات السابقة، فإذا طرأ عرف جديد بعد اعتبار العرف السائد عند صدور الفعل أو القول، فلا اعتبار بالعرف المتأخر وعلى هذا يجب تفسير حجج الأوقاف والوصايا والبيوع ووثائق الزواج وما يراد فيها من شروط واصطلاحات على عرف المتصرفين الذي كان موجودًا في زمانهم لا على عرف حادث بعدهم يقول ابن نجيم: " العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر، لذلك قالوا لا عبرة بالعرف الطارئ (1) .
رابعا: أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن واتفق العاقدان صراحة على الأداء، أو كان العرف يقضي بتحمل المشتري مصاريف تصدير البضاعة المشتراة واتفقا على أن تكون على البائع، أو كان العرف جاريًّا بتحمل المشتري مصاريف تسجيل العقار في الطابو واتفق الطرفان على جعلها على البائع، ففي هذه الحالة يحل ما اتفق عليه محل العرف والقاعدة هنا " ما يثبت بالعرف بدون ذكر لا يثبت إذا نص على خلافه (2) .
حكم العرف إذا تعارض مع دليل شرعي:
قد يختلف العرف مع الدليل الشرعي، والدليل إما أن يكون نصًّا من نصوص الشريعة وهي الكتاب والسنة، أو يكون قياسًا أو إجماعًا، وإما أن يخالف بعض الآراء الاجتهادية وهي الأحكام الشرعية الظنية المستنبطة من الأدلة الشرعية.
والحكم في مخالفة العرف الدليل الشرعي يختلف باختلاف الأدلة وباختلاف عموم النص وخصوصه، ويختلف بحسب المخالفة إن كانت من وجهه أو من بعض الوجوه.
يقول ابن عابدين: " إذا خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالف من كل وجه بأن لزم منه ترك النص فلا شك في رده كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصًّا، وإن لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عامًّا والعرف خالفه في بعض أفراده أو كان الدليل قياسًا، فإن العرف معتبر إن كان عامًّا، فإن العرف العام يصلح مخصصًا كما مر عن التحرير ويترك به القياس كما صرحوا به في مسألة الاستصناع ودخول الحمام والشرب من السقا وإن كان العرف خاصًّا فإنه لا يعتبر هو المذهب كما ذكره في الأشباه حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره "(3) .
(1) الأشباه والنظائر: ص 101.
(2)
القواعد للعز بن عبد السلام: 2 /178.
(3)
رسالته في العرف: ص 5.
ومن هنا تبين لنا أن مخالفة العرف للأدلة الشرعية تتنوع أنواعًا مختلفة بحسب الحالات التي تؤدي إلى النتائج المختلفة وذلك في أنواع ثلاثة:
1-
النوع الأول: مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه.
2-
النوع الثاني: مخالفة العرف من بعض الوجوه.
3-
النوع الثالث: تعارض العرف والاجتهادات الفقهية للناس.
وها أنا أبين بإيجاز رأي الفقهاء في كل نوع من الأنواع الثلاثة.
أولًا – مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه:
إذا خالف العرف الشرع من كل وجه فلا يعتبر العرف مطلقًا، وذلك فيما إذا اصطدم العرف بنص تشريعي خاص من نصوص الكتاب أو السنة يأمر بخلاف ما جرى عليه العرف، فلا اعتبار للعرف في هذه الحالة، كالأحكام التي كانت متعارفة في الجاهلية وحرمها الإسلام لمصادمة تلك الأعراف لإدارة الشارع في موضوع أصبح المسلم مكلفًا بتطبيق النص والأخذ به، فلا يجوز إهماله وإعمال العرف (1) ومثال ذلك أيضًا: العقود التي نهى الإسلام عن إبرامها كالملامسة والمنابذة، وكذلك ما تعورف عليه في الجاهلية من الغزو واستباحة الحقوق ونكاح الشغار وإثبات ولد الزنا والتبني.
ولو عاود الناس المعاملة بها وأصبح عرفًا، فإنه لا يعتبر شرعًا وهو باطل.
استثناء من الحكم العام: ويستثنى من ذلك ما إذا كان النص حين نزوله أو حين صدوره عن المشرع مبنيًّا على عرف قائم ومعللًا به، فإن النص عندئذ يكون عرفيًّا فيدور مع العرف ويتبدل بتبدله، مثال ذلك: حديث الربا الوارد في الأصناف الستة، فإنه نص على أن الربا يحصل في مبادلة هذه الأصناف إذا لم يحصل التساوي فيما بينها، فإذا حصل، فلا ربا، فما هو مقياس التساوي؟
لقد ترك ذلك للعرف فما كان وزنيًّا كالذهب والفضة اعتبر فيه الوزن، وما كان كيليًّا كالحنطة والشعير والملح والتمر اعتبر فيه الكيل.
والملاحظ أن الحديث نص على التساوي الوزني في الذهب والفضة والتساوي الكيلي فيما عدها، غير أن العرف تبدل في هذه الأوزان، فأصبحت الحنطة والتمر والشعير والملح توزن وزنًا ولا تكال كيلًا، فأي العرفين يعتبر هنا؟ لقد أجاب ابن عابدين عن ذلك، فبعد أن ذكر رأي بعض فقهاء المذهب في عدم جواز بيع الحنطة بالحنطة إلا كيلًا والذهب بالذهب إلا وزنًا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، أورد رأي أبي يوسف الذي يقضي بصحة بيع الحنطة بمثلها وزنًا والذهب بمثله كيلًا، فقد علل رحمه الله النص بالعادة، بمعنى أن الشارع عندما نص على بيع الحبوب كيلًا وعلى الذهب والفضة وزنًا لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك، فالنص جاء موافقًا للعادة، حتى لو كانت في ذلك الوقت وزن البر وكيل الذهب لورد النص على وفقها، فلما كانت العادة هي المنظورة إليها في الحكم المذكور، فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع للنص (2) .
(1) الأستاذ الخياط في نظرية العرف: ص 60
(2)
انظر رسالته في العرف: ص 8.
ومن هذا القبيل أيضًا، اعتبار الصمت في استئذان الفتاة البكر في النكاح، فإن أساسه العرف القائم في ذلك الوقت، فالنص من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((وإذنها صماتها)) قام على اعتبار العرف، واليوم تغير العرف في كثير من البلدان وأصبح لا يكفي فيه صمت الفتاة البكر إذ أنها بلغت من الجرأة حدًّا تعرب فيه عن رأيها لفظًا، فيعتبر إذنها كإذن الثيب ويؤخذ بالعرف، لأن أساس النص قام على اعتبار العرف، وقد تغير فيتغير بتغيره (1) .
ثانيا – مخالفة العرف النص من بعض الوجوه:
إذا عارض نصًّا تشريعيًّا عامًّا، أي لم يخالف النص من كل وجه، فلا يخلو العرف من أن يكون عامًّا أو خاصًّا، فإن كان عامًا، فالعرف العام يصلح مخصصًا ويترك به القياس كما في مسألة الاستصناع ودخول الحمام والشرب من السقا.
أما لو كان العرف خاصًّا فللفقهاء اتجاهان في اعتباره أو عدم اعتباره، قال ابن عابدين:" وإن كان العرف خاصًّا فإنه لا يعتبر، وهو المذهب كما ذكره في الأشباه حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره "(2) .
وقد تفرع عن هذا الخلاف عدة مسائل منها:
1-
لو دفع رجل إلى حائك غزلًا أن ينسجه بالثلث فقد أجاز هذا النوع من الإجارة كثير من مشايخ بلخ لتعامل أهل بلدهم بذلك، والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر،
وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل، بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان، لأن النص ورد فيه لا في الحائك، إلا أن الحائك نظيره فيكون واردًا فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك وعملنا بالنص في قفير الطحان كان تخصيصًا لا تركًا أصلًا، وتخصيص النص بالتعامل جائز.
أما على رأي من لم يعتبر العرف الخاص، لم يجوز هذه الإجارة، " لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وتعامل أهل بلدة واحدة لا يخص الأثر، لأن تعامل أهل بلدة إن اقتضى أن يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص، فلا يثبت التخصيص بالشك "(3) .
2-
ومما تفرع عن الخلاف المذكور ما لو استقرض شخص ألف دينار من آخر واستأجر المستقرض المقرض لحفظ شيء، مما لا يستحق الاستئجار له كالساعة والمرآة والملعقة مثلًا، ببدل إيجار قدره مائة درهم في الشهر، وقيمة العين المذكورة لا تزيد على الأجر، ففي صحة الإجارة أو عدم صحتها ثلاثة أقوال: أحدها يقضي بصحة الإجارة بلا كراهة اعتبارًا لعرف خواص بخارى، والثاني الصحة مع الكراهة للاختلاف، والثالث، الفساد وهو الصواب كما ذكر ابن عابدين معللًا ذلك بقوله:" لأن الإجارة مشروعة على خلاف القياس، لأنها بيع المنافع المعدومة وقت العقد وإنما جازت بالتعارف العام لما فيها من احتياج عامة الناس إليها وقد تعارفوها سلفًا وخلفًا فجازت على خلاف القياس "(4) .
(1) الأستاذ الخياط في نظرية العرف: ص 61.
(2)
انظر رسالته في العرف: ص 5.
(3)
انظر رسالته في العرف: ص 6.
(4)
انظر رسالته في العرف: ص 7.
ثالثا – تعارض العرب والاجتهادات الفقهية:
لا تخلو المسائل الفقهية من أن تكون ثابتة بصريح النص أو أن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي.
فالأولى كانت مدار بحثنا عند كلامنا عن مخالفة العرف للنص الشرعي من كل وجه أو من بعض الوجوه، والثانية هي مدار كلامنا هنا فأقول: إن كثيرًا من المسائل الاجتهادية مبنية على عرف زمان المجتهد بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال المجتهد بخلاف ما قاله أولًا ولهذا قال العلماء من شروط الاجتهاد أنه لا بد للمجتهد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام مختلف باختلاف الزمان وذلك بسبب تغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، لأصاب الناس الحرج ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام (1) .
ولذلك خالف مشايخ الحنفية ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه.
من ذلك:
(أ) إفتاء متأخري الحنفية بجواز الاستيجار على تعليم القرآن ونحوه بسبب انقطاع العطايا عن المعلمين التي كانت تنهال عليهم في الصدر الأول، ولو لم نحكم بجواز أخذ الأجرة على التعليم لأعرض الناس عن هذه المهنة بسبب انشغالهم في الكسب للحصول على لقمة العيش، وبذلك يضيع العلم والتعليم وكذا جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة والصاحبان من عدم جواز الاستيجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة وسائر العبادات الأخرى.
(ب) ومن ذلك أيضا تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول أبي حنيفة بناء على ما كان في زمنه من أن الإكراه لا يقع إلا منه، وبفساد الزمان أصبح الإكراه يتحقق من غيره أيضًا، فقد قال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون لهذا السبب.
(ج) ومن هذا القبيل قول أبي يوسف ومحمد بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفة هذا القول لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة بسبب عيشه في ذلك العصر الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان (2) .
(1) ابن عابدين في المصدر السابق: ص18.
(2)
ابن عابدين في رسالته العرف: ص 18 وما بعدها
أثر العرف في العقود:
بعد هذا العرض لموضوع العرف، أود أن أذكر بعض الفروع الفقهية المبنية على العرف، والتي أفتى الفقهاء بجواز تلك المسائل لتعامل الناس بها، فلو تغيرت العادة أو بطلت، فلا يجوز للفقيه في هذه الحالة الفتوى بها، ومن هنا يتبين لنا أهمية العرف وأثره على كثير من العقود، ومن هذه الفروع ما يلي:
1-
لو اشترى رجل سلعة وقال له آخر أشركني معك أو قال له المشتري: أشركتك معي، فإن الشركة صحيحة في هذه الحالة، والسلعة مناصفة بين الاثنين (1) .
2-
بيع الأرض يدخل فيه كل ما وجد في الأرض على سبيل البقاء والاستقراء، ولا يدخل في البيع الزرع إلا بالتسمية، لأنه وجد فيها على سبيل القطع (2) .
3-
لو اشترى رجل ثمرة على رؤوس الشجر، فالرأي عند أبي حنيفة، أن المشتري يلزم بقطعها في الحال تفريغًا لملك البائع، وهذا فيما لو اشتراها مطلقًا أو بشرط القطع، فإن اشترط تركها على أصول الشجر، فسد البيع عنده (3) وقال المالكية: لا مانع من التبقية على الأصول للعادة (4) وهذا هو رأي الشافعية أيضًا، وبه قالت الإمامية (5) .
4-
ومنها دخول العلو في بيع الدور والحوانيت وإن لم يتطرق إليه المتعاقدان في العقد بأن يذكرا الحقوق والمرافق التابعة للعقار، وذلك بناء على العرف الحادث (6) .
5-
التوكيل في البيع المطلق، فإنه يتقيد بثمن المثل وغالب نقد البلد الذي جرى فيه العقد تنزيلًا للغلبة منزلة صريح اللفظ (7) .
6-
حمل إجارة الدواب والعربات على السير المعتاد والمنازل المعتادة، وكذلك دخول حمل الأمتعة والبسط وأواني الطعام والشراب في الإجارة على الدواب إذا استؤجرت للركوب في الأسفار، لاطراد العرف (8) .
7-
استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأنهم لا يعملون إلا بالأجرة كالدلال والحلاق والنجار والحمال، فيستحق هؤلاء الأجرة ما جرت به العادة، وإن لم يسمِّ لهم المستصنع الأجرة، لدلالة العرف على ذلك (9) .
(1) انظر الفروق، للقرافي: 2 /283.
(2)
انظر الفروق، للقرافي: 5 /102.
(3)
انظر فتح القدير للكمال بن الهمام
(4)
انظر الفروق: 2 /286.
(5)
انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /105؛ القواعد والفوائد في الفقه والأصول، لابن عبد الله محمد بن مكي العاملي: 1 /148.
(6)
ابن عابدين في رسالته العرف: ص 31.
(7)
العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /107، والعاملي في المصدر السابق أيضًا.
(8)
انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /109.
(9)
انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /109.
8-
قبول الهدايا من يد حاملها سواء كان صبيًّا مميزًا أو امرأة، للعادة (1) .
9-
وفي ألفاظ الوقف والوصية، كما لو أوصى رجل لمسجد، فإن اللفظ ينصرف إلى عمارته للعرف، وكذا الوصية للعلماء والقراء، فإنها جائزة وإن لم ينص على أشخاص معينين، للعرف أيضا (2)
10-
التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه، فإنه يجوز تملكه والارتفاق به لاطراد العادات ببذلة، مثال ذلك: ما يتساقط من ثمر النخيل والأشجار في الطرقات التي تكثر فيها البساتين في عصرنا الحاضر (3) .
11-
البيع بالنموذج، بأن يعرض البائع سواء كان تاجرا أو مزارعا نموذجا من سلعته أو محصوله على التجار فيتعاقد معهم على كمية معينة من السلعة بثمن معين، فالعقد صحيح في مثل هذه الحالة، لتعارف الناس بذلك ولو تبين للمشتري عند استلام المبيع بأنه على غير الوصف الذي رآه، جاز له فسخ العقد.
12-
ومنها بيع الثمار على الأشجار عند ظهور بعضها دون بعض، فقد أجاز البيع بعض فقهاء المسلمين، للعرف فيجعل الموجود أصلًا في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعا وقد تعامل الناس بيع ثمار الكرم بهذه الصفة ولهم في ذلك عادة ظاهرة وفي نزع الناس من عاداتهم حرج (4) .
13-
ومنها اعتماد خط الإنسان واعتباره حجة على نفسه مثل ما يفعله التجار في المخاطبات التجارية فيما بينهم، وفي إلزام أنفسهم بتعهدات خطية، فإنها تصح، ويلزم المتعهد بما تعهد به في تلك المخاطبات.
وما قاله بعض فقهاء الحنفية من عدم الاعتماد على خط الإنسان والعمل به بناء على الأصل المنقول في المذهب، إنما قالوا ذلك قبل حدوث العرف كما ذكر ابن عابدين، ولما حدث العرف في الاعتماد على الخط والعمل به في مثل ما ذكرناه، أفتى به هؤلاء الفقهاء رحمهم الله تعالى (5) .
14-
الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز إقامة للإذن العرفي مقام الإذن اللفظي (6) .
15-
إزفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها فإنه يحل له وطؤها، لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في مثل هذه الأمور عادة (7) .
16-
البيع بالمعاطاة، فإنه يقوم مقام الإيجاب والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء، لأنها دالة على الرضا بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ (8) .
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
(1) انظر القواعد والفوائد، للعاملي: 1 /147.
(2)
انظر القواعد والفوائد، للعاملي: 1 /147.
(3)
العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.
(4)
ابن عابدين في رسالته نشر العرف: ص 37.
(5)
ابن عابدين في رسالته نشر العرف: ص 42.
(6)
العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.
(7)
العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.
(8)
العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.
أهم مصادر البحث
بعد القرآن الكريم:
1-
قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، دار الكتب العلمية، بيروت.
2-
الفروق، للإمام أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي وبهامشه تهذيب الفروق والقواعد السنية، دار المعرفة.
3-
نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، رسالة لابن عابدين مطبوعة مع مجموعة من الرسائل والمعروفة برسائل ابن عابدين.
4-
القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، لأبي عبد الله محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول، القسم الأول تحقيق الدكتور عبد الهادي الحكيم والمطبوع بالنجف.
5-
الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، لأبن نجيم، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع بالقاهرة 1387هـ ـ 1968 م.
6-
الأشباه والنظائر في القواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة.
7-
فتح القدير، للكمال بن الهمام، المطبعة الميمنية بمصر.
8-
إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، مطبعة السعادة بمصر سنة الطبع 1955م.
9-
الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، مؤسسة الحلبي بالقاهرة سنة الطبع 1967م.
10-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، مطبعة الجمالية بمصر سنة الطبع 1910م.
11-
الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، للدكتور مصطفى الزرقاء، مطبعة الجامعة، دمشق.
12-
المبسوط، لشمس الآئمة السرخسي، مطبعة السعادة بمصر سنة الطبع 1324 هـ.
13-
نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز الخياط، مكتبة الأقصى عمان.
14-
الوجيز في أصول الفقه، للدكتور عبد الكريم زيدان، الدار العربية بغداد.
15-
المختار من صحاح اللغة، محيى الدين عبد الحميد، الاستقامة 1934 م.
16-
العرف في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد سعود المعيني، بحث منشور في مجلة كلية التربية جامعة البصرة العدد السادس.
17-
الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي المتوفى 450 هـ، دار الكتب العلمية بيروت.