الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنظيم الأسرة
في المجتمع الإسلامي
الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية
إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
أعد هذا الكتاب للنشر بتكليف من اللجنة التنفيذية لإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية، لجنة مؤلفة من:
1 -
الدكتور عصام رشدي الناظر
2 -
الأستاذ حسن سعيد الكرمي
3 -
الدكتور عبد الرحيم عمران
4 -
الدكتور محمود زايد
الفصل الأول
الإسلام والأسرة والمجتمع
الإسلام والأسرة والمجتمع
- تقدمة -
إن الكلام عن الإسلام وتنظيم الأسرة، في مؤتمر الرباط وفي غيره فيما بعد ينطوي كما لا يخفى على اعتبار مهم واحد وهو أن الأسرة لها كيان خاص يتميز عن غيره ويمكن دراسته وحده، وهذه الفكرة عن الأسرة فكرة جديدة في العالم المتحضر الغربي لم يكن لها قبل القرن التاسع عشر حظ من البروز والظهور مع العلم بأن الأسرة بمعناها المعروف كانت موضع بحوث فقهية إسلامية جديدة منذ القرن الثامن الميلادي عن طريق بحث العلاقة بين الزوج والزوجة، وبحث حقوق الزوجية، ومشكلات العلاقة الزوجية وكثرة الأولاد وقلتهم، وحالة الأسرة الاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك، فالبحث إذًا في الأسرة عند المسلمين قديم، ولكنه في العالم الغربي حديث. وبداية البحث فيها عند العلماء الغربيين صدرت عن غير رجال الدين، وتناولت هذه البداية منشأ الأسرة وكيف تطورت من الأصل، واحتاج الأمر بالطبع إلى دراسات تاريخية ووثائق وسجلات للاضطلاع على تاريخ الأسرة، وكانت هذه بطبيعة الحال مفقودة إلى حد كبير مما دعا علماء الاجتماع إلى دراسة الأسرة في المجتمعات البدائية لمعرفة تطور الأسرة الحديثة اعتبارا منهم بأن الأسرة كيان اجتماعي نشأ وتطور مع الزمان منذ أمد بعيد. وحصل العلماء من هذه الدراسات على معلومات أصبحت مرجعًا لتاريخ الأسرة. غير أن الاهتمام في هذه الدراسات الأولى كان يتجه إلى أمور معينة مثل: هل كانت الأسرة تحت سلطة الأم أم تحت سلطة الأب؟ وهل كان الرجل يكثر من الزوجات أم يقتصر على زوجة واحدة؟ وهل كانت المرأة تتزوج أكثر من رجل واحد في وقت واحد؟ إلى غير ذلك.
ولكن الثورة الصناعية واستفحال الفقر عند بعض الطبقات دعا الباحثين في العالم الغربي أو الصناعي عامة إلى دراسة مشكلات الفقر وإلى دراسة الأحوال الاقتصادية للأسر الفقيرة بوجه خاص، وفي القرن العشرين ظهرت مشكلات أخرى بالإضافة إلى مشكلة الفقر والعمل، كالطلاق والافتراق بين الزوجين وكثرة عدد الأولاد غير الشرعيين وحوادث الإجرام وغيرها. وهذا معناه قصر الاهتمام في البحث عن الأسرة منفصلة عن المجتمع، ونشأ عن ذلك أن تعمق الباحثون في وضع الأسرة بالنسبة إلى الأفراد وحالاتهم الصحية والنفسانية وأسباب النزاع بين الأفراد وإرجاعه إلى عوامل نفسيه.
وبعد الحرب العالمية الثانية قوي هذا الاتجاه في البحث هذا الذي عولجت فيه الأسرة بمعزل عن بقية المجتمع، بل إنه لم تجر إلا محاولات قليلة للربط بين الطرفين، مما أدى في النهاية إلى التركيز على الأحوال والظروف التي تؤدي إلى انهيار الأسرة وعلى معالجة مشكلاتها كالطلاق والإجهاض والتعقيم ومنع الحمل، وبالتالي إلى الاهتمام بتنظيم الأسرة بوجه عام.
وقد ظهرت في المدة الأخيرة أبحاث مهمة تتعلق بهذه المشكلات مما اضطر الكثير من الدول وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية إلى وضع تشريعات لمعالجتها، حتى إن الكنيسة الكاثوليكية لم تجد بدا من الدخول في ميدان الجدل العالمي لتدلي برأيها في وسائل منع الحمل وتنظيم الأسرة.
أما في البلاد الإسلامية فإن تنظيم الأسرة كحل لمشكلات الأسرة لم يحظ بمثل هذا الاهتمام رغم أن الوسائل لمنع الحمل وخاصة العزل كانت معروفة (وممارسة) منذ فجر الإسلام. غير أن ازدياد السكان في بعض البلاد الإسلامية زيادة كبيرة حدا بالمسؤولين إلى التفكير جديًّا بهذه القضية.
ومؤتمر الرباط الذي عقد في سنة 1971 كان أول استجابة عامة من المسلمين للتحديات الناجمة عن مشكلات الأسرة والسكان وذلك في ضوء التعاليم الإسلامية واجتهادات علماء المسلمين. وكان من إنجازات هذا المؤتمر الكشف بصورة واضحة عن موقف الإسلام من الأسرة، وعن العلاقات بين أفرادها وتفاعلها مع المجتمع.
ومما هو جدير بالذكر أن مؤتمر الرباط لم يقتصر في بحث الأسرة على النظر في القضايا الفردية، كما كان الحال في العالم الأوروبي، بل تعرض للأسرة من حيث ظروفها الصحية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وعلاقة ذلك كله بالمجتمع كما سيظهر جليًّا في الملخص التالي.
خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط
الإسلام والأسرة والمجتمع
تناولت الدورة الأولى في المؤتمر موضوع الأسرة من حيث تاريخها ومن حيث كيانها وتركيبها، وكذلك الأسرة من حيث الغاية في تكوينها وعلاقتها بالمجتمع، وكل ذلك من وجهة النظر الإسلامية، فإن الإسلام جاء بنظم اجتماعية جديدة بقصد إصلاح المجتمع، ونظرة واحدة إلى ما كانت عليه الجزيرة العربية من نزاع وتفرق بسبب النظام القبلي والتفاخر بالأنساب، توضح الغاية في الإسلام من إيجاد وحدة اجتماعية جديدة لتكون محورًا للمجتمع الأوسع في الأمة الإسلامية.
ومن الأقوال في ذلك أن القرابة القبلية لا تتمتع بأي احترام أو رعاية في النظام الإسلامي إذ لم تشجع التعاليم الإسلامية على تنمية العلاقة العشائرية بل حاول الإسلام بطرق كثيرة أن يحطم الوحدة العشائرية في سبيل بناء الأمة القائمة على وحدة المعتقد.
لقد كان هدف الإسلام إصلاح المجتمع القبلي في سبيل إيجاد مجتمع مدني حضري جديد يقوم على أساس أسرة وثيقة العرى متآزرة، تدين بالولاء لمجتمعها الصغير من الأقارب بدلًا من الولاء للقبيلة. وهكذا كانت الأسرة موضع تطورات في اتجاهات مختلفة، ومن ذلك أن الأسرة في الإسلام تحولت عن القبيلة إلى الأسرة الموسعة ثم إلى الأسرة الأحادية، وهكذا أصبحت الأسرة في الإسلام ترتبط برابطتين، الأولى الرابطة الداخلية الموجهة إلى مركز هذه الوحدة الاجتماعية الصغيرة، والثانية الرابطة الخارجية إلى الأمة الإسلامية والمجتمع الإنساني قوة الدفع نحو المركز، وفي حين أن الرابطة الثانية تجذب نحو الخارج وتعمل عمل قوة الدفع بعيدًا عن المركز، والإسلام وازن بين القوتين.
معنى الأسرة:
كانت الأسرة ومعناها موضع بحث مطول في المؤتمر، واتفق الرأي مع الأستاذ حسن الكرمي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد الفقيه الطنجي على أن الإسلام هو الذي أوجد الأسرة تمييزًا لها عن القبيلة، بشروط تضمن لها أن تكون مصونة من كل ضعف وانهيار، حتى إن الإسلام أمر بالامتناع عن الزواج عند عدم قدرة الزوج على القيام بواجباته نحو أسرته المؤلفة من زوجة وأولاد؛ لأن الغاية من الزواج في الإسلام هي ضمان السعادة والهناء في الأسرة، كما أشارت الآية الكريمة 21 من سورة الروم {وَمِنْ آَيَاتِهِ} وقوله تعالى:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} في رأي الدكتور عبد السلام عظيمي هو إشارة واضحة إلى أن الاطمئنان القلبي أو السكن مع الراحة والمودة التامة لا يمكن أن يكون في بيت يعيش فيه عدد كبير من الأولاد.
وترددت هذه الفكرة عند الكثيرين من أعضاء المؤتمر ومنهم الشيخ عبد الحميد السائح الذي قال: إن الإسلام اعتبر أساس العلاقة الإنسانية كلها الرحمة والمحبة، ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شعار الإسلام: الأمان والسلام وإطعام الطعام ومساعدة الآخرين.
وكان الاتفاق تامًّا مع السيد رفيع الله شهاب على أن العبرة في الأولاد من حيث القلة أو الكثرة هو إيجاد نسل صالح، إذ لا فائدة من كثرة النسل إذا كانت هذه الكثرة ضعيفة جسميا ونفسانيا وغير صالحة أخلاقيا، وأشير من هذه الناحية إلى أن عدم صلاح الأولاد يؤدي إلى عدم صلاح البيئة، ولذلك ناقش فقهاء المسلمين هذه المشكلة وانتهوا إلى ضرورة الأخذ بإجراءات لتنظيم الأسرة في حالة تدهور الوضع التام الناجم عن سوء البيئات الاجتماعية.
ومهما اختلفت الكلمات الدالة على الأسرة في الإسلام، فلا اختلاف في أن تعاليم القرآن الكريم تهدف إلى استقرار الأسرة وسعادتها ووحدتها، وأن تعيش عيشة وادعة سعيدة، كما جاء في الآية الكريمة 21 من سورة الروم. ومعنى الاستقرار هو ثبات القواعد التي يبنى عليها ثبات الأسرة وعدم تقلب هذه القواعد بحسب الاتجاهات الهدامة.
ولقد أثار الدكتور محمد سلام مدكور في البحث قضية التوازن بين مصلحة الأسرة ومصلحة المجتمع على اعتبار أن (مراعاة المصالح من أعمدة التشريع الإسلامي) وأن الفقه الإسلامي يؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض، وهذا الاتجاه بطبيعة الحال يقضي بأن تكون الأحكام متطورة بسبب الظروف وأن تكون شاملة للوقائع المتطورة أيضا.. (وهي في كل هذا تساير مصالح الناس وهو الأساس الذي قامت عليه) ؛ ولذلك نص فقهاء الحنابلة في هذا الموضوع على أنه (لا يصح أن يخلو العصر من مجتهد؛ لأن طريقة معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الاجتهاد) ، وجاء في الحديث الشريف ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) ووردت عند الفقهاء أقوال وشواهد تؤيد كون الأحكام متأثرة بالزمان والمكان، أي بالبيئة والعرف لمصلحة المجتمع، ومن ذلك قول ابن القيم:(الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد)، ومن ذلك أيضًا قول الشاطبي:(وضع الشرائع إنما هو لصالح العباد في العاجل والآجل معًا)، ومنه كذلك قول ابن عابدين الفقيه الحنفي:(كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، لزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ورفع الضرر والفساد، ولبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام) .
التطور:
توسع الدكتور محمد سلام مدكور في هذه الناحية من الموضوع وتكلم بإسهاب عن تغير الأحكام تبعًا لتغير المصلحة، وأورد أقوالًا أخرى تأييدًا لفكرته بأن تغير الأحوال يقتضي تغيير الأحكام واستشهد بقول ابن القيم (إن تغيير الفتوى بحسب الأمكنة والأحوال والنيات والعوائد معنى عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة ما يعلم أن الشريعة لا يعقل أن تأتي به) وينقل الزيلعي الحنفي عن فقهاء بلخ رأيهم أن (الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان) ويقول القرافي المالكي: (إن الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف) . وهذا يدل على أن التصرف في الأحكام بما يلائم الواقع أمر مشروع. كما يدل عليه تصرفات الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي طالما غير بعض الأحكام إلى ما يرى أنه مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيرًا يتفق مع المصلحة، وهي تصرفات تبين أن تغييرات الأحكام تبعًا للمصلحة في عصر الصحابة كانت كثيرة، وهو ما درج عليه التابعون، فلقد وضع أئمة الفقه وتلاميذهم بعدهم قاعدة فقهية عامة وهي (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) حتى إن القاضي أبا يوسف قال:(إذا ورد النص على أساس عرف مستقر وقت وروده، ثم تغير العرف بعد ذلك فإن الحكم يتغير تبعًا لتغيره)، وقال القرافي:(إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيرت العادة تغيرت الأحكام في تلك الأبواب) .
وخرج الدكتور محمد سلام مدكور من بحثه في الموضوع بقوله: (ونحن لو نظرنا نظرة فاحصة في مسلك الفقهاء السابقين لما وجدناهم إلا متطورين بتطور عصورهم ومتنقلين مع المصالح حيثما كانت) .
ثم تساءل: (وكيف نقف جامدين أمام تطور الحياة، وما يجري فيها من نظم واعتبارات جدت في هذا المجتمع ولا نتعرف على حكم الله فيها) .
الدعوة إلى الاجتهاد:
وتطرق بعض أعضاء المؤتمر إلى موضوع الاجتهاد في إطار الفكرة التي تنسب التخلف إلى المسلمين والإسلام وخاصة العلماء المسلمين، ودعوا إلى استخدام الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية الكفيلة بإزالة التخلف، وإزالة المفاهيم الخاطئة التي دخلت على المجتمع الإسلامي، وانتهوا إلى أن واجب علماء الدين هو إظهار حكم الإسلام في كل جديد وعليهم أن ينظروا بعين العصر الحاضر.
وعلق الدكتور مدكور على هذا بقوله: (إنه ينبغي أن يكون باب الاجتهاد مفتوحًا في كل عصر إذ أن أحكام الشريعة لم تكن قاصرة على ما كان واقعًا عند بدء ظهورها وإنما هي عامة ولابد من عموم أحكامها وشمولها للوقائع المتطورة أيضًا، وهي في كل هذا تساير مصالح الناس وهو الأساس الذي قامت عليه) .
وينص فقهاء الحنابلة في هذا الموضوع على أنه (لا يصح أن يخلو العصر من مجتهد) .
وختم الدكتور محمد سلام مدكور كلامه في هذه النقطة مشيرًا إلى أن الأحكام تتغير تبعًا لتغير المصلحة، وأن التصرف في الأحكام يكون بما يلائم الواقع، وأن التطور هو سنة الحياة، ودعا إلى الاجتهاد الجماعي بين أولي الأمر من العلماء.
وعلق الشيخ محمد مهدي شمس الدين على تغير الأحكام فقال: (فليست هناك أحكام تتغير، وإنما هناك موضوعات تتجدد لقواعد عامة سابقة.. ولكن ما يحدث إنما هو تغير في أوضاع الحياة، ولهذه الأوضاع أحكام في القواعد العامة) .
واتخذ عدد من الأعضاء اتجاها حول هذا الموضوع يتلخص في أن الأحكام تتغير بتغير المصلحة وأن الاجتهاد ضروري مع اعتبار المصلحة، وأن الدين فيه عملية تجديد في التشريع كما جرى في المؤلفة قلوبهم حينما حرمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حقهم في الزكاة بعد أن قويت شوكة الإسلام، وأجمل الفكرة بصورة عامة السيد محمد ظفار بقوله:(أنا مقتنع بأن الإسلام يعارض النظام الاجتماعي الذي لا يتغير) .
التطور والتجديد:
الموضوع كله يتعلق بفكرة التجديد في المجتمع، وهي فكرة دارت حولها تفسيرات وتعريفات متعددة، فيما يتعلق بالإسلام. والرأي الذي أبداه الدكتور مدكور عن وجوب مراعاة تغير الأحوال عند وضع الأحكام تعارض مع رأي آخر للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء الذي تساءل عن موقف الإسلام من هذا التطور في جميع اتجاهاته وصوره وألوانه قائلًا:(فهل يجاري الإسلام حياة البشر وتطورها فيتطور معها ويتغير كي لا ينفصل عن ركبها) ؟. ثم عرض رأيه في معنى التطور وقال: إن التطور قد يكون إلى الأحسن وقد يكون إلى الأسوأ، وإن التطور فيما يتعلق بالإسلام لا يعني تطوير الدين نفسه وإنما يعني موقف الإسلام من تطور الحياة البشرية في أوضاعها وعاداتها وتقاليدها وقيمها الاجتماعية وسلوكها في بناء الأسر وما إلى ذلك، ولكن التطور أو التغير قد يعتري الفكر الإسلامي أي فهم الناس للإسلام دون تحريف أو تشويه عن جهل أو سوء قصد بإدخال المفاهيم والقيم غير الإسلامية على الفكر الإسلامي، وأشار بصورة خاصة إلى أن (الإسلام قد أتى بأحكام ومقررات أساسية ثابتة في النواحي ذات القيم الثابتة التي لا يتصور أن يعتريها تطور في الحياة العادية الطبيعية تنعكس فيه قيمها) ، ولكن الإسلام فتح باب المعذرة والترخيص اعتمادًا على القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) ، بالقدر الذي يندفع به الاضطرار، ولذلك (جاءت نصوص الشريعة في القرآن والسنة النبوية كاشفة عن قضاياها الثابتة القيم، وكانت هذه النصوص صالحة بذلك لكل زمان ومكان بالنسبة للغايات المطلوبة دون الوسائل المتطورة التي تركها الشارع لتتطور بحسب الحاجة) . وأورد الشيخ مصطفى الزرقاء أمثلة على القواعد الإسلامية الثابتة في المجتمع والسياسة التي هي أساسية لا تتبدل وإن تبدلت الوسائل المستعملة لذلك، وقال: إن النصوص الأصيلة غطت جميع الحاجة عن طريق الاجتهاد والاستنباط وتحكيم قاعدة المصالح المرسلة وقاعدة سد الذرائع في كل شأن سكتت عنه النصوص.
وتحديد معنى التطور في عبارة (مجتمع متطور) أدى إلى تفسيرات متعددة، وكان الرأي الغالب أن يكون معنى التطور شاملا للتغييرات سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية - وأن يعمل المؤمن على تحديد نظرة الإسلام إلى الأسرة في مثل هذا المجتمع المتطور. وكان السؤال الأساسي هو معرفة ما يقدمه الإسلام من تشريع وتنظيم لمواجهة التغييرات الناجمة عن الحياة الحديثة، وما هي الحلول لمعالجة العوامل الكثيرة التي تتعرض لها الأسرة المسلمة، في المجتمعات المتطورة.
وأشار الدكتور قيصر أديب ماجول إلى اهتمام المؤتمر بالمحافظة على المجتمع الإسلامي وقال: (إن الإسلام لا يتغير والحياة الاجتماعية تتغير، ولابد للإسلام من أن يحكم في التغير الذي يطرأ على المجتمع، ويتعين على علماء المسلمين أن يكونوا أكثر إيجابية إزاء التغير، والإسلام يدعو إلى التحديث. والتحديث هو استخدام الوسائل التَّقَنِيَّةِ في حل مشكلات الأسرة والمشكلات الاجتماعية، ويجب أن يكون ذلك في سبيل تماسك المجتمعات الإسلامية) .
وعلى كل فإن الإجماع كان تامًّا حول معنى التطور من حيث إنه يعني التغير نحو ما هو أفضل مع التمسك بالقواعد الإسلامية. ومن الطبيعي أن ينتقل البحث في موضوع التطور إلى موضوع معنى الأمة؛ لأن الأمة في الزمان الحاضر مجتمع متطور. وأكد الأعضاء عموما أن المحافظة على الأمة وكيانها تعتبر واجبًا إسلاميًّا منذ أن أوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مجتمع إسلامي، وعبر بعض الأعضاء عن ذلك بأنه يجب وجود توازن في المجتمع بين سرعة التغير وسرعة التمثيل حتى يمكن المحافظة على طبيعة المجتمع الإسلامي.
وجرى بحث التطور من ناحية أخرى وهي ناحية التجدد، وهو موضوع بحث السيد وجيه الدين أحمد، إذ بدأ بحثه بالكلام عن معنى التجدد وعن النظرية السيكولوجية المتعلقة بالتجدد، وذكر أن هذه النظرية تقوم على الاقتراحات التالية:-
1 -
الأشخاص الذين هم على مستوى عال من التجدد ومسايرة العصر الحديث أقوى على الأخذ بالتخطيط والتنظيم وأشد ميلًا إلى الأخذ بالابتكارات العصرية لتحقيق أهدافهم.
2 -
السلوك الذي يميل إلى الابتكار يكون عادة متحررًا من العقبات الثقافية القديمة ويكون منبعثًا عن عقلية مستقلة عن تأثير التقاليد.
3 -
المستوى العالي للطاقة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأهداف الشخص الخاصة يعزز القدرة على التغيير.
وقال السيد وجيه الدين أحمد: (السلوك الذي يدل على التجديد لا يكون عن طريق الأخذ بالأدوات العصرية والتسهيلات المنزلية الكهربائية وغيرها لا لشيء إنها عصرية ميكانيكية، وإنما يكون عن دافع نفساني سيكولوجي نابع من أعماق النفس، فالقروي مثلًا قد لا يكون مهتمًا بهذه الآلات والأدوات العصرية لذاتها، ولكنه يكون مهتمًّا في تحسين وضعه بشراء ثور أقوى على الحرث أو بقرة حلوب، وقد يكون الإقبال على المظاهر العصرية الحديثة إقبالًا مصطنعًا بسبب تأثير الدعايات التجارية الجماعية، غير صادر عن الظروف الحقيقية ولا عن الوضع الثقافي الاجتماعي.
فالفلاح في الباكستان مثلا يقبل على استعمال الأسمدة الكيماوية ويهمل ما هو أهم من ذلك وهو النشاط في العمل. وليس الابتعاد عن الثقافة التقليدية وحده يسهل عملية التغيير والتجديد، والرأي القائل بأن التقاليد كابوس يعطل التقدم في جميع الاتجاهات رأي سطحي، ولو أن بعض التقاليد قد يكون لها هذا الأثر، غير أن تقاليد أخرى قد تكسب التقدم قوة دافعة، ومن ذلك مثلا أن الحركات التجديدية في العالم الإسلامي كانت أقرب ما تكون في حقيقتها إلى المثل القائل (عمل جديد بأسلوب قديم) أي أن هذه الحركات كانت تجمع بين القيم الغربية والنظرة العلمية من جهة، والوحي الديني والقواعد الدينية الأساسية من جهة أخرى، فالدعوة إلى تحرير المرأة مثلا كانت بدافع وضع المرأة في البلاد الأوروبية، ولكنها كانت في الوقت نفسه مبنية على أن النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كن يشاركن الرجل في أعماله ويحاربن معه ويعملن في إسعاف الجرحى) .
والنقطة التي أثارها السيد وجيه الدين أحمد - بشأن العلاقة بين التطور والتجدد كان لها صدى في لفت النظر إلى معنى التطور بالنسبة إلى التقاليد فهو يحض على وجوب إعطاء أهمية عظمى للدوافع النابعة من التقاليد؛ لأنها دوافع مألوفة وتحمل معنى القداسة والسلطان والحكمة الجماعية ويغذيها تراث معنوي، إذ بهذه الطريقة تكتسب عملية التربية والتثقيف سهولة وتصبح أكثر عمقًا.
وتكلم الدكتور عبد الرحيم عمران عن وجهة جديدة للتطور من الناحية السكانية حسب نظرية التطور الوبائي للسكان وهي نظرية تدرس التغيرات السكانية وأسبابها وآثارها حسب مبادئ علم الوبائيات، واعتمادًا على هذه النظرية قسم الدكتور عبد الرحيم عمران التاريخ إلى دورتين، الدورة القديمة والتي سبقت القرن السابع عشر والدورة الحديثة التي تلت ذلك حتى الآن.
ونظرته للدورة القديمة هي تطوير علمي لنظرية الدورات السكانية لابن خلدون، أما نظرته للدورة الحديثة فتعتمد على التفاعل بين العوامل الصحية والاجتماعية، وأشار الدكتور عمران إلى أنه لا يوجد تعارض في الإسلام بين الحث على الكثرة وبين الحث في الوقت نفسه على تنظيم الأسرة، إذ أن الهدف الأساسي هو المحافظة على التوازن الحيوي بين معدلات المواليد والوفيات في المجتمع، وبالتالي فقد كانت متطلبات العصور القديمة كثرة التوالد بسبب ارتفاع معدلات الوفيات وخاصة بين الأطفال، أما في العصور الحديثة ونتيجة لانخفاض معدلات الوفيات فقد قلت الحاجة إلى الكثرة من الإنجاب وبالتالي نشأت الدعوة لتنظيم الأسرة.
وأعرب الأستاذ عبد الكريم المراق عن هذه الفكرة بصورة أخرى فقال: (إن المجتمع متطور لأنه يضم كائنات بشرية حية نامية ومتطورة، وحاجة المجتمع إلى الدين هي نفسها متطورة بالنسبة التي يتطور بها المجتمع حتى لا يحصل الاختلال في التوازن الاجتماعي) وقال: (إن الدين صورة للمجتمع الذي ينتمي إليه) فإذا كان ذلك المجتمع في واقعه متميزًا بالصحة العقلية والقوة والمناعة كانت النظرة إلى الدين مستوحاة من هذا الواقع، والإسلام ثورة على الظلم والجهل، وهو لا يزال كذلك. وأضاف بأنه يصح القول بأن (الإسلام كمبادئ عامة يقوى ويضعف تبعًا لقوة أو ضعف الأفراد الذين ينتمون إليه) .
وفي النهاية أجمع المؤتمر بأسره تقريبًا على أن كثرة النسل، وإن كانت مرغوبة في الإسلام، تعني كثرة النسل الصالح لا كثرة النسل الفاسد، ومن ذلك قول السيد محمد ظفار أن (إنجاب أطفال أكثر أو أقل إنما يعتمد على الأوضاع والظروف، فأحيانا تجب زيادة السكان كما يجب إنقاصهم في أحيان أخرى لحفظ التوازن، ولدينا قواعد لكلتا الحالتين في كتب الفقه الإسلامي) .
الإسلام والأسرة والمجتمع
تحليل وتعليق
الأسرة في المجتمع الإسلامي هي محور هذا المجتمع، وقد نظم الإسلام أحوالها بتشريعات متعددة اعتمدها الفقهاء في استنباط أحكامهم التي احتاجت بسبب الأوضاع المستجدة إلى تغيرات لا تخرجها عن الأصل ولكن تجعلها أميل إلى مسايرة العصر. ونفهم من هذا بطبيعة الحال أن الاجتهاد في شؤون الأسرة كان عاملًا مهما يؤدي بالنتيجة إلى الإقرار ولو عمليًّا بأن الاجتهاد في التشريع في هذا العصر ضروري حتى تكون الشرائع منسجمة ومستلزمات العصر المتغيرة وعليه فإن التجديد بحسب الحاجة يربط بين الدين والدنيا ويجعلهما متلازمين، على عكس ما جرى في كثير من البلاد الإسلامية حيث سادت الازدواجية في عرف الناس وهي فصل الدين عن الدنيا حتى أصبح الدين منزويا ومنقطعًا عن سير الحياة الاجتماعية، وأصبح رجال الدين رمزًا للمحافظة على القديم والتزمت.
ويجدر بنا في هذه المناسبة أن نذكر ما كتبه خير الدين باشا التونسي (1810 - 1879) عن ذلك بقوله.
(ثم من أهم العوائق في تقدم المسلمين وجود طائفتين متعاندتين: رجال الدين يعلمون الشريعة ولا يعلمون الدنيا ويريدون أن يطبقوا أحكام الدين بحذافيرها بقطع النظر عما جد واستحدث.. ورجال سياسة يعرفون الدنيا ولا يعرفون الدين ويريدون أن يطبقوا النظم الأوربية بحذافيرها من غير رجوع إلى الدين. فنقول للأولين: اعرفوا الدنيا، ونقول للآخرين: اعرفوا الدين، فاعتزال العلماء شؤون الدنيا ثم تحكمهم ضرر أي ضرر، وجهل رجال السياسة بأحوال الدين ضرر مثله، والواجب امتزاج الطائفتين وتعاونهما، فهناك أحوال الدين يجب أن تراعى، وهناك أمور لم ينص عليها الدين وتقتضيها مصالح الأمة يجب أن تقاس بمقياس المنفعة والمضرة ويعمل فيها العقل)(1) .
(1) راجع أحمد أمين: فيض الخاطر ج 6 (القاهرة 1945) ص 216
وقال الشيخ مصطفي الزرقا عن التجديد (ليس هو إدخال شيء جديد على الدين الإسلامي ليس منه ولا تشمله نصوصه العامة. المقصود بتجديد الدين الإسلامي في هذا الحديث: إحياء ما اندرس من معالمه وترميم ما توهن من لبناته بسوء الاستعمال وإزاحة ما أقيم في طريق مسيرته البناءة للحياة البشرية الصحيحة الكريمة الطيبة من عوائق أو نصب فيها من نصب وهمية لتشد الأبصار إلى غير الخالق تعالى عن جهل أو عن مكر)(1) .
ومن الأدلة على وجوب الاجتهاد ما روي عن أصحاب المذاهب أنفسهم فقد كانوا ينصحون تابعيهم بأن فقههم غير ملزم. وقال الإمام أبو حنيفة (علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب) وسأله أحد تلاميذه (أهذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه؟) فقال: (والله لا أدري، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه) وقال الإمام أحمد بن حنبل (لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي، وخذ من حيث أخذوا) وروي عن الإمام مالك أنه قال (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)(2) .
وقد سئل الإمام شهاب الدين القرافي المصري المتوفى سنة 682 هجرية (إذا صارت العوائد لا تدل على ما كانت تدل عليه أولا فهل تبطل الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء، ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ وكان جوابه على ذلك (إن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغيير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة. وليس بتجديد للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية للاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف)(3) .
(1) مصطفى الزرقاء - الإسلام وتنظيم الأسرة ج 1 (بيروت 1973) ص 243
(2)
راجع بشأن هذه الأقوال محمد سلام مدكور (الإسلام والمجتمع والتطور) في الإسلام وتنظيم الأسرة ج 1 - ص 299
(3)
صبحي الحمصاني. فلسفة التشريع في الإسلام (بيروت 1961) ص 214
وكانت أولى الخطوات التي اتخذت في سبيل تيسير استنباط الأحكام قيام الدولة العثمانية بإخراج قانون للمعاملات المدنية مقتبس من الفقه الإسلامي مع التقيد بالمذهب الحنفي ومع مراعاة مصالح الناس وروح العصر. وتتمثل جرأة هذه المحاولة في عدم الإصرار على مبدأ التقيد بالرأي الراجح من المذاهب، مما وفر حرية كبرى لأعضاء اللجنة المكلفة باستنباط الأحكام في اختيار الأصلح منها للأمة وهذا واضح في التقرير الذي رفعته هذه اللجنة إلى الصدر الأعظم في عام 1869 وجاء فيه:
(علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة منه لحل المشكلات يتوقف على مهارة علمية وملكة كلية وعلى الخصوص مذهب الحنفية لأنه قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في الطبقة ووقع فيه اختلافات كثيرة ومع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية، بل لم تزل مسائله في أشتات متشعبة، فتخير القول الصحيح من بين تلك المسائل والأقوال المختلفة وتطبيق الحوادث عليها عسير جدًا، وعدا ذلك فإنه بتبدل الأعصار تتبدل المسائل التي يلزم بناؤها على العرف والعادة
…
) (1) .
وأصدرت الحكومة العثمانية سنة 1917 قانون العائلة وقد سجل واضعو هذا القانون خطوة أخرى في توفير الحرية في الأخذ بالأحكام الفقهية، وأقروا مبدأ التخير في انتقاء الأحكام، وفي مصر نصت المادة 280 من تشكيل المحاكم الشرعية لعام 1910 على العمل مبدئيًا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، ثم شكلت الحكومة المصرية لجنة من كبار الفقهاء والقانونين لوضع أحكام تؤخذ من الفقه الإسلامي دون التقيد بمذهب معين مع مراعاة روح العصر.
وهذا كله شاهد على ضرورة الأخذ بالاجتهاد عند الحاجة.
(1) صبحي الحمصاني. فلسفة التشريع في الإسلام (بيروت 1961) ص 85
الفصل الثاني
الإسلام وتنظيم الأسرة
الإسلام وتنظيم الأسرة
تقدمة
ناقش مؤتمر الرباط موضوع تنظيم الأسرة في صراحة ووضوح وإخلاص وحرص على إبداء آراء الدين الإسلامي الحنيف فيها، وبالرغم من الاختلاف في بعض التفاصيل، فإن المؤتمر قد توصل إلى تحديد موقف الإسلام من تنظيم الأسرة وتبيان آراء الفقهاء والمذاهب في هذا الموضوع، كذلك استعرض المؤتمر آراء علماء الدين في العصر الحديث، وهي لا تختلف في الأصل عن آراء الفقهاء الأول، وإن كانت قد تعرضت لتفاصيل يحتاجها الوضع الحالي في العالم الإسلامي.
كذلك استمع المؤتمر إلى آراء المتخصصين في علوم الطب والاجتماع والسكان والاقتصاد والتربية والتعليم، وأخذها بعين الاعتبار عند تكوين الرأي الأخير في موضوع تنظيم الأسرة، وفي موضوع تقييم مستقبل الأسرة المسلمة والمجتمعات الإسلامية والأقليات الإسلامية، وأبدى المؤتمر اهتمامًا بالغًا بالأسرة بوصفها نواة للمجتمع وبعلاقة تنظيمها بصحة أفرادها ورفاهيتهم وتمكينهم من القيام بواجباتهم في بناء المجتمع الإسلامي.
ويمكن أن نقول إن المؤتمر قد حاول أن يجيب على كثير من الأسئلة التي تشغل أذهان المسلمين اليوم ومن هذه الأسئلة ما يأتي:
1-
هل تنظيم الأسرة: "بمعنى استعمال وسائل لتأجيل الحمل أو تعجيله، أو لتحديد عدد الولادات. والمباعدة بين حمل وآخر" حرام أو حلال من وجهة نظر الفقه الإسلامي؟
2-
هل تنظيم الأسرة في الإسلام مشروط بشروط معينة، أو هو مباح دون قيد؟
3-
هل تنظيم الأسرة في الإسلام يقتصر على استعمال وسائل معينة مثل الدين الكاثوليكي أم أنه يسمح بكل الوسائل طالما أنها سليمة ومأمونة.
4-
ما هي الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة في الإسلام، وهل هناك نصوص فقهية في ذلك؟
5-
ما هي الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة وما هي النصوص الفقهية المتصلة بذلك؟
6-
المعروف عن الإسلام والأديان جميعًا استحباب الزواج والكثرة، فهل يتعارض ذلك مع تنظيم الأسرة؟
7-
هل يمكن تنظيم الأسرة على مستوى المجتمع الإسلامي، وما هي خبرات بعض البلاد الإسلامية في ذلك؟
8-
هل يعتبر تنظيم الأسرة مؤامرة أجنبية حيث إن البلاد الغربية هي التي تدعو إليه، وتقوم بتمويله وترويجه في البلاد النامية؟
9-
ستجد الإجابة على هذه الأسئلة في ثبت وقائع مؤتمر الرباط الذي نشر في جزأين تحت عنوان "الإسلام وتنظيم الأسرة بالعربية والإنكليزية" كما تجدها في الملخص التالي لبحوث المؤتمر ومناقشاته.
خلاصة مؤتمر الرباط
الإسلام وتنظيم الأسرة
بحوث ومناقشات
مضمون تنظيم الأسرة:
انتقل المؤتمر إلى بحث موضوع الإسلام وتنظيم الأسرة وكان لابد للأعضاء في هذا البحث من تناول معنى"الأسرة" بزيادة من التوضيح كما سبق ذكره في أبحاث المؤتمر عن ذلك، وكان لابد لهم أيضًا من الوقوف وقوفًا تامًا على فكرة "التنظيم" وعلاقتها بتحديد النسل في الأسرة الواحدة أو بالانفجار السكاني في العالم كله.
كما اقترح عدد من أعضاء المؤتمر استعمال عبارة تنظيم الوالدية بدلًا من تنظيم الأسرة، وعرف الشيخ ناصر الدين لطيف تنظيم الوالدية "بأنه اختبار أو سعي إنسان متعمد لتنظيم الحمل في الأسرة بصورة لا تنافي أحكام الدين وقوانين الدولة والقيم الأخلاقية في سبيل تحقيق رخاء الأسرة خاصة ورخاء الأمة والدولة عامة".
وقد عرف الشيخ أحمد الشرباصي "تنظيم الأسرة" بأنه "تهيئة الظروف السوية المنظمة التي تعاون الأسرة على أن تعيش سعيدة في مختلف النواحي والجهات"، وقال إن هذا التنظيم يظهر أو ينبغي أن يظهر في عدة مجالات منها:
1-
تنظيم الأسرة فيما يتعلق بالذرية قلة وكثرة.
2-
تنظيم الأسرة فيما يتعلق بالتمهيد لبنائها تمهيدًا سليمًا.
3-
تنظيم الأسرة فيما يتعلق بإيراداتها ومصروفاتها- أي تنظيمها اقتصاديًا.
4-
تنظيم الأسرة في تحديد العلاقات بين الأزواج والزوجات، وبين الأولاد والوالدين وبين ذوي القرابة والأرحام إلخ.
5-
تنظيم الأسرة علميًا وثقافيًا وطبيًا واجتماعيًا إلخ.
وعلل الدكتور الشرباصي هذا التوسع في مفهوم "تنظيم الأسرة" بقوله "إذا كان العرف قد جرى على استعمال كلمة (تنظيم الأسرة) فيما يتعلق بالذرية فقط فينبغي أن نصحح هذا العرف وأن نعيد إلى الكلمة مفهومها الواسع العميق لأن هذا التصحيح يلفتنا إلى واجبات اجتماعية من جهة، وهو يفيدنا في معالجة تضخم السكان من جهة أخرى".
أما من وجهة الدين الإسلامي كما قال الدكتور الشرباصي، فإن "الحكم الشرعي الإسلامي في موضوع تنظيم الأسرة، من ناحية قلة الذرية وكثرتها ينهض على الاستنباط والاجتهاد أكثر مما ينهض على إيراد النصوص، إذا لم تكن مشكلة تضخم السكان من المشكلات التي تعرض لها الناس في صدر الإسلام أو في عهد التشريع، والاجتهاد هنا ينبغي أن يكون النظر فيها متطلعًا إلى ما فيه المصلحة ودفع الضرر، مع عدم الخروج عن المبادئ الدينية أو الأصول الشرعية، بناء على القواعد المقررة شرعًا، من أن الضرر يزال، وأنه حيثما كانت المصلحة فهناك شرع الله. والقرآن الكريم يقول {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [سورة المائدة الآية 6] والملاحظ في الشريعة الغراء أن الأمر الذي يتغير أو يتبدل بتغير ظروف الإنسان أو الزمان أو المكان لا تنص الشريعة فيه على وضع موحد ثابت أو نص صارم قاطع، بل تكله إلى اجتهاد البصراء من علماء الأمة في نطاق مصادر التشريع الإسلامي، وفي ضوء قول الله تعالى {ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [سورة النساء 83] .
هذا القول كاد أن يكون محور البحث والنقاش في المؤتمر من وجهة النظر الإسلامية في موضوع تنظيم الأسرة، ولم تكد أبحاث الباحثين تخرج عن هذا القول إجمالًا عند الكلام على نظرة الإسلام، وإن خرجت في مجالات أخرى يتعلق معظمها بمضمون تنظيم الأسرة من الوجهة الدنيوية. وأشار الدكتور الشرباصي إلى أن تنظيم الأسرة قديم يرجع عهده إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم وقال "لقد ورد في السنة النبوية ما نستطيع أن نعهده وسيلة غير مباشرة لتنظيم الأسرة. فقد روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد حديثًا قاله النبي صلى الله عليه وسلم ينهى فيه عن المعاشرة الجنسية بين الزوجين بصورة تؤدي إلى الحمل في مدة الرضاع إذا كان هناك طفل لها ما زال يرضع. وهذا الحديث يقول "لا تقتلوا أولادكم سرًا، فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة"، والغيل هو أن يعاشر الرجل زوجته معاشرة جنسية وهي ترضع ولدًا لها بحيث تحمل وهي ما زالت ترضعه".
وقال الدكتور الشرباصي إن تنظيم مدة الرضاع بسنتين تكون خالية من الحمل واستراحة الزوجة في مدة تقرب من ثلاثة أعوام، معناها تنظيم الأسرة بطريق غير مباشر.
وقال الدكتور الشرباصي إن تنظيم النسل أمر نسبي ليس له قانون صارم لجميع الأزمنة والأمكنة بل يرجع إلى تغير الظروف في المكان والزمان، ويرتبط ارتباطًا وثيقا بالمصلحة، وهي من مصادر الفقه الإسلامي كما ذكر ابن القيم حيث يقول:"الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل".
وفي بحث الشيخ ناصر الدين لطف إجمال لكثير من الآراء حول تنظيم الأسرة أو التخطيط العائلي أو تنظيم الوالدية. وقال:"إن تنظيم الوالدية يجب أن ينظر إليه اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وسياسيا وأيديولوجيا".
ولا يمكن أن يكون هذا التنظيم محرمًا من الدين الإسلامي. ولا يوجد في القرآن الكريم آية واحدة ولا نص صريح واحد يمنع الزوجين من تنظيم الوالدية، بل أن ما جاء في القرآن الكريم (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(سورة البقرة 185) وما جاء أيضًا في الآية 78 من سورة الحج (وما جعل عليكم في الدين من حرج) دليل على ذلك. وما جاء في القرآن الكريم عن قتل الأولاد خشية الإملاق والنهي عن ذلك كما في الآية 151 من سورة الأنعام والآية 31 من سورة الإسراء فهو متعلق بقتل النفس أو قتل الشيء الذي له روح. ولا يمكن أن يكون حجة أو أساسًا للقول بأن القرآن الكريم ينهى عن تنظيم الوالدية لأن تنظيم الوالدية لا يكون بقتل الجنين الموجود الذي نفخ فيه الروح وإنما هو في تجنب الحمل قبل وقوعه. واعتبر الشيخ لطيف أن الغرض من العزل هو منع الحمل وعلى الأقل ضمن نطاق إيجاد فترات متباعدة بين حمل وآخر أو بين ولادة وأخرى والواضح من أحاديث العزل أن النبي الكريم لم يمنع مسلمًا من العزل في نطاق منع الحمل الذي لا يريده، بل يفهم من رواية لسيدنا جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن صراحة بالعزل. وقال الشيخ لطيف "إنه إذا كان في التعاليم الإسلامية الحقيقية ما يجيز لنا" بل ويطلب منا " أن نسعى إلى التداوي والعلاج، فهل من المعقول أن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يبيحان لنا كوالدين أن نسعى إلى تنظيم الحمل أو تأجيله لفترة معينة من أجل تحقيق الرخاء في أسرتنا؟ ثم أورد فتوى لجنة الإفتاء في الأزهر الشريف وفتوى الشيخ عبد المجيد سليم بأن "لكل من الزوجين برضا الآخر أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم منعًا للتوالد".
وختم الشيخ ناصر الدين لطيف كلامه بقوله إنه مع عدم وجود إجماع عند المسلمين بصدد تنظيم الوالدية ورغم ارتياب بعض المسلمين في الغاية من تنظم الوالدية فإن هذا التنظيم لابد منه عندما تدعو الضرورة الأسرة أو المجتمع إليه.
ولخص الدكتور محمد المكي الناصري موقف الإسلام من التخطيط العائلي أو تنظيم الأسرة بقوله إنه بعد البعث وصل إلى الاقتناعات التالية:
1-
التخطيط العائلي ينسجم مع التنظيم الإسلامي للأسرة متى كان المراد منه توعية الآباء والأمهات بالمسؤولية في الرعاية بذرية صالحة.
2-
لا يجوز أن يقبل أحد على تأسيس الأسرة إلا إذا كان سليم الصحة وقادًرا على الإنفاق.
3-
إذا كان اتخاذ التدابير الوقائية لمنع الحمل مقبولًا شرعًا إذا دعت إليه مصلحة الزوجين أو مصلحة أحدهما أو مصلحة الأسرة، فمن باب أولى وأحرى أن يلجأ إليه إذا دعت إليه المصلحة العامة للمسلمين، وحالة المسلمين حاليًا تدعو إلى ذلك.
وحض فقهاء المسلمين على العناية بالتخطيط العائلي لأن التخطيط العائلي بمعناه المتعارف عليه اليوم "هو توعية الأزواج والآباء بمسؤولياتهم الأدبية والمادية، وجعلهم أكثر تقديرًا لمسؤولياتهم الزوجية والأبوية، حتى يكونوا أوفر احتياطًا لمستقبل أبنائهم وأحرص على إنجاب ذرية صالحة ونسل سليم جسميا وفكريا، ليكونوا لهم خير خلف ولأمتهم خير سند ومدد".
وذهب الشيخ إبراهيم الدسوقي مرعي والشيخ خلف السيد علي إلى أن تنظيم النسل أمر طبيعي لخير البشرية، وهذا يتماشى مع الإسلام والفقه لأن "الدين يدعو إلى التنظيم في كل شيء". وهكذا فإن تنظيم الأسرة من حيث هو تنظيم لا يتعارض مع الدين والتنظيم هنا معناه الملائمة بين حجم الأسرة وظروف المجتمع الاقتصادية والحضارية، فإذا تغيرت الظروف أعدنا النظر في حجم الأسرة، والمعنى من هذا القول من وجهة نمو السكان أن هذا النمو يجب أن لا يتعدى النمو الاقتصادي في الأمة.
وأشار الشيخ خلف السيد علي والشيخ إبراهيم الدسوقي بصورة خاصة إلى المخاوف من التنظيم على أنه مناف للإيمان بقضاء الله وقدره، وأنه ينافي تقدير الأرزاق وأنه الوأد الخفي وقالا إن هذه المخاوف غير صحيحة لأن الإيمان بالقدر لا ينافي الأخذ بالأسباب، والقدر لا نعرفه إلا بعد وقوعه، ثم إن تقدير الأرزاق لا يكون مع ذلك إلا بالسعي لقوله تعالى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وأما الوأد الخفي فالمقصود به قتل مخلوق موجود خوف الفقر. وذكر أيضًا أن الدين لا يعارض التنظيم لأن الأصل رعاية مصالح الناس ودفع الحرج والمشقة ففي القرآن الكريم قوله تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" سورة البقرة 185. وبقوله "وما جعل عليكم في الدين من حرج" سورة الحج 78. وقول الرسول عليه الصلاة والسلام "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق". وقوله "إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
ووجه الشيخ محمد مهدي شمس الدين الانتباه إلى نقطة مهمة وهي أن الولد حق الوالدين وحق الأمة معًا. فهو حق الأمة لأنه نهي عن تزوج الحمقاء، وأنه جعل للزوج وللزوجة الحق في فسخ عقد الزواج إذا كان الآخر مصابًا ببعض الأمراض الوبائية وما إلى ذلك. ثم إن تحديد النسل من طرف الأمة عامة يجب أن يكون فيه مصلحة لها، وإذا لم تثبت المصلحة فلا تحديد. ومن حق الوالدين مثلًا أنه يجوز لهما "لأي اعتبار من الاعتبارات الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أن يضبطا نسلهما فيحدداه بعدد معين من الأولاد دون أن يترتب على ذلك أية مسؤولية شرعية، ولهما أن يتوقفا عن الإنسال عن طريق استعمال موانع الحمل المؤقتة دون أن يترتب عليهما من جراء ذلك أية مسؤولية شرعية".
وتكلم الدكتور علي شعبان عن تنظيم الأسرة في مصر وقال إن المشكلة أثيرت في الصحافة المصرية منذ عام 1937 حين طلب إلى سماحة مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم أن يدلي برأي واضح حول الموقف الديني في الإسلام إزاء منع الحمل والإجهاض من الناحيتين الطبية والاجتماعية ويتلخص جوابه فيما يلي:
1-
للزوجين أن يتخذا الإجراءات الضرورية لمنع الحمل لأسباب طبية أو اجتماعية، وموافقة الطرفين كليهما ليست ضرورية.
2-
قبل مضي نحو 16 أسبوعًا على الحمل يمكن اتخاذ الإجراءات أو العقاقير للتهيئة للإجهاض دون تعرض الأم لأي خطر في حالة توفر إرشاد معقول.
3-
اتفق أئمة المسلمين بالإجماع على أنه لا يجوز مطلقًا إجراء الإجهاض بعد تلك الفترة.
وأشار الشيخ عبد الرحمن الدوكالي إلى رأي الإمام الغزالي الذي يقول إن منع الولد مباح ولا كراهة فيه لأنه يرى أن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص هنا في هذا الموضوع ولا أصل يقاس عليه، بل في الإباحة أصل يقاس عليه، وهو ترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج أو ترك التلقيح بعد المخالطة الجنسية، فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل. والدليل على ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه حين قال:"كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وهذا معناه أن الرسول لم ينه عن العزل، ثم ذكر الشيخ عبد الرحمن الدوكالي رأي الحنفية في إباحة منع الحمل برضا الزوجة وهو الأصل في المذهب أو برضا أحد الزوجين إذا خيف على الولد السوء من فساد الزمان، في رأي المتأخرين من فقهاء الحنفية الذين يأخذون بقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، وأشار في شأن تحديد النسل إلى النصوص المختلفة التي ذكرها الشيخ محمود شلتوت في فتواه، ثم أبدى رأيه الخاص في القضية فقال" إن دين الإسلام ينشد الكثرة القوية لا الكثرة الهزيلة، وغير خاف أن الطب يقرر منع الحمل لدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء إطلاق الحرية في الإنجاب ".
حكم الإسلام في استخدام وسائل منع الحمل:
ثم تركز البحث في المؤتمر على جانب منع الحمل عند بحث تنظيم الأسرة، وسعى كثير من الأعضاء إلى تفسير ذلك عن طريق الضرورة أو رفع الضرر أو الاجتهاد بما فيه المصلحة. وفي هذا الصدد قال الدكتور محمد سلام مدكور "إن الفقه الإسلامي بمذاهبه العديدة والآراء المختلفة كفيل بمسايرة الحياة المتطورة، وأصبح يعتمد على أسس قوية صالحة لتحمل كل جديد، منها إيثار مصلحة الجماعة إذا تعارضت مع مصلحة الفرد، وكان أكثر أحكام هذا الفقه وليد استنباط أفراد من المجتهدين". ثم أورد الدكتور مدكور أمثلة على هذه الأحكام المستنبطة منها مثلًا قولهم إنه يجوز للمرأة أن تسد فم الرحم منعًا لوصول ماء الرجل إليه بقصد منع الحمل، وقولهم إنه يجوز لها استعمال الدواء الذي يقطع النسل، ويجوز للمرأة أن تنفض النطفة من الرحم ما لم تستقر. ثم قال: إن القول الأول في جواز سد فم الرحم يندرج تحته ما تطورت إليه وسيلة العزل لمنع الحمل، فمن ذلك العجلة (الحاجز) التي تغطي عنق الرحم لتمنع اتصال الحيوان المنوي بالبويضة، ومنه أيضًا الحجاب المانع "الكبون" الذي يستعمله الرجل ليحول بين الحيوان المنوي والبويضة. ويندرج تحت قول الفقهاء الثاني عن استعمال الدواء ما وصل إليه التطور في إيجاد حبوب منع الحمل والحقن التي يدوم مفعولها عدة أشهر، ويندرج تحته أيضًا كل دواء تهتدي إليه البشرية لتنظيم الحمل دون الإضرار بالقدرة على النسل في الرجل والمرأة على السواء.
وقدم الدكتور علي شعبان بحثًا عن منع الحمل في الإسلام وقال إنه ليس في القرآن ما يؤيد منع الحمل أو يعارضه، وقال إن أبسط حالت منع الحمل هو خلال فترة الرضاع تفاديًا للغيل، وقال إن منع الحمل من المميزات للحضارة العربية الإسلامية فقد ذكره ابن البيطار وابن سينا وكانت الأدوية له معروفة. وكان الأطباء المسلمون في العصور الوسطى يعظون الناس بوسائل لمنع الحمل ومن ذلك أن أبا بكر الرازي قد شرح في كتابه "الحاوي" طرقًا مختلفة لمنع الحمل، وقال الرازي "إن من المهم أحيانًا منع المني من دخول الرحم حين يكون الحمل خطرًا على المرأة مثلًا وهناك عدة طرق لمنع دخوله" ونقل الدكتور علي شعبان ذكر الرازي لهذه الطرق، وأشار إلى قول علي بن العباس المجوسي في رسالة "كامل الصناعة الطبية في القرن العاشر" أن الأدوية التي تمنع الحمل وإن كان واجبًا ألا تذكر لئلا يستعملها بعض النساء السيئات السمعة، إلا أنه لا مفر من إعطائها النسوة ذوات الرحم الصغير أو اللائي يعانين مرضًا يجعل الحمل خطرًا إلى حد تعريض الحامل للموت أثناء الوضع.." وكذلك ابن سينا في كتابه "القانون" فإنه بحث في طرق منع الحمل. وأشاد الدكتور شعبان إلى اختلاف السياسة في البلاد الإسلامية بشأن تنظيم الأسرة، وإلى اختلاف المعارضة الدينية في هذه البلاد لمنع الحمل وتنظيم الأسرة، وطالب بضرورة انتهاج سياسة إجماعية وتعاون قوي بين البلاد الأسيوية لمعالجة هذه المشكلة الحيوية.
وقال الدكتور الشرباصي إن منع الحمل قديم وحديث، وإن الغرض من العزل هو منع الحمل وذكر في هذا المجال فتوى لجنة الإفتاء في الأزهر التي جاء فيها أن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة وسترد صحتها. وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدا فهو حرام. وذكر أيضًا فتوى الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية التي جاء فيها "أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل كإنزال الماء خارج محل المرأة أو وضع المرأة شيئًا يسد فم رحمها لمنع وصولا ماء الرجل إليه "وذكر كذلك ما كتب الشيخ محمود شلتوت 1959 في هذا الموضوع حين قال "أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللواتي يسرع إليهن الحمل وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم من مواجهة المسؤوليات الكثيرة.. إن تنظيم النسل بشيء من هذا وهو تنظيم فردي لا يتعدى مجاله شأن علاجي، تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح، والتنظيم بهذا المعنى لا يجافي الطبيعة ولا يأباه الوعي القومي ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه.
الدواعي الصحية والاجتماعية لتنظيم الأسرة:
تحدث الدكتور عبد الرحيم عمران عن دراسات له حول الأضرار التي تصيب الأسرة من جراء كثرة الأولاد عن غير تنظيم. وقد شملت هذه الدراسات عدة بلاد إسلامية منها مصر وسوريا ولبنان وتركيا وباكستان وإيران وأدت إلى نتائج مهمة في هذا الشأن ولا سيما فيما يتعلق بالأضرار التي تلحق بالأسرة والمجتمع، وعدد هذه الأضرار تحت الأبواب التالية:
1-
الأضرار الصحية لأفراد الأسرة ولا سيما الأم والأطفال.
2-
الأضرار الاجتماعية والاقتصادية لأفراد الأسرة ولا سيما لرب الأسرة.
3-
الأضرار على مستوى المجتمع الذي تعيش فيه الأسرة.
وقد ذكر أن الأضرار الصحية لأفراد الأسرة تنتج عما يلي:
أ-قصر الفترة بين حمل وآخر خصوصًا إذا قلت عن عامين.
ب-زيادة عدد الولادات عن المتوسط المقبول خصوصًا إذا كانت الأم ضعيفة الصحة أصلًا أو كانت سيئة التغذية أو مصابة بأمراض مزمنة أو كانت مرهقة بالعمل أو صغيرة السن.
جـ-الحمل في سن مكبرة دون العشرين.
د-الغيل- وهو رضاعة طفل من لبن الحامل.
هـ-مرض وراثي أو معد يخشى أن ينتقل إلى الذرية.
القلة والكثرة في الإسلام:
وفكرة كثرة النسل في الإسلام كانت من أهم المسائل التي تعرض لها الأعضاء، فذهب البعض إلى أنها متفقة مع أوامر الدين، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة)) .
وذهب البعض الآخر إلى أنها تتوقف على أمور كثيرة، وليست الكثرة وحدها هي الأصل.
وذكر الدكتور عبد الرحيم عمران أن الإكثار من النسل يجب ألا يكون عاملًا على الإضرار بالمجتمع والأمة والأسرة، وأن استعمال وسائل منع الحمل تخدم الأغراض التالية:
1-
تحديد حجم الأسرة حسب قدرة الوالدين على الإنفاق.
2-
المحافظة على صحة الأم وجمالها.
3-
تنشئة الآباء والبنات تنشئة صالحة.
4-
المباعدة بين حمل وآخر للمحافظة على صحة الأم والأولاد.
وتكلمت السيدة أمينة السعيد عن كثرة الأولاد وعن أسباب التقليل من هذه الكثرة عند كثير من الفقهاء وذكرتها فيما يلي:
1-
ضعف المرأة عن تحمل الحمل بسبب عدم استعدادها له.
2-
مرض أحد الزوجين.
3-
الخشية على صحة المرأة من تكرار الحمل.
4-
عدم قدرة الأسرة على مواجهة ظروف الحياة.
5-
حرص المرأة على أن لا تفقد جمالها من كثرة الحمل.
وقالت عن الانفجار السكاني إنه من الطبيعي أن يفتح المسلمون الطريق لاتخاذ وجهة نظر معينة في تحديد النسل لإنقاذ البشرية، ودعت الفقهاء والمجتهدين إلى التفكير فيما فيه جلب المنفعة ودفع الضرر، وقالت إن الكثرة من الفقهاء تبيح تنظيم النسل قياسًا على العزل، وأوردت طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤيد ذلك.
ثم أوردت السيدة أمينة السعيد شواهد أخرى مستقاة من المذاهب الإسلامية وقدمت إلى ذلك بقولها: "ونحن إذا انتقلنا بعد ذلك إلى المذاهب الإسلامية الكبرى ألفيناها جميعًا تقر العزل وتبيحه، ومعنى ذلك أنها تجيز تنظيم النسل ولا ترى فيه شيئًا محرمًا" ومن هذه الشواهد:
1-
قول الإمام الغزالي الشافعي المذهب "اختلف العلماء في إباحة العزل وكراهته على أربعة مذاهب.. والصحيح عندنا أن ذلك مباح ".
2-
الأصل في الفقه الحنفي إباحة العزل باعتباره الوسيلة لمنع الحمل.
3-
فقهاء الحنابلة يذهبون أيضًا إلى إباحة العزل.
4-
فقهاء المذهب المالكي ينصون على جواز العزل لمنع الحمل.
5-
مذهب الزيدية ينص على إباحة العزل، وفيه أيضًا أن الإمام يحي بن زيد صرح بجواز العزل لمنع النسل.
6-
الشيعة الجعفرية. تبيح العزل لمنع الحمل.
7-
الشيعة الإسماعيلية لا تخرج على رأي الجعفرية في إباحة العزل استنادًا إلى القول "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها".
8-
مذهب الإباضية يجيز العزل ويقول علماؤهم "إن العزل يباح للفرار من الولد خشية الغيل وإدخال الضرر على الرضيع".
وتناول السيد محمد النابلي بعد ذلك الكثرة والقلة في الأولاد فقال: "إن الإسلام لا تعجبه الكثرة الهزيلة الواهية، ولا يقيم لارتفاع نسبتها وزنا. ولا يتخذ منها النبي الكريم سببًا للمباهاة بها، بل بالعكس تمقت الشريعة مثل هذه الكثرة الضعيفة كما ورد في "دلائل النبوة" عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) . فقال "أومن قلة نحن يومئذ؟ " قال: ((لا، بل أنتم كثرة ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن)) . قال قائل "وما الوهن يا رسول الله" قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) .
وأردف السيد محمد النابلي يقول "إن الدين في الوقت الذي حث فيه على كثرة النسل إنماء للأمة وتكوينًا لقوتها، قضي بصيانة هذه الكثرة من الضعف، ومن أن تكون غثاء كغثاء السيل".
وقال عن السبيل إلى الكثرة القوية أن "السبيل إلى هذا هو تنظيم النسل تنظيمًا يحفظ له قوته ونشاطه ويحفظ للأمة قوتها. والتنظيم في النسل على أساس منع الحمل مشروع في كتاب "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرملي الشافعي".
ثم قال السيد محمد النابلي "إن تنظيم النسل لتحقيق مصلحة الأفراد ولرفع مستوى الحياة للفرد وللمجتمع لا يمكن أن يكون فيه ما يتعارض مع الدين لأن تلك الأهداف هي أصلًا أهداف دينية أيضًا ويرى الإمام الغزالي أن منع الولد مباح ولا كراهة فيه؛ لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس عليه وترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج أو ترك التلقيح بعد المخالطة فكل ذلك مباح".
ثم ذكر السيد النابلي إن إباحة التنظيم مشار إليها في القرآن الكريم فقد روي عن الإمام الشافعي أنه فسر قوله تعالى "فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" سورة النساء 3 بأن القصد "ألا تعدلوا" هو أن لا تكثروا من عيالكم وهو ما وافق عليه الفخر الرازي، وهذا دليل على أن تنظيم النسل بحيث لا يكثر، داخل ضمنًا في معنى هذه الآية، كما أن إباحة التنظيم موجودة في قول الإمام علي رضي الله عنه "قلة العيال أحد اليسارين وكثرة العيال أحد الفقرين" ثم أورد السيد محمد النابلي بعد ذلك أقوال الأئمة والفقهاء في العزل وفي إباحته كما ذكر خطبة عمرو بن العاص في يوم الجمعة التي قال فيها "إياكم وخلالا أربعًا، فإنها تدعوا إلى التعب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذل بعد العز.. إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال وتضييع المال والقيل والقال".
وذكر الشيخ محمد المبارك عبد الله بأن الإسلام أقر التنظيم في أول العهد وذلك بتنظيم فترات الحمل وبالسماح بالعزل، وقال إنه لا فائدة من الحمل إذا كان في ذلك إضرار بالوالد أو الوالدة أو الأمة أو المجتمع، وأورد في الحض على عدم التكثير من النسل قول النبي صلى الله عليه وسلم "ليأتين على الناس زمان يغبط فيه الرجل لخفة الحال كما يغبط اليوم أبو العشرة".
وأورد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء الآتي: ((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء)) فقيل له "وما جهد البلاء يا رسول الله؟ قال: ((قلة المال وكثرة العيال)) . ومما يذكر عن الإمام أبي حنيفة أنه كان يوصي تلميذه أبا يوسف بما يلي "لا تتزوج إلا بعد أن تعلم أنك تقدر على القيام بجميع حوائج المرأة، وإياك أن تشغل بالنساء قبل تحصيل العلم فيضيع وقتك ويجتمع عليك الولد ويكثر عيالك، فإن كثرة العيال تشوش البال". ثم قال شيخ المبارك: ولا خير في كثرة النسل مع ضعف في الأجسام والنفوس والعقول والأخلاق فقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثرة مع الضعف والخور والتفكك حين قال: ((توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) .
وفسر الدكتور حسين أتاي معنى تنظيم الحياة العائلية بأنه الحصول على الأولاد الأصحاء والأقوياء وليس الحصول على الكثرة منهم لمجرد الكثرة، وأشار إلى أن الظروف لها أحكام، وأن الإجماع يمكن أن يعاد النظر فيه حسب الظروف، وأن أي قرار يتخذ الآن لا يجوز أن يكون ملزمًا في المستقبل لأن الظروف قد تتغير.
وكرر هذه الفكرة الدكتور لطفي دوغان الذي قال" الأسرة لا تكون في حالة حسنة إذا عاشت في بؤس وشقاء، مع كثرة الأولاد وعدم القدرة المالية، فعليها أن ترسم وتخطط لتحديد عدد الأولاد قدر الاستطاعة. كما فسر الحديث النبوي "تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" بأن فيه إشارة إلى كثرة الأولاد، ولكن الغاية منه هي أن تربي ولدًا صالحًا، مؤمنا بالله ورسوله، قويًا بعقله وبدنه، والكثرة هي الكثرة الصالحة. وهذا ما قاله الشيخ إبراهيم الدسوقي مرعي بأن الكثرة هي بالكيف لا بالكم.
وقال الدكتور عبد الرحيم عمران إن التنظيم في عدد الأولاد في الأسرة يعود بالنفع على المجتمع الإسلامي وعلى الأمة الإسلامية من نواح عديدة، ولا سيما إذا روعيت أيضًا الشئون الوراثية والجنينية لقيام جيل صحيح العقل والجسم وهذا لا يحدث إلا بتقليل الحمل، وفي الإسلام أقوال ثابتة تدعو إلى الاحتراس من كثرة العيال وتدعو إلى القلة القوية المنيعة، وأورد شواهد على ذلك من القرآن الكريم والحديث الشريف، ففي القرآن الكريم قوله تعالى "إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ" سورة الأنفال 65.
وفي الحديث الشريف "لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظا" وكذلك "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وولده وأبويه يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي ذهب فيها دينه فيهلك". وفي الحديث أيضًا "أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ" أي قليل العيال "ذو حظ من صلاة". والحديث الشريف "التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين". ويقول ابن عباس "كثرة العيال أحد الفقرين وقلة العيال أحد اليسارين " فالفكرة إذًا تدور حول فائدة كثرة العيال في الحقيقة، وهل هي مقياس للعزة والقوة والمنعة؟ ومع العلم بأن هذا المقياس لا يتوقف على العدد العديد وإنما على العلم والفن والفقه والإيمان ولو كان العدد قليلًا، وذكر الدكتور خلوق شيلوف أن إمكان التنمية الاقتصادية منوط بإيجاد حلول لمشكلات الأسرة ودعا إلى رأي صريح بأن الإسلام يؤيد تنظيم الأسرة وقال إن قانون تنظيم الأسرة في تركيا منذ 1965 جرى تطبيقه باختيار الأسرة حتى يكون هناك ترابط بين التنمية وزيادة السكان ومن ذلك تحديد عدد الأبناء حسب رغبتها.
وأشار الدكتور عبد السلام عظيمي في هذه المناسبة إلى قوله تعالى: "لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" الآية 21 من سورة الروم.
وقال: "إن الاطمئنان القلبي أو السكن مع الراحة والمودة التامة لا يمكن أن يوجد في بيت يعيش فيه عد كبير من الأولاد والأطفال". ولعل الدكتور عظيمي كان يشير هنا إلى ضرورة تحديد النسل عند الحاجة، فإن الكثرة أو التكاثر في الحديث الشريف "تناكحوا تكاثروا.." لا يجوز أن تعني الكثرة من حيث هي بل تعني الكثرة مع صلاح النسل حتى تستطيع الأسرة أن تعيش عيشة فضلى. وأباح العزل لأجل هذا التنظيم. ثم قال:"إنني أرى أن الأليق بالأمة الإسلامية، كما هو واضح من روح الشريعة الإسلامية أن تتبع فكرة تحديد النسل، ومعنى هذا مراعة ظروف كل أسرة وكل أمة ومقتضياتها الخاصة".
وأشار السيد محمد ظفار إلى تنظيم الأسرة والكثرة بقوله: "ما من أحد ينكر فوائد الحياة العائلية المنظمة، والواقع أن إنجاب أولاد أكثر أو أقل إنما يعتمد على الأوضاع والظروف، فأحيانا. تجب زيادة عدد السكان، كما يجب إنقاصهم في أحيان أخرى لحفظ التوازن، ولدينا قواعد لكلتا الحالتين في كتب الفقه الإسلامي".
وأشار كذلك الدكتور قيصر أديب ماجول إلى الكثرة والقلة في الأولاد وأوضح في هذا الصدد أن الآيات القرآنية التي تدعو إلى تقليل السكان أو تكثيرهم يجب أن تدرس بالنظر إلى الظروف التي نزلت فيها هذه الآيات. وأشار عند الكلام عن التخلف في المجتمعات الإسلامية وعن أن الإسلام غير مسؤول عن ذلك فقال: "إن المسلمين في الفيلبين يتأخرون بسبب الفقر والجهل وسوء الأحوال الصحية، وإنهم يحتاجون إلى التوعية أكثر من احتياجهم إلى الكثرة".
مركز الدراسات السكانية في الأزهر الشريف:
تكلم الدكتور عصام الناظر المدير الطبي والإداري لمنطقة الشرق الأوسط في الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية عن موضوع مهم وهو إنشاء مركز الدراسات السكانية في الأزهر والذي يجري البحث فيه. وجاء الكلام عن هذا الموضوع المهم في معرض المناقشات التي جرت بين أعضاء المؤتمر حول ضرورة وجود دراسات علمية للمجتمع الإسلامي من ناحية وللأسرة المسلمة من ناحية أخرى، وحول احتمال اضطلاع الأزهر الشريف بإعداد تلك الدراسات من خلال هذا المركز. وذكر الدكتور الناظر أن برقية وردت إليه إلى الرباط من هيئة الأمم المتحدة تطلب فيها منحها فرصة للتحدث إلى أعضاء المؤتمر عن المشروع، وهذا نص البرقية.
هيلتون – الرباط.
الدكتور عصام الناظر المدير الطبي والإداري لمنطقة الشرق الأوسط في الإتحاد العالمي لتنظيم الوالدية.
المشاورات الأخيرة للأمم المتحدة مع الحكومة المصرية. تشير إلى اهتمام مصر بعرض المشروع المقدم إلى صندوق الأمم المتحدة للنشاطات السكانية من قبل الأزهر لإنشاء معهد للأبحاث والدراسات الإقليمية للسكان. الصندوق مهتم مبدئيًا بمشروع الأزهر، بنود المشروع المقترح يمكن أن تشتمل على توفير الإمكانات للبحوث المخططة لتمكين الأزهر من تنسيق الأبحاث السكانية في المجتمعات الإسلامية، وتوفير إمكانية ترجمة المستندات والدراسات إلى جميع لغات الشعوب الإسلامية، ونشر المعلومات عن الأنماط السكانية وتوزيعها وبرامج تدريبية لتعليم الطلاب المسلمين في الأزهر وخارجه وإنشاء مكتبة. كما أكدت محادثة قريبة العهد مع وزير الأوقاف في القاهرة ما ورد أعلاه.
ويشير الصندوق في مؤتمر الاتحاد العالمي لتنظيم الأسرة بالرباط إلى أن المباحثات جارية حول إمكانية إخراج المشروع إلى حيز الوجود وأنه يرحب بالاقتراحات من أعضاء المؤتمر حول أبعاد العمل وبرنامجه في مؤسسات كهذه.
ثم أشار الدكتور الناظر إلى وجود السيد شدي الهنيدي في قاعة المؤتمر وهو المسؤول عن برامج الدراسات السكانية في منطقة أفريقيا والشرق الأوسط، وطلب إلى أعضاء المؤتمر أن يسمحوا للسيد الهنيدي بأن يقدم بيانًا يعرض فيه طلب الأزهر من صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية إنشاء مركز فيه للدراسات السكانية، وبعد موافقة الأعضاء على ذلك ألقى السيد الهنيدي هذه الكلمة.
منذ زمن طويل ومشكلة تزايد الأعداد مع ضآلة الموارد تؤرق رب الأسرة في معاشه كما تؤرق الحكومات التي تحاول جاهدة أن تزيد ميزانياتها القومية. بيد أن الاهتمام العالمي بالزيادة السريعة في عدد سكان العالم، بالمقارنة مع الموارد المتاحة، يعتبر وليد اليوم. ويرجع هذا الاهتمام إلى التزايد السريع في معدل النمو السكاني منذ عام 1900.
منذ بداية هذا القرن، بلغ عدد سكان العالم المسجلين نحو 1.7 بليون نسمة. وقد ارتفع هذا العدد حتى بلغ 2.5 بليون نسمة عام 1950، وفيما بين عامي 1950 و 1970، قفز هذا الرقم إلى 3.6 بليون نسمة. ومن الثابت أن ما يقرب من 2.5 بليون نسمة يعيشون في المناطق ذات الدخل المنخفض.
ولعل ما يتنبأ به الخبراء من تضاعف عدد السكان في أواخر القرن الحالي، يركز الضوء على المعضلة المحيرة التي تواجه البلدان النامية التي لم تتمكن حتى الآن. وبالرغم من عمليات التنمية الاقتصادية التي تجري فيها، لم تتمكن من الوفاء بالضروريات الأساسية للعيش الكريم، وما من شك في أن احتمال تضاعف عدد السكان الذين سيتعين إطعامهم وإسكانهم وتعليمهم وتوفير فرص العمل لهم، احتمال لا يبعث على الاطمئنان، وبخاصة إذا نظرنا إلى الوضع الراهن، حيث يعاني ملايين البشر من نقص التغذية، وضآلة الخدمات التعليمية والطبية، وانتشار البطالة.
ولقد تبنت الأمم المتحدة قضية الشعوب الفقيرة، فأعدت برامج لم يسبق لها مثيل تستهدف مساعدة الحكومات على رفع المستويات المعيشية لشعوبها، وبناء اقتصاديات متينة قوية تستطيع الاعتماد على نفسها. بيد أن الأمم المتحدة ما لبثت أن تصدت لتحد أكبر من هذا وأعظم شأنا، فأصبحت تهدف إلى دفع جهود التنمية الدولية على أوسع نطاق، حيث يتسنى تعميم مزايا الحياة المتحضرة بين البشر جميعًا في أقصر وقت ممكن. وإحداث تحسن في مستوى المعيشة على وجه الأرض.
وهكذا أصبحت البرامج السكانية من العوامل الجوهرية في نجاح مثل هذه الجهود، ولهذا الغرض، أنشئ صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية لمساعدة البلدان النامية على تنفيذ البرامج السكانية، وتوسيع نطاق عمل أجهزة الأمم المتحدة في هذا الميدان.
وقد أنشأ السكرتير العام للأمم المتحدة هذا الصندوق عام 1967، استجابة منه لقرارات الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في هذا الشأن، وبذلك أتيحت للحكومات والهيئات والأفراد فرصة تقديم التبرعات حتى تتضافر الجهود الدولية مع الجهود الوطنية في مجال السكان.
وفي الواقع، أن أسرة الأمم المتحدة قد اعترفت منذ زمن طويل بالعلاقة الوثيقة بين النمو السكاني وعملية التنمية، ولكنها فيما مضى، كانت تقدم مساعداتها في هذا الميدان في إطار التزاماتها الأخرى، فكانت الأمم المتحدة ووكالتها المتخصصة، تدرج بعض النواحي السكانية في البرامج المتعلقة بالعمالة والزراعة والتعليم والصحة.
ويلعب صندوق السكان دور العامل المساعد المنفذ، حيث يوفر الموارد اللازمة لتمويل الأنشطة السكانية الجارية عن طريق تنفيذ بعض المشروعات السكانية الكبرى الجديدة، والعمل على تنسيق جهود الأمم المتحدة، وإطلاع الحكومات على مختلف أنواع المساعدات التي يمكن تقديمها لها.
وقد بدأ الصندوق أيضًا في الاضطلاع بدور هام في التنسيق بين برامج الأمم المتحدة، والبرامج التي تقوم على تنفيذها هيئات ثنائية أو حكومية أو خاصة.
واليوم يمول الصندوق 400 مشروع في 61 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يزداد عدد مثل هذه المشروعات في السنوات القادمة. وقد بلغت جملة موارد الصندوق من التبرعات في عام 1971 ما يقرب من 25 مليون دولار، ينتظر أن تصل في عام 1972 إلى ما بين 40 و 45 مليون دولار.
ولو أننا نظرنا إلى معدل نمو السكان في معظم البلدان الإسلامية لوجدنا أن نسبته تبلغ في المتوسط نسبة 3 % وربما أكثر، وذلك في مقابل نسبة 8 % في أوروبا، ونحو 2 % بالنسبة للعالم ككل، وفي الحقيقة أن قلة الدراسات والبحوث والبيانات العلمية المتعلقة بمشكلات السكان في الدول الإسلامية، تؤكد الحاجة إلى بذل جهود نشيطة في هذا المضمار. وقد رأت جامعة الأزهر في جمهورية مصر العربية، حيث أن الدول الإسلامية في العالم متباعدة جغرافيًا، أنها - أي جامعة الأزهر- ربما استطاعت القيام بدور نافع في تنسيق البحوث والدراسات السكانية، وتدريب الأفراد على الأنشطة السكانية.
ومثل هذه الدراسات يمكن أن تكون بمثابة مصدر للمعلومات الأساسية، ومن شأنها أن تساعد خبراء التخطيط في كافة نواحي التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
ويعتقد الأزهر أن ثمة حاجة إلى القيام بدراسات تستهدف تحديد العوامل الأساسية التي تتحكم في مستوى دخل الفرد في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. ومستوى الإنتاج الفردي في تلك المجتمعات، ونسبة التعليم فيها، وغير ذلك من الخصائص المشتركة بين المجتمعات المسلمة. وهناك بالإضافة إلى ناحية البحث الحاجة إلى توفير الأفراد المدربين اللازمين لتنفيذ البرامج السكانية، وذلك عن طريق التدريب والتعليم على الصعيد الرسمي، والصعيد غير الرسمي.
وفي ضوء هذه الاعتبارات، طلبت جامعة الأزهر من صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن يقدم لها المساعدات المالية والفنية اللازمة لإنشاء مركز إقليمي مشترك للأبحاث والدراسات لمواجهة احتياجات الدول الإسلامية في جميع أنحاء العالم.
وتعلمون جميعًا أن عدد طلبة العلم في جامعة الأزهر يبلغ نحو 30.000 طالب يمثلون 71 جنسية إسلامية، وفضلًا عن ذلك فإن جامعة الأزهر هي أقدم جامعات العالم، وستحتفل بعيدها الألفي في النصف الأول من عام 1972: غير أنها بالإضافة إلى ذلك عملت في السنوات العشر الأخيرة على توسيع نشاطاتها وخدماتها، لتشمل فروع العلم الدنيوية إلى جانب العلوم الدينية، وفيها الآن كليات للطب، والهندسة، والقانون، والاقتصاد، والتجارة، والزراعة. . . إلخ.
ورغم أنها لا تزال تثقف كل طلبتها بتعاليم الدين الأساسية، فإنها ماضية في النهوض بتدريب العلوم الحديثة.
ولقد أدرك صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن جامعة الأزهر قادرة على القيام بهذا النشاط الدولي المقترح، فأوفد في الفترة الأخيرة إلى جمهورية مصر العربية بعثة تباحثت مع السيد الدكتور عبد العزيز كامل، وزير الأوقاف وشؤون الأزهر: وقد تم الاتفاق على أن يبحث الصندوق إمكانيات إنشاء المركز المقترح في نطاق الأزهر: كما أعرب السيد الوزير عن استعداد حكومته لاستضافة هذا المركز في أراضيها، كما أكد استعدادها لتأييد إنشاء مثل هذا المركز الدولي المشترك للبحوث والدراسات السكانية.
وترى جامعة الأزهر أن يؤدي المركز المقترح الخدمات التالية، على سبيل المثال:
1-
إعداد برنامج للدراسات العليا لتثقيف خريجي الكليات المختلفة بالتغيرات السكانية في المجتمعات الإسلامية، ومثل هذا البرنامج سيضمن أيضًا توفير البعثات الدراسية، وتقديم العون للكليات، وتطوير مناهج الدراسة لإعداد برامج تعنى بالاحتياجات التدريبية في الأمد القصير وفي الأمد الطويل، بما في ذلك وضع برنامج للتدريب الرسمي للحصول على درجة الدبلوم في الحركات السكانية الإسلامية.
2-
تتوافر للمركز ميزانية خاصة لتمويل البحوث، بغية تشجيع البحوث المشتركة بين عدة دول، وكذلك البحوث في نطاق جامعة الأزهر، وحيث إن هذا المركز سيقوم بدور الأمين على هذه الأنشطة والبحوث والتنسيق المركزي بينها، فإنه سيكلف أيضًا بمسؤولية نشر وتوزيع نتائج هذه البحوث وغير ذلك من المواد المتعلقة بالأنشطة السكانية.
3-
ولكي يتمكن المركز من نشر نتائج البحوث والمواد السكانية التي تعود بالنفع المشترك على المجتمعات الإسلامية على الصعيد العالمي، فستعمل الترتيبات اللازمة لإنشاء وحدة ترجمة لنشر مثل هذه المعلومات في أنحاء العالم بجميع لغات الشعوب الإسلامية المختلفة.
4-
وسيقوم المركز بتقديم الخدمات الاستشارية للدول الإسلامية في مجالات بحوث الإدارة والعمليات، وتنظيم البرامج السكانية والتقييم وغير ذلك من الأنشطة المتعلقة بالسكان حسب الحاجة.
5-
وبالإضافة إلى ذلك سيعقد المركز حلقات دراسية وندوات ومؤتمرات في مختلف دول العالم، فيتيح بذلك الفرصة لاجتماع علماء المسلمين وخبرائهم للتباحث في المشكلات السكانية والتنموية، وإيجاد الحلول لها.
ولما كان صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية يدرك أهمية قيام مثل هذا المركز للبحوث والدراسات السكانية فقد وافق من حيث المبدأ على مساندة هذا المشروع. ولذا فهو يرحب بآراء السادة أعضاء هذا المؤتمر فيما يتعلق بهذا الاقتراح، كما يرحب باقتراحاتهم لتحضير برنامج عمل مثل هذا المركز، وأنواع التدريب فيه، وكذلك فيما يتعلق بالمجالات والمشكلات التي يستحسن أن تكون لها الأولوية في البحث.
ويسر صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن يتلقى اقتراحاتهم التي نرجو أن ترسل مباشرة إلى المركز الرئيسي للصندوق في نيويورك.
ثم جرت مناقشة بين أعضاء المؤتمر حول الموضوع، وقدم أعضاء المؤتمر اقتراحات لهم بشأن المركز. ومن ذلك أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين اقترح أن يكون العلماء الباحثون في هذا المركز من المسلمين وأن يكون الجانب الديني لا الدنيوي من الأزهر الشريف هو الذي يقوم بالتعاقد، وأنه لابد للخبراء بعد إنجاز أبحاثهم من الاتفاق مع الأجهزة الدينية المعترف بها في العالم الإسلامي؛ لأجل التأكد من أن ما يصدرونه متفق مع الأحكام الشرعية.
الشبهات حول تنظيم الأسرة:
وقد أجمل الدكتور سليمان حزين صورة عن الأزهر الشريف وعن علاقته بموضوع مركز الدراسات السكانية، فقال:
فيما يتعلق بالمركز المقترح إنشاؤه في الأزهر الشريف فقد كان من حسن حظي ومن نعمة الله علي أن أكون أول من وضع يده في قانونه الجديد، ولا تزال لدي المسودات، ففي عام 1960 ائتمنتني الدولة على أن أضع مع زميل لي انتقل إلى رحمة الله مشروعًا لتنظيم الأزهر الجديد يربط بين الأزهر بصورته القديمة، وبين العلم الحديث. لقد حرصت غاية الحرص على أن يأتي المشروع متكاملًا بحيث لا تبقى في الأزهر الشريف كلية تعنى بالدراسات القديمة وحدها. ولا تكون فيه كلية تعنى بالدراسات الحديثة وحدها. حرصت على أن يجمع طالب الأزهر الشريف بين الثقافتين الدينية والدنيوية.
وسينشأ المركز المقترح متواضعًا في البدء على شكل وحدة قد تتطور فيما بعد إلى مركز، والمركز إلى معهد، وعلى أنني أتفق مع الأستاذ شمس الدين على أنه ليس لهذا المؤتمر أن يشير على الأزهر بشيء ولا أن يلفت نظر الأزهر إلى أن مثل هذا المركز يجب أن يحتفظ بالطابع الإسلامي؛ لأن في هذا تعريضًا بقدرة الأزهر على رعاية شؤونه أو قدرة جامعة الأزهر على رعاية شؤونها، ولهذا فإنني لا أرى إطلاقًا إلى الإشارة إلى هذا، وإنما أرى أن يتكرر أمره كله للأزهر، وهو قادر على أن يقوم على شؤونه بنفسه: وعلينا أن نطمئن إلى أن جامعة الأزهر في صورتها الجديدة جامعة دينية تسعى إلى أن تجمع بين القديم والجديد، وأنها تحرص على أن يكون أي مركز ينشأ فيها ذا طابع إسلامي يخدم العالم الإسلامي كله لا مصر وحدها، وجامعة الأزهر هي جامعة للمسلمين لا للمصريين، وتنص إحدى مواد قانونه كما وضعناه على أن يكون الطالب والمدرس مسلمًا لا أكثر.
وعلقت السيدة محاسن سعد على ما يثار من شبهات حول تنظيم الأسرة مثل وصفها بأنها دعاية استعمارية وما أشبه ذلك، وقالت بأن شعوب الدول الاستعمارية هي التي سبقت الدول الأخرى في الاقتناع بأهمية تنظيم الأسرة، وقطعت مراحل في تطبيقه قبل أن ننتبه نحن له. ثم ذكرت أن المسلمين عرفوا التنظيم منذ صدر الإسلام وأنهم استخدموا بعض الوسائل لتنظيم الأسرة وأضافت بأن بعض الشعوب الإسلامية تستعمل الأدوية البلدية والعقاقير وغيرها لمنع الحمل، وعليه فالمشكلة ليست محاولة من جانب الدول الغربية لتفرض علينا شيئًا معينًا، وأرى أن رفضنا لتلك الدول بوصفها دولًا استعمارية قد كون لنا عقدة خطيرة ما زلنا نعاني منها، فنحن دائمًا نعزو أخطاءنا إلى الاستعمار، ونبرر رفضنا للشيء بقولنا: إنه من الاستعمار.
ورد الدكتور أحمد الشرباصي على ذلك بقوله: " لقد أشرت في حديثي إلى هذه الشبهات ولم أقل إنها رأي لي، ولم أذكرها بوصفها وقائع وحقائق، وإنما قلت: إنها شبهات والشبهة قد تكون موجودة ولها أساس وقد تكون بلا أساس.. فإن كانت الشبهة واقعة حاربناها وقاومناها وإلا أهملناها ".
ثم أضاف قائلًا:
"إننا أعضاء هذا اللقاء لا نعطي كلمة فاصلة باسم الإسلام ولا نعبر عن إجماع المسلمين،وإنما نحن مجموعة من العلماء يعطون آراءهم الذاتية التي لا يلزمنا كمجموعة ومن باب لا تلزم غيرنا من المسلمين".
وأدلى الدكتور إبراهيم حقي برأيه في هذا الأمر فقال: "كلنا يعلم أن هناك منظمات دولية تعنى بأمور عامة كثيرة لرفع المستوى المعاشي في البلدان النامية، ولتأخذ بيدها فعلًا في سبيل النهوض بالنواحي الزراعية والاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك. ولكل بلد أن يطلب يد المساعدة من هذه المنظمات بالشكل الذي يتفق وحاجاته، مقدمًا الأهم على المهم، وأرجو أن يقدر أي الأمور أكثر أهمية لنا كمسلمين. فلنبدأ بطلب المعونة لتحقيقه".
وعند ذلك تدخل في الكلام الدكتور سليمان حزين فقال: "إن على الدول النامية أن تستفيد من الهيئات الدولية، ومن حقها أن تفعل ذلك وأنه لا مبرر لمركب النقص أو الخوف منها، وذلك لأن مثل هذه الهيئات الدولية تقوم بمهمتها على أساس أن تطلب الدولة المعونة وبعد أن يتم الاتفاق مع الدولة صاحبة العلاقة".
وهنا تدخل الشيخ أحمد سحنون وردد الشكوك حول الاهتمام الأجنبي بتحديد السكان، وشكك حتى في مشروعية المؤتمر فقال: "أحب أن أناقش أولًا مشروعية تصدي المؤتمر لدراسة قضايا خطيرة في الإسلام مثل قضية تنظيم الأسرة، فالدعوة إلى المؤتمر صدرت عن منظمة إقليمية دولية تمولها مؤسسات أجنبية لا حق لها في التدخل في شؤون الإسلام ولا حق لها في أن تقرر أو أن تخطط باسم الإسلام، وإنما كان ينبغي أن تتصدى لها الأمانة العامة التي انبثقت عن مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عقد في الرباط برئاسة السيد عبد الرحمن الطنجي أو أن يتصدى لها مجمع البحوث الإسلامية أو رابطة العالم الإسلامي أو غيرها من المنظمات الإسلامية.
ورد الدكتور سليمان حزين على ذلك قائلًا: "إننا نجتمع هنا في مؤتمر دعت إليه هيئة دولية محترمة تتعامل مع بلادنا الإسلامية على أساس أنه لا إكراه في الدين، وهذه المؤسسة إنما تستشيرنا لتبني رأيها، لكننا لا نستشيرها لنبني رأينا".
وعلق الدكتور عصام الناظر على هذا بقوله: "تكملة لحديث أستاذي الدكتور حزين باعتباره يمثل هيئة الأمم المتحدة، أرى واجبًا علي أن أقول كلمة عن الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية الذي أتشرف بتمثيله ويتشرف الاتحاد بأن يجمع هذا الحفل الكريم.
الاتحاد العالمي هو منظمة غير حكومية ولها مركز استشاري لجميع المنظمات الخاصة لهيئة الأمم المتحدة، إن نشاطات الاتحاد تقوم من خلال جمعيات أهلية وقومية، وهي في غالبيتها جمعيات تطوعية، ويضم الاتحاد حاليًا حوالي ثمانين منظمة في جميع أنحاء العالم وتتلخص نشاطات الاتحاد بالنقاط التالية:
1-
توفير المعلومات للجمعيات الأعضاء وللرأي العام عن جميع جوانب قضايا السكان والتطور في العالم.
2-
المساعدة على تأليف جمعيات وطنية لتنظيم الأسرة في الدول غير الأعضاء.
3-
توفير التدريب الفني للأطباء والممرضين والعاملين في الحقل الاجتماعي في ممارسة تنظيم الأسرة.
4-
تشجيع وعقد مؤتمرات عالمية وإقليمية حول مشاكل تنظيم الأسرة، وهذا المؤتمر أحد هذه النشاطات.
5-
تشجيع البحث العلمي في علم التناسل البشري، الدراسات السكانية والاجتماعية ووسائل منع الحمل والإخصاب وقلته أو عدمه، ثم مضمون الوالدية المنظمة أو الوالدية المسؤولة وينبثق نشاط الاتحاد العالمي عن إيمانه بما يلي:
1-
إن المعرفة لتنظيم الوالدية هو حق إنساني وأساسي.
2-
إن التوازن بين السكان في العالم ومصادر الثروات القومية هو شرط أساسي للتطور الاقتصادي وسعادة البشرية.
3-
إن تنظيم الأسرة هو طب وقائي من أجل صحة الأم والأطفال وبالتالي فإن الاتحاد يهدف لتطوير المعرفة والممارسة لوسائل منع الحمل للعالم أجمع، ويهتم بصورة خاصة بتشجيع إدخال تنظيم الأسرة في الخدمات الأساسية للصحة العامة وبرامج الإنعاش الاجتماعي.
الإسلام وتنظيم الأسرة
تحليل وتعليق
مفهوم تنظيم الأسرة في الإسلام:
دلت مناقشات المؤتمر على أن الإسلام قد تناول مفهوم تنظيم الأسرة في إطار أشمل وأكمل من النظريات الحديثة في هذا الموضوع، فهو لا يقصر التنظيم على كثرة الذرية وقلتها- وهذا ما يراد به في الغالب- بل يتوسع في ذلك إلى تناوله في إطار أوضاع الأسرة المختلفة، بما في ذلك وضعها الصحي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربوي. كما يتناوله في إطار المجتمع المسلم كله، على أساس أن مصالح الجماعة مقدمة على مصالح الأفراد، ويشمل ذلك المسائل المتصلة بكثافة السكان، وتوزيعهم الجغرافي، والقوى العاملة، ومدى التوازن بين معدل السكان وبين معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي والتربوي بحيث لا تضعف الدولة، أو تصير الكثرة فيها غثاء كغثاء السيل، ولم نر في دراستنا الأخرى أي تفاصيل مماثلة لموقف الإسلام في تنظيم الأسرة، ولا غرابة في ذلك، إذ الإسلام آخر الأديان وتعاليمه صالحة إلى آخر الزمان، فكان لابد وأن يضع التشريعات لأحوال مختلفة حسب الزمان والمكان، ومن هنا تبرز مرونة الإسلام فوق كل الأديان والفلسفات الأخرى إذ أتاح للأسرة المسلمة خلال تاريخها الطويل التكيف مع ظروف الحياة المتجددة بحيث لا يحملها فوق ما لا تطيق، أو يكلفها بما يرهق كاهلها.
وقد وضع المؤتمر تعريفًا عمليًّا لتنظيم الأسرة هذا نصه: " تنظيم الأسرة" هو قيام الزوجين بالتراضي بينهما، وبدون إكراه، باستخدام وسيلة مشروعة ومأمونة لتأجيل الحمل أو تعجيله، بما يناسب ظروفهما الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك في نطاق المسؤولية نحو أولادهما وأنفسهما" (1)
(1) وافق المؤتمر بالإجماع على هذا التعريف لتنظيم الأسرة وورد في التقرير النهائي للمؤتمر راجع الإسلام وتنظيم الأسرة
شبهات وتخوفات:
لابد أن ننبه القارئ الكريم إلى أن المؤتمر كان يعمل تحت ضغوط وتخوفات وشبهات مختلفة منها:
أولًا: شبهة ارتباط تنظيم الأسرة في أذهان بعض الأعضاء بمشكلة السكان، بمعنى أن تنظيم الأسرة يقصد به حل مشكلة التضخم السكاني لا غير. ولما كانت هناك بلاد إسلامية لا تعاني من هذه المشكلة فلا داعي لتعميمه، وفي نظر هؤلاء أن العالم الإسلامي غني بالثروات الطبيعية والمعدنية والبترولية التي لو استغلت استغلالًا سليمًا مع حسن توزيعها بين الأقطار الإسلامية حسب حاجاتها لما كانت هناك مشكلة سكان، وبالتالي لا داعي لتنظيم الأسرة من الناحية الاجتماعية وَإِنْ أباحته الشريعة الإسلامية، وقد رد على هذا الرأي كثيرون من أعضاء المؤتمر وأكدوا بأن تنظيم الأسرة حق إنساني أساسي يلجأ إليه سواء أكان هناك مشكلة تضخم سكاني أو لم يكن، وذلك بقصد المحافظة على صحة الأم والطفل، ورفع المستوى الاجتماعي والتربوي للأسرة، وإتاحة الفرصة للمرأة المسلمة المثقفة عادة بأعباء الولادة المتكررة، للمشاركة في بناء المجتمع عن طريق عناية واعية بأطفالها أو مساهمتها في أعمال زوجها، أو انضمامها للقوة العاملة في حدود آداب الإسلام.
أما من حيث غنى العالم الإسلامي بالثروات المختلفة، وضرورة استغلالها وتوزيعها بين الأقطار المسلمة كل حسب حاجته، فالواقع يثبت أن هذا حلم عزيز المنال، وحتى يحدث ذلك، لابد لكل بلد أن يعمل جاهدًا على الموازنة بين موارده وثرواته من ناحية، وبين عدد سكانه من ناحية أخرى بحيث لا يحدث الحرج للأسرة من كثرة العيال، أو الحرج للقطر كله من تضخم السكان دون وجود موارد كافية، وهو ما استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه "جهد البلاء".
ثانيًا: شبهة تخوف بعض الأعضاء من أن يكون تنظيم الأسرة مؤامرة أجنبية يقصد بها تقليل عدد المسلمين وكسر شوكتهم، واحتج هؤلاء بأن حركة تنظيم الأسرة في العالم الثالث وراءها دول غربية يشك في أغراضها ونواياها، ولها تاريخ غير مشرف في البلاد المتخلفة اقتصاديًّا. بل ذكر بعض الأعضاء أن المؤتمر نفسه دعت إليه منظمة أجنبية غير مسلمة، وكان الرد على ذلك بأن العالم الإسلامي تعامل دائمًا مع الهيئات الدولية، وأن المنظمة التي دعت إلى المؤتمر "الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية" خدمت الكثير من البلاد الإسلامية وغيرها.
ثم إن تنظيم الأسرة لا يقصد به التقليل من عدد السكان، ولكن التحكم في معدل الزيادة كما هو الحال في البلاد المتقدمة اقتصاديًّا، ولو كان تنظيم الأسرة ضارًّا لما أخذت به الأمم الغربية، فبينما نجد أن معدل زيادة السكان في العالم الإسلامي قد يزيد على 30 في الألف سنويًّا فإن ذلك المعدل لا يزيد عن 10 في الألف في البلاد الغربية.
ثالثًا: تخوف بعض الأعضاء من أن يترتب على إباحة تنظيم الأسرة أن يمارس وسائله الشباب غير المتزوج، كما قد يؤدي إلى رواج الفوضى الجنسية والانحلال الخلقي في العالم الإسلامي، وقد رد بعض الأعضاء على ذلك أن التربية السليمة للنشء كفيلة بأن ترد عنا هذا الانحلال، وهذه التربية واجبة سواء أكان هناك تنظيم أسرة أو لم يكن. ويرى البعض أن تنظيم الأسرة سيسمح للوالدين بالوقت الكافي للاهتمام بتربية أولادهم تربية دينية سليمة.
رابعًا: تخوف بعض العلماء المتخصصين في الفقه الإسلامي من أن يلجأ غير المختصين في هذا الفقه من علماء الطب والاجتماع مثلًا إلى تفسير الآيات والأحاديث بدون الإلمام التام بأصول الفقه الإسلامي، ولذلك فقد نظر علماء الفقه بحذر إلى ما يقوله علماء الطب والاجتماع والاقتصاد ومعظمهم يؤيد تنظيم الأسرة، ومن هنا كان التخوف من تنظيم الأسرة نفسه، ولكن المناقشات نفت هذه الشبهات وقربت من وجهات النظر، واستطاع المؤتمر أن ينتج للمسلمين ثبتًا قيمًا في موضوع خطير وهام يواجه الأمة الإسلامية في العصر الحالي:
موضوعات المناقشة:
ركز أعضاء المؤتمر كلماتهم وتعليقاتهم في الموضوعات الرئيسية التالية:
1-
آراء الفقهاء في تنظيم الأسرة.
2-
الزواج واستحبابه من ناحية، وعلاقته بتنظيم الأسرة من ناحية أخرى.
3-
وسائل تنظيم الأسرة وشرعية كل منها.
4-
الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة.
5-
الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة.
6-
موضوع الكثرة في الإسلام وتنظيم الأسرة.
7-
تنظيم الأسرة في المجتمع الإسلامي وخبرة بعض الأقطار الإسلامية.
آراء الفقهاء في تنظيم الأسرة:
استشهد أعضاء المؤتمر على شرعية تنظيم الأسرة بأمور أربعة:
* كان الرأي الغالب في المؤتمر أن الحكم الشرعي الإسلامي في موضوع تنظيم الأسرة، ينهض في الأغلب على الاستنباط والاجتهاد، والقاعدة الأساسية في ذلك هي مراعاة المصلحة، ورفع الضرر عن الأسرة والمجتمع، والنصوص في ذلك كثيرة، منها الآيات الكريمة التالية:
"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"
"وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"
"يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"
ومن هنا يلزم تكييف الأحكام بحيث تمنع الحرج عن المسلمين وفي ذلك يقول الفقيه الحنفي ابن عابدين: "كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عُرْف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف، ورفع الضرر والفساد، ولبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام".
أما تحريم تنظيم الأسرة فلا ينص عليه إطلاقًا:
* إن تنظيم الأسرة ليس أمرًا جديدًا على الإسلام وقد تبين من مناقشات المؤتمر أن الصحابة أنفسهم مارسوه وعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إنهم ناقشوه فيه، فلم ينههم عن ذلك. وكان القرآن ينزل في ذلك الوقت، ولو كان أمرًا محرمًا لنزلت فيه آيات تحرمه، وقد استشهد كثير من الأعضاء بحديث جابر في ذلك وبأحاديث أخرى، ولكن يكفينا حديث جابر إذ يقول:"كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل وبلغ ذلك رسول الله فلم ينهنا، ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا القرآن".
* استشهد أعضاء من المؤتمر بآثار غير مباشرة، وهي كراهة الغيل أي الحمل أثناء إرضاع طفل سابق، ولا يعقل أن يمنع الإسلام الزوجين من المباشرة الجنسية مدة الرضاعة إذ قد تصل إلى عامين كاملين دون أن يسمح لهما بما يمنع الحمل.
* استعرض المؤتمر آراء المذاهب الإسلامية المختلفة فوجدها كلها إما مبيحة لتنظيم الأسرة بدون شروط، أو تشترط موافقة الزوجين، أو تكره التنظيم دون حاجة.
المذهب الحنفي:
الأصل في المذهب الحنفي هو إباحة العزل لمنع الحمل، إلا أنهم اختلفوا في ضرورة موافقة الزوجة، فالخلاف ليس على جواز العزل أو عدمه، ولكنه على شرط موافقة الزوجة. وقد أفتى الشيخ عبد المجيد سليم عام 1937 أن علماء الحنفية أجازوا العزل بدون رضا الزوجة إذا كان هناك عذر كأن يخاف الزوج من الولد لسوء فساد الزمان.
المذهب الشافعي:
يرى الإمام الغزالي جواز العزل، وقد فند حجج الذين يكرهونه، ثم قال: والصحيح عندنا أنه مباح، وقد ذكر عدة أسباب للعزل منها استبقاء جمال المرأة وسمنها، واستبقاء حياتها خوفًا من الحمل والولادة، والخوف من الحرج بسبب كثرة العيال.
المذهب المالكي:
يجوز العزل في هذا المذهب لمنع الحمل بشرط رضا الزوجة صغيرة كانت أو كبيرة.
المذهب الحنبلي:
يذهب العلماء في هذا المذهب أيضًا إلى إباحة العزل وإن كانوا يشترطون رضا الزوجة، ويكرهه بعضهم لغير عذر.
مذهب الشيعة الإمامية الجعفرية:
يبيح هذا المذهب العزل مع إذن الزوجة، ويمكن أن تستأذن الزوجة عند العقد ولا يلزم استئذانها بعد ذلك.
مذهب الزيدية:
يبيح العزل مع رضا الزوجة
مذهب الإباضية:
يبيح العزل فرارًا من الولد وإدخال الضرر على الرضيع.
مذهب الإسماعيلية:
مثل الجعفرية.
هذا وقد انتهت مناقشات المؤتمر إلى عدة نقط أخرى مهمة:
الأولى: أن علاج العقم جزء لا يتجزأ من تنظيم الأسرة حتى تشعر الجماهير أن إسعاد الأسرة هدف عام، وليس مقصورًا على الذين عندهم أولاد أكثر من اللازم.
والثانية: دعا بعض الأعضاء إلى الاتصال بالقائمين على الجامعات الإسلامية والمعاهد الدينية لكي يجعلوا "تنظيم الأسرة" ضمن الموضوعات التي يدرسها الشباب.
والثالثة: أن تنظيم الأسرة ليس هو الطريقة الوحيدة لمواجهة مشكلة تضخم السكان، بل يجب أن يصحب التنظيم العمل بكل جهد لمضاعفة الإنتاج وتطويره. واستغلال الموارد المهملة، والطاقات المطمورة.
الزواج وعلاقته بتنظيم الأسرة:
ناقش المؤتمر موضوع استحباب الزواج في الإسلام، فأشاد بذلك، ورأى أنه لا تعارض بين استحباب الزواج وتنظيم الأسرة، وبرزت إلى جانب ذلك نقطة مهمة وهي أنه يستحب تأجيل الزواج لحين القدرة عليه، ونرى أن هذه القدرة في العصر الحديث لا تقتصر على الناحية المادية، بل تشمل كذلك القدرة الاجتماعية والصحية بمعنى أنه يمكن تأجيل الزواج لحين إتمام التعليم مثلًا، أو لحين نضج الزوجين وخصوصًا الفتاة.
وسائل تنظيم الأسرة:
دلت النصوص الفقهية المتداولة في المؤتمر على أن العزل هو الوسيلة التي كانت شائعة بين الصحابة والمسلمين الْأُوَل والتي نصت عليها كثير من كتب الفقه.
وقياسًا على إباحة العزل، أباح الفقهاء الوسائل الأخرى المشروعة، وقد ذكرت في المؤتمر فتوى الشيخ عبد المجيد سليم عام 1937 التي أجاز فيها أن تضع المرأة شيئًا بداخل رحمها لمنع وصول ماء الرجل إليه ومعنى ذلك أن الإباحة ليست مقصورة على العزل ولكن تتعداه إلى الوسائل الأخرى كحبوب منع الحمل، واللولب، والحجاب الحاجز، والمواد الكيمياوية وما يستجد من وسائل لمنع الحمل.
وكان هذا الرأي مطمئنًا لكثير من المسلمين والمسلمات فهناك ملايين في العالم الإسلامي اليوم يستعملون هذه الوسائل كما أن العدد يزيد يومًا بعد يوم.
الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة:
يمكن أن نستخلص من مناقشات المؤتمر أن تنظيم الأسرة يُلْجَأ إليه لدواع اجتماعية واقتصادية وأسرية نذكر منها:
1-
حسب ما يقوله الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين": "الخوف من كثرة الحرج لسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء"، ويقول الغزالي:"وهذا أيضًا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معينة على الدين".
2-
تمكين الأسرة المسلمة من تنشئة أطفالها تنشئة إسلامية سليمة وهذا يستدعي تخصيص الأوقات والجهود لهم، ولا يمكن ذلك إذا كان عدد الأطفال كثيرًا.
3-
أما على المستوى القومي فقد تلجأ الدولة إلى ترويج تنظيم الأسرة لرفع مستوى المعيشة بين مواطنيها، ولتخفيف حدة التضخم السكاني إذا حدث، أو الوقاية قبل أن يحدث، كذلك فإن تنظيم الأسرة يساعد الدولة على القضاء على البطالة وتشجيع النمو الاقتصادي.
الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة:
كذلك ناقش المؤتمر الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة وهي دواع خاصة بالمحافظة على صحة الأم والطفل ومنها:
1-
أن يكون هناك مرض من الأمراض المعدية أو الوراثية يخشى انتقاله من الأبوين إلى الذرية فتشقى به حياتهما.
2-
الخوف على صحة الأم وسلامتها بسبب الحمل المتتابع، إذا كانت مريضة وسيزيد مرضها بحملها، أو سيتأخر شفاؤها، أو سيحدث لها المرض بسبب الحمل.
3-
الإشفاق على الولد الرضيع من الحمل مدة الرضاع وهو ما يعرف في الفقه بالغيل.
4-
الخوف على صحة الجنين والأطفال إذا حدث الحمل على فترة قريبة من حمل آخر، أو إذا حدث لفتاة صغيرة السن أو لامرأة فوق الخامسة والثلاثين.
الفصل الثالث الإسلام والإجهاض
تقدمة
كان الموضوع الثالث الذي تعرض له المؤتمر هو موضوع الإجهاض ورأي الإسلام فيه. وبخلاف تنظيم الأسرة فإن موضوع الإجهاض مشحون بالعاطفة كما أنه أمر يهم الجميع من ناحية صحة الأم ومستقبل الطفل؛ لذلك فقد اتسمت مناقشات المؤتمر بالشدة نسبيا، لتحمس بعض الأعضاء لآرائهم في هذا الشأن، وقد اعتمدت كل الآراء المتعارضة على نصوص من الفقه بعضها يبيح الإجهاض وبعضها لا يبيحه.
والإجهاض من الموضوعات التي تعرض لها الفقه الإسلامي في العهد الأول ببعض التفصيل، ومن يومئذ تغيرت ظروف المسلمين تغيرا كبيرا وتغيرت الدواعي للإجهاض، فبعد أن كان أمرًا يخص إنزال الجنين في حادث تلزم فيه الدية أحيانًا، أصبح الإجهاض وسيلة طبية لإسقاط الجنين لظروف اجتماعية ونفسية وصحية عديدة لم تكن مألوفة من قبل ولهذا لزم التعرض له بالتفصيل.
ولقد انتشر الإجهاض العمد في العالم كله بحيث تقدر عدد حالاته من الثلاثين إلى خميس مليون كل عام. ولم يقتصر الانتشار على الأمم غير الإسلامية بل امتد أيضا إلى أمم مسلمة عديدة منها تركيا، وإيران، ومصر، والأردن، وأندونيسيا، وتونس، والمغرب، وبنغلاداس وغيرها، بل إن بلادا إسلامية قد أباحت الإجهاض بقانون " تونس، الجمهورية العربية اليمنية، والجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية" كما أن بعض الدول الإسلامية الأخرى تنظر الآن في السماح به " أندونيسيا " بينما لا تزال البلاد الإسلامية الأخرى تطبق قوانين وضعية نقلتها عن الدول الغربية، وهي قوانين تحرم الإجهاض، وتعاقب عليه، وقد احتفظت هذه الدول بتلك القوانين حتى بعد أن لجأت الدول الغربية نفسها إلى إباحة الإجهاض بقانون في بلادها.
وهناك عده أسئله تدور بخاطر المسلمين عن الإجهاض منها:
1-
علام يعتمد رأي الإسلام في الإجهاض، على القرآن والسنة أم على الاجتهاد والتأويل؟
2-
ما هي تطورات الجنين حسب النصوص الفقهية؟ وهل يتفق ذلك مع الطب الحديث؟
3-
متى تدب الحياة في الجنين، وهل يعتبر الجنين قبل نفخ الروح جمادا لا حياة فيه؟ ومتي يصير إنسانا يحرم قتله؟ وما هي الروح؟ وكيف نعرف أنها دخلت الجنين؟ وهل حركة الجنين علامة على ذلك؟
4-
هل الإجهاض حلال كله أو حرام كله، أم أنه حلال في ظروف بعينها وحرام في غيرها؟
5-
إذا كان الإجهاض مسألة تختلف فيها الآراء فما هو وضع امرأة أجهضت نفسها. هل هي آثمة أم غير آثمة؟ وهل الطبيب الذي أجهضها آثم أم غير آثم؟
6-
ما هي دواعي الإجهاض المسموح به؟ هل هو المحافضة على حياة الأم؟ وهل يشمل أيضا المحافظة على صحتها أو حالتها النفسية؟ وهل هناك دواع جنينية للإجهاض؟
7-
هل الضغط السكاني من دواعي الإجهاض؟
8-
هل للدولة المسلمة أن تبيح الإجهاض بقانون؟
خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط:
مفهوم الإجهاض المتفق عليه في المؤتمر هو خروج الجنين أو إخراجه أو سقوطه أو إسقاطه بصورة غير طبيعية، ويشمل ذلك الإجهاض العفوي والإجهاض العمد.
وفي الفقه الإسلامي نوعان من الإجهاض وهما:
(1)
الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين أي قبل مرور 120 يوما من ابتداء الحمل.
(2)
الإجهاض بعد نفخ الروح أي بعد مرور 120 يوما على الحمل.
ذكر الدكتور حسان حتحوت أن المؤتمر الذي نظمة الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية في بيروت سنة 1971 (1) عن " الإجهاض العمد وأخطاره الصحية" أظهر وجود تيار قوي يشيد بفوائد الإجهاض القانوني الصحية، كما أظهر خلافا سديدا حول موقف الإسلام من الإجهاض، ولما لم يكن بعض أعضاء الندوة شيوخ مسلمون أو علماء في الفقه الإسلامي فقد اقترح الدكتور حتحوت أن يجرى البحث في هذا الموضوع في مؤتمر آخر يعقد فيما بعد فاستجاب الدكتور عصام الناظر لهذا الاقتراح وأعد العدة للمؤتمر الذي عقد في الرباط والذي نحن بصدده. وتكلم حتحوت عن الإجهاض من ناحية تاريخية وتشريعية فقال: إن الإجهاض كان ممنوعا ولا يسمح للطبيب بإجرائه. وبقي الأمر على ذلك حتى الأمس القريب حينما كاد الإجماع على تحريم الإجهاض أن يكون تامًّا، باستثناء الحالات التي يكون فيها استمرار الحمل خطرا عاجلا أو آجلا على حياة المرأة، أو الحالات التي يترجح أو يتأكد فيها أن الجنين مصاب بالتشوه أو الخلل الخطير. فإباحة الإجهاض كانت في عمومها مبنية على دواع طبية قاهرة تعترف بها القوانين، وتعتبر الإجهاض في غيره جريمة ذات عقوبة منصوص عليها في قانون العقوبات، ولو أن كثيرا من حوادث الإجهاض غير المشروع كانت تجري في الخفاء ولا يصل إليها القانون أو تجرى بتزوير شرعي، غير أن السنين الأخيرة قد شهدت نزعة قوية لدى الكثير من البلاد في العالم إلى توسيع نطاق الإجهاض المباح، لا بالتوسع في مبرراته الطبية، ولكن بالاعتراف بدواع أخرى غير طبية، تتيح للمرأة أن تطلب الإجهاض من الطبيب كما تبيح للطبيب إجراءه.
(1) كان هذا أول مؤتمر من نوعه لبحث مشكلة الإجهاض غير القانوني المتزايدة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد حضر المؤتمر ممثلون عن معظم كليات الطب ووزارات الصحة ودوائر الإحصاء والعاملين في حقل تنظيم الأسرة في المنطقة مع العديد من الخبراء العالميين، وقد نشرت أعمال المؤتمر وأبحاثه عام 1972 في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان " الإجهاض العمد – خطر يهدد الصحة العامة"، ويمكن الحصول على هذا الكتاب من الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية – ص ب 18 قرطاج – تونس.
وبدلا من أن يكون " الإجهاض القانونى" مرادافًا " للإجهاض الطبي" انقسمت دواعي الإجهاض القانوني إلى عدة شعب هي:
1-
الدواعي الطبية. 2- الدواعي الجنينية. 3- الدواعي الإنسانية. 4- الدواعي الطبية الاجتماعية. 5- الدواعي الاجتماعية.
الدواعى الطبية:
كان المفهوم أن الظروف التي يسمح فيها بإجراء عملية الإجهاض هي إنقاذ حياة الأم. ثم اتسع مفهوم هذه الظروف حتى شمل إنقاذ صحتها، واتسع بعد ذلك حتى شمل أيضا المحافظة على صحتها النفسية، ثم وسعه البعض أكثر من ذلك لينطبق على تعريف " الصحة" الذي أورده دستور منظمة الصحة العالمية ووافقت عليه جميع الدول وهو " الصحة هي حالة من السلام الجسمية والنفسية والاجتماعية وليست مجرد حالة انتفاء المرض أو العجز"، وما زالت معظم الدول الإسلامية تقصر إباحة الإجهاض على غرض إنقاذ حياة المرأة فقط، في حين أن الكثير من الدول تسمح بالإجهاض للحفاظ لا على حياة المرأة فقط وإنما على صحتها أيضًا.
الدواعى الجنينية:
تشمل مع انتشار الأمراض الوراثية – والحيلولة دون ولادة أطفال ذوي عاهات جسمية أو عقلية تنتج عن تعرض الجنين داخل الرحم للعدوى بأمراض معينة أو لجرعات خطرة من الإشعاع أو العقاقير تناولتها الأم أثناء الحمل، وهذه الدواعي بالطبع ملحقة بالدواعي الطبية، وتعترف بها الكثير من الدول.
ولقد كان للحصبة الألمانية لما قد تسببه من تشويه خلقي للجنين ولدواء الثاليدومايد لما أحدثه من تشويه فاحش في الأطفال باعثا قويا على الاعتراف بالدواعي الجنينية.
الدواعي الإنسانية:
أباحت بعض البلاد الإجهاض لمثل هذه الدواعي كالحمل الناتج عن الاغتصاب أو من محرم أو من مواقعة قاصر أو ضعيفة العقل، أو حينما يكون الحمل ثلما لشرف الحامل أو شرف أسرتها.
الدواعي الطبية الاجتماعية:
وهي دواع تقرها دول كاليابان والدول الإسكندنافية ودول أوروبا الشرقية، وأقرتها بريطانية مؤخرًا، وكانت أيسلندة أول دولة فتحت الباب أمام الإقرار بالدوافع الطبية الاجتماعية، إذ نص تشريعها سنة 1935 على أن تقدير حالة " الخطر" بالنسبة إلى الأم ينبغي أن يأخذ في الاعتبار غزارة الإنجاب، وتقارب الولادات، والمدة الزمنية منذ الولادة الأخيرة، والأعباء المنزلية الناجمة عن كثرة الأولاد، ثم الضيق الاقتصادي، ومرض بعض أفراد الأسرة الآخرين، وبعد ذلك حذت حذو أيسلندة دول أخرى كثيرة، فعدلت السويد في سنة 1946 قانونها لسنة 1938 ليبيح الإجهاض آخذا في الاعتبار ظروف المرأة المعيشية التي تجعل إنجاب الطفل يؤثر تأثيرا ضارا على حالتها الجسمية والنفسية، ثم عدلت الدنمارك في سنة 1956 قانونها لسنة 1937 ونص التعديل على ضرورة اعتبار ظروف المرأة كلها، بما في ذلك ظروف الحياة التي تعيشها، مع أخذ الآثار الجسمية والنفسية بالاعتبار، وإلى مثل ذلك ذهبت فنلندا سنة 1950، وينص قانون النرويج لعام 1960 على أن أية قابلية خاصة لدى المرأة للمرض الجسماني أو النفساني ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار لإجراء الإجهاض، بالإضافة إلى ظروفها المعيشية أو أية ظروف أخرى من الجائز أن تؤثر في صحتها فتفضي إلى انهيار في صحتها الجسمانية أو النفسانية، وفي اليابان يباح الإجهاض بقصد حماية المرأة من الإرهاق الصحي أو العنت الاقتصادي، وفي بريطانيا قانون الإجهاض الجديد لعام 1967 على أنه عند تقرير مدى توقع الخطر على المرأة ينبغي النظر إلى البيئة التي تعيش فيها المرأة فعلا وإلى البيئة التي تعيش فيها في المستقبل المنظور. ومثل ذلك في جنوب أستراليا " 1970" وبالولايات المتحدة الأمريكية "1969"، كما أقرته الهند سنة "1971".
الظروف الاجتماعية:
قد أخذت بها بعض الدول لإباحة الإجهاض، ولا سيما دول أوروبا الشرقية، وفي قوانين سنة 1970 في فنلندا والدنمارك وألمانيا الشرقية يسمح بالإجهاض إذا كان للمرأة أربعة أولاد وكانت الفترة بين ولادة وأخرى أقل من خمسة عشر شهرًا. وإذا وقع الحمل الحاضر بعد أقل من ستة أشهر منذ انتهاء الحمل السابق، أو إذا كانت الزوجة " وحدها أو مع زوجها" تقوم بشأن خمسة أولاد أو أكثر، وفي بلغاريا يجوز الإجهاض للمرأة التي لديها ثلاثة أولاد، وفي رومانيا يجوز الإجهاض في تشيكوسلوفاكيا لمن لديها ثلاثة أولاد أو أكثر، وفي الدنمارك يباح بدون إذن لمن لديها أربعة أولاد، وفي تونس " بقانون 1965"(1) يباح الإجهاض لمن لديها خمسة أطفال أحياء، وبدون تحديد عدد الأطفال بقانون 1973 (2) وثمة دوافع اجتماعية أخرى، ففي تشيكوسلوفاكيا يباح الإجهاض لوفاة الزوج أو عجزه أو بعده عن زوجته ووقوع مسؤولية العيال على كاهل المرأة وحدها والظروف الحرجة التي تجابه المرأة غير المتزوجة من جراء الحمل، وفي سنغافورة يعتبر الوضع الاقتصادي وحده مبررا للإجهاض.
وبعض الدول تبيح الإجهاض قبل سن معينة لأسباب إنسانية أو اجتماعية أو فوق سن معينة لأسباب طبية اجتماعية أو طبية جنينية. فهو مباح في ألمانيا الشرقية دون سن 16 وفوق 40 وفي فنلندا دون 17 وفوق 40، وفي تشيكوسلوفاكيا دون 16 وفوق 45، وفي الدنمارك فوق 38 أو إذا قضت لجنة طبية أن الحامل لم تبلغ من النضج الجسمي أو العقلي درجة تمكنها من رعاية المولود وتشترط بلغاريا موافقة الوالدين دون سن 16 وتبيحه إطلاقا فوق 45.
(1) نص القانون رقم 65 – 24 بتاريخ 1/7/1965 يرخص في إنهاء الحمل خلال الثلاثة أشهر الأولى عندما يكون للزوجين خمسة أطفال أحياء كما يرخص فيه إن خشي في مواصلة الحمل تسبب في انهيار صحة الأم ويجب إجراؤه في تلك الحالتين في مؤسسة استشفائية أو مصحة مرخص فيها من طرف طبيب مباشر لمهنته بصفة قانونية.
(2)
نص القانون 73 – 75 بتاريخ 19/11/1973: الفصل 214: يرخص في إنهاء الحمل خلال الثلاثة أشهر الأولى منه من طرف طبيب مباشر لمهنتة بصفة قانونية في مؤسسة استشفائية أو صحية أو في مصحة مرخص فيها، كما يرخص فيه بعد ثلاثة أشهر إن خشي في مواصلة الحمل تسبب انهيار صحة الأم أو توازنها العقلي أو كان يتوقع أن يصاب الوليد بمرض أو بآفة خطيرة وفي هذه الحالة يجب إنهاء الحمل كما أشير إليه بالفقرة السابقة، ويجب إجراؤه بعد استظهار لدى الطبيب الذي سيتولى ذلك بتقرير من الطبيب الذي يباشر المعالجة.
والدكتور حتحوت في هذا العرض يشير إلى أن المطالبة بإباحة الإجهاض قد نجحت نجاحا في كثير من بلدان العالم ومع هذا مازالت بعض الدول تضع العراقيل في سبيل ذلك ومنها غالبية البلدان الإسلامية، فالإجهاض الذي يجري في هذه البلاد وأمثالها خلافا للقانون يعتبر إجهاضا إجراميا، أما الذي يجري لدواع طبية مشروعة وبإشراف طبيب مختص فهو الإجهاض الطبي. والاتجاه لا يزال نحو إزالة جميع العوائق حتى يكون للمرأة الحق في إجهاض نفسها عند الحاجة دون حرج، أو الإجهاض إطلاقا عند الطلب.
وتكلم الدكتور عبد الرحيم عمران عن الديموغرافية والإجهاض وانتشاره من الناحية التاريخية وخاصة في المرحلة الانتقالية وهي الانتقال من ارتفاع نسبة الوفيات والمواليد إلى مرحلة انخفاضها، فربط بين الحاجة إلى الإجهاض والحاجة إلى تخفيض عدد السكان وخاصة مع انتشار الوعي بضرورة تحديد حجم العائلة وتصغيرها بحيث تكون عائلة آحادية غير موسعة.
وقال: إنه يرى أن هناك أربعة اعتبارات أساسية يلزم ذكرها إزاء بحث رأي الإسلام في الإجهاض بروح عملية وهي:
1-
الضغط السكاني الملزم. 2- التخطيط الواقعي.
3-
مراعاة الجوانب الإنسانية. 4- المرونة الدينية في الإسلام.
وذكر الدكتور عمران الظروف التي طرأت في المجتمع وأدت إلى ازدياد الوعي بالأخطار الناجمة عن الارتفاع الشديد في معدل المواليد، وقال: إن من العوامل في انخفاض نسبة المواليد وفي انتشار فكرة العائلة الصغيرة، الجهود الحثيثة التي تبذل لتنظيم الأسرة سواء أقامت بهذه الجهود مؤسسات أهلية طوعية أم حكومية، وسواء كانت على أساس محلي أو على أساس قومي، ورافق هذه الجهود القبول المتزايد لفكرة تحديد النسل في الأقطار الإسلامية، وذكر بشيء من التفصيل ظهور موجة الإجهاض في الأقطار الإسلامية بسبب العوامل المختلفة المؤدية إلى الوعي بضرورة تحديد حجم العائلة، إما بالوسائل الفعالة لمنع الحمل وإما باللجوء إلى الإجهاض.
وكان من نتيجة الضغط السكاني وإدراك عواقبة اتخاذ موقف تحرري من قوانين الإجهاض في معظم أنحاء العالم وفي الكثير من الدول الإسلامية. وكان الاتجاه على الوجه الأغلب نحو تنظيم الأسرة، ولا سيما نحو منع الحمل أولا قبل اللجوء إلى الإجهاض ولكن الدكتور عمران يرى أنه لا بد لنا من أن نقر " أن منع الحمل وحده لا يساعدنا على تحقيق انخفاضات سريعة في نسبة المواليد، أضف إلى ذلك أن نذر نفشي الإجهاض أخذت تبدو ماثلة للعيان في عدة أقطار إسلامية". كما ثبت في البيانات المتوافرة من الأقطار الإسلامية التي تشير بوضوح إلى أن الإجهاض أخذ يسري وينتشر، وقد أثبتت هذه الدراسات التي قدمت في مؤتمر الاتحاد الدولي لتنظيم الوالدية والذي انعقد في بيروت لمناقشة مشكلات الإجهاض (1) .
فقد أثبتت هذه الدراسات في معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأن أكثر من ثلث الأمهات المتزوجات فوق الخامسة والثلاثين واللواتي اكتملت أسرهن قد مارسن الإجهاض غير القانوني، كما أثبتت هذه الدراسات بأن الإجهاض غير القانوني هو أكثر انتشار في المدن منه في الريف وزيادة ممارسته مع ارتفاع المستوى التعليمي للمرأة.
(1) راجع دكتور عصام الناظر: الإجهاض العمد: خطر يهدد الصحة العامة " بيروت 1972".
تعريف الجنين:
وهنا رأى المؤتمرون ضرورة تعريف الجنين عند بحث الإجهاض فوصف الدكتور حسان حتحوت نمو هذا الجنين منذ أن يصل الحيوان المنوي إلى البويضة ويلقحها في قناة فالوب فيكونان خلية واحدة، تحدث داخلها تغيرات تؤدي إلى قسمة الخلية إلى اثنين، ثم تتوالى الانقسامات بسرعة إلى أربع ثم ثمان ثم ست عشرة وهكذا وعندما يبلغ الجنين شهر الثالث يكون في الواقع إنسانا صغيرا ثم قال: إن الجنين في الإسلام إنسان له حق الحياة.
وتناول الدكتور محمد سلام مدكور ما قيل في تعريف الجنين فأورد الأقوال الفقهية في ذلك، ومنها أن النويري نقل عن بعض الحكماء أنهم أطلقوا اسم الجنين على ما بعد خلق الروح، ويؤيد ذلك ما قاله القرطبي عند تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) " سورة النجم 32" إذ قال:" الجنين ما دام في البطن"، ويقول البستاني في دائرة المعارف:" الجنين هو الولد ما دام في البطن، ويكون أولا نطفة، ثم يصير علقة، ثم يصير مضغة، ثم جنينا". ويقول الدكتور نجيب محفوظ " في نهاية الشهر الرابع يطلق على العلقة اسم الجنين" وتقول الدكتورة أيدث سيرول في كتابها " جسم الإنسان"" ويسمى الجسم النامي في الرحم مضغة فيما بين الأسبوعين الثالث والثامن من حياته، ولكنه يسمى جنينا منذ الأسبوع الثامن إلى نهاية مدة الحمل" ومع هذا فبعض كتب الفقه تطلق الجنين على ما في الرحم من وقت العلوق، لكن الإمام المزني الشافعي ينقل عن الإمام الشافعي أن الاستعمال الحقيق للجنين يكون في ما بعد مرحلة المضغة، وينبني عليه أن استعماله في ما قبل هذه المرحلة من باب المجاز باعتبار أنه مقدمة للجنين الحقيقى. إذ قال الشافعي في الجنين:" أقل ما يكون به جنينا أن يفارق المضغة والعلقة حتى يتبين منه شيء من خلق آدمي.." وعلى هذا فإننا نرجح أن ما نقله ابن رشد عن الإمام مالك لا يعم أول الحمل وآخره، وإنما هو خاص بما بعد الأربعين عندما يسمى جنينًا".
وأشار الدكتور عبد الرحيم عمران إلى الحديث النبوي الشريف المعروف بحديث الأربعينات عن مراحل تكون الجنين وهو " أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك". وهذا هو الأساس الذي يبنى عليه حساب المئة والعشرين يوما التي يشار إليها في المراجع الدينية باعتبارها المدة التي تسبق نفخ الروح، ومعني ذلك أن الإجهاض إذا حدث قبل نفخ الروح لا يكون قتلا أو وأدا، وإنما يكون القتل أو الوأد عندما يصير الجنين خلقا آخر – أي بعد مرور الجنين في التارات السبع التي أشار إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله:" لا يكون موؤودة حتى تمر على التارات السبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا آخر". وهذا القول مأخوذ من القرآن الكريم من قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)) سُورَةُ المؤمنون " 12 – 14".
وللإجهاض تاريخ قديم فقد حرم أبقراط الإجهاض وحرم إعطاء الأدوية التي تسببه.
وذكر الدكتور محمود نجم أبادي أن الأطباء المسلمين المشهورين الذين بحثوا قضية الإجهاض في الماضي هم أبو بكر محمد بن زكريا الرازي وعلي بن عباس المجوسي وابن سينا والحسن بن محمد وابن البيطار المالقي والشيخ داود الأنطاكي، وقال " بأن غالبية الأطباء المسلمين يعتقدون أنه لابد من الحيلولة دون وصول ماء الرجل إلى الرحم إذا كان هناك خطر متوقع على حياة الأم، وعليه فلا بد من إخراج هذا الماء إذا وصل، وإن تعذر ذلك جرى إخراج الجنين من الرحم بوسائل ميكانيكية أو بغيرها من الوسائل المعروفة، كالأدوية التي كانت تستخدم لإخراج الجنين منذ الأزمنة القديمة ومازالت. وينبغي أن نذكر أن أغلبية الأطباء لم يقبلوا فكرة الإجهاض إلا بعد الاستشارة وأنه من الأفضل تبصير المرأة بالطرق التي يمكنها بها تجنب الحمل، ويؤكد الأهوازي أن قسم أبقراط يقضي بتحريم الإجهاض والأدوية التي تسببه تحريما مطلقا.
ويضيف إلى ذلك أنه ينبغي أن لا تلجأ الحامل إلى الأدوية المؤدية إلى الإجهاض. أما الرازي فيقول: إن على الحوامل اللائي تتعرض صحتهن للخطر من جراء الحمل أن تدخل الواحدة منهن قطعة من الخشب في رحمها، وتبقيها مدة أسبوعين ولا بد من ربط طرف الخشبة التي تبقى خارج الرحم إلى فخذ المرأة إلى أن يبدأ نزيف الرحم ".
ويتبين أن الفقه الإسلامي عموما يقسم حياة الجنين قسمين (1) قبل نفخ الروح (2) بعد نفخ الروح، وذلك من حيث تحريم الإجهاض أو إباحته مع العلم بأن عددًا من أعضاء المؤتمر ذكروا استنادا إلى أقوال الفقهاء أن الإجهاض محرم على الإطلاق سواء قبل نفخ الروح أو بعده ما لم يكن خطر على حياة الأم أو لضرورة أخرى كاحتمال ولادة مشوة أو مريض
…
والمحافظة على حياة الأم بالإجهاض تكون عند الخطر على حياتها اتباعا للقاعدة الفقهية: " إذا تضرر الأصل بالفرع وجب تقديم مصلحة الأصل على فرعه"، حتى إن البعض في المؤتمر كالشيخ أحمد سحنون والشيخ عبد الرحمن الخير والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم قالوا بأن الإجهاض محرم قبل نفخ الروح وبعده ولا يجوز بحجة الانفجار السكاني، مالم يكن لإنقاذ حياة الأم فقط وليس لأسباب أخرى، وذهب الشيخ سحنون إلى القول بأن الإجهاض والتعقيم لا يقرهما الإسلام.
وكان السيد أحمد الغزالي وسطا بين الطرفين إذ يقول " إن الاعتبارات الطبية لا تقف عند حد صحة الأم بل قد تتجاوزها إلى حالتها النفسانية أيضا"، وذكر أن الإجهاض قبل الأسبوع السادس عشر أي قبل نفخ الروح جائز إذا توافرت الشروط التالية:
1-
إذا كان الحمل يعرض الأم لمرض نفساني يضر بصحتها.
2-
عند احتمال ولادة الجنين مصابا بأمراض معينة.
3-
إذا كان الحمل بسبب الاغتصاب أو بسبب اقتراف الزنا مع النساء المحارم.
4-
إذا كان الحمل يمس سمعة المرأة المصابة بمرض نفساني.
5-
إذا كان الحمل يدفع بالمرأة إلى الانتحار أو تعريض نفسها للهلاك.
وقد ناقش الشيخ محمد الحسيني بهشتي الفكرة التي يتبناها معظم الأطباء والاختصاصيين القائلة بأن الإجهاض لا يكون قتلا إلا بعد التخلق " خَلقا آخر" ولكنهم من وجهة علمية يريدون تحديد موعد معين لهذا التخلق حتى يقولوا: إن الإجهاض قبل هذا الموعد مباح، فأشار إلى هذه النقطة بنفسها، وأثار من جديد علاقة أطوار الجنين في نموه بدرجة العقوبة وتساءل " ما هي النفس المحرمة التي عد الإسلام قتلها من أكبر الكبائر؟ وهل يكون الجنين إنسانًا؟ ففي أي طور من هذه الأطوار اعتبر القرآن الجنين إنسانًا؟ حينما كان سلالة من طين أي قبل أن يكون جنينا؟ حينما صار نطفة في قرار مكين؟ حينما صارت النطفة علقة؟ حينما تبدلت العلقة مضغه؟ حينما ظهر فيها العظم؟ حينما تم ظهور العظام فيه فصار الجنين ذا عظام يكسوها اللحم؟ فمتى إذَنْ؟ وقال " الذي يظهر من الآيات التي تَلَوْنَاهَا أن الجنين يصير إنسانا حينما ينشئه الله خلقا آخر أي خلقا يمتاز به عن سائر الحيوانات فيكون إنسانا، وماذا يكتسب في هذا الطور؟ " ثم أورد قوله تعالى:(ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) سورة السجدة [6-9] وقوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) سورة الحجر [29] وقرر السيد بهشتي أن الإنسان لا يكون إنسانا بعد تسوية جسده في بطن الأم بل بعد نفخ الروح، والروح ليست الروح التي في النبات أو الحيوان وإنما هي روح تختص بالإنسان دون غيره، حتى إذا نفخت هذه الروح في الجنين أصبح الجنين خلقا آخر.
أقوال الفقهاء: ملخص أحكام الإسلام في الإجهاض.
ثم عاد الدكتور محمد سلام مدكور وتوسع في الناحية الفقهية واستعرض أقوال المذاهب الإسلامية في الإجهاض وفي أطوار الجنين وقال: " إن الإجهاض متفق عليه بأنه محرم بعد نفخ الروح إلا لعذر أو لضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، وأما الإجهاض قبل نفخ الروح أي قبل تمام أربعة أشهر من الحمل ففيه اختلاف. من حيث الإباحة والكراهة والحرمة ومن حيث مقدار العقوبة المترتبة بحسب أطوار الجنين، " وحالة العذر لا ينبغي أن تكون موضوع خلاف أو جدل إلا في تقدير العذر المقتضي للإجهاض، وإذا مثل العذر حالة ضرورة فإن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرر الأكبر يدفع بالضرر الأدنى، والحكم يتبع أخف الضررين كما هي القاعدة الشرعية. وعلى هذا فإنه لو ترتب على بقاء الحمل هلاك الأم مثلا لا محالة، فإن الشرع الإسلامي يبيح الإجهاض، بل يوجبه محافظة على حياة الأم؛ لأن حياتها ثابته بيقين، وحياة الجنين محتملة، كما أن الأم هي الأصل والجنين فرع منها، والأصل مقدم على الفرع".
وحكم الإجهاض قبل نفخ الروح عند الحنفية يتفاوت بين مباح ومكروه، فقد نص الحصكفي الحنفي على أنه يباح للمرأة إسقاط الولد قبل أربعه أشهر ولو بغير إذن الزوج، وعلق على هذا ابن عابدين الفقيه الحنفي بما نقله عن كتاب " النهر" وعبارته " هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يومًا".
وعلق الدكتور مدكور على هذا بقوله: ويمكننا أن نقول: إن التخلق في قولهم " نعم يباح ما لم يتخلق" ليس هو نفخ الروح ولا بعد مائة وعشرين يوما، وإنما هو يكون في مدى نحو أربعين يوما من بدء الحمل، وهو عند وصول البويضة الملقحة إلى المرحلة التي عبر عنها القرآن بالمضغة في قول الله تعالى:
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)" سورة الحج 5 ".
فمرحلة المضغة هي المرحلة التي يقع فيها التخلق، وقد يمتد ذلك التخلق حتى يصير في طور آخر، وعلى هذا نستطيع فهم هذا الرأي على أنه يبيح الإجهاض في الفترة قبل مضي أربعين يوما على الحمل.
ونقل ابن عابدين أيضا عن ابن وهبان الحنفي قوله: " إن وجود العذر يبيح الإجهاض من قبل أربعة أشهر كأن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه". ونقل عن " الذخيرة" أن المرأة إذا ألقت ما في بطنها قبل نفخ الروح فهو مكروه.
وأردف الدكتور مدكور بقوله: إن هناك قولا بأن الإجهاض قبل نهاية الشهر الرابع يباح مطلقا سواء وجد عذر أو لا، وأن منهم من اتجه إلى أنه مكروه من غير عذر، والكراهة كما هو معروف مرتبة دون مرتبة الحرمة.
وقصر هؤلاء الإباحة على حالة وجود عذر واعتبروا من الأعذار مجرد الشعور بالهزال والضعف عن تحمل أعباء الحمل.
أما المالكية فكانوا أكثر تشددا من الحنيفة في الإجهاض قبل نفخ الروح إذ أنهم منعوا الإجهاض ولو قبل الأربعين يوما على ما هو المعتمد في المذهب. وفي رأي آخر في المذهب أنه مكروه في هذه المدة، ولا خلاف عندهم في التحريم بعد نفخ الروح لغير عذر، وهذا ما نص عليه الدردير من فقهاء المالكية بقوله:" لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا". ويقول الدسوقي تعليقا على الدردير: " ولو قبل الأربعين يوما". " هذا هو المعتمد". وقيل: يكره إخراجة قبل الأربعين.
وعلق الدكتور مدكور على ذلك بقوله: " وهذا يفيد أن مراد الدردير بعدم الجواز هو التحريم، كما يفيد النقل جميعه أنه ليس عند المالكية قول بإباحة إخراج الجنين قبل نفخ الروح فيه، وأضاف الدكتور مدكور قوله: ويلاحظ أن التعبير (المتكون في الرحم) يفيد أنه قبل تكون المني في الرحم واستقراره بالعلوق يجوز إخراجه. يدل على ذلك ما قاله القرطبي من فقهاء المالكية في كتابه " الجامع لأحكام القرآن": " إن النطفة لا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة قبل أن تستقر في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل". وهذا صريح في أن للزوجة أن تخرج النطفة بأية وسيلة ما دامت لم تستقر ودون أن يترتب على ذلك إثم. أما قول ابن رشد الفقيه المالكي عن أن الإمام مالك استحسن الكفارة في إسقاط الجنين فيرجع صرف قوله باستحسان الكفارة إلى ما بعد نفخ الروح.
أما الشافعية فقد اختلفوا في حكم الإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه والذي يتجه وفاقا لابن العماد وغيره الحرمة، على حد ما نقله البجيرمي الشافعي عن ابن حجر الشافعي، وفرق بين الإجهاض والعزل المباح بأن المني حال نزوله محض جماد ولم يتهيأ للحياة بوجه، على خلاف حاله بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادئ التخلق، وقال البجيرمي: إن مقتضى قول ابن حجر " والذي يتجه على الحرمة" أن بعض الشافعية يقول بعدم حرمة الإجهاض قبل نفخ الروح، كما استنتج من قوله (وأخذه في مبادئ التخلق) بأنه يفيد عدم الحرمة قبل الأربعين وأشار الشبراملسي بوجود هذا الخلاف عند الشافعية بقوله:" إنهم اختلفوا في جواز التسبب في إلقاء النطفة والعلقة بعد استقرارها في الرحم" وقال: " إن أبا اسحاق المروزي يُجَوِّزُ إلقاء النطفة والعلقة"، ونقل عن الغزالي أنه أورد في بحثه عن حكم العزل ما يدل على تحريمه وقال:" إنه الأوجه؛ لأنه بعد الاستقرار آيلة للتخلق"، ونقل الشبراملسي عن الغزالي أن الإجهاض قبل نفخ الروح لا يقال إنه خلاف الأولى، بل يحتمل الكراهة والتحريم أي الكراهة التنزيهية والتحريمية، ويقوى التحريم كلما قرب من زمن النفخ.
ثم نقل ما قاله الغزالي في " الإحياء" وعلق عليه بقوله: " والمرجح تحريمه بعد نفخ الروح فيه مطلقا، وجوازه قبله". ويرى الدكتور مدكور بعد هذا العرض للمذهب الشافعي أن من الشافعيه من يرى عدم حرمة الإجهاض قبل نفخ الروح أو قبل الربعين يوما من بدء الحمل، وأن بعضهم يرجح هذا الرأي. وقال:" وبهذا يتضح أن الشافعية يقتربون في مسلكهم الفقهي من مسلك الحنفية، كما يتضح أن المالكية لا يبعدون كثيرا من ذلك، خاصة بعد أن عرضنا ما استحسنه الإمام مالك".
ثم انتقل الدكتور مدكور إلى موقف الحنابلة فأورد قول ابن قدامة الحنبلي وعلق عليه بقوله: " إن العلقة لا يجب فيها شيء وإن المضغة غير المخلقة لا يجب فيها شيء أيضا، فكان الإجهاض على هذا غير محظور عندهم في هذه الفترة".
وفي المذهب الظاهري، كما جاء في كتاب " المحلى" لابن حزم، أن الإجهاض قبل نفخ الروح أو قبل مضي الأربعة الأشهر تلزم فيه الكفار والغرة والإجهاض بعد نفخ الروح ففيه القود أو الفداء.
والزيدية، كما جاء في كتاب " البحر الزخار"، يرون أنه " إذا جاز العزل جاز تغيير النطفة والعلقة والمضغة إذ لا حرمة لجماد"، ومعنى ذلك أن الإسقاط جائز بعلتين: الأولى أن الإسقاط قبل نفخ الروح لا حرمة فيه؛ لأن الجنين يكون في حكم الجماد، والثانية أنه جائز قياسا على العزل.
وعند الشيعة الجعفرية والإباضية تحريم للإجهاض في أي طور.
وبعد هذا العرض للمذاهب الإسلامية خرج الدكتور محمد سلام مدكور بقوله: " ومن هذا العرض لحكم الإجهاض يتبين أنه محرم اتفاقا بعد نفخ الروح إلا لعذر يقتضيه، وأما قبل ذلك من غير عذر فقد اختلفت وجهات النظر. ويتردد الرأي بين الإباحة والكراهة والتحريم ويمكن أن نستخلص أن في المسألة أربعه أقوال:
1-
الإباحة مطلقا دون توقف على عذر، وهو ما نقلناه عن الزيدية وبعض الحنفية وبعض الشافعية، وما استخلصناه من قول المالكية والحنابلة.
2-
الإباحة عند وجود عذر، والكراهة عند انعدام العذر، وهو رأي بعض من الحنفية ومن الشافعية.
3-
الكراهة مطلقا، وهو رأي لبعض المالكية.
4-
التحريم وهو المعتمد عند المالكية، والمتفق مع مذهب الظاهرية، وما يفيده كلام الشيعه الجعفرية وصريح قول الإباضية، ثم أورد الدكتور مدكور رأيه الشخصي " ونحن نميل بالنسبة إلى ما قبل الأربعين – مرحلة التخلق – إلى القول الثاني من الاباحة لعذر ومن الكراهة لغير عذر. وأما بعد ذلك وقبل نهاية الشهر الرابع فنتجه إلى التحريم، أما بعد الشهر الرابع فهو بالاتفاق حرام بكل صور التحريم إلا لضرورة، ويعجبنا قول الغزالي في جعله الخطر بالنسبة للإجهاض على درجات " الإجهاض جناية على موجود حاصل، فأول مراتب الوجود دفع النطفة في الرحم فتختلط بماء المرأة فإفسادها جناية، فإن صارت علقة أو مضغه فالجناية أفحش، فإن نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشا فيقوى التحريم كلما قرب من زمن النفخ؛ لأنه جريمة".
وفي هذا الموضوع أبدى الدكتور إبراهيم حقي رأيه بأن الحياة تدب في الجنين منذ التلقيح، وتسير البويضة الملقحة بعد ذلك من حال إلى حال، فالقضاء عليها إذن قتل للنفس وقال: إن الإجهاض مهما كانت الوسائل المتبعه فيه قد يؤدي إلى أضرار خفية أو شديدة أو مؤقتة أو دائمة، فهو إذن غير جائز شرعا إلا إذا شَكَّلَ الحمل خطرًا على حياة الحامل وعندما يكون اللجوء إليه جائزًا من باب " الضرورات تبيح المحظورات" وشاركه في رأيه عن بدء الحياة عند الجنين الشيخ محمد الحسينى بهشتي ولكنه فرق بين الحياة في نظر العلم والروح في نظر الدين فهو يقول:" وربما يقال: إن إجهاض الجنين قتل في جميع الأحوال؛ لأن العلم الحديث بَيَّنَ لنا أن للجنين حياة من أول الأمر".
ولكنه استدل على أن المقصود من الحياة التي يثبتها العلم الحديث للجنين شيء غير الروح التي يبين الشرع ولوجها في الجنين في الشهور الأخيرة وقال بناء على ذلك: " إن إجهاض الجنين قبل ولوج الروح الإنسانية فيه لا يكون قتلا للإنسان؛ لأن الجنين إنما يصير إنسانا في التبدل الأخير أي حينما تلج فيه الروح. وإن شئت أن تسمي الإجهاض قبل ولوج الروح قتلا فسمه قتل حيوان، ولا قتل إنسان بالفعل".
وهنا أشار الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي على أن الجنين عند الفقهاء له حياتان: (1) حياة مستكنة و (2) حياة ظاهرة ثم ذكر السيد محمد النابلي أن هذه الحياة عند الفقهاء لها أطوار بحسب ما جاء في حديث الأربعينات، وفي بعض هذه الأطوار لا يكون فيها للجنين روح حتى إن علماء الطب يفرقون بين أطوار الجنين في الفترة الأولى إذ لا يسميه البعض جنينا إلا بعد مائة وعشرين يوما من الحمل، وتساءل هل الجنين قبل المائة والعشرين يوما مخلوق حي وله الحياة المعروفة عندنا حتى يكون إسقاطة جناية؟ وهل الفقهاء جميعا متفقون على أنه لا يجوز إسقاط الجنين في هذه الفترة؟ ورد على ذلك الدكتور حسان حتحوت بأن الطب لا يستطيع أن يميز الآن بين الأطوار التي جاءت في القرآن الكريم وفي حديث الأربعينات، وإذا سقط الجنين حيا فالحياة المقصودة هنا ليست الحياة الميكروسكوبية وإنما هي الحياة الظاهرة مثل النفس والحركة ونبضة القلب، ولكن بداية الإنسان هي التحام الحيوان المنوي بالبويضة، ووافق على هذا الرأي إجمالا الدكتور عبد الرحيم عمران حين قال: إن المسألة فيما يتعلق بالجنين مسألة وجود الروح والجسد معا أي وجود الحياة الإنسانية أو عدمها، ولكنه استدرك فقال: إنه في الواضح من حديث الأربعينات أن الحياة الإنسانية لا تكون إلا بعد 120 يوما، ومسألة دخول الروح متى تكون، وما هي الروح مسألة غيبية لا يمكن معرفتها بالمجهر، وإنما نؤمن بها إيمانا كليا كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله. وكما آمن بها الفقهاء فأباح بعضهم الإجهاض قبل 120 يوما. وقال: إن القتل هو إزهاق الروح وليس القضاء على حياة بيولوجية وإلا كان بتر عضو في عملية جراحية يعد قتلا أيضا.
وقسم الشيخ مصطفى الزرقا الأشهر الأربعة الأولى إلى مرحلتين، وقال:" فإما أن يكون الجنين قد تخلق وظهر بعض الأعضاء فيه أو لم يظهر فيه عضو بعد فإذا لم يكن قد تخلق فيه بعض الأعضاء فمن الفقهاء من يرى إسقاطه كمنع الحمل من حيث الجواز بإذن الزوج؛ لأنه لم يكتسب شيئا من الصفات الإنسانية بعد، والرأي الفقهى الراجح أن إسقاطه بغير عذر مكروه، ومعنى المكروه أنه محظور دينا تحت رتبة الحرام ويوجب احتمال الإثم " الخطيئة"؛ لأنه جزء متهيئ لأن يصير إنسانا غير أنه لا يترتب على إسقاطه تبعات جزائية أو مدنية سوى المسؤولية الدينية إلا إذا كان الإسقاط دون إذن الزوج أو بعدوان من شخص أجنبي فإنه يستتبع تبعة جزائية بالتعزير، والتقرير عقوبة غير محدودة بل متروكة لرأي الحاكم يلاحظ فيها إحالة الشخص وقدر الكفاية لقمع أمثاله".
ولخص الدكتور عبد الرحيم عمران بعد ذلك نظرة الإسلام إلى الإجهاض على اعتبار أن هذه النظرة مرنة متسامحة – كما يتبين من القرآن الكريم والسنة – وإجماع العلماء.
القرآن الكريم:
لا يوجد في القرآن الكريم نص صريح يسمح بالإجهاض أو ينهى عنه غير أن ثمة آيات تفسر مراحل نمو الجنين استشهد بها بعض الصحابة في إثبات أن العزل ليس وأدا وهما الآيتان 13-14 من سورة المؤمنون عن أطوار تخلق الجنين. وهي الأطوار التي وصفها علي رضي الله عنه بقوله: " لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع. تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون خلقا آخر". وقد يستفاد من هذه التحديدات أن الإجهاض إذا حدث قبل نفخ الروح لا يكون قتلا أو وأدا، وإنما يكون القتل أو الوأد عندما يصير الجنين خلقا آخر.
السنة:
في السنة حديث الأربعينات الذي يستفاد منه أن المدة التي تسبق نفخ الروح تقدر بأربعه أشهر أو 120 يوما، على اعتبار مراحل نمو الجنين الثلاث قبل نفخ الروح والحديث النبوي هذا هو " أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك".
إجماع العلماء:
يوجد إجماع بين علماء الفقه الإسلامي على أنه إذا تعرضت حياة الأم للخطر بسبب الحمل جاز اللجوء إلى الإجهاض العمد بغض النظر عن المرحلة التي يكون فيها الحمل بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى زيادة الخطر على حياتها، وهذا معناه أنه إذا كان الخطر محققا وجرى الخيار بين إنقاذ حياة الأم أو إنقاذ حياة الجنين فإن علماء الفقه الإسلامي يختارون إنقاذ حياة الأم، وقد ورد هذا الحكم في الفتوى الصادرة عن الشيخ محمود شلتوت الذي قال: إنه إذا كان استمرار الحمل يعرض حياة الأم للخطر، وإذا كانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ حياتها هي الإجهاض العمد فإنه يصبح من الملزم اللجوء إلى الإجهاض العمد؛ وذلك لأن حياة الأم مستقلة وهي أصل الجنين وركن الأسرة، وليس من المنطق التضحية بحياتها من أجل إنقاذ الجنين الذي يعتمد في حياته عليها".
وكان الشيخ عبد المجيد سليم أصدر سنة 1937 فتوى بهذا المعنى حين ذكر أن الإجهاض يسمح به للحفاظ على صحة الأم خلال أشهر الحمل الأولى، إذا كانت أعراض صحية تتطلب الإجهاض العمد، وإن لم تكن أعراض فالحكم يختلف باختلاف مذاهب الفقه الإسلامي، كما عرضها الدكتور محمد سلام مدكور في هذا الفصل وفي كتاب له عن تنظيم الأسرة من وجهة النظر الإسلامي (1) .
وقد ذكر سماحة الشيخ عبد الله القلقيلي المفتي العام للأردن في فتواه عام 1964 بأن إسقاط الحمل جائز قبل أن يتخلق الجنين أي قبل انقضاء مائة وعشرين يوما على بدء الحمل.
وأجمل الدكتور عبد الرحيم عمران موقف الإسلام من الإجهاض بقوله: " إن الإجهاض بعد الشهر الرابع لا خلاف في تحريمه إلا إنقاذا لحياة الأم. وأما قبل ذلك فالمسألة خلافية، ذا أن من علماء المسلمين من يرى أن الإجهاض خلال الأربعة الأشهر الأولى حلال، وبعضهم يراه مكروها، والبعض الآخر يراه حرامًا. ثم دعا إلى عمل كل ما في الوسع إلى تجنب الإجهاض وذلك باستعمال وسائل منع الحمل التي لا خلاف فيها".
(1) راجع دكتور محمد سلام مدكور.
تعريف الإجهاض:
نستلخص من مناقشات مؤتمر الرباط أن الإجهاض أو الإسقاط هو خروج متحصل الحمل في أي وقت من مدة الحمل، وقبل تكامل الأشهر الرحمية دون أن يعيش، وهذا يتفق مع التعبير الطبي، بأنه خروج الجنين الذي لا يستطيع أن يعيش خارج الرحم، ومن أجل تعميم تعريف واحد بين الأمم، لجأ الأخصائيون حديثا إلى تعريف الإجهاض بأنه خروج متحصل الحمل قبل الأسبوع العشرين، ومن الإجهاض ما هو عفوي أو تلقائي، ومنه ما هو عمد أو متعمد، وقد تركزت بحوث المؤتمر على الإجهاض العمد، كذلك يلزم التنويه بأن الفقه الإسلامي عامة يستعمل لفظ الإسقاط أكثر من لفظ الإجهاض، إلا علماء الشافعية، فيكثر استعمالهم للفظ الإجهاض، هذا ويقسم الفقه الإسلامي الإجهاض إلى طورين أساسيين الأول طور ما قبل نفخ الروح وقد يسمى كذلك مرحلة التخلق والتسوية، والثاني طور ما بعد نفخ الروح التي تبدأ بعد أربعه أشهر من الحمل أي 120 يوما استنادا إلى حديث الأربعينات.
وناقش المؤتمر مسألة الروح والحياة، فقال بعض الأعضاء: إنه يجب التفريق بين الحياة وبين الروح، فالحياة البيولوجية موجودة في الجنين منذ اللحظة الأولى، بل هي موجودة في الحيوان المنوي وفي البويضة قبل التلقيح، إذا فالروح شيء والحياة البيولوجية شيء آخر ومن الممكن أن يحيط علماء الطب بخواص الحياة البيولوجية ويرون آثارها تحت المجهر أو بالعين المجردة، أما الروح فهي فوق علم البشر، إذ خص الله نفسه بمعرفة كنهها إذ يقول تبارك وتعالى (وَيَسْأَلُوَنَك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) .
هذا وقد ركز الأعضاء الكثير من نقاشهم في رأيين؛ أولهما اعتبار الجنين قبل نفخ الروح جماد أي لا حياة فيه، رغم أن الحياة البيولوجية موجودة فيه قبل ذلك، والرأي الثاني هو اعتبارهم أن علامة نفخ الروح هي إحساس الأم بحركة الجنين وذلك بمصادفة أن يكون الإحساس بالحركة في أغلب الأحيان أواخر الشهر الرابع، أي وقت نفخ الروح، وقد أثبت الطب الحديث أن الحركة تدب في الجنين في الأسابيع الأولى وإن لم تحس بها الأم.
وانطلاقا من هذا برز رأيان رئيسيان أولهما يحرم الإجهاض في جميع مراحل الجنين استنادا إلى أن الحياة موجودة في الجنين منذ بدايته، وثانيهما الالتزام القائم على الإيمان الغيبي بآية التخلق وحديث الأربعينات وبالتالي قبول ما ذهب إليه الفقهاء في إباحة الإجهاض في مرحلة ما قبل نفخ الروح. ويتصل بهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد الحسيني البهشتي من أنه رغم وجود الحياة البيولوجية عند الجنين منذ ابتدائه " وقد أسماها بالحياة الحيوانية" فإنه لا زال غير إنسان إلى أن تنفخ فيه الروح الإنسانية " وقد أسماها روح العقل" وهذا هو ما فسر به معني " خلقا آخر". ولا تتم إنسانية الإنسان حسب رأيه إلا أيام الأشهر الأخيرة من حياة الجنين داخل الرحم، وانطلاقا من هذا فقد اعتبر أن إجهاض الجنين بعد صيرورته إنسانا ذا روح في الرحم محرم، لكن إجهاضه قبل ذلك ليس محرما وإنما هو عدوان على الأب والأم أو أحدهما إذا لم يكن برضاهما.
وهناك نقطة أخرى مهمة أثيرت في المؤتمر وهي إباحة الإجهاض صيانة لصحة الأم أو لتشوه الجنين نتيجة لأمراض وراثية أو نتيجة لتناول الحامل عقاقير طبية أو تعرضها لبعض الأمراض أثناء الحمل. وقد كان النقاش حول هذه النقطة مشحونا بالانفعالات وانتهى المؤتمر إلى رفض إباحة الإجهاض " صيانة لصحة الأم" وقصر إباحته " صيانة لحياتها" ثم قبوله " يأسا من حياة الجنين" كما هو مثبت في التقرير النهائي للمؤتمر" (1) .
الفصل الرابع
الإسلام والتعقيم
الإسلام والتعقيم
مقدمة
ناقش المؤتمر هذا الموضوع المهم الذي يتصل اتصالا وثيقا بتنظيم الأسرة وهو يهم المسلمين عامة وخاصة لزيادة الاهتمام به وممارسته في العالم كله، ففي حين أن الشائع هو أن التعقيم محرم في الإسلام فإن الملايين من المسلمين والمسلمات قد أجريت لهم عمليات تعقيم، ولذا كان لابد للمؤتمرين من مناقشة الجوانب التالية لموضوع التعقيم:
1-
الفرق بين التعقيم والخصاء.
2-
التعقيم والقدرة الجنسية
3-
دواعي التعقيم.
4-
حكم الشرع في التعقيم.
الإسلام والتعقيم
خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط
(1) الإسلام وتنظيم الأسرة ج2 ص 519 - 520.
التعقيم والخصاء:
عرف الشيخ خلف السيد علي والشيخ إبرهيم الدسوقي مرعي التعقيم بأنه اللجوء إلى معالجة أحد الزوجين أو كليهما معا علاجا يمنع الإنجاب نهائيا، وقد وافق على مجمل هذا التعريف غالبية أعضاء المؤتمر، أما الخصاء فهو خلاف التعقيم إذ يعني القضاء على قدرة الرجل الجنسية ومن ثم قدرته على الإنجاب. فالخصاء في الماضي تعبير يعود للرجل فقط بينما التعقيم يشمل الرجل والمرأة (ولقد نبه الكثير من المؤتمرين إلى الخلط الشائع في الأذهان بين التعقيم والخصاء) .
التعقيم وحكمه:
وفي هذا المضمار تحدث الدكتور محمد سلام مدكور فقسم التعقيم إلى مؤقت ودائم. فالتعقيم المؤقت لايمنعه الإسلام وهو وسيلة من وسائل تنظيم الأسرة المشروعة في الفقه الإسلامي، ومعناه إيقاف إنجاب الأولاد مؤقتا دون القضاء على القدرة على الإنجاب. ومن الوسائل وسيلة العزل التي وردت الأحاديث النبوية بجوازها ومن ذلك قول البيجرمي الفقيه الشافعي " يحرم استعمال ما يقطع الحمل من أصله، أما ما يبطئ الحمل ويؤخره دون أن يقطعه من أصله فلا يحرم بل إن كان لعذر كتربية ولد لم يكره أيضا" ويقرب من ذلك أو مثله ما جاء في كتب الحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية والشيعة الجعرفية والأباضية. وقد فرق الشبراملسي الشافعي بين ما يمنع الحمل بالكلية وما يمنعه مؤقتا وقال بتحريم الأول واعتبر الثاني شبيها بالعزل في الإباحة. وصرح الرملي الشافعي في هذا المقام نقلا عن الزركشي بأن " استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني في حالة الجماع مثلا لا مانع منه"
وعلق الدكتور محمد سلام مدكور على ذلك بقوله " ولا يعدو شيء من ذلك أن يكون تعقيما مؤقتا، فالحكم لا يختلف في هذا عنه فيما إذا وصل الطب إلى إجراء عمل يمنع الحمل مؤقتا كعقدة القناة الناقلة للبويضة وللحيوانات المنوية أو القناة الرحمية، بحيث يمكن إعادة الحال إلى ما كانت عليه عند الرغبة في الإنجاب". وأما التعقيم الدائم الذي يمنع أصل الصلاحية للإنجاب من غير وجود ضرورة تتطلبه فيقول عنه الدكتور مدكور " إننا لا نعلم فيه نصا من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه سلم، بل إن بعض النصوص توحي بمخالفة ذلك لمقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج ولا يتفق مع الطبيعة البشرية التي أوجدها الله في كل من الذكر والأنثى من حب الأبوة والأمومة، وفضلا عن ذلك فإن الفقهاء السابقين نصوا على منعه وتحريمه". وعرف الدكتور مدكور التعقيم الدائم بأنه " معالجة الزوجين أو أحدهما معالجة تمنع الإنجاب نهائيا وتقطع الأمل في وقوعه" وقال إذا وجدنا مايدعو إليه من مرض نفسي أو عقلي أو جنسي وثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة القريبة أو البعيدة وأنه لا يزول بالعلاج مطلقا فإنه عندئذ يجوز التعقيم بل إنه يستطاع القول بأن قواعد الشريعة العامة تقتضي في مثل هذه الحالة أن يكون مطلوبا لا محظورا، منعا من وجود ذرية مشوهة ضعيفة تحيا حياة مليئة بالعقد والآلام النفسية وهذا ما أفتى به من قبل الشيخ محمود شتلوت إذ يقول " يباح منع الحمل دائما إذا كان بالزوجين أو أحدهما داء من شأنه أن ينتقل في الذرية والأحفاد، وإذا كان هذا ما يقلل النسل جزئيا ويحرم بعض الأفراد من الذرية فإن فيه درء مفسدة ودفع ضرر أكبر ألا هو إنتاج ذرية مصابة بأمراض خبيثة مستعصية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
ويرى الدكتور مدكور إباحة التعقيم المؤقت لأنه لا يعدو أن يكون نوعا من وسائل تنظيم النسل المشروعة، ويرى أيضا إباحة التعقيم الدائم في حالات الضرورة الماسة لتحقيق مصلحة ودرء مفسدة فإذا لم يكن التعقيم لحالة ضرورة ماسة فهو محظور ويتنافى مع مقاصد الشرعية وقواعدها ويتعارض مع مصلحة الأفراد أنفسهم. وأشار بصورة خاصة إلى أن التعقيم الدائم بعد إنجاب عدد من الأولاد يتنافى مع أغراض الشارع ويتنافى مع مصلحة الأبوين نظرا إلى أن من المحتمل أن يموت بعض الأولاد أو جميعهم.
دواعي التعقيم:
قدم الدكتور عبد الرحيم عمران والدكتورة خيرية عمران معلومات مفصلة عن استعمال التعقيم الطوعي في بلاد مختلفة كطريقة لتنظيم الأسرة والتخفيف من القطاع السكاني، من ذلك الهند فقد تم تعقيم ما يزيد على عشرة ملايين من الذكور والإناث، ومنها باكستان وتم فيها تعقيم ما يربو على المليون، ومنها أيضا الولايات المتحدة وإنكلترا واليابان وغيرها، ثم ذكرا أن العوامل الباعثة على التعقيم متنوعة، أهمها العوامل الطبية كوجود مرض وراثي أو كتعرض صحة المرأة أو حياتها للخطر الشديد إذا ما حملت مرات أخرى أو اختيار الزوجين التعقيم وسيلة لضبط التناسل بعد أن يكونا قد أنجبا العدد المرغوب فيه من الأولاد.
ثم ذكرا أن كثيرا من التردد في السماح بالتعقيم في البلاد الإسلامية يعود إلى الخلط بين التعقيم والخصاء، فإن الخصاء محرم في الإسلام والتعقيم من آخر يختلف تمام الاختلاف لأنه لا ينطوي في حالة النساء والرجال معا على استئصال أية غدة من الجهاز التناسلي كما هو الحال في الخصاء، والتعقيم نوعان: مؤقت ودائم، والتعقيم المؤقت ما هو إلا نوع من العزل الذي لا يثير النفس والأعصاب، أما التعقيم الدائم الذي أشار إليه الدكتور مدكور في بحثه فهو في رأى الدكتور عبد الرحيم والدكتورة خيرية شبيه بالعزل أو باستعمال وسائل منع الحمل التي سمح بها الإسلام، وقد سمح به كثير من العلماء الأجلاء ومن ذلك:
1-
الشيخ أحمد إبراهيم وكيل كلية الحقوق في القاهرة وأستاذ الشريعة الإسلامية بها إذ كتب منذ أكثر من ربع قرن يقول: " لا أرى مانعا شرعيا من اتخاذ طريقة التعقيم أو اتخاذ المنع المؤقت تبعا لما تقضي به المصلحة بعد أن يتثبت كل التثبت من ضرورة ذلك".
2-
كثير من علماء الشيعة في العراق ولبنان يسمحون بالتعقيم الدائم والمؤقت.
3-
في كتاب (فقة السنة) للشيخ سيد سابق ما يدل على وجود خلاف على التعقيم الدائم والإجهاض شبيه بالخلاف على العزل، فقد ورد في هذه الموسوعة الفقهية قول مؤلفها:" معالجة المرأة لإسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه إلى الخلاف في العزل، فمن أجازه أجاز المعالجة ومن حرمه حرم هذا بالأولى، ويحق للمراة تعاطي ما يقطع الحبل من أصله". ثم قال الدكتور عمران أنه يوجد إجماع على ضرورة منع الحمل بتاتا في حالة داء خطير يمكن أن ينتقل إلى الذرية بل ان البعض يذهب إلى حق ولى الأمر في التفريق بين الزوجين إذا امتنعا عن استعمال وسائل منع الحمل (وأنجعها هو التعقيم الدائم) لأحد الزوجين. ثم قال إن الأوضاع السكانية في العالم الإسلامي تدعو إلى اللجوء إلى التعقيم المؤقت والدائم، وأهم هذه الأوضاع أن ثلث النساء المتزوجات يلدن خمس مرات أو أكثر وأن تعقيم تلك النساء ضروري من الوجهة الطبية لأنهن يتعرضن لأخطار كبيرة في حالة الحمل مرة أخرى.
ومن آراء الأطباء والمختصين بصورة عامة في المؤتمر تعليق الدكتور محمد صادق فودة عن التعقيم في باكستان والهند فقال " لقد تم إجراء حوالي عشرة ملايين عملية تعقيم في الهند وباكستان، ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من سكان باكستان مسلمون: هل نحكم بأن هؤلاء كفروا؟ لا أظن ذلك." وكان رجال الدين من أعضاء المؤتمر منقسمين إلى فريق يحرم التعقيم المؤقت والدائم لأن التعقيم والإجهاض معناهما القتل كما قال الدكتور محمد مكي الناصري والشيخ أحمد سحنون وفريق أباح التعقيم المؤقت قياسا على العزل وحرم التعقيم الدائم وفريق ثالث أباح التعقيم إطلاقا.
ويذكر في هذه المناسبة بصورة خاصة ما قاله عضوا المؤتمر الشيخان خلف السيد علي وإبراهيم الدسوقي مرعي عن التعقيم وهو أن التعقيم " هو اللجوء إلى معالجة أحد الزوجيين أو كليهما معا علاجا يمنع الإنجاب نهائيا – فإنه أمر ممنوع ويحرمه الشرع إلا إذا وجد مايدعو إليه: كأن يكون بأحد الزوجين مرض نفسي أو عقلي أو جنسي، وثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة لا محالة. وأنه لا يزول بالعلاج لا محالة. فإن قواعد الشريعة تقضي في مثل هذه الحالة بأن يكون التعقيم مطلوبا منعا من إنجاب ذرية مريضة مشوهة تعاني الآلام محكوم عليها بالموت الأبدي بل أجاز الفقهاء إجابة الزوجة إلى طلب الفرقة بسبب وجود عاهة في الزوج كالجذام والبرص بعلة أن ذلك يتسبب عنه انتقال المرض إلى الذرية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح". وقد أصدرت لجنة الفتوى في الأزهر " أن استعمال دواء لمنع الحمل أبدا حرام، إلا في حالات الضرورة بأن يكون بالزوجين أو بأحدهما داء من شأنه أن ينتقل إلى الذرية والأحفاد"(1) .
(1) راجع فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف وملحق الكتاب.
وتحدث الشيخ محمد شمس الدين عن حكم التعقيم بالعملية الجراحية وقال: " فهل يجوز للرجل (أو للمرأة برضا زوجها) أن يجرى أو تجرى عملية جراحية تقضي على إمكانية الحبل عند المرأة، أو تقضي على إمكانية الأحبال عند الرجل، مع بقاء القدرة على الممارسة الجنسية (الوطء) عند الرجل والمرأة على حالها؟ أو أن ذلك محرم شرعًا؟ ".
وأردف قائلا: " لدى مراجعة الأدلة الخاصة بهذا الموضوع لا نجد ما يمنع الزوج أو الزوجة من القيام بذلك. لأن حفظ إمكانية الاستيلاد ليس من الواجبات في الشريعة، وليس من حقوق الزوجة. وعلى هذا فيجوز شرعا إجراء عملية جراحية تقضي على إمكانية الحمل أو الإحمال مطلقا، سواء تمكن بعد ذلك من رفع المانع أو لم يتمكن". وقد أوضح الشيخ شمس الدين أن رأيه هذا هو حصيلة اجتهاد شخصي في مسألة التعقيم، وليس رأي المذهب الشيعي الإمامي. وذلك لأن مسألة التعقيم باعتبارها مطروحة حديثا، وباعتبار فتح باب الاجتهاد في المذهب، لم يتكون بعد موقف مذهبي حول هذه المسألة، ولا يمكن أن يتكون حولها رأي مذهبي إلا بعد أن يتناولها عدد كبير من المجتهدين، ويحدد كل واحد منهم رأيه منهم. وهذا مالم يحدث حتى الآن بالنسبة إلى مسألة التعقيم، لأنها طرحت منذ عقد قريب. ولذلك فقد طلب أن لا ينسب أحد رأيه الشخصي هذا إلى المذهب الشيعي الإمامي. وذكر الدكتور أحمد الشرباصي أن الفقيه الشيخ أحمد إبراهيم أجاز التعقيم في حالة وجود الأمراض المزمنة المعدية عند الوالدين ذلك في قوله:" أليس كل من الامتناع عن الزواج والعزل بعد المعاشرة والعلاج قبل وجود الأثر سواء في النتيجة؟ ولم يرد نص يعول عليه في تحريم شيء منها؟ وعلى هذا لا أرى في التعقيم أي مانع ديني لأنه عملية يراد بها دفع الوالد بمنع علته الموجبة لوجوده بحكم العادة، وليس في هذا جناية على شيء وجد ولا على نفس حية قد تهيأت للخروج إلى عالم الوجود، ولا على ما هو مهيأ لأن يكون نفسًا حية، لذلك الأمر واضح جدًا، لا ينبغي التوقف في إباحته وجوازه".
ولكن الشيخ أحمد إبراهيم تحفظ وقال: " إنه ينبغي عدم الإقدام على التعقيم إلا بعد اليأس من أي وسيلة علاجية للقضاء على هذا المرض (المزمن المعدي) أو لمنع انتقاله إلى الذرية". ودعا الدكتور الشرباصي إلى بحث هذا الموضوع من جديد نظر لقيام أوضاع جديدة منذ سنة 1939 حينما قال الشيخ أحمد إبراهيم رأيه ذلك.
ويرى الشيخ عبد الرحمن الخير أن التعقيم نوعان (1) تعقيم يمنع القدرة عن الممارسة الجنسية وعن اللذة و (2) تعقيم لا يمنع ذلك كله، وقال إن التعقيم من النوع الثاني يشبه العزل فهو غير محرم، وإنما المحرم هو النوع الأول الشبيه بالخصاء.
وتحدث الشيخ سيد محمد الحسيني بهشتي عن التعقيم فقال: " أما التعقيم أي تعقيم الأب أو الأم بالأسلوب الطبي الحديث الذي لايضر بالباه ولا يؤدي إلى آثار مشقة في الوجه أو عقد نفسانية أو أضرار أخرى في النفس. فلم نجد بعد الفحص ما يدل على حرمتها إذا كان يرضي الزوجين، وفرق بين الاختصاء المحرم والتعقيم لا يضر بالباه ولا ينتهى إلى شيء من الأضرار الجسمية والروحية والاجتماعية التي تنجم عن الاختصاء"، وقال إنه " إذا لم يقم الدليل على الحرمة، فيبقى الأمر على أصل الإباحة، إذ كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه".
وعلق الدكتور سليمان حزين على الخلاف بين الفقهاء المجتمعين حول التعقيم فقال: " لا حظنا أن بعض فقهاء المسلمين يبيح التعقيم، وهناك شيء من الاختلاف بين باقي الأعضاء فبعضهم يبيح التعقيم المؤقت (الذي يمكن إزالته) . والعلم الآن هو في سبيل حل مشكلة إزالته. ومن الخير أن يعرف رأى المسلمين واضحا فيما إذا كان التعقيم المؤقت مقبولا أو لا. قد يكون حكم التعقيم المؤقت غير مختلف كثيرا عن وسائل منع الحمل. أما التعقيم الدائم فيرى فيه البعض استهانة بإنسانية الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، وتعرضا لمشيئة الخالق الذي خلقنا لنكون وسيلة لاستمرار الحياة بالإنجاب. وأرجو أن يشتمل التقرير (تقرير المؤتمر) على جميع هذه النواحي دون أن يفضل إحداها على الأخرى، فقد يكون من المفيد أن لاينتهي مثل هذا المؤتمر إلى رأي قاطع في مثل هذه المسألة، وإنما يتركها لاجتهاد المسلمين فيما بعد في ضوء التقدم العلمي ".
الإسلام والتعقيم
تحليل وتعليق:
لقد أصبح واضحا أن الاهتمام بالتعقيم في العالم كله عامة وفي العالم الإسلامي له ما يبرره وذلك بالنظر إلى تفاقم المشكلة السكانية في كثير من البلاد الإسلامية من ناحية، وبالنظر إلى اختيار الكثير من الأفراد لهذه الطريقة لضبط النسل بوصفهما أنجع وسيلة مأمونة وسليمة خصوصا إذا اكتفى الوالدان بما أنجبا من أولاد وهما في سن مبكرة. وقد اتضح جليا من مناقشات المؤتمر وأبحاثهم أن التعقيم ليس خصاء وأن الحكم في منع التعقيم ليس مطلقا كما كان شائعا عند عامة الناس.
وأجمع المؤتمر على أن التعقيم المؤقت مباح قياسا على العزل وأن التعقيم الدائم مباح أيضا لمبررات طبية.
أما التعقيم الدائم بقصد تنظيم النسل فقد اختلفت فيه آراء المؤتمرين بين محلل ومحرم، وذهبت الأغلبية من أهل الفقه إلى التحريم معتمدة على رأي مجمع البحوث الإسلامية (1) ، وهنا برز رأي شخصي لعالم ديني بارز وهو الشيخ محمد مهدي شمس الدين أجاز التعقيم الدائم بناء على أنه ليس هناك نص ديني صريح وقاطع يحرمه، ومعتمدا أيضا على أن حفظ إمكانية الإنجاب ليس من الواجبات في الشريعة.
وبالنظر إلى اختلاف آراء الفقهاء حول هذا الموضوع الحيوي فقد طلب الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي بضرورة بحث الموضوع من جديد نظرا لقيام أوضاع جديدة منذ أصدر الشيخ أحمد إبراهيم فتواه عام 1936، " وهو وقت مبكر جدا إذ لم تكن الدعوة إلى تنظيم الأسرة قد أخذت الشكل الحاضر".
كما أيد مضمون هذا الرأي الدكتور سليمان حزين إذ طلب أن يترك الحكم في التعقيم الدائم مفتوحا لاجتهاد المسلمين فيما بعد في ضوء التقدم العلمي.
(1) راجع ملاحق الكتاب.
الفصل الخامس الملاحق
التقرير النهائي الذي أقره المؤتمر
فتاوى بعض علماء المسلمين
من مقررات وتوصيات مجمع البحوث الإسلامية
بيان حول السكان من رؤساء بعض الدول والحكومات
التقرير النهائي الذي أقره المؤتمر
أكد المؤتمر أن الإسلام وضع الأحكام الكفيلة بمواجهة جميع التغيرات الاجتماعية التي تتعرض لها الأسرة في المجتمع الحديث.
ونبه المؤتمر إلى ضرورة وضع دراسات علمية عن الأسرة، وإلى ضرورة معرفة الناس حكم الإسلام في ما يجد من أحوال وأحداث.
ويرى المؤتمر أن الإسلام قد أعطى المرأة من الحقوق ما يجب لها، وما لم يعطها غيره، وأن عمل المرأة في المجتمع أمر مشروع إذا احتاجت إليه أو احتاج إليه المجتمع المسلم، على أن تكون المرأة في عملها محافظة على دينها وعفتها وحشمتها، وألا يتعارض ذلك مع رسالتها الأساسية كزوجة وأم.
ويستنكر المؤتمر أن تستغل أنوثة المرأة في أي مجال من مجالات عملها.
وينبه المؤتمر إلى أن يكون زي المرأة محتشمًا حسب حكم الإسلام وينبه الرجل إلى ضرورة قيامه بما يتطلبه منه الإسلام في رعاية أولاده، وأن يلتزم بحكم الإسلام في سلوكه وأخلاقه.
وأكد المؤتمرون أنه بينما أباح الإسلام تعدد الزوجات، وضع القيود الكفيلة بعدم سوء استغلال مشروعيته والعبث به.
كما أكد المؤتمرون أن أمر الأسرة يهم الوالدين والمجتمع معًا؛ لأن الأسرة لبنة المجتمع الأولى.
اتفقت الآراء على ما يلي:-
1-
إن الإسلام قواعد ومبادئ وأسسًا ثابتة لا تقبل التغير ولا التحوير؛ لأنها هي ركائز إصلاح الحياة البشرية والطريق المستقيم الذي ارتضاه خالق الخلق والعليم بما يصلحهم وما يفسدهم: كما أن فيه أحكامًا عامة ثابتة للحالات العادية، وأحكامًا خاصة لحالات الضرورة والظروف الاستثنائية.
2-
إن نظر الإسلام إلى الوسائل غير نظره إلى الغايات، فالوسائل تقبل التغيير والتطور بحسب الأحوال والأزمان.
3-
إن الإسلام نظام شامل لإصلاح الحياة العقلية والروحية والقانونية والاجتماعية يسود جميع شئون الحياة للفرد والجماعة.
4-
إن الإسلام فتح باب الاجتهاد للقادرين عليه استجابة للحاجات المتجددة بطريق القياس والاستحسان ومراعاة المصالح المرسلة والعرف وغيرها في نطاق الكتاب والسنة. وهو كفيل بأن يهيئ الحلول الإسلامية التي تتطلبها جميع قضايا المجتمع على اختلافها، خاصة وأن أحكام المعاملات معللة ومرتبطة بمصالح العباد، والحكم فيها يدور مع علته ثبوتًا وانتفاء، وبذلك تسير أحكام الوسائل في طريق الحفاظ على الغايات.
5-
إن الأساس الأول لبناء الحياة الصالحة في نظر الإسلام هو العقيدة القائمة على الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه، وأن المجتمع الإسلامي ينبني على مبادئ سلوكية وأخلاقية مقررة في الكتاب والسنة، منها: الإخوة والمودة بين المسلمين، والتكافل الاجتماعي والاقتصادي بينهم. وإقامة العدل، وسيادة قانون الشريعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمجيد العمل الصالح الذي يعود بالنفع على الفرد والجماعة، وحب الخير للبشرية جمعاء، والمسلمون مكلفون بالعمل على تحقيق أكبر قدر من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، باكتشاف طاقات الكون وكنوزه، واستخدام هذه الكنوز في تحسين حياة المسلمين، ومن الوسائل الأساسية لتحقيق ذلك: نشر التعليم مع التوعية والتربية الإسلامية. واعتبار الإنفاق في هذا السبيل استثمارًا ضروريًّا للتنمية في العالم الإسلامي كله.
وإن أي مسعى يبذل على أي صعيد في سبيل الخروج من حالة التخلف التي يعاني منها العالم الإسلامي يجب أن يكون في إطار الحفاظ على الشخصية الإسلامية الأصلية واتجه المؤتمر إلى أن تنظيم الأسرة هو قيام الزوجين بالتراضي بينهما وبدون إكراه باستخدام وسيلة مشروعة ومأمونة لتأجيل الحمل أو تعجيله بما يناسب ظروفها الصحية والاجتماعية والاقتصادية وذلك في نطاق المسئولية نحو أولادهما وأنفسهما وناقش المؤتمر مسألة التعقيم، فكان اتجاهه إلى الأخذ برأي مجمع البحوث الإسلامية (1) حول هذا الموضوع وهو أن استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لغير ضرورة شخصية، أمر لا تجوز ممارسته شرعًا للزوجين أو لغيرهما.
وفي أمر الإجهاض الذي هو إفراغ الحمل من الرحم بقصد التخلص منه، استعرض المؤتمر آراء فقهاء المسلمين، فتبين أنه حرام بعد الشهر الرابع إلا لضرورة ملحة صيانة لحياة الأم.
أما ما قبل ذلك فرغم وجود آراء فقهية متعددة فإن النظر الصحيح يتجه إلى منعه في أي دور من أدوار الحمل إلا للضرورة الشخصية القصوى صيانة لحياة الأم أو يأسًا من حياة الجنين، ولقد أحاط المؤتمر علمًا بما تزمعه جامعة الأزهر الشريف من إقامة المزيد من الدراسات العلمية في ميدان السكان في العالم الإسلامي بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة. وفي اضطلاع العلماء المسلمين بهذه المهمة، ملتزمين بشريعة الإسلام وأحكامها ما يعود بالنفع فعلًا على العالم الإسلامي.
(1) نص قرار مجمع البحوث الإسلامية مثبت في ملاحق الكتاب (لجنة التحرير)
فتاوى بعض علماء المسلمين
(حسب الترتيب الزمني لصدورها)
الشيخ عبد المجيد سليم (مصر) 25/1/1937
لجنة الفتوى بالأزهر الشريف (مصر) 10/3/1953
الحاج علي بن محمد سعيد صالح (سنغافورة) 25/4/1955
الشيخ محمود شلتوت (مصر) 1959
المجلس الاستشاري للشؤون الدينية (تركيا) 16/12/1960
الشيخ حسن مأمون (مصر) 22/8/1964
الشيخ عبد الله القلقيلي (الأردن) 6/11/1964
لجنة فتوى بقطاع غزة (الأردن) 1964
الشيخ بهاء الدين محلاتي (إيران) 12/11/1964
الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن (ماليزيا) 21/11/1965
الشيخ يوسف بن علي الزواوي (ماليزيا) بدون تاريخ
رئيس المحكمة العليا للاستئناف (الجمهورية العربية اليمنية) 23/4/1968
فتوى الشيخ عبد المجيد سليم
(1)
)
هذه صورة طبق الأصل من الفتوى الصادرة من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، بتاريخ 12 ذي القعدة سنة 1355 هـ الموافق 25 يناير سنة 1937 م، سجل 43. ونصها كالآتي:
سأل سائل، قال: ما قول فضيلتكم في ما يأتي:
رجل متزوج رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق بأولاد كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو أن تسوء صحته، فتضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، أو أن تسوء صحة زوجته لكثرة ما تحمل وتضع دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها وتسترد قوتها: فهل له أو لزوجته أن تتخذ بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء لتجنب كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم، ولا يرهق الوالد صحيًّا وماديًّا واجتماعيًّا؟
الجواب
اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأن الذي يؤخذ من نصوص فقهاء الحنفية أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل على الوجه المبين في السؤال، كإنزال الماء خارج محل المرأة، أو وضع المرأة شيئًا يسد فم رحمها لمنع وصول ماء الرجل إليه.
وأصل المذهب أنه لا يجوز لرجل أن ينزل خارج الفرج إلا بإذن زوجته، كما لا يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها إلا بإذن الزوج، ولكن المتأخرين أجازوا للرجل أن ينزل خارج محل المرأة بدون إذنها إن خاف من الولد لسوء فساد الزمان. قال صاحب المقنع:(فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها)
والظاهر من العبارة: (فليعتبر مثله من الأعذار) :كأن يكون الرجل في سفر بعيد، ويخاف على الولد. وقياسًا على ما قالوه، قال بعض المتأخرين: إنه يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها بدون إذن الرجل (الزوج) إذا كان لها عذر في ذلك.
وجملة القول في هذا أنه يجوز لكل من الزوجين برضاء الآخر أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم منعًا للتوالد: ويجوز على رأي المتأخرين من فقهاء الحنفية لكل من الزوجين أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم بدون رضا الآخر، إذا كان له عذر من الأعذار التي قدمناها أو مثلها.
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 183
بقي الكلام في أنه هل يجوز منع الحمل بإسقاط الماء من الرحم بعد استقراره فيه، وقبل نفخ الروح في الحمل؟ اختلف فقهاء الحنفية في ذلك، وظاهر كلامهم ترجيح القول بعدم جوازه إلا بعذر، كأن ينقطع لبن المرأة بعد ظهور الحمل وله ولد، وليس لأبيه ما يستأجر به الظئر (1) ، ويخاف هلاك الولد، أما بعد نفخ الروح في الحمل فلا يباح إسقاطه، وبما ذكرنا علم الجواب عن إسقاطه، وبما ذكرنا علم الجواب عن السؤال حيث كان الحال كما ذكر به، هذا ما ظهر لنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف
(2)
السؤال:
رجل متزوج رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق أولادًا كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو أن تسوء صحته بضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، أو أن تسوء صحة زوجته لكثرة ما تحمل وتضع دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها وتسترد قوتها، وتعوض ما فقدته من جسمها في تكوين حملها.
فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء لتجنب كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم وتسترد صحتها ولا يرهق الوالد صحيًّا أو ماديًّا أو اجتماعيًّا؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد. فقد اطلعت اللجنة على هذا السؤال، وتفيد بأن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم على رأي عند الشافعية، وبه تفتي اللجنة، لما فيه من التيسير على الناس ودفع الحرج ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة، وتسترد صحتها، والله تعالى يقول:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4)
وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدًا فهو حرام. وبهذا علم الجواب عن السؤال والله أعلم.
24 جمادى الثانية سنة 1372 هـ
10 مارس سنة 1955 م
(1) الظئر: هي المرضعة لولد غيرها
(2)
الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 191
(3)
سورة البقرة 185
(4)
سورة الحج 78
فتوى الشيخ محمود شلتوت
(1)
تحدث الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر السابق رحمه الله عن موضوع (النسل بين التحديد والتنظيم) في كتابه الفتاوى، وبعد أن قال: إن تحديد النسل بمعنى إصدار قانون عام يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين دون مراعاة للفروق بين الأفراد، شيء لا يمكن أن يقصده أحد ما، فضلًا عن أمة تريد لنفسها البقاء، وهو تفكير تأباه طبيعة الكون المستمرة في النمو، وتأباه حكمة الله تعالى، ذكر أنه يعتقد أن الذين يدعون إلى تحديد النسل لا يريدونه بهذا المعنى. ثم قال:
أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتي يسرع إليهن الحمل، وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة، وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليات الكثيرة، ولا يجدون من حكوماتهم، أو من الموسرين من أمتهم، ما يقويهم على احتمال هذه المسئوليات، إن تنظيم النسل بشيء من هذا - وهو تنظيم فردي، لا يتعدى مجاله – شأن علاجي، تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح.
والتنظيم بهذا المعنى لا يجافي الطبيعة، ولا يأباه الوعي القومي، ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه، فقد حدد القرآن مدة الرضاع بحولين كاملين، وحذر الرسول صلوات الله عليه أن يرضع الطفل من لبن الحامل، وهذا يقضي بإباحة العمل على وقف الحمل مدة الرضاع.
وإذا كانت الشريعة تتطلب كثرة قوية لا هزيلة. فهي تعمل على صيانة النسل من الضعف والهزال، وتعمل على دفع الضرر الذي يلحق بالإنسان في حياته. ومن قواعدها: الضرر مدفوع بقدر الإمكان.
ومن هنا قرر العلماء إباحة منع الحمل مؤقتًا بين الزوجين، أو دائمًا إن كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن يتنقل بين الذرية والأحفاد.
(فتنظيم النسل بهذه الأسباب الخاصة التي من شأنها ألا تعم الأمة، بل ولا تكون فيها إلا بنسبة ضئيلة جدًّا، تنظيم تبيحه الشريعة، أو تحتمه على حسب قوة الضرر وضعفه، ولا أظن أن أحدًا يخالف فيه، فهو إذن محل اتفاق، وإذن ففيم الاختلاف؟ وعلام تختلف؟ اللهم إلا إذا كان مجرد الاختلاف والجدل شهوة ورغبة، وليس هذا شأن الباحثين والحريصين على خير أمتهم، وأخيرًا فاسمعوا أيها السادة قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة البقرة 208] .
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 179
فتوى المجلس الاستشاري للشؤون الدينية
في تركيا بشأن تحديد النسل
(1)
تسلمنا الاستعلام من المديرية العامة للشؤون الصحية (رقم: 10456، تاريخ 13/12/60)
الذي يسأل عما إذا كانت تدابير تحديد النسل شرعية بالنسبة للدين الإسلامي أرسل إلينا هذا الاستعلام من قبل وزارة الصحة (رقم 35739، تاريخ 16/12/60) وقد بحث مجلسنا الموضوع.
بالرغم من أن العزل الذي يمكن اعتباره وسيلة لتحديد النسل، شجبه بعض من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم من العلماء، وأجازه البعض الآخر كالإمام علي، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وجابر، وابن عباس، وعروة بن الزبير، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وسار على هديهم من جاء بعدهم من العلماء. يمكن الذهاب في القول إلى أنه في حين أن موافقة المرأة هي شرط ضروري طبيعيًّا، إلا أنه إذا كانت التربية الملائمة للأولاد غير ممكنة بسبب الأوضاع الآتية، كأن تكون الدولة في حالة حرب أو اضطراب أو ظروف مشابهة، فإن هذا الشرط يبطل أيضًا.
لقد قررنا أن نقدم هذه النتائج إلى الوزارة، جوابًا على الاستعلام المذكور أعلاه.
(1) فتوى بشأن تحديد النسل، المجلس الاستشاري للشؤون الدينية في تركيا، مرسوم كانون الأول 1960.
فتوى الشيخ حسن مأمون
(1)
تحدث الإمام الأكبر الشيخ حسن مأمون شيخ الجامع الأزهر الشريف عن الإسلام وتنظيم الأسرة في جريدة " أخبار اليوم " الصادرة صباح 22 أغسطس سنة 1964 م. فقال:
رأي الإسلام في هذا الموضوع واضح وصريح، ولعل ما أثار في نفسك – وما يثير في نفوس الكثيرين – هذا التساؤل، ما هو مأثور عن الإسلام من أنه يدعو إلى التناسل والتكاثر ويحفز من استطاع الباءة (2) من الشباب أن يتزوج، ويدعو إلى أن يختار الرجل لنفسه الزوجة الولود الودود إلى غير ذلك مما قد يرى معه البعض أن هذا الرأي هو الإسلام، ولا رأي غيره.
على أنه يمكن لنا أن نتناول الموضوع من زاوية أخرى – وهي الزاوية الأساسية والرئيسية في بناء الحكم الشرعي غالبًا – تلك هي الحكمة التي يبنى عليها الحكم والمصلحة المشروعة التي يستهدف تحقيقها. وفي موضوعنا كانت الحكمة والمصلحة تقضيان بالدعوة إلى التناسل والتكاثر والحفز عليهما.
ذلك أن الإسلام في بدء أمره كان غريبًا في مجتمع الشرك الجاهلي، وكان أتباعه قلة ضعفاء وسط الكثرة الباغية المستعلية بما استأثرت به من مال وجاه، وكانت المصلحة تقضي بالدعوة إلى مضاعفة عدد المسلمين، ليواجهوا مسئولياتهم في الذود عن الدعوة الإسلامية، والدفاع عن دين الله الحنيف الذي يتهدده خصوم كثيرون أقوياء.
ولكننا الآن نجد أن الظروف قد اختلفت، ونجد أن تكاثف السكان في العالم كله بدأ يهدد بهبوط خطير في مستويات الحياة اللازمة للبشر، لدرجة حدت بكثير من المفكرين إلى تنظيم النسل في كل دولة، بحيث لا تعجز مواردها عن الوفاء بأسباب العيش الكريم لسكانها، وتقديم الخدمات العامة لهم.
والإسلام – وهو دين الفطرة – لم يكن في يوم من الأيام ضد مصلحة الإنسان، بل كان دائمًا سباقًا إلى تحقيق هذه المصلحة، ما لم تخالف شرع الله. وإني أرى أنه لا مانع شرعًا من النظر في تنظيم النسل، إذا كانت الحاجة تدعو إلى ذلك، وعلى أن يتم هذا باختيار الناس وإقناعهم، دون قهر أو قسر وفي ضوء ظروفهم على أن تكون الوسيلة إلى ذلك مشروعة.
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، ص 195.
(2)
أي قدر على الزواج والقيام به وبتبعاته وواجباته.
فتوى الشيخ عبد الله القلقيلي
المفتي العام في المملكة الأردنية الهاشمية
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد عظمت مخاوف العالم من تزايد عدد السكان في كل مكان، وصار الخبراء يعدون ذلك منذرًا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ونظروا في وقاية العالم من شره المستطير، وبلائه الخطير، فوجدوا من أعظم ذلك تحديد النسل، لكنهم يعلمون أن اكثر الناس لا يقدمون عليه إلا إذا بين لهم حكم الدين فيه، ولذلك تطلع المسلمون إلى من يثقون به من علماء الدين، ليبينوا حكم الدين فيه، فتواردت علينا الأسئلة في هذه المسألة، ومن هذه الأسئلة ما هو من جهات رسمية، وهذه هي فتوانا فيه (1)
إنه من المعروف عن الشريعة الإسلامية السمحة أنها تساير الفطرة، وتجاري الطبيعة، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2)
وإن الفطرة التي فطر الله عليها الناس ومن سنن الطبيعة الزواج. وإنما المقصود من الزواج النسل، إذ به بقاء الأنواع، وقد أشارت الآية الكريمة إلى ذلك، وعدته من نعم الله على عباده، قال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (3) . فلهذا كان الزواج من سنن الشريعة الإسلامية وكان النسل من مقاصدها المستحبة المرضية، بل إن الشارع قد تشوف إلى كثرة النسل، وذلك لما في كثرة العدد من القوة والهيبة، وأسباب المنعة والعزة، كما قال الشاعر:
بالأكثر فيهم حصى
وإنما العزة للكاثر
(1) نشرت الفتوى لأول مرة في جريدة الدفاع 16/11/64 ثم وزعت في بيان صادر عن الإتحاد العالمي لتنظيم الوالدية في كانون الأول 1964م
(2)
سورة الروم 30
(3)
سورة النحل 72
ولذلك ورد الحديث في الحث على تزوج المرأة الولود، ففي السنن عن النبي ((تزوجوا الولود الودود فإني مباه بكم الأمم)) . بيد أن الشارع قيد طلب النسل بالزواج، وتزوج الولود بالقدرة والسعة واليسر، وعدم العجز عن تحمل مؤونة الزواج، وضيق كسب الوالد عن الإنفاق على الولد، وأن لا يجد سعة لتعليمه وتأديبه، حتى يؤدي ذلك إلى إضاعته، وطلبه الرزق من وجوه غير مشروعة، وطرق دميمة مكروهة ممنوعة. فإذا خيف ذلك فإن الحكم يتغير طبقًا للقاعدة الشرعية: تتغير الأحكام بتغير الزمان. فإن هذا هو معناها. فيكون حكم طلب الزواج الذي هو من سنن الإسلام الحظر والمنع، وذلك إذا عجز طالب الزواج عن مؤونة الزواج. وهذا الحكم، وهو خطر الزواج ومنع الشارع منه، هو صريح الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله عز وجل:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . (1) فإن هذه الآية الكريمة ظاهرة وصريحة في الاستعفاف والصبر عن الزواج، إلى حين القدرة عليه، وأما السنة، فما جاء في الحديث الصحيح:((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) . فهذا الحديث مثل هذه الآية الكريمة في الأمر بترك الزواج ومن لم يستطع الباءة، وهي القدرة المالية، وهذه الآية وهذا الحديث يؤخذ منهما قطعًا أن تحديد النسل مشروع بطريق الأولى إذا كانت مصلحة العالم أو مصلحة الفرد في ذلك؛ لأنهما قد نهيا عن الزواج الذي في تركه قطع النسل حين العجز عن مؤونة الزواج: فيؤخذ من ذلك حكم تقليل النسل من باب أولى؛ لأن قطع النسل البتة أفحش من تقليل النسل. فلهذا نعجب ممن يستحب الترهب كيف يتردد في إجازة تحديد النسل؟ وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في إباحة طرق تحديد النسل عينًا، فمن ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد قال:" أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله عن ذلك، فقال لنا: " وإنكم لتفعلون - قالها ثلاثا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة ".
وفي السنن عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل المؤودة الصغرى. قال كذبت اليهود. ولو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه. وفي الصحيحين: كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل، وفي الصحيح أيضا: كنا نعزل على عهد رسول الله فبلغه ذلك فلم ينهنا. ففي هذه الأحاديث الصحيحة والصريحة إجازة العزل الذي هو أحد طرق منع النسل أو تقليله حتى من غير عذر. وقد رويت الرخصة بذلك عن عدد من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعي وأحمد.
(1) سورة النور 33
وقد تفرع عن هذا القول بجواز أخذ الدواء لمنع الحمل، وإسقاط الجنين قبل أن تدب فيه الحياة. وقد قال بجواز ذلك الحنفية إذا كان لعذر، وقد ذكر هذا في كتبهم الفقهية، بل في المطوقات كما جاء في الوهبانية. ويكره أن تسقى لإسقاط حملها. وجاز لعذر حيث لا يتصور. وقد مثل الفقهاء العذر لإسقاط الحمل كما في ابن عابدين إذ قال: وكالمرضعة إذا ظهر بها الحمل وانقطع لبنها، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاك الولد. وقد بين الفقهاء متى يجوز أخذ الدواء للإسقاط أنه ما دام الحمل مضغة أو علقة لم يخلق له عضو، وقدروا مدة ذلك بمائة وعشرين يومًا. وقد قالوا: إنه في هذه الأطوار لا يكون آدميًّا. وقد روي عن عمر وعلي ما يستفاد منه أنه (لا يكون إسقاط الحمل موؤودة حتى تمر عليه التارات السبع) وجاء في الموطأ: قال مالك: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها. وقال الزرقاني على ذلك. (وأما الحرة فإن أذنت لم يحرم. قال في الفتح: وينتزع من حكم العزل، حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع ففي هذه أولى. ومن قال بالجواز، فيمكن أن يلتحق بهذا) ثم قال الزرقاني: (ويلتحق به تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله) .
فترى من هذا أن المتفق عليه بين الأئمة جواز العزل وهو من طرق منع الحمل.
وقد أخذ العلماء من هذا جواز أخذ الدواء لمنع الحمل، بل أخذ الدواء لإسقاط الحمل ونحن نفتي بجواز تحديد النسل مطمئنين. وقد ذكرنا من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ما يقطع ريب المستريبين، وإذا قررت الحكومة هذا فإن العمل به يكون لازمًا؛ لأن من المتفق عليه أن أولى الأمر إذ أخذ بقول ضعيف يكون الأخذ به حتمًا. وقد أفتينا بهذا منذ بضع عشرة عامًا قبل أن نلي الإفتاء وطبعت فتوانا في المجموع الأول فتاوينا، ثم سئلنا عنه غير مرة، فأفتينا به ونشرت فتاوينا في هدي الإسلام، والله ولي التوفيق.
فتوى لجنة الفتوى بقطاع غزة
(1)
جاء سؤال عن حكم منع الحمل إلى لجنة الفتوى في قطاع غزة من أرض فلسطين، فأجابت عنه بالجواب التالي المنشور في مجلة نور اليقين، عدد رمضان سنة 1384هـ.
وهذا نص الجواب:
(إن الدين دعا إلى التناكح، وبين السبب في ذلك وهو كثرة التناسل، وذلك لعبادة الله وعمارة الأرض، واستخراج كنوزها والانتفاع بما فيها، ولحماية الوطن والدفاع عنه، ولبث الفضائل في الكون. . . إلخ. والله سبحانه وتعالى قد ضمن الرزق لعباده، وقدر في الأرض أقواتها {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (2){وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) } (3){وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (4)
ولهذا حارب الإسلام ما كانت تفعله الجاهلية من قتل الأبناء بنات وبنين، خشية العار أو الفقر:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (5) وفي الأخرى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . (6)
وبعد هذا فالمرأة إذا كانت صحيحة قوية وقادرة وغنية، ولا يوجد أي سبب لمنع الحمل فلا يجوز منعه؛ لأنه يتنافي مع ما دعا إليه الدين مما سبق بيانه وتوضيحه، كما لا يجوز بحال من الأحوال إسقاط الجنين بعد تخلقه، ويعتبر فعله قتلًا للنفس التي حرم الله إلا بالحق، وفاعله مرتكبًا للكبيرة التي يستحق بسببها العقوبة في الدارين، إن لم يتب إلى الله عز وجل.
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب ص 199
(2)
سورة فصلت 10
(3)
سورة الذاريات الآية: 22،23
(4)
سورة هود 6
(5)
سورة الإسراء 31
(6)
سورة الأنعام 151
هذا ولزيادة الإيضاح للسائل الكريم نبين له أنه يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل لأسباب، وذلك لتنظيم النسل، وإيجاد المواطن الصالح، ومن ذلك:" لا ضرر ولا ضرار"، وأيضًا:
"الضرر مدفوع بقدر الإمكان " ومن تحديد القرآن الكريم للرضاع بعامين: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) ومن تحذير الرسول عليه صلوات الله وسلامه من إرضاع الطفل من لبن الحامل.
وبهذا. فالقرآن والسنة يوضحان للإنسان تنظيم عملية النسل، وذلك بإيقاف عملية الحمل وقت الرضاع. كما أن الشريعة تحرص على سعادة الإنسان وعزته وكرامته، كما تدعوه إلى القوة المحققة للعمل المنتج الذي دعا إليه الدين:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (2) . وهذا لا يتأتى إلا بالنسل المنظم السليم في جسمه وعقله، والكامل في صحته، والخالي من الأمراض الجسمية والنفسية.
وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الأبوان قادرين على التربية والتغذية والتعليم والتنشئة الصالحة، وهذا لا يتوافر لكل الناس، ولا يوجد عند جميع الناس.
ومن هنا يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل إذا كان الأبوان أو أحدهما مريضًا؛ لأن المرض ينتقل للذرية، أو كانا فقيرين ولا يستطيعان تحمل المسئولية ولا يجدان من يتحملها من المسئولين الموسرين أو الحكومة، أو كان معهما من الذرية ما فيه الكفاية وما زاد يرهقهما ويتعب أعصابهما أو يكلفهما ما لا يطيقان، أو كان معهما من الذرية ما فيه الكفاية، وترى الزوجة أنها لو حملت بعد هذا لذهب جمالها ونالها من الإرهاق ما يجعلها منغصة في حياتها، أو كانت الكثرة تسبب لها مرضا أو إهمالًا في التربية، أو كان الزوج أنانيًّا يرغب في الجمع بين النساء لمتعته. وبالأولاد لا يتحقق ذلك الغرض، والمرأة مع العدد الكثير من البنين لا ترضيه ولا تحقق رغبته، وبهذا تتسبب له في الزواج بغيرها. أو لغير ذلك من الأسباب المنغصة بسبب كثرة الحمل والوضع.
(1) سورة البقرة 233
(2)
سورة التوبة: 105
ولهذا يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل، ويكون من الخير فعله لو وجدت لديه هذه الأسباب، وهذا طبعًا لا يشمل الكل بل البعض؛ لأن هذه الأسباب لا توجد إلا في القليل من الناس، ويعجبنا ما عليه الأجانب في تنظيم النسل وتحديده، وقد سارت الآن في هذا الطريق الطبقة المثقفة القادرة. أما من يجوز لهم المنع فعملوا على عكس المطلوب، فنجد الفقير أو المريض بالشهوة هو الذي يكثر من النسل ويحرص عليه، ويكثر من الزوجات لهذا الغرض، ولا يهمه إلا أن يكون له العديد من الأولاد، سواء كانوا صالحين أو مفسدين في الأرض، ولا شيء تسعد به الحياة كاتباع ما جاء به الدين، فحبذا لو تبصرناه وسلكناه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ".
فتوى سماحة آية الله الحاج الشيخ
بهاء الدين محلاتي (1)
شرعية منع الحمل
سؤال:
هل توافقون، أو هل من المشروع دينا أن يصف الطبيب، بصورة مؤقتة، أدوية أو وسائل تمنع الحمل، للحيلولة دون التكاثر الإنساني المفرط؟
جواب:
باسم الله: من وجهة نظر الشريعة السماوية، لا يبدو أن استعمال الأدوية أو وسائل منع الحمل، خاصة بصورة مؤقتة لضبط الخصب الإنساني، عمل غير شرعي، إذا كان لا يقود إلى الإضرار بخصب الأنثى فيجعلها عاقرًا.
(1) بهاء الدين محلاتي. إجابة عن سؤال للدكتور محمد الصرام بكتاب مؤرخ في 12 تشرين الثاني 1964م
فتوى الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن
المفتي المساعد، جوهور، ماليزيا (1)
خلاصة أحكام تحديد النسل والشريعة الإسلامية
إن تحديد النسل باستعمال العقاقير أو وسائل منع الحمل مباح إذا كان ذلك لا يسبب العقم الدائم.
التعقيم باستعمال العقاقير أو وسائل منع الحمل محرم، إلا في الحالات التي تؤكد فيها شهادة يمكن الحصول عليها من طبيبين، أن حملًا آخر سوف يكون خطرًا، أو يمكن أن يسبب الوفاة.
(1) الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن، تقرير من مكتب المفتي في جوهر مؤرخ في 21 تشرين الثاني 1965 م، نسخة صادرة عن الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية
فتوى الشيخ يوسف بن علي الزواوي (1)
مفتي ترنغانو، ماليزيا
أحكام تحديد النسل
بسم الله الرحمن الرحيم
إن تأليف الجماعات والجمعيات في سبيل تنظيم الأسرة عمل تفرضه شرائع الدين الإسلامي على المسلمين. لقد فكر المسلمون مليًّا في الماضي والحاضر بهذا الموضوع. وكانت كتب الحديث والاجتهادات في جميع المذاهب موضع جدل دون الوصول إلى نتيجة حاسمة. وفي زمان الصحابة كان فعل منع الحمل يسمى بالعزل " الذي يعني منع منيِّ الذكر من دخول رحم الأنثى. وقد سئل النبي عن رأيه في طبيعة هذا العمل فكان جوابه: "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" قالها ثلاثا. ويفهم من هذا القول أن النبي لم يحرم ممارسة منع الحمل، غير أنه نصح الصحابة بأن لا ينغمسوا فيه كعادة.
لقد تساءل الفقهاء المسلمون في تأملاتهم حول وضع الأولاد إذا كان الولد ملكًا لوالديه حقا أو لواحد منهما فقط، أو في ما إذا كان حقا ملكا للوالدين وللمجتمع عموما. وتختلف الآرء بالنسبة للأزمنة والأوضاع. والإسلام دين يحث معتنقيه نحو الوحدة، سواء كان ذلك في المعتقد أو الاقتصاد أو الصحة. ولا تخالف تعاليم الإسلام علم الطب على الإطلاق في ما يختص بالقوانين الصحية.
على هذا يجمع الفقهاء المسلمون عمومًا.
والقرآن الكريم نفسه، كثيرًا ما يحدد أمورًا تتعلق بالصحة والسلامة الجسدية، كما يقول تعالى، {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (2) الذي تعني أن الوالدات اللواتي يرغبن في إرضاع أطفالهن من الثدي يفعلن ذلك عادة لمدة تقارب السنتين. ويحث القرآن الأمهات على إرضاع أطفالهن من الثدي؛ لأن حليب الأم كما أثبت علم الطب، يحتوي على جميع العناصر الغذائية اللازمة لتغذية طفلها وإعطائه القوة. وتقع على الآباء مسؤولية ما هو على قدر استطاعته. فلا تضرن أم بولدها أو أب بولده. يجب أن يفهم من هذا الحكم أن على الأم المرضع أن تأخذ الاحتياط كي لا تحمل من جديد؛ لأن ذلك يضر بالرضيع. ونرى من هذا الحكم كذلك أن القرآن يشجع دون ريب على ممارسة تنظيم الأسرة.
(1) الشيخ يوسف بن الزواوي، أحكام تحديد النسل، مطبوع على الآلة الكاتبة (بدون تاريخ)
(2)
سورة البقرة: 233
روت أسماء بنت يزيد بن السكن أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإنه ليلقي الفارس قيد عثرة)) وهو يعني: لا تقتلوا أبنائكم سرًّا لأن "الغيل"(مجامعة المرضع) وهو كالفارس الذي يجندل في المعركة من فوق فرسه. وهذا ما يبين أن الجنين المتكون في رحم أمه وهي ترضع طفلًا آخر، يكون ضعيف البنية.
لقد استخلص الفقهاء أن تحديد النسل " مكروه "؛ لأنهم يرون أن الأولاد ملك للجماعة ككل. وبنوا خلاصتهم هذه على كلام سيدنا أبي بكر وعمر وابن مسعود أن تحديد النسل سوف يسبب تناقص الذرية. وبالنسبة للأزواج والزوجات، فقد حكم بأنه لا يجوز للرجل أن يحول دون دخول منيه إلى رحم الزوجة من غير موافقتها إلا إذا كانت هنالك أسباب إلزامية تتناسب مع أحكام الشرائع الإسلامية وتأتي الأمثلة على إباحة الجماع الناقص عندما يكون الزوجان يعيشان في بلد يحارب في سبيل الله حيث إن الحمل مضافًا إلى مصاعب الانتقال والحرب، يمكن أن يزيد من إضعاف المرأة، فيحرمها من الراحة والوقاية الصحية اللازمين. بين الذين يتفقون مع هذا الرأي، الشيخ موفق الدين ابن قدامة الحنبلي الذي توفي في العام 630هـ. وفي رأي الإمام النووي (توفي عام 676 للهجرة) المدون في كتابه شرح صحيح مسلم ما خلاصته: أن فعل العزل، أو منع مني الذكر من دخول رحم الأنثى مرفوض على كل صعيد بصرف النظر عن موافقة الزوجة؛ لأنه يعني قطع الجيل القادم، وهذا ما سماه قول الرسول بالوأد الخفي. إنه يقضي على الحياة تمامًا، كقتل الطفل بدفنه حيًّا.
بالاختصار، إني أميل نحو رؤية ثلاثة وجوه لهذا المسألة:
1-
إذا كان منع الحمل ضروريا لأسباب صحية، سواء صحة الزوجة أو الزوج أو الجنين المفروض، فإنه ليس هنالك أي قوانين دينية تعارضه إطلاقًا، كما جاء في الآية {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (سورة البقرة 233) ويعني هذا أيضًا أنه يطبق في فترة معينة ومحدودة من الزمن وفي حالات خاصة.
2-
يختلف تفكير رجال الفقه حول الحمل، في ما إذا كان الجماع الناقص مقبولًا قبل تكون الحياة في الجنين نفسه (يتم هذا في الشهر الرابع للحمل) .
غير أنهم مجمعون على تحريمه بعد انقضاء أربعة أشهر. وإذا قذف الولد نتيجة إجهاض اختياري فإن على المسؤولين عن العمل – الأطباء، والقابلات. . . إلخ- أن يدفعوا الدية للوالدين إن خرج الجنين حيا، وإذا كان ميتًا فعليهم أن يدفعوا ثمن عبد للوالدين. أما الوالدان اللذان وافقا على الإجهاض، فيدفعان غرامة للسلطات الدينية.
3-
يحرم منع الحمل الكلي أو التعقيم بدون أسباب يقرها الدين، حتى ولو كان اختياريا، تحريمًا تاما.
يتبين من الشرح أعلاه، أي أهمية يوليها الإسلام لموضوع تنظيم الأسرة فعلى الهيئات والجمعيات التي تتألف حول هذا الموضوع أن تعمل وفقًا لما تسمح به شرائع الإسلام كما جاء شرحها في الفتوى التي أعطاها سماحة الشيخ عبد الفتاح العناني.
إن تحديد النسل دون مبرر صحي، أو لمجرد الحفاظ على جمال الصورة، أو كوسيلة للتهرب من مسؤولية إنجاب الأولاد يعتبر محرما بالإجماع.
وعلى المسلم أن لا يرضى بهذه الممارسة. لقد أشار الله تعالى إلى نعمته علينا كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [سورة النحل: 72] الذي يعني أن الله خلقكم وأعطاكم زوجاتكم والنسل والذرية منهن، وفوق هذا منحكم من الطيبات.
في الواقع إن تحديد النسل الذي يمارس بسبب الفقر ومن دون مبرر صحي، غير مقبول في شرائع الإسلام، إذ يطلب الإسلام من الحكومة والمجتمع أن يسهرا على تكاثر أعضائهما لكي يصبح المجتمع قويًّا منيعًا عزيزًا في نظر الأمم الأخرى.
وبالاختصار، إن حكم الشرائع الدينية في هذا الموضوع يتوقف كثيرًا على وضع كل من الزوج والزوجة. لذلك فإني أقترح بشدة أن تنتخب الحكومة هيئة من الأفراد المسؤولين حقًّا، المؤمنين بالله للتأكد من أن أهداف هذه الجمعيات تنفذ بإخلاص لصالح الأمة التي هي بأمس الحاجة إلى ذرية صالحة تتسلم مسؤوليات المستقبل. إن هيئة كهذه من نساء ورجال متجردين تضمن أن تعمل الجمعيات بانضباط داخلي، وبانسجام مع أدق شرائع الإسلام.
فمن أغراض جمعيات كهذه، أن تسدي النصح الحكيم والدقيق للأزواج والزوجات لكي يتمكنوا من الحفاظ على الانسجام العائلي وعلى صحة الأسرة، إنه لمشروع قيم حقًّا وهو جدير بأن يعطى كل تشجيع ممكن.
فتوى رئيس المحكمة العليا الاستئنافية
الجمهورية العربية اليمنية
سؤال:
السيد رئيس المحكمة العليا الاستئنافية.
تحية طيبة وبعد:
فأرجو إفتاءنا في امرأة متزوجة ولديها عدة أولاد. ولجهلها للوسائل الحديثة لمنع الحمل أصبحت حاملًا الآن وتطلب إجهاضها طبيًّا.
فهل تجيز قوانيننا عملية الإجهاض، علمًا بأن ذلك برضاها ورضى زوجها.
نرجو الإفتاء سريعًا، ومفصلًا ليكون منا العمل به.
جواب:
الشريعة المطهرة لا تمنع من ذلك مع رضاء الزوج وبشرط ألا تكون الروح قد نفخت في الجنين. وقد قررت الشريعة أن الروح تنفخ في الطفل من أول الشهر الخامس والله الموفق. 23/ المحرم/ 1388 هـ.
من مقررات وتوصيات مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة
المؤتمر الأول سنة 1964
1-
تشخيص مواطن الضعف في المجتمعات الإسلامية والعمل على علاجها.
2-
العمل على إصدار الفتاوى والأحكام المستمدة من أصول الإسلام وتعاليمه في المشكلات التي جدت وتجد في حياة المسلمين حتى تسير نهضتم على هدى من دينهم الحنيف.
3-
إن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان في الأحكام الشرعية. وإن الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية منها حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة. وكان اجتهاده في محل الاجتهاد.
4-
السبيل لمراعاة المصالح، ومواجهة الحوادث المتجددة، هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك. فإن لم يكن في أحكامها ما يفي فالاجتهاد الجماعي المذهبي. فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق.
المؤتمر الثاني سنة 1965
1-
إن تعدد الزوجات مباح بصريح نصوص القرآن الكريم، بالقيود الواردة فيه، وإن ممارسة هذا الحق متروكة إلى تقدير الزوج. ولا يحتاج في ذلك إلى إذن القاضي.
2-
إن الطلاق مباح في حدود ما جاءت به الشريعة الإسلامية. وإن طلاق الزوج يقع دون إذن القاضي.
3-
إن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثيره؛ لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وحربيًّا، وتزيدها عزة ومنعة.
4-
إذا كان هناك ضرورة شخصية تحتم تنظيم النسل فللزوجين أن يتصرفا طبقًا لما تقتضيه الضرورة، وتقدير هذه الضرورة متروك لضمير الفرد ودينه.
5-
لا يصح شرعًا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه.
6-
إن الإجهاض بقصد تحديد النسل أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لهذا الغرض، أمر لا يجوز ممارسته شرعا للزوجين أو لغيرهما، ويوصي المؤتمر بتوعية المواطنين، وتقديم المعونة لهم في كل ما سبق تقريره بصدد تنظيم النسل.
بيان حول السكان من رؤساء بعض الدول والحكومات
أصدر السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت، في 10 كانون الأول 1966 البيان التالي نصه حول السكان. وقد وَقَّعَ هذا البيان تسعة عشر زعيمًا من زعماء العالم، بينهم ستة من زعماء الدول الإسلامية وهم:
الإمبراطور محمد رضا بهلوي إيران
الملك حسين الأردن
الرئيس تنكو عبد الرحمن ماليزيا
الملك الحسن الثاني المغرب
الرئيس الحبيب بورقيبة تونس
الرئيس جمال عبد الناصر الجمهورية العربية المتحدة
نص البيان
إن للسلام العالمي أهمية عظمى لدى جميع الأمم. وتكرس حكوماتنا جهودًا كبيرة لتحسين إمكانات السلام في هذا الجيل وفي الأجيال القادمة. غير أن مشكلة كبيرة أخرى تهدد العالم. مشكلة أقل بروزًا ولكنها ليست أقل إلحاحًا. إنها مشكلة نمو السكان غير المخطط له.
لقد قضت الإنسانية الفترة من بدء عصورها التاريخية إلى منتصف القرن الماضي حتى بلغت مليار نسمة في حين أنها ازدادت مليارا آخر في أقل من مائة سنة. ولم تكد تمضي ثلاثون سنة أخرى حتى بلغت ثلاثة مليارات. وإذا استمر معدل الزيادة هذا، فإنها ستبلغ أربعة مليارات في سنة 1975، وما يقرب من سبعة مليارات سنة 2000. ويضعنا هذا التزايد الذي لم يسبق له مثيل وجهًا لوجه أمام حالة فريدة بالنسبة للشؤون الإنسانية، وحيال معضلة تزداد خطورة في كل يوم.
إن هذه الأرقام مذهلة بحد ذاتها، بيد أن دلالاتها أعظم من ذلك أهمية بكثير.
فتزايد السكان البالغ السرعة، يعيق الجهود لرفع مستويات المعيشة، وتقدم التعليم، وتحسين الصحة العامة، وتأمين السكن ووسائل نقل أفضل، وتعزيز فرص الثقافة والترفيه، بل وتأمين الغذاء في بعض الأقطار، وباختصار، فإن طموح الإنسانية برمتها إلى تحقيق حياة أفضل، أخذ في الانهيار.
وبوصفنا رؤساء حكومات معنية فعلًا بمشكلة السكان، فإننا نشارك في هذه القناعات، ونعتقد بأنه ينبغي أن تعتبر مشكلة السكان عنصرًا رئيسيًّا في التخطيط القومي البعيد المدى، هذا إذا أدت الحكومات بلوغ أهدافها الاقتصادية وتحقيق مطامح شعوبها.
نعتقد بأن الغالبية العظمى من الآباء يرغبون في أن تتوافر لديهم المعرفة عن تنظيم أسرهم ووسائله، وبأن فرصة تقرير عدد الأولاد والمباعدة بين الولادات هي حق من حقوق الإنسان الأساسية.
نعتقد بأن السلام الدائم والمجدي يتوقف إلى حد كبير على الطريقة التي يواجه بها تحدي نمو السكان.
نعتقد بأن هدف تنظيم الأسرة هو إغناء الحياة البشرية، لا تقييدها، وبأن تنظيم الأسرة بتأمينه المزيد من الفرص لكل فرد، يطلق الإنسان كي يحقق كرامته الشخصية، ويبلغ كامل إمكاناته.
وإذ نعترف بأن تنظيم الأسرة هو من المصالح الحيوية للأمة وللأسرة فإننا نحن الموقعين أدناه نعقد أكبر الآمال على زعماء العالم لكي يشاركونا في رأينا ويضموا جهودهم إلى جهودنا في مواجهة هذا التحدي الكبير من أجل خير شعوب الأرض قاطبة وسعادتها.