الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الحقوق المجردة
إعداد
الشيخ محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ورحمة العالمين، وعلى آله وأصحابه الذين رفعوا معالم الدين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد ظهرت اليوم أنواع من الحقوق الشخصية التي ليست أعيانًا في نفسها، ولكن شاع تداولها في الأسواق عن طريق البيع، وقد أقرت القوانين الوضعية بجواز بعضها، ومنعت من تداول بعضها، ولكن الأسواق مكتثة بمثل هذه المعاملات. وهي على سبيل المثال: خلو الدور والحوانيت، وحق استعمال اسم تجاري مخصوص أو علامة تجارية خاصة (Trade Mark) أو الترخيص التجاري (License) وما يسمى في اللغة المعاصرة: حقوق الملكية الذهنية، أو الأدبية والفنية (Intellectual Property) مثل حق التأليف والنشر، وحق الابتكار، وحق الرسام في لوحاته المبتكرة.
وجميع هذه الحقوق تعتبر في العرف التجاري المعاصر مملوكة تجري عليها أحكام الأموال والأملاك الشخصية، فإنها تباع وتشترى، وتؤجر وتوهب وتورث، شأن الأعيان والأموال المادية سواء بسواء.
فالمسألة المطروحة أمامنا: هل يجوز في الشريعة الإسلامية أن تعتبر هذه الحقوق أموالًا يصح بيعها وشراؤها، أو الاعتياض عنها بصورة من الصور المشروعة، أم لا يجوز ذلك؟
ولم تكن المسألة في عهد الفقهاء القدامى بهذا الشكل الواسع، فمن الطبيعي أن لا يوجد في كتبهم جواب خاص عن جزئياتها الموجودة في عصرنا، غير أنهم تحدثوا عن كثير من الحقوق ومسألة الاعتياض عنها حسب ما كان موجودًا أو متصورًا في عصرهم، فمنهم من منع الاعتياض عن الحقوق المجردة، ومنهم من أجاز بعض الأنواع منها. ولو استقصينا ما كتبه الفقهاء في هذا الباب لوجدنا أن أنواع الحقوق كثيرة، وعبارات الفقهاء فيها مختلفة، ولم أظفر بعد بكلمة جامعة تشمل جميع أنواع الحقوق، ويوضح الضابط الذي يمكن أن تبنى عليه المسائل في الموضوع، فنحتاج أن نستخرج الضوابط في هذا الباب من دلائل القرآن والسنة، والجزئيات المبعثرة في كتب الفقه التي يمكن أن تصير نظائر لما نحن بصدده، ونسأل الله تعالى أن يسدد خطانا ويشرح صدورنا بما فيه حق وصواب حسب ما يرضاه سبحانه وتعالى، وهو الموفق والمعين.
والذي يتحصل من استقراء الحقوق التي تحدث الفقهاء عن الاعتياض عنها، أنها تنقسم إلى نوعين:
1-
الحقوق الشرعية، وهي التي ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل في ثبوتها للقياس.
2-
الحقوق العرفية، وهي التي ثبتت بحكم العرف، وأقره الشرع. ثم كل واحد من هذين النوعين ينقسم إلى قسمين:
الأول: الحقوق التي شرعت لدفع الضرر عن أصحابها.
الثاني: الحقوق التي شرعت أصالة.
والحقوق الثابتة أصالة تنقسم إلى أقسام:
1-
الحقوق التي هي عبارة عن منافع مؤبدة في ذوات الأشياء، مثل حق المرور وحق الشرب، وحق التسييل وغيره.
2-
الحقوق التي تثبت بسبق يد الرجل إلى شيء مباح، وتسمى حق الأسبقية أو حق الاختصاص.
3-
الحقوق التي هي عبارة عن حق إحداث عقد مع آخر أو إبقائه، مثل حق استئجار الأرض، أو الدار، أو الحانوت، أو حق البقاء في وظيفة من وظائف الوقف.
ثم إن الاعتياض عن الحقوق يمكن بطريقين:
الأول: الاعتياض عن طريق البيع،وحقيقته نقل ما كان يملكه البائع إلى المشتري بجميع مقتضيات النقل.
الثاني: الاعتياض عن طريق الصلح والتنازل، وحقيقته أن التنازل يسقط حقه، ولكن لا ينتقل الحق إلى المنزول له بمجرد نزوله، ولكن يزول مزاحمة النازل بمقابلة المنزول له.
وقد ذكر الإمام القرافي رحمه الله الفرق بين الطريقين، حيث قال:
" اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض
…
وإلى ما هو بغير عوض كالهدايا والوصايا
…
فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض.
وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على مال
…
فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما " (1) .
فنريد أولًا أن مذكر هذه الأنواع من الحقوق التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، ونتكلم على كل منها على حدة، بذكر ما قال فيه الفقهاء رحمهم الله تعالى، فنستخلص من كلامهم ما يدلنا على الحكم الشرعي في هذه الحقوق التي شاع تداولها بين الناس، والتي نريد أن نعرف حكم الاعتياض عنها والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمعين.
(1) الفروق للقرافي: 3/110، - الفرق التاسع والسبعون -.
الحقوق الشرعية:
والذي نقصد باصطلاح " الحقوق الشرعية " أنها حقوق ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل فيها للقياس، بمعنى أنها لم تثبت لأصحابها إلا بنص جلي أو خفي من قبل الشارع، ولولا ذلك النص ما ثبتت. مثل حق الشفعة، وحق الولاء، وحق الوراثة، وحق النسب، وحق القصاص، وحق التمتع بالزوجة، وحق الطلاق، وحق الحضانة والولاية، وحق المرأة في قسم زوجها لها.
وإن هذه الحقوق على قسمين:
الأول: حقوق ليست ثابتة أصالة، وإنما أثبتها الشارع لدفع الضرر عن أصحابها ونستطيع أن نسميها " الحقوق الضرورية ".
الثاني: حقوق ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر، ونستطيع أن نسميها:" الحقوق الأصلية ".
الحقوق الضرورية:
فأما القسم الأول من هذه الحقوق وهي الحقوق الضرورية، فمثاله حق الشفعة، فإنه ليس حقا ثابتًا بالأصالة، لأن الأصل أن المتبايعين إذا عقدا بيعًا عن تراض منهما، فلا حق للثالث أن يتدخل بينهما، ولكن الشريعة إنما أثبتت حق الشفعة للشريك والخليط والجار لدفع الضرر عنهم. وكذلك حق المرأة في قسم زوجها لها، إنما شرع لدفع الضرر عنها، وإلا فالزوج له الخيار في أن يتمتع بزوجته ويبيت عندها متى شاء. ويدخل فيه حق الحضانة، وولاية اليتيم، وخيار المخيرة.
وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح والتنازل بمال.
والدليل عليه عقلا: أن الحق لم يكن ثابتًا لصاحبه أصالة، وإنما ثبت له لدفع الضرر عنه، فإن رضي بإعطائه لغيره، أو تنازل عنه لآخر، ظهر أنه لا ضرر له عند عدمه، فيرجع الأمر إلى الأصل، وهو عدم ثبوت الحق له، فلا يجوز له أن يطالب على ذلك بعوض، كالشفعة إذا تنازل عنها الشفيع، ظهر أنه لا ضرر له في البيع الذي كان سببًا لثبوت حقه فانتفى حقه في نقض ذلك البيع، ولا يجوز إذن أن يأخذ على ذلك مالًا.
وكذلك حق القسم للمرأة كان لدفع الضرر عنها، فلما تنازلت عنه ظهر أنها لا تتضرر بترك القسم، فلا يجوز لها أخذ العوض على هذا التنازل. ومثله المرأة المخيرة من قبل زوجها بقوله " اختاري " لها الخيار في فسخ نكاحها منه دفعًا للضرر عنها، فلو قالت: أختار زوجي وأبطل هذا الخيار بمال يعطيني، ظهر أنه لا ضرر لها في بقائها مع زوجها، فلا تستحق أخذ العوض على ذلك. وكذلك زوجة العنين لها أن تفسخ نكاحها من زوجها العنين لدفع الضررعن نفسها فإن رضيت البقاء معه بمال، ظهر أنها لا تتضرر ببقاء النكاح، فلا يجوز أخذ العوض.
الحقوق الأصلية:
وأما النوع الثاني من الحقوق الشرعية، فهي الحقوق التي ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر فقط، ومثل حق القصاص، وحق تمتع الزوج بزوجته بقاء نكاحها معه، وحق الإرث، وما إلى ذلك.
وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، بأن ينتقل به الحق إلى المشتري، فيستحق به ما كان يستحقه البائع، فلا يجوز لولي قتيل أن يبيع حق الاقتصاص إلى رجل آخر، بأن يستحق ذلك الرجل استيفاء القصاص بدله، وكذلك لا يجوز لرجل أن يبيع حق تمتعه بالزوجة إلى غيره ليتمتع هو بها، ولا يجوز لوارث أن يبيع حق إرثه إلى رجل آخر، بحيث يرث هو عوضًا عن الوارث الحقيقي. لأن هذه لحقوق إنما أثبتها الشارع لرجل مخصوص بصفة مخصوصة، مهما تنتفِ هذه الصفة تنعدم الحقوق، فحق القصاص إنما أثبته الشارع لولي المقتول بصفة كونه وليًا له، فإذا انتفت الولاية انتفى الحق.
وبعبارة أخرى، إن هذه الحقوق لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر شرعًا، فلا تباع ولا توهب، ولا تورث، ووراثة حق القصاص ليس وراثة حقيقة، وإنما هو حق يثبت للوارث أصالة عند عدم الولي الأقرب، لا من حيث إنه ينتقل من الولي الأقرب إلى وارثه.
فبما أن الشريعة لا تأذن بنقل هذه الحقوق من واحد إلى آخر، فلا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع والمبادلة، ومأخذ هذا الحكم حديث ابن عمر رضي الله عنهما:((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته)) (1) .
ولكن هذه الحقوق يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح والتنازل بمال، بمعنى أن المستحق في هذه الحقوق يمسك عن استعمال حقه بمال يطالب به من يتضرر باستعمال ذلك الحق. مثل ولي القتيل إذا استحق القصاص، فإنه يباح له أن يصالح القاتل على مال، وإن هذا المال بدل لإمساك صاحب الحق عن استيفاء حقه، وإنما يبذله القاتل دفعًا لضرر الموت عن نفسه، وهذا جائز بنص القرآن والسنة وبإجماع أهل العلم.
وكذلك الزوج له الحق في أن يتمتع بزوجته ببقاء نكاحها معه، ولكنه يمسك عن استعمال هذا الحق بمال تفتدي به المرأة، وهو الخلع والطلاق على مال، وذلك جائز بنص القرآن، وعلى ذلك انعقد الإجماع.
وإن هذا الفرق بين الحقوق الضرورية والحقوق الأصلية قد ذكره البيري من الفقهاء الحنفية في شرحه على الأشباه والنظائر (2) وحكاه ابن عابدين رحمه الله ولخصه بقوله:
" وحاصله أن ثبوت حق الشفعة للشفيع، وحق القسم للزوجة، وكذلك حق الخيار في النكاح للمخيرة إنما هو لدفع الضرر عن الشفيع والمرأة، وما ثبت لذلك لا يصح الصلح عنه، لأن صاحب الحق لما رضي علم أنه لا يتضرر بذلك، فلا يستحق شيئًا. أما حق الموصى له بالخدمة، فليس كذلك، بل ثبت له على وجه البر والصلة، فيكون ثابتًا له أصالة، فيصح الصلح عنه إذا نزل عنه لغيره، ومثله ما مر عن الأشباه من حق القصاص والنكاح والرق، حيث صح الاعتياض عنه، لأنه ثابت لصاحبه أصالة، لا على وجه دفع الضرر عن صاحبه "(3) .
ولكن جواز هذا الاعتياض على وجه الصلح إنما يجوز إذا كان هناك حق ثابت قائم كما في حق القصاص وحق بقاء النكاح والرق. أما إذا كان حقا متوقعًا في المستقبل، غير ثابت في الحال، فإن ذلك لا يجوز الاعتياض عنه، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح. وذلك مثل حق الوراثة في حياة المورث، لا يجوز التنازل عنه بمال، لأن حق الوراثة في حياة المورث ليس حقًا ثابتًا، بل هو حق متوقع يحتمل الثبوت وعدمه، وإنما يتقرر بموت المورث، وكذلك حق الولاء في حياة المولي حق غير متقرر، وإنما يتأكد بموته فلا يصح التنازل عنه.
وأما بعد موت المورث أو الولي، فإن ذلك الحق ينتقل إلى ملك مادي في تركته، فيصح بيعه أو التنازل عنه بطريق التخارج بشروطه المعروفة.
(1) أخرجه البخاري في العتق، باب بيع الولاء وهبته، وفي الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، وأخرجه مسلم في العتق، باب بيع الولاء وهبته. وهذا لفظ مسلم.
(2)
شرح الأشباه والنظائر، للبيري (مخطوط) : ص 62، و63.
(3)
رد المحتار، لابن عابدين: 4/16.
الحقوق العرفية:
والنوع الثاني من الحقوق نستطيع أن نسميها بالحقوق العرفية. ونقصد بذلك الحقوق المشروعة التي ثبتت لأصحابها بحكم العرف والعادة، وإنها حقوق مشروعة من حيث إن الشريعة الإسلامية أقرتها عن طريق إقرارها للعرف والتعامل، ولكن مأخذها الأصيل هو العرف دون الشرع، وذلك مثل حق المرور في الطريق وحق الشرب، وحق التسييل وما إلى ذلك.
وإن هذه الحقوق العرفية تنقسم إلى أقسام:
1-
حق الانتفاع بذوات الأشياء:
وإن هذا القسم من الحقوق عبارة عن الاستفادة بالمنافع المتعلقة بذوات الأعيان المادية، فإن كان هذا الانتفاع لمدة معلومة فإن الاعتياض عنه مشروع بطريق الإجارة، وتجري عليها أحكامها، مثل الانتفاع بسكنى الدار لمدة معينة، يجوز للمالك الاعتياض عنه بأن يؤجرها لشخص لمدة معلومة بأجرة معلومة.
وأما إذا كان المالك ينقل هذه المنفعة إلى آخر على سبيل التأبيد، فإنه بيع لتلك المنفعة، وذكره الفقهاء الحنفية باسم بيع الحقوق المجردة أيضًا. وقد اختلفت أنظار الفقهاء في جواز هذا البيع، فمنهم من أجازه مطلقًا، ومنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه في بعض الحقوق، ومنعه فبعضها، ونريد أولًا أن نذكر الصور التي ذكرها الفقهاء لهذا القسم من الحقوق، واحدة بعد أخرى، مع ما قال فيها الفقهاء، ثم نصل إلى القول الفصل في الباب إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب.
والصور التي ذكرها الفقهاء من هذا القسم هي: حق المرور، حق التعلي، حق التسييل، حق الشرب، حق وضع الخشب على الجدار، وحق فتح الباب. فالمشهور عند الحنفية أن هذه الحقوق حقوق مجردة لا يجوز بيعها، والمعروف في كتب الأئمة الثلاثة جواز الاعتياض عن أكثر هذه الحقوق.
وعمدة الخلاف في هذا الباب تعريف البيع، فمن عرف البيع بمبادلة المال بالمال وخص المال بالأعيان، منع بيع الحقوق المجردة، لأنها ليست أعيانًا، ومن عمم تعريف البيع بما يشمل المنافع أجاز بيعها.
فأما الشافعية فتعريف البيع عندهم شامل لبيع المنفعة على سبيل التأبيد، فقد عرفه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى بقوله:
عقد يتضمن مقابلة مال بمال بشرطه الآتي لاستفادة ملك عين أو منفعة مؤبدة ".
وقال الشرواني تحته:
" قوله (مؤبدة) كحق الممر إذا عقد عليه بلفظ البيع "(1) .
وقال الشربيني الخطيب رحمه الله:
" وحدَّه بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد، فدخل بيع حق الممر ونحوه، وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعًا "(2) .
وقال ابن القاسم الغزي في شرحه على متن أبي شجاع:
" فأحسن ما قيل في تعريفه أنه تمليك عين مالية بمعاوضة بإذن شرعي، أو تمليك منفعة مباحة على التأبيد بثمن مالي
…
ودخل في منفعة تمليك حق البناء ".
وقال الباجوري تحته:
" قوله ودخل في منفعة إلخ، إنما قال: دخل إلخ، لأن المنفعة تشتمل حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار
…
ولابد من تقدير مضاف في كلامه بأن يقال: ودخل في تمليك منفعة، ليناسب قوله (تمليك حق البناء) . وصورة ذلك أن يقول له: بعتك حق البناء على هذا السطح مثلًا بكذا، والمراد بالحق الاستحقاق " (3) .
ولخصه الشاطري في الياقوت بقوله:
" البيع لغةً: مقابلة شيء بشيء، وشرعًا: عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد، كما في بيع حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار، وحق البناء على السطح "(4) .
(1) حواشي الشرواني على تحفة المحتاج: 4/215، وبمثله عرف الرملي في نهاية المحتاج: 3/361.
(2)
مغني المحتاج، للشربيني: 2/3.
(3)
حاشية الباجوري على شرح الغزي: 1/340.
(4)
الياقوت النفيس في مذهب ابن إدريس: ص74، وراجع أيضًا الغاية القصوى للبيضاوي: 1/1460، وفتح الجواد على متن الإرشاد لابن حجر: 1/373.
فظهر بهذه النصوص الفقهية أن المنفعة المباحة المؤبدة مال عند الشافعية يجوز بيعه وشراؤه، وكذلك الأمر عند الحنابلة فتعريف البيع عندهم على ما ذكره البهوتي، أنه:
" مبادلة عين مالية
…
أو منفعة مباحة مطلقًا، بأن لا تختص إباحتها بحال دون آخر كممر دار أو بقعة تحفر بئرًا، بأحدهما، أي عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا
…
فيشمل نحو بيع كتاب بكتاب أو بممر دار، أو بيع نحو ممر في دار بكتاب، أو ممر في دار أخرى " (1) .
وقال المرداوي رحمه الله في الإنصاف بعد ما ذكر عدة تعريفات للبيع، واعترض على أكثرها:
" وقال في الوجيز: هو عبارة عن تمليك عين مالية، أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي ". ويرد عليه أيضًا: الربا والقرض، وبالجملة: قل أن يسلم حد. قلت: لو قيل: " هو مبادلة عين أو منفعة مباحة مطلقًا، بأحدهما كذلك على التأبيد فيهما، بغير ربا ولا قرض "، لسلم (2) .
وجاء في كشاف القناع للبهوتي:
(ويصح أن يشتري ممرًا في ملك غيره دارًا كان أو غيرها وأن يشتري موضعًا في حائط يفتحه بابًا وأن يشتري بقعة في أرض يحفرها بئرًا، بشرط كون ذلك معلومًا، لأن ذلك نفع مقصود، فجاز بيعه كالدور ويصح أيضًا أن يشتري علو بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا، أو ليضع عليه خشبًا موصوفًا، لأنه ملك البائع، فجاز بيعه كالأرض، معنى " موصوفًا " أي معلومًا
…
وكذا لو كان البيت الذي اشترى علوه غير مبني إذا وصف العلو والسفل ليكون معلومًا، وإنما صح لأنه ملك للبائع، فكان له الاعتياض عنه ويصح فعل ذلك أي ما ذكر من اتخاذ ممر في ملك غيره، أو موضوع في حائطه يفتحه بابًا، أو بقعة في أرضه يحفرها بئرًا، أو علو بيت يبني عليه بنيانًا، أو يضع عليه خشبًا معلومين صلحًا أبدًا أي مؤبدًا، وهو في معنى البيع
…
ومتى زال البنيان أو الخشب (فله إعادته) لأنه استحق إبقاءه بعوض (سواء زال لسقوطه) أي سقوط البنيان أو الخشب (أو) زال (لسقوط الحائط) الذي استأجره لذلك أو زال لغير ذلك كهدمه إياه
…
وله أي لرب البيت الصلح على زواله أي إزالة العلو عن بيته أو الصلح بعد انهدامه على عدم عوده سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر، لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له، فيصح بما اتفقا عليه) (3) .
(1) شرح منتهى الإرادات: 2/140، ومثله في كشاف القناع: 3/135.
(2)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/260.
(3)
كشاف القناع للبهوتي: 3/391، و 392، طبع مكة المكرمة 1394هـ.
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" ولا يجوز أن يبني دكانًا، ولا يخرج روشنًا ولا ساباطًا على درب غير نافذ إلا بإذن أهله
…
وإن صالح أهل الدرب من ذلك على عوض معلوم جاز. وقال القاضي وأصحاب الشافعي: لايجوز، لأنه بيع للهواء دون القرار، ولنا أنه يبني فيه بإذنهم، فجاز، كما لو أذنوا له بغير عوض، ولأنه ملك لهم، فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار.
إذا ثبت هذا، فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو. وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه، ويجوز بإذنه بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار " (1) .
وقال أيضًا:
" ولا يجوز أن يفتح في حائط المشترك طاقًا ولا بابًا إلا بإذن شريكه، لأن ذلك انتفاع بملك غيره، وتصرف فيه بما يضر به، ولا يجوز أن يغرز فيه وتدًا، ولا يحدث عليه حائطًا، ولا يستره، ولا يتصرف فيه نوع تصرف، لأنه تصرف في الحائط بما يضر به، فلم يجز كنقضه، ولا يجوز له فعل شيء من ذلك في حائط جاره بطريق الأولى، لأنه إذا لم يجز فيما فيه حق، ففيما لا حق له فيه أولى، وإن صالحه عن ذلك بعوض جاز"(2) .
وقال أيضًا:
" ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرًا لنفسه، سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها ما ينتفع به ولا غير ذلك
…
ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز. (3) .
(1) المغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة: 5/35.
(2)
المغني، لابن قدامة: 5/36.
(3)
المغنى، لابن قدامة: 5/35.
وأما المالكية، فالتعريف المشهور للبيع عندهم، ماينسب إلى ابن عرفة، وهو مايلي:" عقد معاوضة على غير منافع، ولا متعة لذة "(1) .
فتخرج الإجارة والكراء لكونهما عقدًا على منافع، ويخرج النكاح لأنه عقد على متعة لذة، وظاهر هذا التعريف أن البيع يقتصر عندهم على الأعيان المادية، ولا يقع على المنافع والحقوق.
ولكن يوجد عندهم – على الرغم من ذلك – جواز بعض البيوع التي ترجع إلى بيع الحقوق والمنافع، فيجوز عندهم بيع حق التعلي، وحق غرز الخشب على الجدار. يقول الدردير رحمه الله في شرحه الكبير.
" (وجاز) بيع (هواء) بالمد، أي فضاء، (فوق هواء) بأن يقول شخص لصاحب أرض: بعني عشرة أذرع مثلًا ما تبينه بأرضك (إن وصف البناء) الأسفل والأعلى لفظًا أو عادة، لخروج من الجهالة والغرر، ويملك الأعلى جميع الهواء الذي فوق بناء الأسفل، ولكن ليس له أن يبني ما دخل عليه إلا برضا الأسفل
…
(و) جاز عقد على (غرز جذع) أي جنسيه فيشمل المتعدد (في حائط) لآخر بيعًا أو إجارة. وخرق موضوع الجذع على المشتري أو المكتري " (2) .
وقال الحطاب بعد ذكر هذه المسألة:
" ولا يجوز لمبتاع الهواء بيع ما على سقفه إلا بإذن البائع لأن الثقل على حائطه
…
ويفهم منه أنه ملك ما فوق بنائه من الهواء، إلا أنه لا يتصرف فيه لحق البائع في الثقل " (3) .
وزاد المواق رحمه الله:
" يجوز في قول مالك شراء طريق في دار رجل، وموضع جذوع من حائط يحملها عليه إذا وصفها "(4) .
(1) الدسوقى على الشرح الكبير، للدردير: 3/2؛ والزرقاني على مختصر خليل: 3/12؛ والخرشي على مختصر خليل: 5/14؛ ومواهب الجليل، للحطاب: 4/225؛ ومنح الجليل، للشيخ محمد عليش: 2/465.
(2)
الدسوقي على الشرح الكبير: 3/14؛ والمسألة في شروح خليل وحواشيه وفي المدونة: 10/51.
(3)
مواهب الجليل: 4/276.
(4)
التاج والإكليل للمواق، بهامش الحطاب: 4/275، وراجع المدونة: 10/50.
ويظهر من مدونة الإمام مالك أنه يجوز عندهم بيع الشرب أيضًا، وجاء في المدونة الكبرى:" قلت: فإن بعت حظي. بعت شرب يوم، أيجوز هذا أم لا؟ قال: مالك: هو جائز. قلت: فإن بعت حظي بعت أصله من الشرب، وإنما لي فيه يوم من اثني عشر يومًا، أيجوز في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فإن لم أبع أصله، ولكن جعلت أبيع منه السقي، إذا جاء يومي بعت ما صار لي من الماء ممن يسقى به، أيجوز هذا في قول مالك، قال: نعم "(1) .
فالظاهر من هذه النصوص أن المالكية يجوز عندهم بيع هذه الحقوق، ولا يمكن أن تحمل هذه النصوص على بيع الأعيان التي تتعلق بها هذه الحقوق، لأن بيع الحظ من الشرب قد أفرد في هذه المسألة عن بيع الماء، وحكم بجواز كل منهما على حدة، وبيع الحظ من الشرب ليس إلا حقًا مجردًا. ولأن بيع الهواء بمجرده لا يجوز عندهم، إلا إذا كان لغرض البناء، لما جاء في المدونة الكبرى:
" قلت: أرأيت إن باع عشرة أذرع من فوق عشرة أذرع من هواء هو له، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا عندي، ولم أسمع من مالك فيه شيئًا، إلا أن يشترط له بناء يبنيه؛ لأن يبني هذا فوقه، فلا بأس بذلك "(2) .
ثم إن الزرقاني رحمه الله ذكر بيع المنفعة من جملة أقسام البيوع، حيث قال:
" البيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، كبيع العين، وبيع الدين، وبيع المنفعة "(3) .
فالذي يظهر من مجموع هذه النصوص أن المنافع التي أخرجها ابن عرفة من تعريف البيع، هي المنافع المؤقتة التي يقع عليها عقد الإجارة أو الكراء. أما المنافع المؤبدة فيجوز بيعها عند المالكية أيضًا، والله سبحانه أعلم.
(1) المدونة الكبرى: 10/121.
(2)
المدونة الكبرى: 5/1.
(3)
شرح الزرقاني على الموطأ: 3/250.
مذهب الحنفية:
وأما الحنفية، فتعريف البيع المشهور عندهم:" مبادلة المال بالمال "(1) . وعرفه بعض العلماء بقولهم: " مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب "(2) ، ولكن المراد من الشيء المرغوب عندهم هو المال، فإن الكاساني الذي عرف البيع بهذا، ذكر في موضع آخر أن البيع مبادلة المال بالمال (3) . وكذلك صاحب الدر المختار قد صرح في شرح ملتقى الأبحر أن المراد من الشيء المرغوب هو المال.
وأما تعريف المال، فقد اضطربت فيه عبارات القوم، فقال ابن عابدين:
" المراد بالمال ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم، والتقوم يثبت بها، وبإباحة الانتفاع به شرعًا "(4) .
وحكى بعد ذلك عن الحاوي القدسي:
" المال اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار "(5) .
وليس في أحد من هذين التعريفيين ما يقصر المال على الأعيان، ويخرج الحقوق أو المنافع المؤبدة من تعريفه صراحة ولكن عرفه علاء الدين الحصكفي رحمه الله، صاحب الدر المختار، في شرحه على ملتقى الأبحر بما يقصره على الأعيان، فقال:
" والمراد بالمال عين يجري فيه التنافس والابتذال "(6) .
وإن هذا التصريح في تعريف المال بكونه من الأعيان، وإن كان لا يوجد عند غيره بهذا الوضوح، ولكن الذي يستنبط من كلام الفقهاء المتأخرين من الحنفية وتعريفاتهم أنه ملحوظ عندهم في تعريف المال. ولذا فإن الأستاذ مصطفى الزرقاء انتقد هذه التعريفات، واستبدل بها تعريفًا آخر، وهو:
" المال: هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس "(7) .
ومقتضى هذين التعريفين أن المال مقصور على الأعيان المادية، فلا يشمل المنافع والحقوق المجردة، ولذلك صرح الفقهاء الحنفية بعدم جواز بيع المنافع والحقوق المجردة، وقد صرحوا بأن بيع حق التعلي لا يجوز. قال الكاساني:
" سفل وعلو بين رجلين انهدما، فباع صاحب العلو علوه لم يجز، لأن الهواء ليس بمال "(8) .
وقال صاحب الهداية:
"لأن حق التعلي ليس بمال، لأن المال ما يمكن إحرازه"(9) .
وكذلك حق التسييل، قد صرح فقهاء الحنفية بعدم جوازه، ولم أر أحدًا منهم حكم بجواز حق التعلي، وحق التسييل (10) .
ولكن أجاز بعضهم بيع حق المرور وحق الشرب، ولنبين ما ذكره الحنفية في هذا الصدد.
(1) البحر الرائق: 5/256؛ وفتح القدير: 5/73؛ ومجمع الأنهر: 2/3؛ وشرح المجلة، لخالد الأتاسي: 1/5، رقم المادة:105.
(2)
بدائع الصنائع: 5/133؛ والدر المختار: 4/4.
(3)
بدائع الصنائع: 5/140، شرائط صحة البيع.
(4)
رد المختار: 4/3.
(5)
المرجع السابق؛ والبحر الرائق: 5/257.
(6)
الدر المنتقى، بهامش مجمع الأنهر: 2/3.
(7)
حكاه عنه أخونا الدكتور وهبه الزحيلي في " الفقه الإسلامي وأدلته ": 4/345.
(8)
بدائع الصنائع: 5/145.
(9)
فتح القدير:5/204
(10)
راجع رد المحتار: 4/132؛ وشرح المجلة للأتاسي: 1/117.
بيع حق المرور عند الحنفية:
للحنفية في بيع حق المرور روايتان: إحداهما رواية الزيادات، وهي عدم جواز، والأخرى رواية كتاب القسمة، وهي الجواز. قال صاحب الهداية:
" (وبيع الطريق وهبته جائز، وبيع مسيل الماء وهبته باطل) والمسألة تحتمل وجهتين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسييل، فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم، لأن له طولًا وعرضًا معلومًا وأما المسيل فمجهول، لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء. وإن كان الثاني، ففي بيع حق المرور روايتان، ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق المسيل أن حق المرور معلوم، لتعلقه بمحل معلوم، وهو الطريق. أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي، وعلى الأرض مجهولة لجهالة محله، ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي على إحدى الروايتين أن حق التعلي يتعلق بعين، وهو البناء، فأشبه المنافع. أما حق المرور يتعلق بعين تبقى، وهو الأرض، فأشبه الأعيان "(1) .
واعترض ابن همام على هذا الفرق بأن البيع كما يرد على عين تبقى، ربما يرد على عين لا تبقى، فلا يظهر الفرق بين الأعيان الباقية وغير الباقية. وبيَّن وجهًا آخر للفرق، وهو:
" أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به يكون له حكم العين. أما حق التعلي فحق يتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال "(2) .
ثم ذكر أن الفقيه أبا الليث صحح رواية الزيادات، وهي عدم الجواز لأن بيع الحقوق المجردة لا يجوز. لكن ذكر في الدر المختار أن رواية الجواز أخذ بها عامة المشايخ. وقال ابن عابدين تحته:
" قوله: وبه أخذ عامة المشايخ "، قال السائحاني:" وهو الصحيح وعليه الفتوى، (مضمرات) . والفرق بينه وبين حق التعلي حيث لا يجوز، هو أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به له حكم العين، أما حق التعلي فمتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال "(3) .
وبه يظهر أن المختار عند المتأخرين من الحنفية جواز بيع حق المرور، لكونه حقًّا يتعلق بالعين فأخذ حكم العين في جواز البيع. وكان ينبغي على هذا الأصل أن يجوز بيع حق التسييل على الأرض أيضًا، لكونه حقًا يتعلق بعين، وهي الأرض، غير أنهم منعوه لجهالة محل التسييل، لا لكونه حقًا مجردًا، كما يظهر من تعليل صاحب الهداية، ومقتضى هذا التعليل أن يجوز هذا البيع أيضًا إذا ارتفعت الجهالة بتعيين محل التسييل بأن لا يتجاوز الماء ذلك المحل.
(1) فتح القدير: 5/205، و206.
(2)
المرجع السابق: 5/206.
(3)
رد المحتار: 4/132.
بيع حق الشرب:
واختلفت أقوال الفقهاء في بيع حق الشرب أيضًا، فظاهر الرواية في مذهب الأحناف أنه لا يجوز بيع الشرب، ثم جوزه كثير من المشايخ بناء على العرف والمذكور في رد المحتار وغيره أن الفتوى على عدم الجواز، ولكن الذي يظهر بالنظر الدقيق أن الذين منعوا من جواز هذا البيع، مع جريان العرف بذلك، إنما منعوه للغرر والجهالة، لا لكونه ليس مالًا يقول الإمام السرخسي رحمه الله تعالى:
" بيع الشرب فاسد، فإنه من حقوق المبيع بمنزلة الأوصاف، فلا يفرد بالبيع ثم هو مجهول في نفسه غير مقدور التسليم، لأن البائع لا يدري أيجري الماء أم لا؟ وليس في وسعه إجراؤه. قال " وكان شيخنا الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يفتي بجواز بيع الشرب بدون الأرض، ويقول: فيه عرف ظاهر في ديارنا بنَسَف، فإنهم يبيعون الماء " فللعرف الظاهر كان يفتي بجوازه، ولكن العرف إنما يعتبر فيما لا نص بخلافه، والنهي عن بيع الغرر نص بخلاف هذا العرف، فلا يعتبر "(1) .
فعلل السرخسي رحمه الله عدم الجواز بأمرين: أنه من حقوق المبيع، فلا يفرد بالبيع، والثاني: أن فيه غررًا وجهالة. ولما استدل المجوزون بالعرف الظاهر عارضه بالأمر الثاني فحسب، وذكر أن العرف لا يصلح أن يجوز به الغرر المنهي عنه بالنص، ولم يقل إن العرف لا يصلح أن يجوز به بيع الحقوق. وقد صرح بذلك ابن همام رحمه الله حيث قال:
" ثم بتقدير أنه حظ من الماء فهو مجهول المقدار، فلا يجوز بيعه، وهذا وجه منع مشايخ بخارى بيعه مفردًا "(2) .
وعبارة البابرتي أصرح، حيث يقول:
" وإنما لم يجز بيع الشرب وحده في ظاهر الرواية للجهالة، لا باعتبار أنه ليس بمال "(3) .
ثم إن السرخسي رحمه الله ذكر هذه المسألة مرة أخرى في كتاب المزارعة بأبسط مما ههنا، وذكر في الأخير قول المشايخ المتأخرين الذين أجازوا بيع الشرب للعرف، ولم ينتقد قولهم بشيء، فقال:
" وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أفتى أن يبيع الشرب وإن لم يكن معه أرض للعادة الظاهرة فيه في بعض البلدان، وهذه عادة معروفة بنسف، قالوا: المأجور الاستصناع للتعامل وإن كان القياس يأباه، فكذلك بيع الشرب بدون الأرض "(4) .
(1) مبسوط السرخسي:14/135، و136.
(2)
فتح القدير: 5/205.
(3)
العناية بهامش الفتح: 5/204.
(4)
مبسوط السرخسي: 23/171.
وما قاله الحنفية في بيع الشرب يتحصل منه في مسألة بيع الحقوق عين ما تحصل من مسألة بيع حق المرور وحق التسييل، وذلك أن الحق إن كان متعلقًا بعين من الأعيان يجوز بيعه إذا لم يكن هناك مانع آخر كالجهالة والغرر وغيرهما.
ثم ذكر بعض المتأخرين من الحنفية أن الحقوق التي لا يجوز بيعها، مثل حق التعلي وحق التسييل، وحق الشرب، إنما لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح، يقول العلامة خالد الأتاسي رحمه الله بعد ذكر مسألة النزول عن الوظائف بمال:
" أقول: وعلى ما ذكروه من جواز الاعتياض عن الحقوق المجردة بمال ينبغي أن يجوز الاعتياض عن حق التعلي، وعن حق الشرب، وعن حق المسيل بمال، لأن هذه الحقوق لم تثبت لأصحابها لأجل دفع الضرر عنهم، بل ثبتت لهم ابتداء بحق شرعي. فصاحب حق العلو إذا انهدم علوه، قالوا: إن له حق إعادته كما كان جبرًا عن صاحب السفل. فإذا نزل عنه لغيره بمال معلوم ينبغي أن يجوز ذلك على وجه الفراغ والصلح، لا على وجه البيع، كما جاز النزول عن الوظائف ونحوها، لا سيما إذا كان صاحب حق العلو فقيرًا قد عجز عن إعادة علوه، فلو لم يجز ذلك له على الوجه الذي ذكرناه، يتضرر. فليتأمل وليحمد، والله سبحانه أعلم "(1) .
فهذا محصل ما وجدته من كلام الحنفية في مسألة بيع المنافع والحقوق المتعلقة بالأعيان.
(1) شرح المجلة للأتاسي: 2/121، قبيل المادة 217.
خلاصة حكم هذا النوع من الحقوق:
ومن المناسب قبل أن نتقدم أن نحرر ما تحصل مما سبق من النصوص الفقهية، وهي أمور:
1-
إن تعريف البيع أمر اختلف فه الفقهاء، فالشافعية والحنابلة لا يشترطون في المبيع أن يكون عينًا، بل يجوزون بيع المنافع المؤبدة. وكذلك يظهر من بعض فروع المالكية.
2-
إن الحنفية وإن اشترطوا في البيع أن يكون المبيع عينًا، ولكنهم أجازوا بيع حق المرور، وعللوا ذلك بأنه حق يتعلق بعين، فأخذ حكمه في جواز البيع.
3-
ويظهر من ذلك أن الحقوق المتعلقة بالأعيان حكمها عند الحنفية حكم الأعيان، فيجوز بيعها ما لم يكن هناك مانع آخر من البيع، مثل الغرر أو الجهالة.
4-
إن الحقوق التي لا تتعلق بالأعيان، مثل حق التعلي، لا يجوز بيعها عند الحنفية، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح على ما ذكره بعضهم.
وفي ضوء هذه النقاط الأربعة نستطيع أن نقول: إن بيع هذا النوع من الحقوق العرفية، وهو حق الانتفاع بالأعيان جائز عند الأئمة الثلاثة الحجازيين، وإنما منه الحنفية، فقالوا: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن هذا الحكم عندهم ليس بهذا العموم الذي يتوهم من لفظه، بل استثنى منه الفقهاء بعض الحقوق التي تتعلق بالأعيان. وإن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في الأموال، فإن المالية كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. فلو كانت بعض الحقوق تعتبر في العرف أموالًا متقومة، وتعامل بها الناس تعامل الأموال، ينبغي أن يجوز بيعها عندهم أيضًا بشروط آتية:
1-
أن يكون الحق ثابتًا في الحال، لا متوقعًا في المستقبل.
2-
أن يكون الحق ثابتًا لصاحبه أصالة، لا لدفع الضرر عنه فقط.
3-
أن يكون الحق قابلا للانتقال من واحد إلى آخر.
4-
أن يكون الحق منضبطًا بالضبط، ولا يستلزم غررًا أو جهالة.
5-
أن يكون في عرف التجار يسلك به مسلك الأعيان والأموال في تداولها.
حق الأسبقية:
والنوع الثاني من الحقوق العرفية نستطيع أن نلقبه بحق الأسبقية، وهو عبارة عن حق التملك أو الاختصاص الذي يحصل للإنسان بسبب سبق يده إلى شيء مباح، مثل حق التملك بإحياء الأرض.
وقد ذكر بعض الفقهاء الشافعية والحنابلة مسألة بيع هذا الحق. وقد أجمع الفقهاء على أن الأرض الموات لا يملكها الإنسان إلا بإحيائها. وأما التحجير، فلا يثبت به حق التملك بالإحياء، فمن حجر أرضًا فإنه أحق بإحيائها، وقد اختلف الفقهاء الشافعية في أنه يجوز له بيع هذا الحق، أو لا يجوز. وجاء في نهاية المحتاج للرملي:
" ومن شرع في عمل إحياء ولم يتمه، كحفر الأساس أو علم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشبًا، أو جمع ترابًا، أو خط خطوطًا، فمتحجر عليه، أي مانع لغيره منه بما فعله، بشرط كونه بقدر كفايته وقادرًا على عمارته حالًا، وحينئذ هو أحق به من غيره اختصاصًا لا ملكًا
…
لكن الأصح أنه لا يصح بيعه ولا هبته، كما قاله الماوردي، خلافًا للدارمي، لما مر من أنه غير مالك، وحق التملك لا يباع كحق الشفعة. والثاني: يصح بيعه، وكأنه باع حق الاختصاص " (1) .
وجاء في المجموع شرح المهذب:
" وإن تحجر رجل مواتًا، وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم، صار أحق به من غيره
…
وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به
…
وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه، لأنه حق تملك ثبت له، فانتقل إلى وارثه كالشفعة. وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أنه يصح، لأنه صار أحق به فملك بيعه، والثاني: أنه لايصح، وهو المذهب، لأنه لم يملك بعد، فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ " (2) .
وقد ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله أن أبا إسحاق حينما أجاز بيع هذا الحق علله بكونه بيع حق الاختصاص، كبيع علو البيت للبناء والسكنى دون أسفله (3) .
وكذلك ذكر الفقهاء الحنابلة في هذه المسألة قولين: أحدهما الجواز، والثاني عدمه. يقول الموفق ابن قدامة رحمه الله:
ومن تحجر مواتًا وشرع في إحيائه ولم يتم، فهو أحق به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به)) ، رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لأن صاحب الحق آثره به، فإن مات انتقل إلى وارثه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من ترك حقًا أو مالًا فهو لورثته)) ، وإن باعه لم يصح، لأنه لم يملكه، فلم يصح بيعه كحق الشفعة، ويحتمل جواز بيعه، لأنه صار أحق به " (4) .
وقال المرداوي:
" ومن تحجر مواتًا لم يملكه
…
وهو أحق به، ووارثه بعده ومن ينقله إليه بلا نزاع، وليس له بيعه. هو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في المغني، والشرح، وشرح الحاثي، وابن منجا، والفروع، والفائق وغيرهم ".
وقيل يجوز له بيعه، وهو احتمال لأبي الخطاب، وأطلقهما في المحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير " (5) .
والراجح في كلا المذهبين أنه لا يجوز بيع هذا الحق، ولكن ذكر البهوتي رحمه الله من الحنابلة أن عدم الجواز إنما هو في البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح.
يقول البهوتي رحمه الله:
" وليس له أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح. لكن النزول عنه بعوض لا على وجه البيع جائز، كما ذكره ابن نصر الله قياسًا على الخلع "(6) .
ومن حق الأسبقية ما ذكره الفقهاء من أن من سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق بذلك المكان، وله أن يؤثر به غيره، ولكن لايجوز أن يبيع هذا الحق، نعم: ذكر البهوتي أنه يجوز له التنازل عنه بعوض (7) .
ولم أر في كتب الحنفية والمالكية من تعرض لمسألة بيع حق الأسبقية، وقد ذكروا أن التحجير يثبت به الأحقية في إحياء الأرض وتملكها، ولكن لم أجد بيع هذا الحق عندهم، وقياس قولهم إنه لا يجوز عندهم أيضًا إلا أن يكون بطريق التنازل.
فخلاصة الحكم في بيع حق الأسبقية أنه وإن كان بعض الفقهاء يجوزون هذا البيع، ولكن معظمهم على عدم جوازه، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال على وجه الصلح والله سبحانه أعلم.
(1) نهاية المحتاج، للرملي: 5/336؛ ومثله في زاد المحتاج، للكوهجي: 2/404؛ وتحفة المحتاج مع الشرواني: 6/213.
(2)
تكملة المجموع شرح المهذب، للمطيعي: 14/471.
(3)
راجع مغني المحتاج: 2/367.
(4)
الكافي، لابن قدامة: 2/439.
(5)
الإنصاف، للمرداوي: 6/373، و374.
(6)
شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464.
(7)
شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464.
حق العقد:
والنوع الثالث من هذه الحقوق ما نستطيع أن نسميه " بحق العقد " ونقصد بذلك حق إنشاء عقد مع آخر أو إبقائه، مثل خلو الدور والحوانيت، فإنه حق لإنشاء عقد الإجارة مع صاحب الدار أو الحانوت أو إبقائه، ومثل حق الوظائف السلطانية أو الوقفية، فإنه حق لإبقاء عقد الإجارة مع الحكومة أو ناظر الوقف. وقد تحدث الفقهاء عن مسألة الاعتياض عن هذين الحقين، ونذكر فيما يلي خلاصة ما قاله الفقهاء في هذا الباب، والله سبحانه هو الموفق.
مسألة النزول عن الوظائف بمال:
إذا كانت لرجل وظيفة قائمة في الوقف يحصل منها على راتب، كإمام المسجد أو المؤذن أو موظف آخر، وكانت هذه الوظيفة دائمة بحكم شرائط الوقف مثلًا، فإن الموظف يملك حق البقاء على هذه والوظيفة وإبقاء عقد إجارته طول حياته، وقد تحدث الفقهاء عن الاعتياض عن هذا الحق. فأما الاعتياض عنه بطريق البيع فلم يجوزه أحد.
وأما الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح، فقد اختلفت فيه أقوال الفقهاء. فمنهم من منعه بحجة أنه حق مجرد لا يجوز الاعتياض عنه، ومنهم من أجازه.
أما الحنفية، فقد صرحت جماعة من متأخريهم بجواز النزول عن الوظائف بمال. جاء في الدر المحتار:
وفي الأشباه: " لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، على هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف بالأوقاف ". وفيها في آخر بحث تعارض العرف مع اللغة: " المذهب عدم اعتبار العرف الخاص. لكن أفتى كثير باعتباره، وعليه فيفتي بجواز النزول عن الوظائف بمال ".
وأطال ابن عابدين تحته في تحقيق المسألة، وحقق أن جوازه ليس مبنيًا على العرف الخاص، وإنما هو مبني على نظائر فقهية. أما قياسه على حق الشفعة فقياس مع الفارق، وهو ما قدمنا في أوائل البحث عن البيري وغيره من أن حق الشفعة إنما شرع لدفع الضرر، والحقوق المشروعة لدفع الضرر لا يجوز الاعتياض عنها. أما حق الوظيفة فحق ثبت لصاحبه أصالة، فلا يحرم الاعتياض عنه، كما في حق القصاص وغيره. وعلى هذا الأساس ذكر ابن عابدين رحمه الله أن عدم جواز الاعتياض عن الحق ليس على إطلاقه، ثم ختم كلامه بقوله:
" ورأيت بخط بعض العلماء عن المفتي أبي السعود أنه أفتى بجواز أخذ العوض في حق القرار والتصرف وعدم الرجوع. وبالجملة فالمسألة ظنية، والنظائر المتشابهة للبحث فيها مجال، وإن كان الأظهر فيه ما قلنا، فالأولى ما قاله في البحر من أنه ينبغي الإبراء العام بعده "(1) .
(1) رد المحتار: 4/520.
وكذلك الشافعية، أفتى المتأخرون منهم بجواز النزول عن الوظائف بمال، يقول العلامة الرملي رحمه الله تعالى:
" وأفتى الوالد رحمه الله تعالى بحل النزول عن الوظائف بالمال، أي لأنه من أقسام الجعالة فيستحقه النازل ويسقط حقه "(1) .
وأقره الشبراملسي في حاشيته، بل فرَّع عليه جواز النزول عن الجوامك بمال أيضًا (2) ، ولكنه ذكر أن هذا الحكم إنما يجري في وظائف الأوقاف الدائمة. وأما الوظائف الحكومية التي لا دوام فيها، فلا يجوز الاعتياض عنها، يقول الشبراملسي:
" وأما المناصب الديوانية، كالكتبة الذين يقررون من جهة الباشا فيها، فالظاهر أنهم إنما يتصرفون فيها بالنيابة عن صاحب الدولة، في ضبط ما يتعلق به من المصالح فهو مخير بين إبقائهم وعزلهم ولو بلا حجة فليس لهم يد حقيقة على شيء ينزلون عنه، بل متى عزلوا أنفسهم انعزلوا، وإذا أسقطوا حقهم عن شيء لغيرهم، فليس لهم العود إلا بتولية جديدة ممن له الولاية، ولا يجوز لهم أخذ عوض على نزولهم "(3) .
وكذلك يبدو الحكم في مذهب الحنابلة، فإنهم ذكروا أن من حاز وظيفة في الوقف صار أحق بها، ويجوز له أن ينزل عنها لغيره، ولا يجوز له بيع هذا الحق (4) ولكن ذكر البهوتي أنه يجوز النزول عنها بعوض لا على وجه البيع، يقول البهوتي بعد ذكر عدة مسائل من هذا القبيل.
" (وليس له) ، أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) ، لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح، لكن النزول عنه بعوض على وجه البيع جائزة، كما ذكره ابن نصر الله قياسًا على الخلع "(5)
أما المالكية، فلم أجد عندهم في تتبعى القاصر شيئًا صريحًا في باب النزول عن الوظائف، ولكنهم يجيزون بيع الجامكية " (6) ، فربما يقاس عليه النزول عن الوظائف، والله سبحانه أعلم.
وربما يستدل على جواز النزول عن الوظائف بمال بنزول سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، فإنه صالحه على مال. ويقول العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تحت هذا الحديث:
" وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين، جواز أخذ المال على ذلك وإعطائه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل، وأن يكون المبذول من مال الباذل "(7) .
والذى يتلخص من كلام الفقهاء في هذا الباب أن بيع حق الوظيفة لا يجوز عندهم، ولكنه يجوز عند جمهور الفقهاء المتأخرين أن يتنازل صاحب الوظيفة عن حقه، ويأخذ على ذلك مالًا من الذي تنازل في حقه.
(1) نهاية المحتاج: 5/478.
(2)
جمع الجامكية، وهي مبلغ معلوم يقرر لرجل كعطاء من بيت المال، ولا يجوز بيعه عند الحنفية لكونه بيع الدَّين من غير من عليه الدَّين، وراجع له رد المحتار.
(3)
حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 6/478.
(4)
الإنصاف للمرداوي: 6/376؛ وكشاف القناع: 4/216،
(5)
شرح منتهى الإرادات: 2/464.
(6)
مواهب الجليل للحطاب: 4/224
(7)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبواب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا السيد: 24/208، من طبع المنيرية.
ثم اختلف الفقهاء: هل يتعين المنزول له للوظيفة بعد ما تنازل عنه الأول، فقالت جماعة: لا يتعين المنزول له، بل للناظر الخيار في تعيينه أو تعيين غيره، ولو لم يعينه الناظر، فإن المنزول له لا يسترد من النازل ما أعطاه، لأن النازل فعل ما في استطاعته، وهو النزول، فاستحق المال. وهذا ما صرح به الرملي والشبراملسي من الشافعية (1) ، والحموي وأبو السعود من الحنفية (2) .
ولكن قال ابن عابدين رحمه الله:
" ثم إذا فرغ عنه لغيره، ولم يوجهه السلطان للمفروغ له، بل أبقاه على الفارغ أو وجهه لغيرهما، فينبغي أن يثبت الرجوع للمفروغ له على الفارغ ببذل الفراغ، لأنه لم يرض بدفعه إلا بمقابلة ثبوت ذلك الحق له، لا بمجرد الفراغ وإن حصل لغيره. وبهذا أفتى في الإسماعيلية والحامدية وغيرهما، خلافًا لما أفتى به بعضهم من عدم الرجوع، لأن الفارغ فعل ما في وسعة وقدرته، إذا لا يخفى أنه غير مقصود من الطرفين، ولا سيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، فإنه يلزم اجتماع العوضين في تصرفه، وهو خلاف قواعد الشرع فافهم "(3) .
والذي يظهر لهذا العبد الضعيف – عفا الله عنه – أن جواز الرجوع ظاهر فيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، لما ذكر ابن عابدين رحمه الله من أن ذلك يستلزم اجتماع العوضين في تصرفه، لأنه إنما استحق المال عوضًا عن النزول والفراغ، ولا يتأتى ذلك إلا بأن يحصل الفراغ فعلًا، ولم يحصل، فلم يستحق المال، ووجب عليه أن يرد ما أخذ.
أما إذا أمضى القاضي أو الناظر نزوله، وفرغ عن وظيفته فعلًا، ولكن القاضي أو الناظر لم يقرر المنزول في مكانه، بل قرر رجلًا ثالثًا، فالقواعد تقتضي أن لا يستحق المنزول له الرجوع على النازل. وذلك لأن الفقهاء لم يجوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة عن طريق البيع، وإنما جوزوه عن طريق الصلح والتنازل. ولا فرق بين بيع الحق والتنازل عنه بمال، إلا أن البيع ينقل إلى المشتري ما كان يملكه البائع، والتنازل لا ينقل الملك إلى المنزول له، وإنما يسقط النازل حقه، وليست فائدته في حق المنزول له إلا لزوال المزاحمة من قبل النازل.
(1) راجع نهاية المحتاج وحاشيته: 6/478.
(2)
شرح الأشباه والنظائر، للحموي: 1/139.
(3)
رد المحتار، لابن عابدين: 2/1110.
وقد تحدث الإمام القرافي عن الفرق بين قاعدة النقل وقاعدة الإسقاط بوضوح، قال رحمه الله تعالى:
" اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض؛ وإلى ما هو المنافع، كالإجارة والمساقاة والمزارعة والقراض والجعالة؛ وإلى ما هو بغير عوض، كالهدايا والوصايا والعمرى والوقف والهبات والصدقات والكفارات والزكاة والمسروق من أموال الكفار والغنيمة في الجهاد، فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض.
وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على مال والكتابة وبيع العبد من نفسه والصلح على الدَّين والتعزيز، فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما " (1) .
ولما ثبت عن الفقهاء أنهم إنما جوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة على وجه النزول والإسقاط، لا على وجه البيع والنقل، وكما تقدم عن شرح منتهى الإرادات للبهوتي، فلابد أن يلاحظ الفرق بين البيع والإسقاط، وذلك بما قلنا من أن النازل يستحق العوض بمجرد نزوله، ولا ينتقل به الحق إلى المنزول له. والله سبحانه أعلم بالصواب.
(1) الفروق للقرافي: 2/110، الفرق التاسع والسبعون.
خلو الدور والحوانيت:
ومن هذا النوع ما راج في كثير من البلدان من بيع خلو الدور والحوانيت. والخلو (1) عبارة عن حق القرار في دار أو حانوت، فربما يؤجر صاحب البناء بناءه لمدة طويلة، فيأخذ من المستأجر مبلغًا مقطوعًا عند عقد الإجارة زيادة على أجرته الشهرية أو السنوية، وبدفع هذا المبلغ يستحق المستأجر أن يبقى على إجارته مدة طويلة. ثم ربما ينقل المستأجر حقه هذا إلى غيره، فيأخذ منه مبلغًا يستحق به عقد الإجارة مع صاحب البناء، وإذا أراد المالك استرداد بنائه من المستأجر لزمه أن يؤدي إليه مبلغًا يتراضى عليه الطرفان. وإن هذه المبالغ كلها تسمى "خلو" أو "جلسة" في شتى البلاد العربية، و"بكرى" و"سلامي" في ديارنا.
وأصل الحكم في هذا الخلو عدم الجواز، لكونه رشوة أو عوضًا عن حق مجرد. ولكن أفتى بعض الفقهاء بجوازه. وأول من عرف بتجويز الخلو العلامة ناصر الدين اللقاني رحمه الله تعالى، من علماء المالكية في القرن العاشر، ثم تبعه جماعة. قال ابن عابدين رحمه الله:
" وقد اشتهر نسبه مسألة الخلو إلى مذهب الإمام مالك، والحال أنه ليس فيه نص عنه، ولا عن أحد من أصحابه، حتى قال البدر القرافي من المالكية: إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لهذه المسألة، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي، بناها على العرف وخرجها عليه، وهو من أهل الترجيح، فيعتبر تخريجه وإن نُوزع فيه، وقد انتشر فتياه في المشارق والمغارب وتلقاها علماء عصره بالقبول "(2) .
وأما الحنفية، فقد استدل بعضهم على جواز الخلو بمسألة في الفتاوى الخانية، وهي:
" رجل باع سكنى له في حانوت لغيره، فأخبر المشتري أن أجرة الحانوت كذا، فظهر أنها أكثر من ذلك، قالوا: ليس له أن يرد السكنى بهذا العيب ".
فزعم المستدلون أن المراد بالسكنى في هذه المسألة هو عين الخلو، ولكن حقق الشرنبلالي أن المراد بالسكنى عين مركبة في الحانوت، وهى غير الخلو، فلا يصحح أن يستدل به على جواز الخلو عند الحنفية، فشراء السكنى شراء للعين لا للخلو. ثم ذكر ابن عابدين رحمه الله عن الفتاوى الخيرية أنه قضى مالكي بلزوم الخلو صح ولزم. وقال في نهاية البحث:
" وممن أفتى بلزوم الخلو الذي يكون بمقابلة دراهم يدفعها للمتولي أو المالك العلامة المحقق عبد الرحمن أفندي العمادي صاحب هدية ابن العماد، وقال: فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه وإجارتها لغيره، ما لم يدفع له المبلغ المرقوم، فيفتى بجواز ذلك للضرورة ".
(1) الخلو كلمة مولدة لم أجدها بهذا المعنى في المعاجم المعروفة، حتى في المعاجم الحديثة التي تعنى ببيان الاستعمالات الجديدة للكلمات القديمة، ولم أطلع على ضبطها الدقيق، ولكن المعروف " الخلو " بضم الخاء واللام وتشديد الواو، ويحتمل أن يكون "الخلو" بكسر الخاء وإسكان اللام وتخفيف الواو، بمعنى المكان الخالي، والله أعلم.
(2)
رد المحتار: 4/521، كتاب البيوع، مطلب في خلو الحوانيت.
وقد يفهم من كلام ابن عابدين رحمه الله أنه مائل إلى جواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، ولكن الذي ظهر لي بعد مراجعة كتب المالكية الذين ينسب إليهم جواز الخلو، أن ما أفتوا بجوازه ليس هو الخلو المتعارف في عصرنا، والذي هو عبارة عن حق الاستئجار المجرد، بدون أن يكون للمستأجر في الدار أو الحانوت عين قائمة. ولم أر عندهم جواز ذلك، بل وجدت خلافه. وإنما الخلو الذي أجاز المالكية أخذ العوض عنه له صور أخرى، للمستأجر في جميعها أعيان قائمة مستقلة في الدار أو الحانوت. وأنقل ههنا نصين من فقهاء المالكية، يتضح بهما الموضوع كل الوضوح. قال العدوي في شرحه على الخرشي:
" اعلم أن الخلو يصور بصور: منها أن يكون الوقف آيلًا للخراب، فيكريه ناظر الوقف لمن يعمره، بحيث يصير الحانوت مثلا يكرى بثلاثين نصف فضة، ويجعل عليه لجهة الوقف خمسة عشر، فصارت المنفعة مشتركة بينهما، فما قابل الدراهم المصروفة من المنفعة هو الخلو، فيتعلق به البيع والوقف والإرث والهبة وغير ذلك ويقضي منه الدين وغير ذلك، ولا يسوغ للناظر إخراجه من الحانوت ولو وقع عقد الإيجار على سنين معينة كتسعين سنة، ولكن شرط ذلك أن لا يكون ريع يعمر به.
الثانية: أن يكون لمسجد مثلًا حوانيت موقوفة عليه، واحتاج المسجد للتكميل أو العمارة، ويكون الدكان يكرى مثلًا الشهر بثلاثين صفًّا، ولا يكون هناك ريع يكمل به المسجد أو يعمره به، فيعمد الناظر إلى الساكن في الحوانيت فيأخذ منه قدرًا من المال يعمر به المسجد، ويجعل عليه خمسة عشر مثلًا في كل شهر. والحاصل أن منفعة الحانوت المذكورة شركة بين صاحب الخلو والوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو والناظر على وجه المصلحة، كما يؤخذ مما أفتى به الناصر كما أفاده (عج) .
الثالثة: أن تكون أرض مجلسة، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها دارًا مثلًا، على أن عليه في كل شهر لجهة الوقف ثلاثين نصف فضة، ولكن الدار تكرى بستين نصف فضة مثلًا، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى، يقال لها (خلو)(1) .
وكذلك الشيخ محمد أحمد عليش رحمه الله، نقل فتوى العلامة ناصر اللقانى، ثم ذكر صور الخلو المختلفة، وهى عين ما حكيناه عن العدوي، ثم ذكر فصلا في شروط صحة الخلو، وقال فيه:
فصل في شروط صحة الخلو. منها أن تكون الدراهم المرفوعة عائدة على جهة الوقف يصرفها في مصالحه، فما يفعل الآن من صرف الناظر الدراهم في مصالح نفسه بحيث لا يعود على الوقف منها شيء فهو غير صحيح، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر.
ومنها أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع يفي بعمارته مثل أوقاف الملوك، فلا يصح فيه خلو، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر. منها ثبوت الصرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي
…
وفائدة الخلو أنه يصير كالملك ويجري عليه البيع والإجارة والهبة والرهن ووفاء الدين والإرث كما يؤخذ من فتوى الناصر اللقاني " (2) .
(1) حاشية العدوي على الخرشي: 7/79.
(2)
فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 2/251.
فاتضح بهذه النصوص الفقهية أن الخلو الذي أفتى به العلامة اللقاني، وأقره كثير من علماء المالكية، بمعزل بعيد عن هذا الخلو المتعارف في عصرنا، فإن الخلو الذي أجازه يحدث بعمارة يحدثها المستأجر في الوقف، ويصير به شريكًا في منفعة الحانوت بقدر ما صرفه فيه، فينتقص له إكراء الحانوت بقدرها،ويصير له حق القرار فيه، فإذا باعه من آخر فإنه ليس بيعًا لحق مجرد، وإنما هو بيع لمنفعة متعلقة بأعيان في الحانوت، وهذه المنفعة مملوكة له، وإنما أجازه المالكية لضرورة عمارة الوقف،ولذلك اشترطوا أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع لم يجز هذا العقد.
ولا شك أن بعض المالكية حكموا بجواز مثل هذا الخلو في أراض مملوكة غير موقوفة أيضًا، ولكن بشرط أن يكون المستأجر بنى فيها بناء، أو أحدث أعيانًا مستقلة أخرى، وهي التي تسمى "الجدك". يقول الشيخ محمد عليش رحمه الله:
" ثم إن الخلو ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر، فإن قال قائل: الخلو إنما هو في الوقف لمصلحة، وهكذا يكون في الملك، قيل له: إذا صح في وقف فالملك أولى، لأن المالك يفعل في ملكه ما يشاء. نعم: بعض الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلًا بإذن، وهذا قياسه على الخلو ظاهر
…
وبعض الجدكات وضع أمور مستقلة في المكان غير مستمرة فيه، كما يقع في الحمامات وحوانيت القهوة بمصر، فهذه بعيدة عن الخلوات، فالظاهر أن للمالك إخراجها " (1) .
فتبين بهذا أن المالكية لا يقولون بجواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، الذي لا يكون معه شيء من البناء أو الأعيان الثابتة في الدار أو الحانوت، ويئول الأمر إلى ماحكيناه في أول البحث عن الشرنبلالي أن بيع مجرد الخلو لا يجوز، وإنما يجوز إذا كان معه عين مركبة في الحانوت، الذي يعبر عنه بالسكنى تارة، وبالجدك أخرى. والحاصل ما ذكره العلامة ابن عابدين رحمه الله في تنقيح الحامدية حيث قال بعد ذكر السكنى.
" وهو غير الخلو الذي هو عبارة عن القدمية ووضع اليد، خلافًا لمن زعم أنه هو، واستدل بذلك على جواز بيع الخلو، فإنه استدلال فاسد، لما علمت من أن السكنى أعيان قائمة مملوكة، كما أوضحه العلامة الشرنبلالي في رسالة خاصة، لكن إذا كان هذا الجدك المسمى بالسكنى قائمًا في أرض وقف فهو من قبيل مسألة البناء أو الغرس في الأرض المحتكرة، لصاحبه الاستبقاء بأجرة مثل الأرض، حيث لا ضرر على الوقف، وإن أبى الناظر، نظرًا للجانبين على ما مشى عليه في متن التنوير
…
ولا ينافيه ما في التجنيس من أن لصاحب الحانوت أن يكلفه رفعه، لأن ذلك في الحانوت الملك، بقرينة ما في الفصولين: والفرق أن المالك قد يمتنع صاحبه عن إيجاره، ويريد أن يسكنه بنفسه، أو بيعه، أو يعطله، بخلاف الموقوف المعد للإيجار، فإنه ليس للناظر إلا أن يؤجره، فإيجاره من ذي اليد بأجرة مثله أولى من إيجاره من أجنبي لما فيه من النظر للوقف ولذي اليد " (2) .
(1) المرجع نفسه: 2/252.
(2)
تنقيح الفتاوى الحامدية، لابن عابدين: 2/200.
بديل الخلو المتعارف:
تحقق مما ذكرنا أن بدل الخلو المتعارف الذي يأخذه المؤجر من مستأجره لا يجوز، ولا ينطبق هذا المبلغ المأخوذ على قاعدة من القواعد الشرعية، وليس ذلك إلا رشوة حرامًا.
نعم: يمكن تعديل النظام الرائج للخلو إلى ما يلي:
1-
يجوز للمؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارًا مقطوعًا من المال، يعتبر كأجرة مقدمة لسنين معلومة، وهذا بالإضافة إلى الأجرة السنوية أو الشهرية. وتجري على هذا المبلغ المأخوذ أحكام الأجرة بأسرها، فلو انفسخت الإجارة قبل أمدها المتفق عليه لسبب من الأسباب، وجب على المالك أن يرد على المستأجر مبلغًا يقع مقابل المدة الباقية من الإجارة.
2-
إذا كانت الإجارة لمدة معلومة استحق المستأجر البقاء عليها إلى تلك المدة، فلو أراد رجل آخر أن يتنازل المستأجر عن حقه، ويصير هو المستأجر بدله، يجوز للمستأجر الأول أن يطالب بعوض، ويكون ذلك نزولًا عن حق الاستئجار بعوض، ويجوز ذلك قياسًا على النزول عن الوظائف بمال. ولكن يشترط لذلك أن تكون الإجارة الأصلية إلى مدة معلومة كعشر سنين مثلًا، ويتنازل المستأجر في أثنائها.
3-
إذا كانت الإجارة لمدة معلومة، لا يجوز للمؤجر أن يفسخها إلا بمبرر شرعي، فإن أراد أن يفسخها دون مبرر شرعي، جاز للمستأجر أن يطالبه بعوض، ويكون ذلك نزولًا عن حقه بعوض، وهذا بالإضافة إلى ما يستحقه من استرداد جزء باقٍ من المبلغ المقطوع الذي دفعه المستأجر كأجرة مقدمة في بداية العقد.
وهذا هو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته الرابعة المنعقدة في سنة 1408هـ.
خلاصة الحكم في الاعتياض عن الحقوق:
إلى هنا قد ذكرت ما ظفرت به من الأنواع المختلفة للحقوق التي تحدث الفقهاء عنها وعن عقد المعاوضة عليها. ويتحصل من مجموع ما سبق من أبحاث الفقهاء القواعد التالية:
1-
إن الحقوق التي شرعت لدفع الضرر، لا على وجه الأصالة، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، لا عن طريق البيع ولا عن طريق الصلح والتنازل، مثل حق الشفعة، وحق القسم للمرأة، وخيار المخيرة.
2-
إن الحقوق التي ليست ثابتة الآن، وإنما هي متوقعة في المستقبل، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، كحق الوراثة في حياة المورث، وحق الولاء في حياة المولي.
3-
إن الحقوق الشرعية التي ثبتت لأصحابها أصالة، ولكنها لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر، لا يجوز الاعتياض عنها عن طريق البيع، ولكن يجوز عن طريق الصلح والتنازل بمال، مثل حق القصاص، وحق الزوج في بقاء نكاحه مع زوجته، (يجوز الصلح عنه بالخلع والطلاق على مال) .
4-
وإن الحقوق العرفية التي هي عبارة عن منافع دائمة من مرافق الأعيان، مثل حق المرور في الطريق، وحق الشرب والتسييل وغيره، يجوز بيعها عند الشافعية والحنابلة مطلقًا، وكذلك يبدو من بعض فروع المالكية. والقول المختار عند المتأخرين من الحنفية أن ما كان من هذه الحقوق متعلقًا بالأعيان الثابتة، فهو مال حكمًا، يجوز بيعه وشراؤه، مثل حق المرور، وحق الشرب، وحق التسييل، بشرط أن لا يكون هناك مانع آخر من جواز البيع، كالغرر والجهالة. ولا يجوز بيع حق التعلي عندهم، لأنه ليس متعلقًا بعين ثابتة. ولكنه يجوز التنازل عنه بمال عن طريق الصلح، كما صرح به الأتاسي.
5-
إن للعرف مجالًا في إدراج بعض الحقوق في الأموال، فإن المالية تثبت بتمول الناس، كما يقول ابن عابدين رحمه الله.
6-
إن حق الأسبقية، مثل حق الإحياء بعد التحجير، لا يجوز بيعه في القول المختار عند الشافعية والحنابلة، ولكنه يجوز عندهم النزول عنه بمال.
7-
المختار عند الحنفية أن حق الوظيفة، وإن كان لا يجوز بيعه، ولكن يجوز النزول عنه بمال، وكذلك حق استئجار الدار أو الحانوت، لا يجوز بيعه، ولكن يجوز التنازل عنه بعوض مالي.
وبعد هذا التنقيح نرجع إلى الحقوق المعاصرة التي شاع تداولها اليوم، والتي نقصد بهذا البحث تحقيق حكمها، والله سبحانه هو الموفق للصواب.
بيع الاسم التجاري والعلامة التجارية:
نشأت مسألة الاسم التجاري والعلامة التجارية منذ أن ازدادت التجارات حجمًا وضخامة، وصار التاجر الواحد أو الشركة الواحدة ينتج ويصدر أمواله الضخمة إلى عدد كبير من الناس والبلاد، وتنوعت المنتجات من جنس واحد باختلاف أوصافها، وصارت هذه الأوصاف تعرف باسم المنتج. فكلما رأى المستهلك أن البضاعة أنتجتها الشركة الفلانية التي عرفت بسمعتها الحسنة في السوق، اشتراها بمجرد سماع الشركة، أو وجود علامتها التجارية على وجه البضاعة.
وهكذا صار الاسم التجاري أو العلامة التجارية سببًا لكثرة إقبال المشترين على المنتجات وقلته، فصار الاسم التجاري أو العلامة التجارية لهما قيمة في أنظار التجار، فكل اسم حاز سمعة بين الناس يمثل كثرة رغبة المشترين بضاعة واردة في السوق بذلك الاسم، ويسبب كثرة الأرباح لتاجر يرد السوق بذلك الاسم.
ولما ظهر أن بعض الناس شرعوا يستعملون أسماء المنتجين الذين لهم شهرة حسنة فيما بين المستهلكين لتروج بضاعتهم بهذا الاسم، وخيف التباس الأمر على عامة الناس، ظهرت قوانين من قبل الحكومات لتسجيل الأسماء التجارية والعلامات التجارية عند الحكومة، ومنع التجار من استعمال الأسماء والعلامات التي سجلها غيرهم.
فصارت هذه الأسماء والعلامات بعد التسجيل لها قيمة مادية في عرف التجار. وشرع التجار يبيعون هذه الأسماء ويشترونها بأثمان غالية وأموال طائلة، لما يرجون من شهرتها كثرة إقبال الناس ورغبتهم في شراء ما ينتجونه.
فالسؤال الآن: هل يجوز بيع الاسم التجاري؟ أو العلامة التجارية؟ وظاهر أن الاسم أو العلامة ليس عينًا ماديًا، وإنما هو عبارة عن حق استعمال هذا الاسم أو العلامة، وهذا الحق ثبت لصاحبه أصالة بحكم الأسبقية والتسجيل الحكومي، وهو حق ثابت في الحال، وليس متوقعًا في المستقبل، وهو حق يقبل الانتقال إلى آخر، ولكنه ليس حقًا ثابتًا في عين قائمة فعلى ضوء القواعد التي استخلصناها من كلام الفقهاء، ينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على طريق التنازل، دون البيع لأنه ليس حقًا ثابتًا، أو منفعة مستقرة في عين قائمة.
وبهذا أفتى شيخ مشايخنا العلامة أشرف علي التهاوني رحمه الله، وقاسه على مسألة النزول عن الوظائف بمال، وحكى فيه عبارة ابن عابدين رحمه الله التي نقلناها في مسألة النزول عن الوظائف، ثم قال:
"اوركار خانه كابهي مشابه حق وظائف كي بي. كه ثابت على وجه الأصالة بي، نه كه دفع ضرر كيلى، اور دونون بالفعل أمور إضافية سي يى، اور مستقبل ميى دونون ذريعة يي تحصيل مال كي، يس إس بناير إس كي عوض جيني ميى كنجائش معلوم هوتى هي، كولينى والى كيلئى خلاف تقوى هي، مكر ضرورت مين سي إس كي بهى اجازت هو جائيكى "(1) .
" وإن اسم المصنع مشابه لحق الوظائف في أنه ثابت على وجه الأصالة، دون دفع الضرر، وكلاهما أمور إضافية بالفعل، وكلاهما ذريعة لتحصيل المال في المستقبل، فيبدو أن في تعويضه سعة، وإن كان ذلك خلاف التقوى للآخذ، ولكن يؤذن له أيضًا عند الضرورة ".
(1) حوادث الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي: 4/71، وإن هذه الفتوى غير موجودة في مجموعة فتاواه المطبوعة باسم "إمداد الفتاوى" في ست مجلدات.
ويبدو لهذا العبد الضعيف، عفا الله عنه أن حق الاسم التجاري والعلامات التجارية وإن كان في الأصل حقًا مجردًا غير ثابت في عين قائمة، ولكنه بعد التسجيل الحكومي الذي يتطلب جهدًا كبيرًا، وبذل أمور جمة، والذي تحصل له بعد ذلك صفة قانونية تمثلها شهادات مكتوبة بيد الحامل، وفي دفاتر الحكومة، أشبه الحق المستقر في العين، والتحق في عرف التجار بالأعيان، فينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على وجه البيع أيضًا، ولا شك أن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في الأعيان، لأن المالية، كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. وهذا مثل القوة الكهربائية أو الغاز التي لم تكن في الأزمان السالفة تعد من الأموال والأعيان المتقومة، لأنها ليست عينًا قائمة بذاته، ولم يكن إحرازها في الوسعة البشرية، ولكنها صارت الآن من أعز الأموال المتقومة التي لا شبهة في جواز بيعها وشرائها، وذلك لنفعها البالغ، ولإمكان إحرازها، ولتعارف الناس بماليتها وتقومها.
فكذلك الاسم التجاري أو العلامة التجارية أصبحت بعد التسجيل الحكومي ذات قيمة بالغة في عرف التجار، ويصدق عليها أنها تحرز بإحراز شهادتها المكتوبة من قبل الحكومة، وإحراز كل شيء بما يلائمه، ويصدق عليها أيضًا أنها تدخر لوقت الحاجة، فالعناصر اللازمة التي تمنح الشيء صفة المالية متوفرة فيها، سوى أنها ليست عينًا قائمة بنفسها، فيبدو أنه لا مانع شرعًا من أن يسلك بها مسلك الأموال في جواز بيعها وشرائها. وذلك بشرطين:
الأول: أن يكون الاسم أو العلامة مسجلة عند الحكومة بصفة قانونية، لأن ما ليس بمسجل لا يعد مالًا في عرف التجار.
والثانى: أن لا يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك بأن يقع الإعلان من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وإنما يستعمل هذا الاسم أو العلامة بعد شرائهما بنية أنه سيحاول بقدر الإمكان أن يكون إنتاجه بمستوى الإنتاج السابق أو أحسن منه.
وأما بغير هذا الإعلان، فإن انتقال الاسم أو العلامة التجارية إلى منتج آخر سبب اللبس والخديعة للمستهلكين، واللبس والخديعة حرام لا يجوز بحال. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الترخيص التجاري:
وماقلنا في حكم الاسم التجاري والعلامة التجارية من جواز الاعتياض عنهما يصدق على الترخيص التجاري. وحقيقة هذا الترخيص أن معظم الحكومات اليوم لا تسمح بإيراد البضاعة من الخارج أو إصدارها إليه إلا برخصة تمنحها الحكومة، والذي يظهر أن هذا النوع من الحجر على التجار، ولا تستحسنه الشريعة الإسلامية إلا بضرورة ملحة. ولكن الواقع في معظم البلاد هكذا. فالسؤال الذي ينشأ في الظروف الحاضرة: هل يجوز لحامل رخصة الإيراد أو الإصدار أن يبيع هذه الرخصة إلى تاجر آخر؟ والواقع في هذه الرخصة أنها ليست عينًا مادية، ولكنها عبارة عن حق بيع البضاعة في الخارج أو شرائها منه، فيتأتى فيه ما ذكرنا في الاسم التجاري من أن هذا الحق ثابت أصالة فيجوز النزول عنه بمال، وبما أن الحصول على هذه الرخصة من الحكومة يتطلب كلا من الجهد والوقت والمال، ويمنح حاملها صفة قانونية تمثلها الشهادات المكتوبة، ويستحق بها التاجر تسهيلات توفرها الحكومة لحاملها، وصارت هذه الرخصة في عرف التجار ذات قيمة كبيرة يسلك بها مسلك الأموال، فلا يبعد أن تلتحق بالأعيان في جواز بيعها وشرائها، ولكن كل ذلك إنما يتأتى إذا كان في الحكومة قانون يسمح بنقل هذه الرخصة إلى رجل آخر، أما إذا كانت الرخصة باسم رجل مخصوص أو شركة مخصوصة، ولا يسمح القانون بنقلها إلى رجل آخر أو شركة أخرى، فلا شبهة في عدم جواز بيعها، لأن بيعه يؤدي حينئذ إلى الكذب والخديعة، فإن مشتري الرخصة يستعملها باسم البائع، ولا باسم نفسه، فلا يحل ذلك إلا بأن يوكل حامل الرخصة بالبيع والشراء.
حق الابتكار وحق الطباعة:
إن حق الابتكار حق يحصل بحكم العرف والقانون لمن ابتكر مخترعًا جديدًا أو شكلًا جديدًا لشيء. والمراد من حق الابتكار أن هذا الرجل ينفرد بحق إنتاج ما ابتكره وعرضه للتجارة. ثم ربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيتصرف فيه تصرف المبتكر الأول من إنتاجه للتجارة. وكذلك من صنف كتابًا أو ألفه فله حق طباعة ذلك الكتاب ونشره والحصول على أرباح التجارة. وربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيستحق بذلك ما كان يستحقه المؤلف من طباعته ونشره. فالسؤال: هل يجوز بيع حق الابتكار أو حق الطباعة والتأليف أم لا يجوز؟ وقد اختلفت في هذه المسألة آراء الفقهاء والمعاصرين، فمنهم من جوز ذلك، ومنهم من منع.
والمسألة. الأساسية في هذا الصدد: هل حق الابتكار أو حق الطباعة حق معترف به شرعًا؟ والجواب على هذا السؤال أن من سبق إلى ابتكار شيء جديد سواء كان ماديًا أو معنويًا، فلا شك أنه أحق من غيره بإنتاجه لانتفاعه بنفسه، وإخراجه إلى السوق من أجل اكتساب الأرباح، وذلك لما روى أبو داود عن أسمر بن مضرس رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: ((من سبق إلى ما لم يسبقه مسلم فهو له)) (1) .
وإن كان العلامة المناوي رحمه الله رجح أن هذا الحديث وارد في سياق إحياء الموات، ولكنه نقل عن بعض العلماء أنه يشمل كل عين وبئر ومعدن، ومن سبق لشيء منها فهي له (2) ، ولا شك أن العبرة لعموم اللفظ لا الخصوص السبب.
(1) أخرجه أبو داود في الخراج قبيل إحياء الموات. وسكت عليه هو والمنذري:4/264، رقم 2947.
(2)
فيض القدير: 6/138.
ولما ثبت أن حق الابتكار حق تقره الشريعة الإسلامية بفضل أسبقية إلى ابتكار ذلك الشيء، فينطبق عليه ما ذكرنا في حق الأسبقية من أحكام، وحققنا هنا أن بعض الشافعية والحنابلة أجازوا بيع هذا الحق، ولكن المختار عندهم عدم جواز البيع، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال، ونقلنا نص البهوتي عن " شرح منتهى الإرادات " في جواز النزول عن حق التحجير وحق الجلوس في المسجد، وما إلى ذلك من حقوق الأسبقية والاختصاص، ومقتضى ذلك أن يجوز النزول عن حق الابتكار أو حق الطباعة لرجل آخر بعوض يأخذه النازل، ولكن هذا إنما يأتي في أصل حق الابتكار وحق الطباعة، أما إذا قرن هذا الحق بالتسجيل الحكومي الذي يبذل المبتكر من أجله جهده وماله ووقته والذي يعطي هذا الحق مكانة قانونية تمثلها شهادة مكتوبة بيد المبتكر وفي دفاتر الحكومة، وصارت تعتبر في عرف التجار مالًا متقومًا فلا يبعد أن يصير هذا الحق المسجل ملحقًا بالأعيان والأموال بحكم هذا العرف السائر، وقد أسلفنا أن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في حكم الأموال والأعيان، لأن المالية كما حكينا عن ابن عابدين رحمه الله تثبت بتمول الناس، وإن هذا الحق بعد التسجيل يحرز إحراز الأعيان، ويدخر لوقت الحاجة ادخار الأموال، وليس في اعتبار هذا العرف مخالفة لأي نص شرعي من الكتاب أو السنة، وغايته أن يكون مخالفًا للقياس، والقياس يترك للعرف، كما تقرر في موضعه.
ونظرًا إلى هذه النواحي أفتى جمع العلماء المعاصرين بجواز بيع حق، أذكر منهم من علماء القارة الهندية: مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله (تلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله (1) والعلامة الشيخ المفتي محمد كفاية الله (2) والعلامة الشيخ نظام الدين، مفتي دار العلوم بديوبند (3) وفضيلة الشيخ المفتي عبد الرحيم اللاجبوري (4) .
وأما المانعون فتمسكوا أولًا بأن حق الابتكار حق، وليس عينًا ولا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن يتضح مما سبق من كلام الفقهاء أن عدم جواز الاعتياض عن الحقوق ليس على إطلاقه. بل فيه تفصيل بسطناه عند الكلام على شتى أنواع الحقوق وتمسكوا ثانيًا بأن من باع كتابًا إلى آخر، فقد ملك المشتري ذلك الكتاب بجميع أجزائه، ويجوز للمشتري أن يتصرف فيه كيف شاء، فيجوز له أن يقوم بطباعته، وليس للبائع أن يحجر عليه في هذا الصدد.
ولكن ممكن الجواب عنه بأن التصرف في الشيء شيء، وإنتاج مثله شيء آخر، وإن الذي يملكه المشتري بشراء الكتاب هو الأول، فيجوز له أن يتصرف في الكتاب بما شاء قراءة وانتفاعا، وبيعا، وإعارة، وهبة وما إلى ذلك من التصرفات الأخرى، وأما طباعة مثل هذا الكتاب، فليس من منافع المبيع، يستلزم ملكه ملكًا لحق الطباعة، وهذا مثل الفلوس المسكوكة من قبل الحكومة، إذا اشتراها رجل جاز له أن يتصرف فيها ما شاء من بيع وهبة وعارية واستبدال، وما إلى ذلك من التصرفات الفردية، ولكن لا يجوز له بحكم هذا الشراء أن يسك فلوسًا أخرى على منواله، فظهر بهذا أن ملك الشيء لا يستلزم حق المالك في إنتاج مثله.
وتمسكوا ثالثًا بأن الذي ينتج هذا الشيء المبتكر أو يطبع ذلك الكتاب المؤلف، فإنه لا يسبب خسارة للمنتج أو المؤلف، وغاية ما في الباب أنه يقلل من ربح المنتج أو المؤلف، وقلة الربح شيء، والخسارة شيء آخر.
(1) عطر الهداية: ص 192 إلى 194.
(2)
عطر الهداية: ص 192 إلى 194.
(3)
نظام الفتاوى: ص 128 إلى 133.
(4)
فتاوى رحيمية: 3/142.
ويمكن الجواب هذا بأن قلة الربح وإن لم يكن خسارة، ولكنه ضرر، وبين الخسارة والضرر فرق واضح، ولا شك أن الذي تحمل المتاعب والمشاق الجسيمة والفكرية وبذل الأموال الجمة والأوقاف الغالية في إيجاد شيء أو تأليف كتاب، وسهر من أجل ذلك ليالي، وتنازل عن الراحة، أحق بالاسترباح بما ابتكره من الرجل الذي اشتراه بمال بسيط في لحظة واحدة، ثم جعل يسد السوق أمام المبتكر الأول.
وربما يقال: إن الاعتراف بحق الطباعة لفرد واحد يسبب كتمانًا للعلم، ولكن كتمان العلم إنما يكون إذا منع المؤلف الناس من الاستفادة بما ألفه قراءةً وتبليغًا، ولكن الذي يحتفظ بحق الطباعة لا يمنع أحدًا من قراءة الكتاب ولا دراسته ولا تعليمه ولا تبليغ ما فيه، حتى إنه لا يمنع من بيعه والتجارة فيه، ولكنه يمنع من أن يطبعه الآخر بغير إذن منه، ليكسب بذلك الأرباح، فليس ذلك من كتمان العلم في شيء.
والدليل الأخير للمانعين هو: أن الاحتفاظ بحقوق الطباعة يضيق دائرة انتشار الكتاب، ولو كان لكل أحد حق في طبع الكتاب ونشره، لكان انتشاره أوسع، وإفادته أعم وأشمل.
وهذا أمر واقع لا مجال لإنكاره، ولكن الدليل ينقلب إذا نظرنا من ناحية أخرى، وهي أن المبتكرين لو منعوا حق أسبقيتهم بالاسترباح مما ابتكروه لفشلت هممهم عن اقتحام المشاريع الكبيرة من أجل الاختراعات الجديدة حينما يرون أن ذلك لا يدر إلا ربحًا بسيطًا، وإن مثل هذه الأمور التي تحتمل وجهين لا تفصل القضايا الفقهية ما دام الشيء ليس فيه محظور شرعي، فإن جميع المباحات فيها ما يضر وينفع. والله سبحانه وتعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ محمد تقي العثماني