الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تغير العملة الورقية
إعداد
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
مستشار السيد وزير الأوقاف السوري لشئون العلماء
وأستاذ جامعي وعضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله خاتم رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد،
فلقد كتب في شأن تغير العملة الورقية فقهاء كثيرون من شتى المذاهب الإسلامية قدامى ومعاصرون.
فمن القدامى رضي الله عنهم وأرضاهم مَنْ أفرد هذا الموضوع برسالة أو برسالتين مثل:
1-
الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في رسالته (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) مطبوع ضمن كتابه الحاوي للفتاوى.
2-
العلامة السيد الشريف محمد أمين بن عمر عابدين صاحب حاشية في المذهب الحنفي ومحرر المذهب برسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) مطبوعة في مجموع رسائل ابن عابدين.
ومن القدامى من تكلم عنه في مصنفاتهم الكبيرة ضمن بحوث الفقه فمن هؤلاء رضي الله عنهم الأئمة الكبار: البهوتي في شرح منتهى الإيرادات وفي كشاف القناع، وابن حجر الهيثمي المكي في التحفة وهو أشبه، والخرشي في شرح مختصر خليل، والرملي في نهاية المحتاج، والرهوني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر الخليل، والزرقاني في شرح مختصر خليل، والزيلعي في تبيين الحقائق، والإمام الشافعي في الأم، وعلماء الهند في الفتاوى الهندية وعليش في منح الجليل وابن قدامة في الشرح الكبير على المقنع وفي المغنى والكاساني في بدائع الصنائع والنووي في المجموع شرح المهذب رحمهم الله وأجزل مثوبتهم.
ومن المعاصرين من تكلم في هذا البحث فمنهم العلامة الشيخ أحمد الزرقا في شرح القواعد الفقهية والدكتور نزيه حماد والشيخ محمد علي عبد الله والدكتور علي أحمد السالوس وصدرت في ذلك الصدد فتوى من المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة جزى الله الجميع كل خير.
وبعد الاطلاع على ما كتبه القدامى والمحدثون رأيت - والله أعلم - رأيًا جديدا في هذا الصدد لعله يكون الصواب والأشبه، ولعله أقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها العامة والخاصة وأجمل هذا الرأي فأقول والله المستعان:
الورق النقدي اليوم وإن كان أموالًا نافقة وله حكم المال من جميع الوجوه في الشريعة المطهرة غير أن الذهب هو التغطية الاقتصادية الوحيدة لدى أكثر الدول فإن لم تكن الوحيدة فهي التغطية الأساس والأصل، لذا من هذا الوجه فالورق النقدي نائب عن الذهب فنرجع قضايا تغير قيمة العملة الورقية كلها إلى الذهب فقط ونقول لكل من تعامل بهذه العملة الورقية مع الآخرين، أنت تقبض وتقبض ورقا نقديا ولكن حينما تكون هنالك مداينة فاحرص على أن تسعر هذا الورق النقدي بالذهب بسعر ذلك اليوم بما هو عليه في البورصة ويسجل كل من المتداينين ذلك السعر للذهب أساسا للتعامل، وعند انقضاء الأجل يرجع المدين للدائن ذهبا أو ورقًا نقديا بسعر الذهب في يوم انتهاء المداينة.
فلو أن رجلًا أقرض آخر إلى سنة (40000) أربعين ألف ليرة سورية يوم الخامس عشر من حزيران 1987 في دمشق وكشفا عن سعر الذهب بالليرات السورية في ذلك اليوم فإذا بهذا المبلغ يساوى (1) كيلو غرامًا واحدًا فقط من الذهب، وبعد انتهاء السنة طالب الدائن المدين بالمال أي في 15 حزيران 1988، فالعدل والإنصاف في الشريعة اللذين بنيت عليهما مصالح العباد ودار حولهما التكليف يقتضيان إما أن يرد المدين للدائن كيلو غرامًا واحدًا من الذهب أو قيمته بالليرات السورية يوم 15 حزيران 1988 ولنفترض أن كيلو الذهب يساوى آنذاك (100000) مائة ألف ليرة سورية وجب أن يرد هذا المبلغ أو الذهب الكيلو الواحد وهو مخير في ذلك لأنه لو رد إليه (40000) الأربعين ألفًا لكان قد رد إليه أقل من نصف كيلو من الذهب، هذا ظلم والظلم حرمه الله ورسوله وقس على ذلك.
هذا ما ظهر لي في هذه القضية بعد إعمال الفكر وترديد النظر والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
أحكام النقود الأوراق
في الفقه الإسلامي
(3)
وجه الاستحسان وضوابطه
في ربط العملات متغيرة القيمة ـ بالقيمة
إعداد
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فلقد كنت كتبت بحثا في موضوع الأوراق النقدية وهل هي أثمان تجب فيها الزكاة كالذهب والفضة ويحرم فيها الربا؟ وقدمته إلى المجمع الموقر وصدر قرار المجمع بالإيجاب ولله الحمد.
ثم قدمت دراسة موجزة وعرضًا في الدورة الرابعة للمجمع كانت كل واحدة منهما دراسة أولية لموضوع تغير قيمة العملة لا أعدها فصل الخطاب ولا نهاية المطاف، وهذه الدراسة الثالثة اليوم أقدمها على كثير من الوجل في موضوع هو أخطر مواضيع الساعة وأعظمها أثرًا وأبعدها غورا، بل إنه هو بيت القصيد. ولعمري ما جاء مجمعنا الموقر واقعة من واقعات العصر في وزن هذه الواقعة.
أتقدم بهذا المشروع إلى مجمعنا العظيم اقتراحا قابلا للمناقشة والدراسة ليس هو الحق كما أنه ليس هو الباطل، بل هو مجرد اجتهاد في نازلة من النوازل قابل للصواب والخطأ، فإن كانت الأولى فمن توفيق الله تعالى وكان لي بذلك أجران وإن تكن الثانية فحسبي ذلك الأجر الواحد وأستغفر الله تعالى وأستعين وقد عزوت ما وسعني ذلك، وما لم أعز النقل فيه فمكانه جريدة المصادر في آخر البحث.
مخطط البحث
يتكون البحث في هذه الرسالة من مدخل ومقاصد ثلاثة وخاتمة، ودونك التفصيل:
المدخل إلى البحث: تصور الموضوع بشكل أولى.
المقصد الأول: تغير قيمة النقد من الدراهم والدنانير فقط وأحكامه.
المقصد الثاني: تغير قيمة الفلوس وما يلحق بها في مذاهب الفقهاء القدامى والباحثين المعاصرين.
المقصد الثالث: ترجيح الربط بالقيمة في الفلوس والعملات المعاصرة استحسانا وضوابطه ووجهه.
خاتمة.
مدخل إلى البحث
تصور الموضوع بشكل أولى
استقر قرار المجمع الموقر في جدة كما استقر قرار المجمع التابع للرابطة في مكة المكرمة على اعتبار الأوراق النقدية أموالا كالذهب والفضة لا خلاف في ذلك.
ولكن هذه الأموال تتغير بفعل من الدولة أحيانا وبدونه أحيانا أخرى وهو الأكثر كسادا وانقطاعا أحيانا. ورخصًا وغلاء أحيانًا أكثر وأغلب، وتجري القروض والمداينات بين الناس بها فماذا يلتزمون؟ عددها ومثلها أم قيمتها بالنسبة للذهب والفضة أو العملات الأخرى الثابتة نسبيا، وتكاد الآراء تتوجه إلى الأخذ بالقيمة استحسانا بالقياس إلخ في لولا الخوف من شبهة الربا لا سيما في القرض والديون، فاقتضى ذلك البحث عن الضوابط الكابحة اللاجمة للمضي في الاستحسان لغايته.
هذه هي اليوم مشكلة الساعة والسؤال عنها أضحى واقعة العصر. ويترتب على ذلك آثار كبيرة في الحقوق والواجبات، والفقه مقاطع الحقوق فما موقفه من هذه القضية الاقتصادية الخطيرة؟!
لقد تعرض الفقهاء القدامى رضوان الله عليهم لطرف من هذا الموضوع حسبما كان الوضع حينئذ عندهم، ولكن الأوضاع الاقتصادية التي كانت يومئذ لديهم تغيرت تغيرا جذريا كبيرا، وأصبح الموضوع اليوم لا يكتفي بما قاله فقهاؤنا القدامى رضي الله عنهم، فهم أفتوا لعصرهم وأعرافهم، وعصرنا اليوم يحتاج إلى اجتهاد جماعي في هذا الموضوع ولا يسعه اجتهاد فرد مهما عظمت فقاهته، وإنما نستطيع الاستئناس بما كتب من قبل ودون. وبما يقوله علماء المسلمين اليوم وفقهاؤهم في سبيل دراسة هذه المسألة وتفنيدها ثم التوصل إلى الحكم الشرعي عن طريق الاجتهاد الجماعي حصرا وذلك بقرار مجمعي يكون فيصلا في هذا الشأن وقد يكون توقفا إذا وسعه ذلك، والله الموفق بمنه وكرمه.
المقصد الأول
تغير قيمة النقد
من الدراهم والدنانير فقط وأحكامه بإيجاز
لعل هنالك إقرارا ضمنيا لدى الفقهاء بأن الدراهم والدنانير من الفضة في الأولى ومن الذهب في الثانية مستقرة في قيمتها وقوتها الشرائية نسبيا، ولو أن التغير في القيمة قد يطرأ عليهما بقدر يسير، والفقهاء متفقون على أنه إذا ترتب على التعامل بالدراهم والدنانير دين سببه القرض أو البيع ثم تغيرت قيمته وقت الأداء لسبب من الأسباب، وحل الأجل فلا يلزم غير ما اتفق عليه بين المتعاقدين. فيؤدى حينئذ بمثله قدرًا وصفة. سواء غلت قيمته أو رخصت، لأن الديون تؤدى بأمثالها لدى كافة الفقهاء.
ويجري هذا الحكم على الدراهم والدنانير الخالصة ومغلوبة الغش. وتكاد هذه القضية تكون من المتفق عليه لدى الباحثين القدامى والمعاصرين وحكى بعضهم فيها الإجماع.
(أ) مذهب الحنفية:
قال ابن عابدين: (إن الدراهم الخالصة أو المغلوبة الغش إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعًا ولا يجب إلا رد المثل الذي وقع عليه العقد وبين نوعه كالذهب الفلاني أو الريال الفلاني)(1) ولا يجري هنا خلاف أبي يوسف لأنه محصور بالفلوس فقط.
(ب) مذهب المالكية:
قالوا إذا بطلت الدنانير أو الدراهم فالمشهور قضاء المثل على من ترتب في ذمته، وكذا إذا تغيرت من باب أولى (2) ، وهنالك لبعض المالكية أنه إذا أبطلت تلك العملة واستبدل بها غيرها يرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب فيأخذ صاحب القيمة ذهبًا، لكن المشهور في المذهب هو الأول.
(ج) مذهب الشافعية:
وجوب رد المثل في القرض، وفي إبطال العملة ليس له غير ما تم العقد به نقص أو زاد أو عز، فإن فقد وليس له مثل، فقيمته على الراجح عندهم ووقتها يوم المطالبة (3) .
(د) مذهب الحنابلة:
وجوب رد المثل في القرض، والقيمة عند الإعواز.
جاء في مجلة الأحكام الشرعية (المكيلات والموزونات يجب رد مثلها، فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الإعواز)(4) .
وقال مثله في المغني فلينظر.
(1) العقود الدرية: 1 / 283، وما بعدها، وتنبيه الرقود: ص 61 و 62 و64.
(2)
حاشية الرهوني:5 / 118، وما بعدها.
(3)
نهاية المحتاج: 3 / 399 وما بعدها؛ والمجموع: 13 / 174.
(4)
انظر المغني على الشرح الكبير: 4 / 405 و 717 و 318؛ والمجلة، مادة 749.
المقصد الثاني
تغير قيمة النقود الاصطلاحية
تغير قيمة الفلوس
وما يلحق بها في مذاهب الفقهاء
القدامى والباحثين المعاصرين بإيجاز
المبحث الأول
التغير في الفلوس وما يلحق بها
(أنواعه وأشكاله)
ما هي طبيعة الفلوس؟
هل الفلوس أثمان أو عروض؟ هل يدخلها الربا في المعاملات المالية أم لا؟
على ضوء الإجابة على هذه الأسئلة المهمة ينجلي الموقف
…
ودونك الجواب باختصار: اتفق أئمة المذاهب على أن الفلوس أثمان بالاصطلاح والعرف، ولا تتعلق بذواتها أحكام محدودة واختلف الفقهاء بعد ذلك اختلافًا كبيرًا يرجع إليه في محله، والذي ترجح هو أن الفلوس ليس لها طبيعة خاصة بها، وإنما طبيعتها اعتبارية لأنها مستمدة من حقيقة النقدين وطبيعتهما في بعض الصور والحالات، ومن طبيعة القروض وحقيقتها في بعض الصور والحالات الأخرى، يدل على ذلك أن المجتهدين اختلفت منازع نظرهم واجتهادهم فيها فاختلفت أحكام الفروع المستنبطة عندهم، ومرجع ذلك لدى التحقيق العلمي إلى طبيعتها الاعتبارية.
جاء في كلام العلامة ابن عابدين (أن الفلوس لها حكم العروض من وجه، وحكم الثمن من وجه) . اهـ. (انظر رد المحتار: 4 / 184) .
وقد ترجح أن الأوراق النقدية نظيرة الفلوس في علة الثمنية فب علة تحريم الربا في النقدين وهي العلة المتعدية حيث قيس عليهما الفلوس، وكذلك تقاس الأوراق النقدية على النقدين من الدراهم والدنانير كما قيست الفلوس عليها وكذلك الكواغد والأنواط، فكل ما يجري على النقدين يجري على الفلوس وما يلحق بها من الأوراق النقدية.
وهذا ويلحق بالفلوس أيضًا الدراهم والدنانير غالبة الغش فلها قيمة الفلوس وتعامل معاملتها.
وانحصرت حالات التغير في ثلاث حالات:
1 – الحالة الأولى: الكساد.
2 – الحالة الثانية: الانقطاع.
3 – الحالة الثالثة: الرخص والغلاء.
1 – الحالة الأولى: الكساد:
بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل فيه فتترك المعاملة به في كل الأقطار.
اختلفت فيه مذاهب الفقهاء إلى أقوال ثلاثة:
1 – فذهب المالكية في المشهور، والشافعية في المذهب والليث بن سعد إلى أنه إذا كسد النقد لم يكن على المدين غير السكة التي قبضها يوم العقد سواء كان الدين قرضًا أو ثمن مبيع أو غيره، وحكي عن الإمام الشافعي وجه هو أن البائع يتخير بين إجازة البيع بالنقد القديم أو فسخه.
2 – وذهب الإمام أبو حنيفة فيما يظهر إلى أنه إذا كسدت الفلوس أو انقطعت فالبيع فاسد ويجب الفسخ ما دام ممكنًا، وهذا إن كان بيعًا، فإن كان دينًا فيجب رد مثله ولو كان كاسدًا لأنه هو الثابت في الذمة، وذهب الصاحبان إلى عدم البطلان، وعلل كل لرأيه.
3 – وذهب الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور والصاحبان من الحنفية إلى أن الفلوس إذا كسدت ترد القيمة.
واختلفوا في وقت تقدير القيمة:
- فذهب جمهور القائلين بهذا الرأي إلى أن الوقت يوم القبض أو يوم التعامل وهو كذلك للإمام أبي يوسف فيما يظهر.
- واشترط بعض المالكية أن يكون يوم القبض من النقد الرائج.
- وقال الإمام محمد بن الحسن من الحنفية وبعض الحنابلة إنه وقت الكساد (أي في آخر نَفَاقِهَا) وترك المعاملة في آخر نفاق الفلوس.
- وفي قول عند الحنابلة وقت الخصومة.
والذي يترجح من هذه الأقوال والله أعلم هو ما ذهب إليه الحنابلة ومقابل المشهور عند المالكية والصاحبين في وجوب القيمة ويرجع إلى أدلتهم في مظانها عند التوسع.
وأما عن وقت اعتبار القيمة فالذي ترجح أن القيمة المعتبرة هي القيمة وقت الكساد وترك المعاملة في آخر نفاق الفلوس من الأسواق، ورجح زميلنا الدكتور النشمي حفظه الله يوم الاستحقاق وهو بالرغم من أنه لا قائل به في الكساد قول وجيه.
وهناك حالة الكساد المحلي للنقد الاصطلاحي فالقول المعتمد عند الحنفية في صورة البيع لا يفسد والبائع بالخيار بين أن يطالبه بالنقد الذي وقع به البيع وبين أخذ قيمة ذلك النقد من عملة رائجة، وقيل عن الشيخين في المذهب الحنفي يجري في الكساد المحلي حكم الكساد العام وهو لم يرو عنهما بطريق معتمد.
2-
الحالة الثانية: الانقطاع:
الانقطاع عند الفقهاء: (ترك التعامل بها في الأسواق العامة بين الناس) : انظر ابن عابدين من الحنفية والزرقاني والبناني من الجمهور. أو (بأن يفقد النقد من أيدي الناس لمن يريده) في عصرنا.
واتفق جمهور الفقهاء من أئمة المذاهب: المالكية والشافعية والحنابلة والصاحبان من الحنفية وهو المفتى به عند الحنفية على وجوب القيمة عند الانقطاع. وهنالك من قال: إن الانقطاع كالكساد يوجبان فساد البيع، وليس بشيء. ثم اختلفوا في وقت تقدير القيمة:
- فذهب المالكية في المعتمد عندهم إلى أنها وقت الحكم.
- والقول الثاني وهو المشهور عند المالكية: أبعد الأجلين من الاستحقاق والانقطاع؛ فالعبرة للمتأخر منهما، فإن كان الانقطاع أو الانعدام حصلا معًا فالأمر واضح، وإن تقدم أحدهما فالعبرة بالمتأخر. فإن استحقت ثم عدمت اعتبرت القيمة يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت اعتبرت القيمة يوم الاستحقاق.
- وذهب الشافعية إلى أنها وقت المطالبة، سواء يوم انقطاعه إن كان حالًا، أو يوم حلول الأجل.
- وذهب الحنابلة والإمام محمد بن الحسن وبه يفتى عند الحنفية، أنها آخر يوم قبيل الانقطاع وهو المعبر عنه بيوم الكساد، وذهب الإمام أبو يوسف إلى أنها يوم التعامل.
- وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الانقطاع مثل الكساد يوجب فساد البيع وخالفه صاحباه والمفتى به قول الإمام محمد من الصاحبين في المذهب. والراجح الذي يصار إليه هو قول الجمهور في أن الانقطاع يوجب القيمة، وفي تقديرها قول الحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية بأنه يوم الكساد لأنه هو اليوم الذي وجبت فيه القيمة على القول بها.
قلت: ولعل أظهر مثال على الانقطاع هو الليرة اللبنانية اليوم في عصرنا الحاضر حتى هجرها الناس من شدة رخصها وتعاملوا بدلًا منها بالدولار الأمريكي في لبنان بعامة وبيروت عاصمة لبنان بخاصة، حتى كاد يبطل التعامل بها عمليًا، وهو يوم كتابة هذه الكلمات.
3-
الحالة الثالثة: الرخص والغلاء في مذاهب الفقهاء:
المطلب الأول – أقوال أئمة المذاهب الفقهية:
قد تهبط قيمة الفلوس أو الأوراق النقدية بالرخص بالنسبة إلى الذهب والفضة وهذا هو الغالب، وقد ترتفع قيمتها فتغلو، وقد يحدث ذلك بعد أن ثبت في ذمة المدين قيمة قرض أو ثمن مبيع بالأجل أو غير ذلك ويحل الأجل، فهل يؤدي ما التزم به باعتبار الرخص والغلاء أو لا اعتبار لهما؟
اختلفت الفقهاء في ذلك على أقوال ثلاثة في مذهبين لدى الفقهاء الأقدمين أصحاب المذاهب رضوان الله عليهم.
1-
المذهب الأول، مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول الإمام أبي حنيفة وقول الإمام أبي يوسف أولًا ثم يظهر أنه رجع عنه إلى أن الواجب أداء ذات النقد الثابت في ذمة المدين، ولا اعتبار للرخص والغلاء، وللرهوني من المالكية وجه في وجوب المثل في الرخص والغلاء حيث ارتضاه رأيًا فقيده بما إذا لم يكثر الرخص والغلاء جدًّا فتجب القيمة حينئذ لا المثل.
2-
المذهب الثاني، مذهب الحنفية: فقد ذهب الإمام أبو يوسف وعليه الفتوى في المذهب إلى وجوب أداء القيمة في الرخص والغلاء، فإن كان ما في الذمة قرضًا، وجبت القيمة يوم القبض، وإن كان بيعًا فالقيمة يوم العقد، وحكى ابن عابدين رحمه الله تعالى الفتوى عليه.
هذا ووجه الرهوني من المالكية بتقييد الرخص والغلاء بما إذا لم يكثر الرخص والغلاء جدًا بحيث يصير القابض لها كالقابض لما لا كثير منفعة فيه فتجب القيمة حينئذ يجتمع مع الحنفية في هذه المسألة غير أنهم يطلقون هم ويقيد هو، فتحصل أن الرهوني مع المالكية في وجوب المثل فيما إذا كان الرخص والغلاء يسيرًا، فأما إذا فحش الرخص والغلاء فهو مع الحنفية في القول بالقيمة فتجب القيمة يوم القبض في القرض، ويوم العقد في البيع.
المطلب الثاني – خلاصة أقوال المعاصرين وصبها في تيارات في هذه القضية الخطيرة وهي قضية ربط الحقوق والالتزامات بالقيمة الحقيقية في النقد الاصطلاحي:
هنالك ثلاث تيارات واضحة وضوحًا تاما للباحث المتتبع أجمل القول فيها بما يلي:
1-
التيار المتشدد: وهو التيار الذي يعد ربط النقد الاصطلاحي بالقيمة الحقيقية في الحقوق والالتزامات – يعدها نوعًا من الربا الذي حرمه الإسلام، فإن لم يكن ربا حقيقة فهو من باب شبهة الربا، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك ولم أره، وأما أدلتهم فتنظر في بحوثهم.
2-
التيار الوسط: وهم الذين نظروا إلى الموضوع نظرتين مثالية وواقعية: فتوسطوا في الحكم واعتدلوا أكثر من غيرهم، ولكنهم اختلفوا في توجيه هذا الاعتدال في الحكم، فمنهم من ذهب إلى الأخذ بقول الإمام أبي يوسف في القيمة وقيده بضابط هو وجه الشيخ الرهوني وهو ما إذا فحش التغير إلى الرخص بحيث صار القابض لهذه العملات كالقابض لما لا كثير منفعة فيه، وهذا هو المعيار الذي نصبه الشيخ الرهوني لفحش الرخص وكثرته، لكنه رجح وقت تقدير القيمة بالقرض يوم القبض، والبيع أخذ رأي سحنون من المالكية في الكساد بأن يرجح إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة.
- ومنهم من ذهب إلى ربط الأجور بقائمة الأسعار في غير الديون، لكنه أخذ بقول الجمهور في الديون والقروض.
- ومن هؤلاء الباحثين من رجح أحد حلين: اعتبار الفلوس وما يلحق بها من الأوراق النقدية سلعًا تجارية في غير القرض أو إضافة نسبة مئوية إلى الثمن متأخر الدفع سماها (نسبة التضخم) مع الإبقاء على حكم ربويتها.
- ومن هؤلاء الباحثين من فرق بين الغلاء والرخص في الظروف العادية وبين ما إذا صدر قرار من الدولة بتخفيض عملتها.
ففي الواقعة الأولى، في حال الوفاء في الأجل المتفق عليه فلا داعي لبحث التغير للرضا من الطرفين بذلك.
وفي حالة عدم الوفاء فإن كان لعذر قهري فنظرة إلى ميسرة. وإن كان مطلًا وليًا من واحد فلا مانع من الحكم على المدين بتعويض الدائن.
وفي الواقعة الثانية، نقل الباحث نص كلام ابن عابدين من أنه يجب على المدين دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعًا، والخيار فيه للبائع كما كان الخيار له وقت العقد، لكن لما كان هناك ضرر في هذا الحل للبائعين انتهي العمل إلى الصلح على الأوسط لدفع الضرر وهو الذي اختاره العلامة ابن عابدين رحمه الله.
3-
التيار المجيز لربط الحقوق والالتزامات بالقيمة الحقيقية من الذهب والفضة: وهو قول الإمام أبي يوسف عليه رحمة الله.
وهو ما رجحه كثيرون من العلماء والباحثين من أعضاء المجمع الموقر ومن غيرهم في جميع صور الرخص والغلاء. وما يتبعه من التضخم والانكماش. . .
ففي هذا المبحث كلًّا لا يتجزأ اتخذ هؤلاء الزملاء موقفًا يتطابق مع مقاصد الشريعة العامة والخاصة، ويرتفع بالموضوع كله عن مزالق الضرر والضرار، وهو ربط جميع الحقوق والالتزامات في الشريعة بالقيمة الحقيقية بالنقود الاصطلاحية إلا وهي الذهب إن لم يتفق عليه من القيمة أو ما اتفق عليه بين المتعاقدين.
وحجة هؤلاء أن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لم ينتفع به هذا في البيع، وأما في القرض والديون فما ذنب الدائن إذا احتسب أمره عند الله تعالى فترك تثمير ماله في يده وأقرضه لإنسان مدة ونقص نقصانًا واضحًا فهل جزاؤه أن يرجع إليه عشر ماله أو أقل مكافأة له على أنه أقرض لوجه الله قرضًا حسنًا؟! إذا لبطل المعروف. وأقلع الناس عن الإقراض، وهلك من جراء ذلك الفقراء المحتاجون.
تذييل: في وقوع العقد على نقد غير معين النوع.
إذا وقع العقد على نقد غير معين النوع ولا قرينة تعينه كالريال مثلًا في عصرنا، والقروش في عصرهم فقد تكلم في هذا الموضوع فقيهان من الحنفية:
1-
العلامة ابن عابدين: ذهب إلى أنه قبل صدور الأمر السلطاني بالرخص فيها فالمشتري بالخيار في دفع العملة المسماة أو ما يعادلها، وحكى الاتفاق على ذلك.
وأما بعد ورود الأمر السلطاني بالرخص فإما أن تكون العملات متساوية في قيمتها أو مختلفة:
- فإن كانت متساوية في الرخص وجب دفع ما يعادل تلك العملات بالسعر الذي كانت عليه وقت العقد.
- وإن كانت مختلفة فيلجأ إلى الصلح فيدفع الوسط.
2-
وذهب الشيخ عبد القادر الحسيني إلى أن من باع بالقروش قبل ورود الأمر السلطاني ثم قبل قبض الثمن ورد الأمر من الدولة بتراجع أسعار النقود، فعلى المشتري أن يدفع ما يعادل القرش بحساب العرف من أي نوع كان بالسعر الذي يروج به وقت القبض برضا البائع، وللبائع طلب المسمى في عقد البيع أو مثله.
والذي ترجح هو رأي ابن عابدين لكونه وافق مقصود الشارع من استقرار المعاملات ورفع الضرر وأرفق بالعاقدين كما هو ظاهر.
المقصد الثالث
ترجيح الربط بالقيمة في الفلوس والعملات المعاصرة
(وجه الاستحسان وضوابطه)
الذي يترجح في هذه المسألة الخطيرة والواقعة الشائكة من واقعات العصر ونوازله هو قول الإمام أبي يوسف رحمه الله تعالى، وهو مجرد رأي لا أدعي فيه أنه فتيا ولا هو حكم الله في الواقعة، بل هذا متروك لمجمعنا الموقر ليبت فيه العلماء الأجلاء فيكون اجتهاد جماعة لا اجتهاد فرد، هو رأي أعرضه على المجمع بكامل هيئته للدرس، رحم الله الإمام أبا حنيفة حيث قال:(علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه. فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق) وللمجمع الكريم كل الحق في قبول هذا الرأي مقرونًا بضوابطه أو رده أو التخير منه أو التوقف إن وجد في ذلك مصلحة عامة دينية. ولكن لهذا القول ضوابط يجب الوقوف عندها ولا اعتداد بها لجمًا لقول الإمام أبي يوسف وكبحًا لجماحه، وهذه الضوابط اثنان فيما أرى والله تعالى أعلم:
1-
الضابط الأول:
أن يخرج التغير بالرخص أو بالغلاء اليسير الذي يتسامح به التجار عادة. والمعيار في التغير يسيرًا أو فاحشًا خبرة التجار، كما هو القول في الغبن في البيوع الموقوفة التي يضر فيها الغبن، فالراجح أنه قول التجار من أهل الخبرة والتخصص.
ولا يتجه هنا وجه الرهوني من المالكية ومن تبعه من العلماء الزملاء مع تقديري لمحاولة كبحهم جماح قول أبي يوسف، فإن وجه الشيخ الرهوني هنا ليس إلا إلحاقًا لهذه الواقعة – واقعة التغير – بواقعة الكساد. وتجب حينئذ القيمة عند الصاحبين من الحنفية وعند الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور كما مر.
فقول الشيخ الرهوني بوجوب المثل في الرخص والغلاء إذا لم يكثر الرخص والغلاء جدًا بحيث يصير القابض لها كالقابض لما لا كثير منفعة فيه، قول لا يأتينا بشيء جديد بل كان الشيخ الرهوني يفرق بين حالتين: حالة الرخص والغلاء اليسير في نظره وهو هنا مع الجمهور في وجوب المثل، وحالة الكساد وهو هنا مع الجمهور أيضًا في وجوب القيمة ولا أستطيع أن أعتد بوجه الرهوني ضابطًا لرأي أبي يوسف لئلا يمضي رأي أبي يوسف في كل رخص أو غلاء ولو يسيرًا كما أخذ بذلك بعض الزملاء في المجمع حفظهم الله.
وقولهم: (لئلا يمضي رأي أبي يوسف في كل رخص أو غلاء ولو يسيرًا فتضطرب المعاملات وتتزعزع ثقة الناس في التبادل بالفلوس ومثلها الأوراق النقدية، لأن الغبن اليسير أو الغلاء والرخص اليسير لا تخلو منه المعاملات) ، قول سديد، ولكن هل يصلح وجه الشيخ الرهوني رحمه الله من المالكية ضابطًا لهذا الجموح المتوقع؟! اللهم لا بل هذا ذهاب منه لإلحاق الرخص بالكاسد وليس كلامنا في الكساد.
بل الضابط في اليسير والفاحش هو قول التجار أهل الخبرة، فما يرونه يسيرًا فهو يسير، وما يرونه تغيرًا فاحشًا كثيرًا فهو كثير. وهو معيار منضبط اعتبره الشرع دائمًا في الأمور الفنية البحتة.
ومعنى هذا أن التغير الفاحش شيء والكساد الذي عبر عنه الرهوني رحمه الله شيء آخر.
ويظهر ذلك بالمثال الآتي من واقعات العصر (الليرة اللبنانية والليرة التركية) فالليرة اللبنانية أصابها رخص ألحقها بالكاسدة كما ذهب إليه الشيخ الرهوني فهي لم ترخص ولكن كسدت فوجبت القيمة لأنها وصلت من الكساد إلى حد أصبحت لا قيمة لها فانقطعت من التعامل أو كادت بينما الليرة التركية رخصت رخصًا فاحشًا ولكن لم تكسد ولم تنقطع من التعامل وكذلك مثيلاتها من الليرة السورية وغيرها فهذا هو المثال الصحيح للرخص الفاحش الذي لم يدخل تحت الكساد أو الانقطاع المتفق على أنه تجب فيهما القيمة عند أبي يوسف رحمه الله.
فتجب القيمة هنا أيضًا في هذه الأمثلة في هذا الترجيح، ولا تجب القيمة عند الشيخ الرهوني ومن تبعه بل يجب المثل. وهنا تحرير محل الخلاف.
وعلى هذا؛ فالتغير اليسير الذي يعده خبراء التجار يسيرًا يوجب رد المثل فقط لأنه لا يمكن خلو التعامل عنه بحال.
2-
الضابط الثاني:
ربط النقد الاصطلاحي بالذهب أو بالفضة أو بعملة ثابتة نسبيًا كالدولار الأميركي والين الياباني، وذلك بأن ينص في العقد على هذا الضبط بالقيمة وتحدد هذه القيمة حتى ترد ذاتها عند الوفاء أو عند حلول أجل المداينة أو لتسليم الثمن في القرض في الصورة الأولى، وفي المداينة في الصورة الثانية، وفي العقود التعاملية كالبيع وغيره في الصورة الثالثة.
إن هذا الربط في العقد شفويًا كان أو كتابيًا يخرجنا في رد القيمة حالة الرخص أو الغلاء من شبهة الربا لأن التعامل انصرف في جوهره إلى القيمة لا إلى الأوراق النقدية الاصطلاحية المعرضة للرخص الشديد أو الغلاء، وحالة الرخص الشديد أكثر فكأن المتعاقدين تعاقدا على القيمة لا على بديلها من هذه الأوراق النقدية الخطيرة، والقيمة ثابتة نسبيًا فصار التعاقد على ثابت لا على متغير.
وصورة هذا الربط أن يلحظ الدائن والمدين أو المقرض والمستقرض أو البائع والمشتري في هذه الصور وأمثالها أن الثمن أو المال المستقرض هو القيمة من ذهب أو فضة أو دولار أو ين، أي قيمة هذا المبلغ لا صورته.
فإذا استقرضت منك خمسين ألف ليرة سورية وجب أن يلحظ في القرض عند التسليم أن هذه الليرات تساوي في هذا اليوم كيلو غرام واحدًا من الذهب، فصار هذا الكيلو الذهبي هو المبلغ المستقرض ضمنًا وحكمًا فوجب أداء ما يماثله من الليرات السورية عند حلول أجل القرض، فلو انخفضت الليرة السورية إلى أن صار 70000 سبعون ألف ليرة توازي كيلو غرام واحدًا من الذهب وجب رد السبعين ألفًا لا الخمسين لأن المال المستقرض حكمًا هو الكيلو غرام الذهبي، والورق النقدي الذي قبضه المستقرض ما هو إلا صورة له وبديل شكلي لمنع الدول التعامل بالذهب بحكم القانون ولكنه بقي جائزًا في حكم الشرع.
إن هذا اللحظ أو هذا الربط في العقد يبعد العقد عن شبهة الربا فضلًا عن حقيقة الربا، لأن المتعاقد عليه ثابت ينوب عنه في الصورة شيء متغير، فيرجع إلى الثابت لا إلى المتغير في الجوهر، وهو من مقصودات الشارع لأنه يحقق العدل ويبقي على المعروف.
توجيه هذا الترجيح بضوابطه:
1-
الفلوس وما يلحق بها أثمان باصطلاح الناس فإذا تغير اصطلاحهم فينبغي مراعاة هذا التغير بحيث لا يترتب على طرف ضرر، وإلا لم يعد للاصطلاح قيمة ولا فائدة.
2-
ثم إن الرخص والغلاء كالعيب اللاحق للفلوس فترتب عليه ظلم للدافع والرخص فيجبر بالقيمة ولا يبطل العقد كما لم يبطل في الكساد والانقطاع، وهو نظر أبي يوسف في أحوال التغير كلها في الكساد والانقطاع والرخص والغلاء.
3-
والقياس الجلي في الرخص والغلاء يقتضي رد المثل في الفلوس لأنها قيست على الدراهم والدنانير التي يجب فيها بالإتفاق رد المثل، بجامع الثمنية في الإلحاق وهي العلة المتعدية.
لكننا تركنا القياس الجلي إلى الاستحسان وهو القياس الخفي الذي يقتضي رد القيمة بدليل المصلحة والضرورة على رأي الحنفية.
والعلة الخفية التي بني عليها الاستحسان هنا أن اجتماع الفلوس مع الدراهم والدنانير في علة الثمنية لا يمنع من حيث آثار كل أن يختلفا في قيمة هذه الثمنية، فالدراهم والدنانير لا تبطل ثمنيتها بحال، وهي في الخلقة ثمن ورخصها اليسير جدًا لا قيمة له، فلا يترتب ضرر محقق للعاقدين حتى يجب رفعه.
بخلاف الفلوس والأوراق النقدية فقد تبطل ثمنيتها وقد ترخص كثيرًا، فينظر حينئذ إلى ما انبنى عليها من آثار شغل الذمم، فقد فارقت في هذا الحال مماثلة الدراهم والدنانير صورة برخص قيمتها، ولم تفارقه حقيقة في مقدار ما شغلت فيه الذمة مما اصطلح عليه حين العقد وإن لم يقبل هذا في مفارقة الفلوس والدراهم والدنانير، فيمكن اعتبار المفارقة استحسانًا للمصلحة أو للضرورة على رأي الحنفية، ويتخرج هذا الرأي على عنصر نظائر فقهية؛ فقال الفقهاء في بيع الفلوس: إذا حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فتجب القيمة وكذلك استعارة الفلوس وتلفها قال بعضهم بالقيمة يوم التلف، ولو أخذت الفلوس على جهة السوم فتلفت ففيها القيمة.
وكذلك قاعدة: (الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة) و (دفع الضرر ورفع الحرج) و (الضرورات تبيح المحظورات وتقدر بقدرها) قواعد يمكن التخريج عليها هنا في هذا المضمار.
والله تعالى أعلم.
خاتمة
تبين لنا من هذه الجولة العجلي أن قاعدة دفع الضرر ورفع الحرج والتيسير على الناس وقاعدة الضرورة والحاجة، والأخذ بروح النصوص يجعلنا نقف هذا الموقف من توجيه القول بالاستحسان في صورة القياس الخفي مع ضوابط تلجم المضي في القياس الخفي هذا إلى ما لا يراد منه، وذلك كله لتحقيق العدل الذي بنيت عليه مقاطع الحقوق، وما أحسن كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
(الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل) .
محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
أبرز مصادر البحث
1-
رد المحتار على الدر المختار، العلامة ابن عابدين، ط الأميرية، 1333هـ.
2-
مجموع رسائل ابن عابدين. جزءان في مجلد، للعلامة ابن عابدين، ط إستانبول.
3-
العقود الدرية في تهذيب الفتاوى الحامدية، العلامة ابن عابدين.
4-
حاشية الرهوني في فقه المالكية، العلامة الرهوني محمد فتحا.
5-
المجموع شرح المذهب، العلامة ابن قدامة المقدسي، ط سجل العرب.
6-
مجلة الأحكام الشرعية في فقه الحنابلة.
7-
فتح القدير شرح الهداية، العلامة ابن الهمام، ط الأميرية.
8-
الدرر شرح الغرر بحاشية الشرنبلالي، العلامة منلا خسرو.
9-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، العلامة الكاساني.
10-
شرح الخرشي على خليل بحاشية العدوي، العلامة الخرشي.
11-
مجموعة فتاوى العلامة ابن تيمية، العلامة ابن تيمية.
12-
حاشية الدسوق على الشرح الكبير للدردير، العلامة الدسوقي محمد بن عرفة.
13-
الفتاوى الهندية، مجموعة من علماء الهند.
14-
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للعلامة الرملي.
15-
المبسوط شرح الكافي للحاكم الشهيد، للإمام السرخسي.
16-
ابن عابدين وأثره في الفقه، الفرفور (محمد عبد اللطيف) .
17-
الأوراق النقدية وتغير العملة، إعداد الدكتور عجيل جاسم النشمي.