الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الاسم التجاري والترخيص
إعداد
الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي
رئيس قسم الشريعة الإسلامية بجامعة الإمارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فقد أقرت القوانين الوضعية الحديثة مايسمى بحق الملكية الأدبية والفنية والصناعية، مثل حقوق التأليف، وحق الرسام في لوحاته المبتكرة، وبراءة الاختراع، والعلامات التجارية الفارقة، والاسم التجاري والترخيص.
فلا يجوز لأحد المساس بهذا الحق أو الاعتداء عليه، ويجوز لصاحبه أن يتنازل عنه في مقابل عوض مالي أو نقدي، بسبب الشهرة التي أحدثها صاحبه في محل الحق، وحق الرواج في الأسواق للأشياء التي تحمل اسمه، بناءً على ترخيص من الدولة، وحمايةً منه لهذه الحقوق.
والسؤال الآن، هل يجوز بيع هذا الحق؟ وخصوصًا بيع الاسم التجاري والترخيص الممنوح من الدولة بإقامة مصنع أو فتح متجر مثلًا.
يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال ما أبانه فقهاؤنا في تعريف المال والملك، وضوابط التمول، والاعتياض عن الحق.
للفقهاء في هذا اتجاهان: الأول لمتقدمي الحنفية،والثاني لمتأخري الحنفية وجمهور الفقهاء.
أما الاتجاه الأول لمتقدمي الحنفية: فهو أن الشيء لايعد مالًا إلا بتوافر عنصرين فيه، وهما: إمكان الحيازة والإحراز، وإمكان الانتفاع به أو عرفًا، فلا يعد مالًا ما لا يمكن حيازته وإحرازه كالأمور المعنوية كالعلم والصحة والشرف، وكذا كل ما لا يمكن الانتفاع به إما لضرره وفساده كلحم الميتة والطعام المسموم أو الفاسد، وإما لتفاهته كحبة حنطة أو قطرة ماء، وهذا يعني أن المال عند هؤلاء يقتصر على ما له صفة مادية محسوسة، أما المنافع والحقوق فليست أموالًا وإنما هي ملك، لا مال؛ لعدم إمكان حيازتها بذاتها، وإذا وجدت فلا بقاء ولا استمرار لها؛ لأنها معنوية، وتنتهي شيئًا فشيئًا تدريجيًا إذا لم تستوف المنفعة مع مرور الزمان المتجدد.
ويمكن أخذ العوض عن المنفعة إذا ورد العقد عليها، كعقد الإيجار،وأما الحقوق المجردة كحق الشفعة، وحق الحضانة والولاية والوكالة وحق المدعي في تحليف خصمه اليمين،وحق المرأة في قسم زوجها لها كما يقسم لضرتها، فلا يجوز الاعتياض عنها (1) ، لأنها حقوق أثبتها الشرع لأصحابها لدفع الضرر عنهم، وماثبت لدفع الضرر لايصح الصلح عليه أو التنازل عنه بعوض.
وهناك حقوق ثبتت لأصحابها أصالة لا على وجه رفع الضرر، كحق ولي المقتول بالقصاص من القاتل، وحق الزوج في بقاء عقد الزواج قائمًا أي استمرار الزوجية، وهذه الحقوق يجوز أخذ البدل عنها والمعاوضة عليها بالمال، فيجوز لولي الدم (المقتول) أن يعفو عن حقه بالقصاص مقابل مال من القاتل، وللزوج أن يأخذ من زوجته مالًا (عوض الخلع) ، مقابل التنازل عن حقه في فسخ الزواج. ومن هذه الحقوق حقوق الارتفاق، كحق التعلي وحق الشرب وحق المسيل، يجوز المعاوضة عنها؛ لأنها ثبتت لأصحابها ابتداءً بحق شرعي، ولتعارف الناس التنازل عنها بالمال (2) . وحق الملكية الأدبية والفنية والصناعية ومنه بيع الاسم التجاري والترخيص من هذا النوع الثاني؛ لأن هذا الحق يثبت لصاحبه دفعًا للضرر عنه فقط، وإنما ثبت له ابتداء، فلم توجد الشهرة التجارية ورواج السلعة إلا بجهد صاحب الاسم التجاري وتعبه وعنائه وإتقانه العمل، فصار حقه أصيلًا ملازمًا له، يجوز له الاعتياض عنه بالمال، وبخاصة أن الاعتياض عن حقه بالمال أصبح عرفًا عامًا مقررًا، وممنوحًا من قوانين الدول المعاصرة، ثم إن الاسم التجاري والترخيص عنصر من عناصر المحل التجاري.
كما أن الترخيص ذا قيمة مالية في عرف الناس، إذ لا يمكن الحصول عليه إلا بجهود متواصلة وكبيرة، وبعد دفع رسوم كثيرة للدولة، فصار ملكًا لمن منح له الترخيص وكل ما يجري فيه الملك يجري فيه المعاوضة فيما عدا الحقوق المقررة في النوع الأول عند الحنفية.
(1) الدر المختار ورد المحتار: 4/3؛ والبحر الرائق: 2/227؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم، باب الملك: ص 346.
(2)
شرح المجلة (م 36-37) .
أما متأخرو الحنفية: فلم يجعلوا إمكان الحيازة والإحراز أو العينية المادية من مقومات المال، جاء في الدر المنتقى شرح الملتقى في تعريف المال:" ويطلق المال على القيمة، وهي ما يدخل تحت تقويم مقوم من الدراهم والدنانير "(1) . وهذا يدل على أن كل ما له قيمة بين الناس فهو مال شرعًا؛ لأن القيمة المالية تتضمن وتستلزم المنفعة، ولا يتعارف الناس تقويم ما ليس له منفعة، ولا يجري فيه التعامل. ثم إن متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء، منها المال المعد للاستغلال. والشيئان الآخران: المال الموقوف ومال اليتيم.
وأما الاتجاه الثاني لجمهور الفقهاء (من المالكية والشافعية والحنابلة)(2) ، فيلتقي مع رأي متأخري الحنفية، فهم يعرفون المال بأنه: كل ما له قيمة مالية عرفًا يلزم متلفه بضمانه. وهذا يلتقي مع القوانين الوضعية في تعريف المال، ويشمل الأعيان والمنافع وسائر الأمور المعنوية كالحقوق من كل ما يدخل تحت الملك؛ لأن الحقوق كلها تقوم على أساس الملك، إذ الحق جوهره الاختصاص، والاختصاص جوهر الملك وحقيقته، وإلا لما كانت حقوقًا، بل مجرد إباحات، وإذا كانت الحقوق من قبيل الملك فالحقوق أموال، إذ المال مرادف للملك في رأي الفقهاء الذين عرفوا الملك: بأنه اختصاص حاجز شرعًا يخول صاحبه التصرف فيه إلا لمانع.
وحق الملكية يمنح صاحبه سلطات أو صلاحيات ثلاثًا هي الاستعمال والاستغلال والتصرف، وبتعبير فقهائنا:" التمكين من الانتفاع ". والتصرف يجيز التنازل عن محل الحق بعوض أو بغير عوض. وهذا يعني أن المعوضة أثر الملك وثمرته، وأن لصاحبه عليه حقًا عينيًا بدليل اعتراف القوانين به، وعرف الناس عليه.
والعرف الحالي هو الذي جعل للاسم التجاري والترخيص صفة المالية، ومستند هذا العرف الاستصلاح أو المصلحة المرسلة المتعلقة بالحقوق الخاصة والعامة، ولا يتعارض هذا العرف مع نص شرعي، وإنما يتعارض عند متقدمي الحنفية مع القياس، والقياس يترك بالعرف العام باتفاق العلماء.
والعلاقة بين الاسم التجاري والترخيص وبين صاحبه علاقة اختصاصية ومباشرة، كسائر الحقوق الأدبية، فهو إذا حق عيني لا شخصي، كأي حق ملكية آخر، والحق العيني كما هو معروف: سلطة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته.
والخلاصة: أن بيع الاسم التجاري والترخيص في الأعراف السائدة اليوم أمر جائز فقهًا؛ لأنه أصبح مالًا، وذا قيمة مالية، ودلالة تجارية معينة، يحقق رواج الشيء الذي يحمل الاسم التجاري، والذي منح صاحبه ترخيصًا بممارسة العمل، وهو مملوك لصاحبه، والملك يفيد الاختصاص أو الاستبداد أو التمكن من الانتفاع بالشيء المملوك، والعلاقة بين الشخص واسمه التجاري علاقة حق عيني، إذ هي علاقة اختصاصية ومباشرة، ومستند كون الاسم التجاري متمولًا هو العرف المستند إلى مصلحة معتبرة شرعية تتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة. ولا يصادم ذلك نصًا شرعيًا. وهذا ينطبق على كل " إنتاج فكري " أدبي أو فني أو صناعي، لما له من قيمة مالية بين الناس عرفًا، وخصائص الملك شرعًا تثبت فيه وهي الاختصاص الذي هو جوهر حق الملكية، والمنع، أي منع الغير من الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه، وجريان التعامل فيه، والمعاوضة عنه عرفًا.
الدكتور وهبة الزحيلي
(1) الدر المختار ورد المحتار: 4/11.
(2)
الموافقات: 2/17؛ والفروق: 3/208؛ وبداية المجتهد: 2/240؛ والشرح الكبير للدردير: 4/257؛ والأشباه والنظائر للسيوطي: ص258؛ والمغني مع الشرح الكبير 5/439؛ والإقناع: 2/59.