الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنظيم النسل أو تحديده
في
الفقه الإسلامي
إعداد
الأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن
كلية الشريعة والقانون
جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نهج نهجه واتبع سبيله إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن العلي القدير، والمشرع الحكيم، له قدرة علية، وحكمة بالغة، وقدر نافد.. فبقدرته العلية خلق الأرض والسماء وما بينها، خلق الأرض وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها، وخلق السماء، وأوحى في كل سماء أمرها، وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم.
وبحكمته البالغة خلق الإنسان من الأرض وجعله في الأرض خليفة، واستعمره فيها، وأمده بكل مقومات الحياة، فسخر له ما في السماوات وما في الأرض.. وعرض عليه الأمانة فحملها، وأرسل له الرسل مبشرين ومنذرين.
وبقدرته وبحكمته وإرادته جعله متوالدا، متناسلا يتتابع في الوجود، ويتوالى في البقاء، فردا يرث فردا، وجيلا يرث جيلا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن سنته الحكيمة وقدرته الفائقة أن جعل للتوالد بين كل الكائنات سببا، وللتناسل منهجا وطريقة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الآيات من 47 – 49 من سورة الذاريات]
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الأية 3 من سورة الرعد] .
وقال تعالى بشأن الإنسان: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [الآيتان 45-46 من سورة النجم]
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الآيات من 36- 40 من سورة القيامة] .
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الآية 54 من سورة الفرقان] .
فالخلق والتوالد والتناسل قدر نافذ، وسلطان قاهر، وتدبير محكم من عزيز حكيم قدير، عالم بما خلق، محيط بما أوجد، حكيم في شرعه، وما كل الكائنات وجودا وعدما، زيادة ونقصا- إلا خاضعة لإرادته جل شأنه، ولمشيئته العلية لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وكان من حكمته أن شرع للإنسان – من أجل تناسله وتوالده، وإرضاء غرائزه، وصيانته وحفظه.. الزواج، فكان عقدا رضائيا، وكان من بين ثماره النسل والذرية {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} . [الآية 49-50 من سورة الشورى] .
واليوم وقد زخر العالم بالخلق، وماج ببني الإنسان، أحاط به ظاهرتان تستدعيان النظر والبحث: ظاهرة كثرة النسل في بلاد ضاق خيرها وقدر رزقها، وظاهرة قلة النسل في بلاد كثر خيرها ووسع رزقها، مما دفع بعض القائمين على الأمور إلى التساؤل عن حكم الشرع في تحكم الزوجين في الإنجاب، هل يجوز أو لا يجوز؟ وعن الأسباب أو البواعث التي يمكن أن تكون صالحة شرعا للقول بذلك واستجابة لهذه الرغبة، وإجابة عن هذا التساؤل، رأيت أن أبين في هذا البحث حكم الشرع في "تنظيم النسل أو تحديده" بالنسبة للأفراد، أو الجماعات والدول متوخيا في ذلك بيان رأي الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة، ومرجحا ما يرجحه الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تناولته على المنهج التالي:
أولا: مقدمة عن الزواج، وحكمته، والترغيب فيه، وعن آثاره.
ثانيا: آراء الفقهاء في منع الحمل بالعزل ونحوه.
الرأي الأول: يباح العزل مطلقا – وأدلته.
الرأي الثاني: يحرم العزل مطلقا – وأدلته.
الرأي الثالث: يباح العزل برضا الزوجين – وأدلة الترجيح.
حقيقة الرضا أو الإذن من الطرف الآخر.
استثناءات يجوز فيها العزل دون إذن.
البواعث المشروع منها وغير المشروع ورأي الإمام الغزالي في ذلك.
ثالثا: خلاصة ما أرجحه من رأي في تحديد النسل أو تنظيمه في الفقه الإسلامي.
والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أ. د/ حسن علي الشاذلي
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن
كلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
حكمة مشروعية الزواج:
شرع الله تعالى الزواج لحكمة عالية، ومصلحة محققة، وفوائد جمة لا يحدها لفظ، ولا يحيط بها تعبير، وإنما يدركها أولا العقلاء، وثانيا الخبراء والمتخصصون في الحفاظ على النفس البشرية، وحمايتها من غوائل الأمراض النفسية والعضوية والاجتماعية.
ولقد نطق القرآن الكريم بهذه الحكم والفوائد، وأشار إليها أكثر من آية من آياته الكريمة، وكذلك نطقت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرى في هذا الموطن الذي يكفي فيه اللفظ مكان الإشارة، والإشارة مكان العبارة، والإيجاز مكان الإطناب.. أن أبرز في هذا المقام ما يلي:-
أولا: الزواج نعمة وسكن لكلا الزوجين:
قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . وقال صلى الله عليه وسلم ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) (2) .
ثانيا: الزواج تعمير للكون وبقاء واستمرار لبني الإنسان:
وعن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل، وقرأ قتادة، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) أخرجه ابن حبان وصححه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط.
(1) الآية 21 من سورة الروم
(2)
رواه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجه الترغيب ج3 ص41
(3)
الآية 72 من سورة النحل
ثالثا: الترغيب في الزواج والحث عليه:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب (2) من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) رواه الجماعة.
وعن أنس رضي الله عنه أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم أصلي ولا أنام، وقال بعضهم، أصوم ولا أفطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) (3) .
(1) الآية رقم 32 من سورة النور
(2)
الشاب: يبدأ من سن البلوغ إلى الثلاثين أو اثنين وثلاثين أو الأربعين، ثم بعدها يكون كهلا. الباءة: القدرة على الوطء، وعلى مؤن النكاح
…
الوجاء: المقصود أنه يضعف من الشهوة ويكسر حدتها. نيل الأوطار. ج6 ص102
(3)
يراجع: العراقي ج2 ص20 بشأن سنده
رابعا: الذرية منحة من الله تعالى ينظمها بحكمته، ويوزعها على الخلق بتدبيره:
يقول ابن العربي قال علماؤنا: "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا" يعني لوطا، كان له بنات ولم يكن له ابن {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} يعني إبراهيم، كان له بنون ولم يكن له بنت، وقوله {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى، ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صلى الله عليه وسلم وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان له ذكور وإناث من الأولاد – القاسم والطيب والطاهر، وعبد الله (2) وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم من مارية القبطية.
ثم يقول: "وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا، إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقدير المحمود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة، ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد ويحق الأمر، وتعمر الدنيا، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى، ففي الحديث: إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه (3) ، فتقول قط قط، وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر"، ثم يقول: إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شيء، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة، فإنه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات، كما قال القدوس السلام، فخلق آدم من الأرض، وخلق حواء من آدم، وخلق النشء من بينهما منهما مرتبا على الوطء، كائنا عن الحمل، موجودا في الجنين بالوضع، فالخلق والذرية تكون بتقدير من العزيز العليم، يوزعها على الخلق بتدبيره وبحكمته ويخص بها من يشاء من خلقه، ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد ويحق الأمر وتعمر الدنيا".
(1) الآيتان 49- 50 من سورة الشورى
(2)
وفي المواهب اللدنية: القول الأصح أن الذكور الثلاثة: القاسم وعبد الله (ويسمى بالطيب والطاهر) وإبراهيم راجع شرح المواهب اللدنية) .
(3)
قال القسطلاني: "أي يذللها تذليل من يوضع تحت الرجل، والعرب تضع الأمثال بالأعضاء، ولا تريد أعيانها، كقولها للنادم: سقط في يده"
خامسا: إرادة الزوجين وأثرها في تحديد عدد النسل:
شاءت إرادة الله تعالى أن يكرم الإنسان ويفضله على كثير من خلقه فكان من إكرامه وتفضيله أن نظم له طريقة إشباع غريزته، وطريقة تكاثره وتناسله حتى يعمر الكون، ويتواصل، وتتوالي الأجيال جيلا بعد جيل، كما أوضحنا آنفا.
فكان أن جعل الوسيلة إلى ذلك – هي عقد الزواج- الذي جعله عبادة، لما فيه من تحقيق هدف المشرع الحكيم كما جعله عقدا – فوضع له القواعد والضوابط الموضوعية وكذا الشكلية التي بها يتم تحقيق الهدف الذي شرع من أجله، فجعله عقدا رضائيا، يتم بإرادة الزوجين ورضاهما، وجعل العشرة بين الزوجين قوامها المودة والبر والرحمة والمعروف.
وكما نظم المشرع الحكيم كل شئون هذا العقد، كذلك أحاط ثماره – وهم الأولاد – بالرعاية والحفظ والصيانة منذ اللحظة الأولى لبدء تكوين الجنين.
وبين للزوجين حدود السلطة الممنوحة لهما إزاء هذا الجنين – سواء كان ذلك قبل التقاء الحيوان المني بالبييضة، أو بعد التقائهما.. وحتى خروجه من بطن أمه خلقا سويا، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وإذا كان موضوعنا الذي نتحدث عنه هنا هو "تنظيم النسل وتحديد عدده" فإننا نتناول هذا الموضوع طبقا للمنهج التالي:
أولا: آراء الفقهاء في عدم الإنجاب:
تناول الفقه الإسلامي بيان الحكم فيما لو أراد الزوجان أو أحدهما عدم الإنجاب رغم مواصلة المعاشرة الجنسية بينهما، وذلك من خلال بحث موضوع " العزل عن الزوجة أثناء الجماع" حيث إنه الصورة التي سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكمها والتي كانت هي المعروفة أو المشهورة في هذا الوقت لمنع الإنجاب، ويمكن أن يقاس عليها كل الوسائل التي عرفت حديثا والتي ستعرف ما دامت لا تؤدي إلى الإضرار بأي من الزوجين، ولا يؤدي إلى قتل الجنين في مرحلة من مراحله.
حكم العزل عن الزوجة في الفقه الإسلامي:
اختلف الفقهاء في حكم عزل الزوج عن زوجته أثناء الجماع إلى ثلاثة آراء نوضحها فيما يلي. ثم نرجح ما يظهر لنا رجحانه لرجحان أدلته:
الرأي الأول: يباح العزل مطلقا- سواء أكان عن زوجته الحرة أو الأمة أو عن سريته، ودون توقف على إذنها – وهو رأي عند الشافعية (1) ، ورأي الفقيه محمد بن يحيى الهادي (2) وأبو حامد الجاجرمي.
وقد استدلوا بما يأتي:
1-
ما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) متفق عليه. ولمسلم بلفظ ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا)) فهذا يدل على إباحته، وإلا لنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
2-
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
(1) المهذب ج2 ص66
(2)
جاء في شرح الأزهار ج2 ص320 "وقال الإمام محمد بن يحيى، وأبو حامد الجاجرمي أنه يجوز العزل مطلقا، سواء رضيت الحرة أم لا"، والإمام محمد ابن يحيى هو محمد بن يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولد سنة 278هـ ثمان وسبعين ومائتين من الهجرة
3-
وعن أبي سعيد قال: قالت اليهود العزل الموءودة الصغرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) رواه أحمد وأبو داود (1) .
4-
وعن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)) متفق عليه.
5-
وقد جاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت، وابن مسعود (المحلى ج10 ص71) .
فمن هذه الأحاديث يتبين لنا ما يأتي:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله عن العزل عن أمته في حديث جابر ((اعزل عنها إن شئت)) فهذا يدل على إباحته العزل إذا شاء الرجل ذلك.
وأيضا في حديث جابر الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن العزل عندما بلغه أن الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم، والقرآن ينزل، فلو كان محرما لحرمه الله تعالى.
وأنه صلى الله عليه وسلم حينما قال اليهود: ((العزل هو الموءودة الصغرى)) قال ((كذبت يهود إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) ، ومنه يتبين لنا أن العزل جائز وأنه ليس الموءودة الصغرى – أي ليس قتلا للنفس – وأن العزل لا يؤثر في إيجاد الولد أو عدم إيجاده، فإذا أراد الله وجوده وجد وإن وجد العزل، وإذا لم يرد وجوده لم يوجد وإن لم يوجد العزل.
(1) حديث أبي سعيد هذا أخرجه أيضا الترمذي والنسائي. قال الحافظ ورجاله ثقات، وقال في مجمع الزوائد رواه البزار، وفيه موسى بن وردان، وهو ثقة وقد ضعف، وبقية رجاله ثقات، وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر، وأبي هريرة، وجزم الطحاوي بكونه منسوخا، وعكسه ابن حزم. ومثله ما أخرجه الترمذي وصححه عن جابر قال كانت لنا جوار وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال كذبت اليهود لو أراد الله خلقه لم يستطع رده وأخرج النسائي نحوه من حديث أبي هريرة
فقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم تأثير العزل في وجود الولد ومنه يتبين أنه إذا لم يكن للعزل أثر في ذلك فلا تكون هناك حرمة في ذلك، فكما أن له أن يمتنع عن الوطء ابتداء كذلك يجوز له أن يعزل أثناء الوطء.
وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد حينما سئل عن رغبتهم في العزل في غزوة بني المصطلق ((ما عليكم ألا تفعلوا، فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)) ووقع في رواية البخاري وغيره بلفظ ((لا عليكم ألا تفعلوا)) قالوا ومعنى هذه العبارة ليس عليكم حرج في فعل العزل، وحينئذ تكون (لا) زائدة.
وقد ناقش العلماء الاستدلال بهذا الحديث على جواز العزل وسنورد هذه المناقشة في الترجيح بين الآراء.
كما نقل عن الشافعية إجازة العزل بلا إذن، وعليه الغزالي، وصححه بعض المتأخرين، وذلك لأنه لا حق للمرأة عندهم في الجماع، فضلا عن أن يحتاج في النزع قبل الإفراغ إلى إذنها.
وقيل عن الشافعي: لا حق لها فيه إلا الوطأة الأولى (1) .
الرأي الثاني: يرى تحريم العزل مطلقا عن الحرة أو الأمة أو السرية، بإذن أو بدون إذن (وهو رأي ابن حزم الظاهري، ورأي للهادوية – القاسم العياني – وابن حبان) .
وقد استدل لهذا الرأي بما يلي: ما روي عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت:
حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة (2) فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئا ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ذلك الوأد الخفي)) وقرأ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} رواه أحمد ومسلم.
(1) ورد ذلك في شرح النيل جـ 6 ص 476
(2)
الغيلة – بكسر الغين المعجمة بعدها تحتية ساكنة، ويقال لها الغيل بفتح الغين والياء، والغيال – بكسر الغين المعجمة، والمراد بها أن يجامع امرأته وهي مرضع "وقال ابن السكيت: هي أن ترضع المرأة، وهي حامل، وذلك لما يحصل على الرضيع من الضرر بالحبل حال إرضاعه، فكان ذلك سبب همه صلى الله عليه وسلم بالنهي، ولكنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الغيلة لا تضر فارس والروم وترك النهي عنها
فهذا الحديث قد صرح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن العزل هو "الوأد الخفي" "وإذا كان وأدا، فالوأد محرم، فيكون العزل محرما، سواء كان العزل عن حرة أو أمة (1) .
وقال ابن حزم إن الأحاديث الأخرى غير حديث جذامة موافق لأصل الإباحة إذ الأصل في الأشياء الإباحة – وحديثها يدل على المنع، فمن ادعى أن العزل قد أبيح بعد أن منع فعليه البيان، فحديث جذامة هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة.
وأما حديث أبي سعيد (2) والذي جاء فيه عقب سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل قوله ((ما عليكم ألا تفعلوا)) وفي رواية في البخاري ((لا عليكم ألا تفعلوا)) قال ابن سيرين: هذا أقرب إلى النهي.
وحكى ابن عون عن الحسن أنه قال: والله والله لكان هذا زجرا.
قال القرطبي: كأن هؤلاء فهموا من (لا) النهي عما سألوه عنه، فكأنه قال: لا تعزلوا، وعليكم ألا تفعلوا. ويكون قوله: وعليكم إلى آخره تأكيدا للنهي.
وقد رد على هذا بأن الأصل عدم التقدير، وإنما معناه: ليس عليكم أن تتركوا (أي العزل) وهو الذي يساويه "ألا تفعلوا".
وقال بعض العلماء: معنى قوله ((لا عليكم ألا تفعلوا)) أي لا حرج عليكم.. أي لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم فعل العزل، فأفهم (ذلك) ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن فعل العزل، لقال صلى الله عليه وسلم:((لا عليكم أن تفعلوا)) إلا أن يدعى أن (لا) زائدة، فيقال: الأصل عدم الزيادة فيكون الحديث دالا على النهي عن العزل أيضا.
(1) شرح الأزهار جـ2 ص320 "وقال القاسم العياني: لا يجوز العزل مطلقا في الحرة والأمة"
(2)
نيل الأوطار جـ6 ص197
كما استدل ببعض الآثار المروية عن بعض الصحابة، ومنها:
ما روي عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال لو علمت أحدا من ولدي يعزل لنكلته، قال أبو محمد: لا يجوز أن ينكل على شيء مباح عنده.
ومنها ما روي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه "أنه كان يكره العزل ".
وما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في العزل "هي الموءودة الخفية" وعنه أيضا: هي الموءودة الصغرى. وعن أبي أمامة قال "ما كنت أرى مسلما يفعله".
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال "ضرب عمر على العزل بعض بنيه" وما روي عن سعيد بن المسيب قال "كان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ينكران العزل"(1) .
كما قالوا إن النهي عن العزل يترتب عليه أمور كلها تؤدي إلى منعه، وهي:
1-
تفويت حق المرأة: لأن لها في الإنزال لذة، ولها في الولد حق، وتفويت حقها لا يصح.
2-
"وأن العزل معاندة للقدر
…
" وحاشا لله أن يعاند مؤمن القدر.
3-
وأنه إضرار بالمرأة حيث يترتب عليه ضرر بها، والضرر مرفوع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) لكل ذلك يكون العزل محرما شرعا.
الرأي الثالث: يرى إباحة العزل إذا أذنت الزوجة، وعدم إباحته إذا لم تأذن (وهو رأي جمهور الفقهاء – الحنفية – المالكية – رأي للشافعية – الحنابلة – الزيدية – الإمامية – الإباضية) .
(1) المحلى جـ 10 ص71
ويمكن أن يقال: إن هذا الرأي جمع بين الأدلة، حيث حرم العزل إذا لم تأذن الزوجة فيه – وحينئذ عمل بالأحاديث الدالة على التحريم – وأباح العزل إذا أذنت الزوجة فيه وحينئذ عمل بالأحاديث الدالة على الإباحة، إلا أن هذا التفرقة في الحكم بناء على وجود الإذن وعدمه تحتاج إلى دليل.
كما أنهم أيضا اتفقوا على أن هذا هو الحكم إذا كانت الزوجة حرة، وأما إذا كانت أمة فقد اختلفوا في اعتبار الإذن أو عدم اعتباره، وفي اعتبار الإذن منها، أو من سيدها، ونوضح فيما يلي الحكم فيما إذا كانت الزوجة حرة، ثم إذا كانت أمة.
حكم العزل عن الزوجة الحرة:
لا يجوز العزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء كما بينا – وقد استدلوا على ذلك بما يلي:
1-
جميع الأحاديث التي استدل بها أصحاب الرأي الأول – التي تفيد إباحة العزل – غير أن هذا الإطلاق الوارد في هذه الأحاديث قيد بإذن الزوجة في الخبر المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) رواه أحمد وابن ماجه (1) .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ((نهي عن عزل الحرة إلا بإذنها)) أخرجه عبد الرزاق والبيهقي.
قال الشوكاني حكي في الفتح عن ابن عبد البر أنه قال "لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل.
قال الحافظ ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة.
غير أن دعوى الإجماع هذه يؤثر فيها ما أوردناه آنفا من الرأيين: الأول والثاني – التحريم مطلقا، أو الإباحة مطلقا.
(1) جاء في منتقى الأخبار بشأن هذا الحديث قوله "وليس إسناده بذلك" وقال الشوكاني: وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال:(نهي عن عزل الحرة إلا بإذنها) وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كان يعزل عن أمته، وروى البيهقي عن ابن عمر مثله
كما استدلوا بالمعقول، وهو أن للزوجة في الولد حقا، وعليها في العزل ضرر، فلم يجز إلا بإذنها "لأن إسقاط الحق لا يكون إلا من صاحبه، وتحمل الضرر لا يكون إلا برضا المضرور في حدود ما يتحمل شرعا".
وقد ردوا على أدلة المحرمين للعزل بما يلي:
عمدة أدلة المحرمين للعزل هو حديث جذامة بنت وهب الأسدية والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعزل ((ذلك الوأد الخفي)) وقرأ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} .
هذا الحديث يعارض الحديث الذي رواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حينما قالت اليهود العزل الموءودة الصغرى، قال ((كذبت يهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) تقدم نصه.
ونظرا لهذا التعارض بين الحديثين، فقد سلك العلماء في دفع هذا التعارض عدة مسالك: مسلك النسخ، مسلك الترجيح بالقوة والضعف، مسلك الجمع بينهما، ونوضح هذه الآراء فيما يلي:
أ - المسلك الأول وهو النسخ:
لما كان النسخ – اصطلاحا – هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكم الدليل الشرعي المتقدم – وعندنا الآن في العزل دليلان أحدهما حديث جذامة وهو ينص على الحرمة، وثانيهما حديث أبي سعيد، وهو يدل على الإباحة، فقد رأى بعض العلماء أن حديث جذامة منسوخ بالأحاديث الدالة على الجواز، ومنها حديث أبي سعيد.
ولما كانت دعوى النسخ هذه تحتاج إلى معرفة المتقدم من الأدلة والمتأخر، أي معرفة تاريخ ورود كل من النصين، ونظرا إلى أنه لم يعرف هذا التاريخ، لذلك كانت دعوى النسخ غير واردة، وتسقط.
ومنهم من جعل حديث جذامة هو المتقدم، وأنه كان على وفق ما عليه أهل الكتاب، قال الطحاوي: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله تعالى بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه.
وقد تعقب ابن رشد وابن العربي هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم شيئا تبعا لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه.
وأيضا يمكنني أن أقول: إن قوله (يحتمل أن يكون
…
) لا يصلح أن يكون هذا الاحتمال طريقا لجعل حديث جذامة هو المتقدم.
ب - مسلك الترجيح باعتبار السند:
من بين العلماء من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح، وضعف حديث أبي سعيد بالاختلاف في إسناده والاضطراب.
قال الحافظ: ورد – على هذا – بأنه إنما يقدح في حديث لا فيما يقوي بعضه بعضا، فإنه يعمل به، وهو هنا كذلك، والجمع ممكن.
ومنهم من ضعف حديث جذامة لمعارضته ما هو أكثر منه طرقا (1) .
وقد رد على هذا، فقال الحافظ: وهذا دفع للأحاديث بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن.
جـ- مسلك الجمع بين الحديثين:
سلك البيهقي مسلك الجمع بين الحديثين، فحمل حديث جذامة على الكراهة التنزيهية ومثله قاله الطحاوي (2) ويقول الصنعاني "ونوزع ابن حزم في دلالة قوله صلى الله عليه وسلم ((ذلك الوأد الخفي)) على الصراحة بالتحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة محققة، والعزل وإن شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة، والمشبه دون المشبه به، وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل ".
(1) قال الشوكاني "وقد ضعف أيضا حديث جذامة – أعني الزيادة التي في آخره – بأنه تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، ورواه مالك ويحيى عن أبي الأسود، فلم يذكراها، وبمعارضتها لجميع أحاديث الباب، (التي استدل بها على الإباحة) وقد حذف هذه الزيادة أهل السنن الأربع "
(2)
سبل السلام جـ3 ص168
وجمع ابن القيم بينهما فقال "الذي كذب فيه صلى الله عليه وسلم اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة، لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما: أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد، والعزل (1) يتعلق بالقصد فقط، فلذلك وصفه بكونه خفيا، وهذا الجمع قوي.
فحديث جذامة حمل على التنزيه وتكذيب اليهود لأنهم أرادوا التحريم الحقيقي، وحمل تكذيب اليهود على أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، كما قاله ابن القيم آنفا، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطاعت أن تصرفه)) أي أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها، وأنه يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه، ولا ينفعكم الحرص على ذلك، فقد يسبق الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدره الله.
وقد أخرج أحمد والبزار من حديث أنس، وصححه ابن حبان أن رجلا سأل عن العزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لو أن الماء يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا)) وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس وفي الأوسط له عن ابن مسعود.
ومن كل هذا يترجح لنا رأي جمهور الفقهاء في أنه يباح العزل عن الزوجة الحرة إذا أذنت في ذلك، ويحرم إذا لم تأذن.
(1) ورد في الشوكاني كلمة (والفعل) ولكن المعنى لا يستقيم فلعله خطأ مطبعي
حكم العزل عن الأمة:
الأمة إما أن تكون زوجة، أو تكون سرية.
فإن كانت الأمة زوجة، فهناك اتجاهان رئيسيان:
• الاتجاه الأول:
يشترط الإذن: وهو رأي جمهور الفقهاء، إلا أنهم اختلفوا فيمن يؤخذ إذنه، هل يؤخذ إذنها، أو إذن وليها، أو هما معا:
الرأي الأول: فيرى أبو حنيفة والحنابلة أن الإذن في العزل لمولى الأمة، وقالوا في توجيه ذلك: إن العزل يخل بحق المولى، وهو حصول الولد الذي هو ملكه فيشترط رضاه. بخلاف الحرة، لأن الولد والوطء حقها.
الرأي الثاني: يرى الصاحبان " أبو يوسف ومحمد من الحنفية" أنه يشترط رضاها، دون رضى وليها، لأن الوطء حقها، والعزل تنقيص له.
الرأي الثالث: يرى المالكية وقريب منه الإباضية، قال المالكية: يجوز لزوجها العزل إذا أذنت وسيدها معا له بالعزل، إذا كانت ممن تحمل ويتوقع منها الحمل وإلا فالعبرة بإذنها دون السيد، وقريب منه قول الإباضية يجوز له العزل عنها بإذنها، أو بإذن وليها، وإنه إن لم يأذن سيدها لم يجز إذنها.
* الاتجاه الثاني:
لا يشترط إذنا: وهو رأي الشافعية وكذا الزيدية حيث قالوا: "يجوز العزل عن الزوجة الأمة، والمملوكة مطلقا، أي سواء رضيت أم كرهت وسواء رضي سيد الأمة المزوجة أم كره".
وأرى رجحان رأي جمهور الفقهاء الذين يشترطون الإذن في العزل عن الأمة المزوجة، كما أرجح الرأي القائل بأن الإذن في العزل يكون من حق الأمة فقط، لأن المولى برضاه بزواجها قد رضي بكل ما يترتب على العقد من أحكام وآثار، وأصبحت العلاقة بين الزوجين علاقة خاصة يحكمها عقد الزواج، فدخوله بعد ذلك في الحياة الزوجية – في العزل وغيره – أمر لا يتفق ومقتضى عقد الزواج وبخاصة أن الوطء حقها، والعزل تنقيص له – كما قاله الصاحبان.
حكم العزل عن السرية:
وأما السرية: فيرى الفقهاء (كما صرح: المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإباضية) أنه يجوز لسيدها العزل عنها دون إذنها – وقد استدل الحنابلة بحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ((إنا نأتي النساء، ونحب إتيانهن، فما ترى في العزل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله تعالى فهو كائن، وليس من كل الماء يكون الولد)) رواه أحمد.
أقوله: تأييدا لهذا الاستدلال إن هذا الحديث كان بشأن السبايا، فقد روي عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)) متفق عليه – وقد تقدم نصه وتقدم مناقشة ما يفهم من هذا النص.
وقال في الفتح "يجوز العزل عن السرية بلا خلاف عندهم، إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز فيه مطلقا، لأنها ليست راسخة في الفراش، وقيل حكمها حكم الأمة المزوجة"(1) .
وأرى رجحان الرأي الثاني، لأنها باستيلادها، أصبحت لا تباع ولا تشترى ولا توهب، وتعتق بمجرد موت سيدها، لذلك كان القول بقياسها على الأمة المزوجة أولى من قياسها على الأمة السرية.
كما أرجح ما رآه الحنفية من أن المكاتبة حكمها حكم الحرة، في أن يؤخذ إذنها فقط عند العزل عنها.
(1) نيل الأوطار جـ 6 ص197
حقيقة الإذن المطلوب:
الإذن المطلوب إما قطعي بأن تأذن له في العزل عنها صراحة، أو ظني، بأن كان الزوج يغلب على ظنه أنها رضيت بذلك، لا أنها ترضى بذلك بعد وقوعه – صرح بذلك: الزيدية، وللزوجة أن تعدل عن هذا الرضا في أي وقت تشاء، فإذا عدلت عنه يحرم على الزوج أن يعزل عنها.
استثناءات لا تحتاج إلى إذن:
ما يستثنى من الحالات التي يجوز فيها العزل دون إذن:
نص بعض فقهاء الحنفية على بعض الحالات التي لا يحتاج فيها الزوج إلى إذن زوجته بالعزل عنها:
جاء في الخانية "أنه يباح العزل في زماننا لفساده" – أي فساد هذا الزمان – قال الكمال: فليعتبر عذرا مسقطا لإذنها.
وعلق ابن عابدين بقوله "قال الكمال عبارته" وفي الفتاوى: إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها، لفساد الزمان، فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها.
كما أن قوله: "فليعتبر مثله من الأعذار
…
" يحتمل أنه أراد إلحاق مثل هذا العذر به، كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق، ويريد فراقها، فخاف أن تحبل.
فما رآه بعض الحنفية من الأعذار مجيزا لإسقاط إذنها، ينحصر في اتجاهين:
أولهما: أن يكون العذر عاما، بأن يكون الزمن زمن سوء، ويخشى من الإنجاب في مثل هذا الوسط السيئ، أو أن يكونا في دار الحرب، ويخشى من استرقاق الولد.
وثانيهما: أن يكون العذر خاصا، وذلك بأن يخشى من الحمل والولادة أثناء سفرهما سفرا بعيدا، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها فيخشى بأن تحبل ويترتب على ذلك ضياع الولد مستقبلا بعد فراقهما.
وما قاله بعض علماء الحنفية هنا، لا ينطبق على الزوج وحده، بل وعلى الزوجة أيضا (1) .
كما نص الحنابلة على أنه يجب على الزوج أن يعزل – عن زوجته الحرة أو الأمة – كما يجب أن يعزل عن سريته – بدار الحرب دون حاجة إلى الاستئذان – لئلا يستعبد الولد.
البواعث التي يجوز من أجلها تنظيم النسل أو تحديده:
تناول بعض العلماء هذه البواعث بإيجاز، وبعضهم تناولها بالتفصيل، وأورد فيما يلي ما نص عليه بإيجاز، ثم ما نص عليه بالتفصيل.
الحنفية: يجوز عند فساد الزمان، وعند الخوف من الولد السوء، بأن كانت أمه سيئة الخلق – أو كان أبوه كذلك – ويريد كل منهما أو أحدهما الفراق، وكذا يجوز في السفر البعيد، وفي دار الحرب، خوفا على الولد.
الحنابلة: يجب العزل في دار الحرب.
(1) فقد قال ابن عابدين في تنبيه له: "أخذ في النهر من هذا ومما قدمه الشارح عن الخانية والكمال أنه يجوز لها سد فم رحمها، كما تفعله النساء مخالفة لما بحثه في البحر من أنه ينبغي أن يكون حراما بغير إذن الزوج قياسا على عزله بغير إذنها" قلت (أي ابن عابدين) : لكن في البزازية أن له منع امرأته عن العزل - اهـ نعم، النظر إلى فساد الزمان يفيد الجواز من الجانبين، فما في البحر مبني على ما هو أصل المذهب، وما في النهر على ما قاله المشايخ والله الموفق.
الإباضية: قالوا "والعزل يكون للفرار من الولد خشية العيال، وإدخال الضرر على المرضع، واسترقاق الولد إن كانت أمة، ولإضرار المرأة بذلك.
وأما الذين فصلوا فالإمام الغزالي في إحيائه جـ 2 ص47. فقد تناول آراء العلماء في حكم العزل، مرجحا إباحته، وإن ما ورد من النهي إنما هو لترك الفضيلة وليس لنهي التحريم، ولا لنهي التنزيه.
وبعد أن استدل لهذا الفهم تساءل هل يكون النهي مكروها من حيث إنه دفع لوجود الولد، فلا يعدو أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي؟
ثم رد على هذا التساؤل مبينا البواعث على العزل وصحح أن يكون الباعث عليه (في السرراي) حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق.. وفي الحرائر – استبقاء جمال المرأة وسمعتها لدوام التمتع بها واستبقاء حياتها.. أو الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد – وأما الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، فهذه نية فاسدة، يأثم بها وكذلك إذا كانت المرأة تمتنع لتعززها ومبالغتها في النظافة والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع
…
فهي نية فاسدة.. ثم يقول فالنية والقصد هو الفاسد، دون منع الولادة وأرى أن أورد رأيه فيما يلي:
رأي الإمام الغزالي:
يرى الإمام الغزالي أن العزل مباح، وإن كان فيه ترك الأفضل والأولى (1) ،كما يرى أن العزل قد يحرم إذا كان الباعث عليه منهيا عنه، وقد عدد البواعث عليه مبينا ما يترتب عليها من إباحة أو حرمة، وأرى أن أورد ما أورده بنصه نظرا لأهميته ثم أتبعه بالرأي الذي يظهر لي:
تناول الإمام الغزالي العزل، فقال:" ومن آداب النكاح ألا يعزل، بل لا يسرح إلا إلى محل الحرث، وهو الرحم فما من نسمة قدر الله كونها إلا وهي كائنة" هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه من حديث لأبي سعيد.
(1) وفي النهاية للطوسي "ويكره للرجل أن يعزل عن امرأته الحرة، فإن عزل لم يكن بذلك مأثوما غير أنه يكون تاركا للأفضل، اللهم إلا أن يشترط عليها في حال العقد، أو يستأذنها في حال الوطء فإنه لا بأس بالعزل عنها عند ذلك".. وفي اللمعة الدمشقية أن الأشهر الكراهة.. وقيل يحرم، وفيه دية النطفة عشرة دنانير للزوجة"
فإن عزل، فقد اختلف العلماء في إباحته، وكراهته على أربعة مذاهب:
فمن مبيح مطلقا بكل حال، ومن محرم بكل حال، ومن قائل يحل برضاها، ولا يحل دون رضاها، وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل، ومن قائل يباح في المملوكة دون الحرة، ثم يقول "والصحيح عندنا – أن ذلك مباح – وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم، ولنهي التنزيه، ولترك الفضيلة، فهو – أي العزل – مكروه بالمعنى الثالث أي فيه ترك الفضيلة، كما يقال يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة، ويكره للحاضر في مكة مقيما بها ألا يحج كل سنة، والمراد بهذه الكراهية: ترك الأولى والفضيلة فقط، وهذا ثابت لما بيناه من الفضيلة في الولد، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل ليجامع أهله فيكتب له بجماعه أجر ولد ذكر قاتل في سبيل الله فقتل (1) وإنما قال ذلك لأنه لو ولد له مثل هذا الولد لكان له أجر التسبب إليه، مع أن الله تعالى خالقه ومحييه ومقويه على الجهاد والذي إليه من التسبب قد فعله، وهو الوقاع، وذلك عند الإمناء في الرحم.
وإنما قلنا لا كراهة بمعنى التحريم والتنزيه، لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص، ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه، وهو ترك النكاح أصلا، أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي، ولا فرق، إذ الولد يتكون بوقوع النطفة في الرحم، ولها أربعة أسباب: النكاح، ثم الوقاع، ثم الصبر إلى الإنزال بعد الجماع ثم الوقوف لينصب المني في الرحم، وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض، فالامتناع عن الرابع كالامتناع عن الثالث، وكذا الثالث عن الثاني، والثاني كالأول. وليس هذا كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضا مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح، واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا.
(1) وعلق عليه العراقي بقوله "هذا الحديث لم أجد له أصلا"
وإنما قلنا مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم، لا من حيث الخروج من الإحليل، لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعا.. وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود، فمن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيا على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول كان الرجوع بعده رفعا وفسخا وقطعا، وكما أن النطفة في الفضاء لا يتخلق منها الولد فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي.
ثم يتساءل الغزالي فيقول "فإن قلت يكون العزل مكروها، من حيث إنه دفع لوجود الولد فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي.
فأقول: النيات الباعثة على العزل خمس:
الأولى في السراري: وهو حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق (1) ، وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق، ودفع أسبابه ليس بمنهي عنه.
الثانية: استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها، خوفا من خطر الطلق، وهذا أيضا ليس منهيا عنه.
الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز عن الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم: الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله، حيث قال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب، وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضا للتوكل، لا نقول إنه منهي عنه.
الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث، فهذه نية فاسدة، لو ترك بسببها أصل النكاح، أو أصل الوقاع أثم بها، لا بترك النكاح والوطء (3) فكذا في العزل والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد، وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافا من أن يعلوها رجل، فكانت تتشبه بالرجال، ولا ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح.
(1) لأن السرية إذا ولدت من سيدها صارت أم ولد، فلا تباع ولا تشترى، وتصبح حرة بعد موته.
(2)
الآية 6 من سورة هود
(3)
لعله أراد ترك النكاح والوطء بعد الزواج
الخامسة: أن تمتنع المرأة لتعززها ومبالغتها في النظافة، والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع، وكان ذلك عادة نساء الخوارج لمبالغتهن في استعمال المياه، حتى كن يقضين صلوات أيام الحيض، ولا يدخلن الخلاء إلا عراة، فهذه بدعة تخالف السنة، فهي نية فاسدة، واستأذنت واحدة منهن على عائشة رضي الله عنه لما قدمت البصرة فلم تأذن لها – فيكون القصد هو الفاسد منع الولادة.
ثم رد اعتراضات واردة على ما قرره فقال:
قان قلت: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا، ثلاثا)) (1) .
قلت: فالعزل كترك النكاح، وقوله ((ليس منا)) أي ليس موافقا لنا على سنتنا وطريقتنا، وسنتنا فعل الأفضل (2) .
فإن قلت: فقد قال صلى الله عليه وسلم في العزل: ((ذاك الوأد الخفي)) وقرأ ((وإذا الموءودة سئلت)) وهذا في الصحيح.
(1) قال بشأنه العراقي جـ2 ص20: رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف والدارمي في مسنده، والبغوي في معجمه، وأبو داود في المراسيل من حديث أبي نجيح (من قدر أن ينكح فلم ينكح فليس منا) وأبو نجيح اختلف في صحته
(2)
هذا أحد التفسيرات (ليس منا) فلغيره أن يفسره بالتحريم أو الكراهة
قلنا: وفي الصحيح أخبار صحيحة في الإباحة (أي إباحة العزل) وقوله ((الوأد الخفي)) كقوله ((الشرك الخفي)) وذلك يوجب كراهة لا تحريما.
فإن قلت: فقد قال ابن عباس "العزل هو الوأد الأصغر" فإن الممنوع وجوده به هو الموءودة الصغرى.
قلنا: هذا قياس منه لدفع الوجود على قطعه (1) ، وهو قياس ضعيف، ولذلك أنكره عليه علي رضي الله عنه لما سمعه، وقال: لا تكون موءودة إلا بعد سبع، أي بعد سبعة أطوار، وتلا الآية الواردة في أطوار الخلقة، وهي قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13] . إلى قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} أي نفخنا فيه الروح ثم تلا قوله تعالى في الآية {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] .
وإذا نظرت إلى ما قدمناه في طريق القياس والاعتبار ظهر لك تفاوت منصب علي وابن عباس رضي الله عنهما في الغوص على المعاني ودرك العلوم، فكيف وفي المتفق عليه في الصحيحين عن جابر أنه قال:((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) وفي لفظ ((كنا نعزل فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا)) وفيه أيضا عن جابر أنه قال: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل. فقال عليه الصلاة والسلام:((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) فلبث الرجل ما شاء الله، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، فقال:((قد قلت سيأتيها ما قدر لها)) كل ذلك في الصحيحين (2) اهـ الغزالي.
(1) أي قاس العزل – الذي يترتب عليه دفع وجود الولد – على الوأد، الذي يترتب عليه قطع الوجود
(2)
هو في مسلم فقط – العراقي جـ2 ص49
نتائج البحث حول بيان
رأي الفقه الإسلامي في
تحديد النسل أو تنظيمه
من الدراسة الفقهية المتقدمة نستطيع أن نستخلص في موضوع بحثنا النتائج التالية:
أولا: وسائل منع الحمل التي يترتب عليها منع التقاء الحيوان المنوي بالبييضة – سواء كانت في صورة العزل، وهي الصورة المنصوص عليها، أو في صورة سد الرحم بما يمنع وصول المني إلى البييضة – كما صرح بعض الفقهاء، أو في أي صورة شبيهة بذلك – يرى جمهور الفقهاء صحة استخدامها إذا كان ذلك باتفاق الزوجين، وكان الباعث عليه مشروعا.
أما إذا كانت الوسيلة لمنع الحمل يبدأ عملها بعد التقاء الحيوان المنوي بالبييضة فإن ذلك لا يجوز شرعا (1) .
ثانيا: أن منع الحمل، أو تنظيم فتراته هو حق شخصي للزوجين معا، فهما اللذان يقررانه، وهما اللذان يتحكمان فيه، طبقا لما تقتضيه مصلحتهما، ما دامت هذه المصلحة أمرا يقره الشرع ويرضى عنه.
ومن هنا لا يجوز للدولة أن تتخذ من القرارات في هذا الشأن ما يلزم الأفراد بالامتناع عن الإنجاب، أو تحديده بعدد معين، أو تكثيره، ولكن يمكن للدولة أن تنصح بالإنجاب، أو بتنظيمه، وبيان فوائد كلا الأمرين، في الحدود التي تراها تحقق مصلحة عامة للدولة جميعها.
(1) يراجع بحثنا في "حق الجنين في الحياة"
فهناك بعض الدول تحتاج إلى زيادة الإنجاب وتكثير النسل، نظرا لكثرة خيراتها، ووفرة مواردها، وقلة عددها، وحاجتها إلى زيادة القوة البشرية لكي تستوعب كل هذه الخيرات، وتنميها، وتحافظ عليها.
وهناك بعض الدول على العكس من ذلك تحتاج إلى الحد من زيادة الإنجاب، وتنظيمه أو تحديده، نظرا لكثرة عددها وقلة مواردها، وما يحيط بها من ظروف لا تستطيع بها توفير متظلبات شعبها.
لكل ذلك أقول: إن للدولة – بأجهزتها العلمية والإعلامية، ومراكز التعليم والتثقيف فيها أن تبصر الناس بعواقب كثرة النسل – إذا كانت الدولة ليست في حاجة إلى هذه الكثرة - وبعواقب قلة النسل – إذا كانت الدولة بحاجة إلى كثرته.
وإذا بصرت الناس بذلك عن طريق هذه الوسائل، فإنه يصبح لكل شخص وكل فرد من أفراد الأمة أن يوازن أموره طبقا لما يحيط به من ظروف اجتماعية ومادية – حاضرة أو مستقبله، وعلى ضوئها يقرر مع زوجه ويختار المسلك الذي يحقق له مصلحته – في حدود شرع الله تعالى.
وإنما قلت إن حق الإنجاب، أو منعه، أو تكثيره هو حق خاص بالزوجين في الشريعة الإسلامية، وذلك لأن الزواج – وهو عقد يتم برضا الطرفين – حق خاص بكل واحد منهما، إذ كل واحد منهما، إذ كل واحد منهما له الحق في أن يتزوج، وله الحق في ألا يتزوج، وله الحق في أن يطأ، وله الحق في ألا يطأ ومن ثم فله الحق في أن ينجب، وله الحق في ألا ينجب، إلا أنه في هذه الحالة الأخيرة بعد تمام الزواج يصبح هذا الحق لهما سويا؛ لأنه بعقد الزواج أصبح الوطء والإنجاب حقا من حقوق العقد، وأثرا من آثاره، فلا يستأثر به واحد منهما دون الآخر، ولا يتحكم فيه غيرهما، بل هو لهما فقط، كما كان الزواج علاقة خاصة بهما فقط، فكذلك هذا.
ثالثا: الباعث على تحديد النسل أو تنظيمه أو منعه:
يمكن أن أتناول فيما يلي جملة من البواعث على منع الحمل، أو تنظيمه أو تحديده، وأبين فيما يلي موقف الفقه الإسلامي في كل واحد منهما، صحة وفسادا وأثر ذلك على إباحة المنع أو عدم إباحته:
الباعث الأول: الخوف على حياة الأم، أو تدهور صحتها.
إذا كان الباعث على استخدام ما يمنع الحمل هو الخوف على حياة الأم، أو تدهور صحتها، بأن كانت مريضة بمرض يؤثر الحمل في زيادته أو تأخير البرء منه فإنه في هذه الحالات يكون الباعث مشروعا، وذلك لأنه يؤدي إلى الحفاظ على حياة الأم، وحفظ الحياة أمر واجب شرعا على الإنسان أن يراعيه سواء بالنسبة لنفسه أو بالنسبة لغيره، زوجا كان الغير أو لم يكن زوجا. قال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الآية 29 من سورة النساء.
وقال جل شأنه {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية 195 من سورة البقرة. وكل ما يتطلبه هذا الأمر أن يكون هذا الخوف له أسبابه المقنعة والمعقولة والتي يقررها أهل الاختصاص والخبرة – إذ أنه ليس كل خوف يعتد به – فمن الناس من يكون الخوف عنده مرضا يحتاج إلى علاج.
الباعث الثاني: الخوف على مستقبل الحمل بعد ولادته:
لقد أورد الفقهاء حالات متعددة حول إباحة العزل عند الخوف على مستقبل هذا الطفل بعد ولادته دون إذن من الزوج الآخر.
والخوف على مستقبله يتمثل فيما أحاط بالوالدين، وبما يتوقع أن يحيط بالطفل من ظروف بيئية أو اجتماعية بعد ولادته أثناء قيام هذه الظروف.
فمن الظروف البيئية والتي تتمثل في إقامتها خارج الوطن: أن يكون الزوجان في دار الحرب، ومن المعلوم لنا أن الحرب وما يكتنفها من مخاطر وما يحيط بها من مفاجآت وأحداث، قد تؤدي إلى قتل الوالدين، ثم ضياع الولد في هذه الدار وإن لم يقتلا أو أحدهما، فقد يتعرض الطفل للرق – إن كان هناك رق – أو لاختطافه وتسخيره فيما يراد تسخيره فيه، أو لعدم رعايته الرعاية المطلوبة والحفاظ على حياته. وكل ذلك خطر جسيم وضرر عظيم يخشى منه على مستقبل الطفل إذا وجد.
لكل ذلك أرجح رأي الحنابلة الذين يوجبون العزل في هذه الحالة خوفا على مستقبل هذا الجنين.
ويقرب من ذلك في التعرض للمخاطر أن يكون الزوجان في سفر بعيد وفي مكان يخشيان فيه من أن حدوث الحمل أثناء السفر، ثم الولادة، لا يجدان فيه الرعاية المطلوبة للأم، ولا الإمكانات التي لا بد منها لها مما يضعهما في حرج بالغ وضيق شديد، لما يحيط بالأم في أثناء الحمل وأثناء الولادة من ظروف خاصة يعتبر هذا عذرا يبيح للزوج العزل عن زوجته، ولها أيضا ذلك، كما صرح الحنفية.
وأما الظروف الاجتماعية، فقد تكون هذه الظروف عامة أو تكون خاصة: فإن كانت عامة، بأن كان الزمن زمن سوء، تفشت فيه الموبقات، وانتشرت فيه الدعارة، ووئدت فيه القيم، وأصبح الأبوان في ظله يعجزان عن إمكان تربيته التربية السوية الطيبة التي كلفهما المشرع الحكيم بها، ولا يستطيعان – حسب تقديرهما وإحاطتهما بجميع ما يجري حولهما – النجاة به من الانغماس في هذا الشر المستطير – إذا أنجباه – فإن ذلك يكون عذرا مقبولا شرعا يبيح العزل دون إذن من الزوج الآخر، كما صرح به علماء الحنفية.
أو تكون الظروف خاصة بأحد الزوجين، كأن كانت الزوجة أو الزوج سيئة الخلق، أو سيئ الخلق، ويخشى إن هو أو هي أنجب منها، أو أنجبت منه، أن يكون مآل هذا الطفل – إذا حملت به – أن يكون سيئ الخلق مثله أو مثلها، فإنه في هذه الحالة أيضا يكون هذا السبب عذرا مبيحا للزوج أو للزوجة أن يعزل عن زوجته، أو تعزل عنه بوضع ما يسد فم الرحم، كما صرح علماء الحنفية أيضا.
ومن الظروف الخاصة أيضا أنه إذا كان الزوج قد اعتزم فراق زوجته لعدم حدوث الائتدام والعشرة الطيبة بينهما وتفاقم ذلك بحيث لم يجد مفرا من الفراق، فإنه في هذه الحالة يمكن أن يعتبر ذلك عذرا يبيح له العزل عنها دون إذنها خوفا على مستقبل هذا الطفل – إذا وجد – من الضياع بين والدين مفترقين، كل منهما يعيش حياته الخاصة بعيدا عن الآخر، ولا يرعاه الرعاية المطلوبة شرعا – كما صرح بعض فقهاء الحنفية.
الباعث الثالث: الخوف على الطفل الرضيع من حدوث الحمل:
إذا كانت المرأة لها طفل رضيع، ترضعه من لبنها، وتعوله وترعاه، وتخشى أن يتأثر لبنها بالحمل، وتتأثر رعايتها لهذا الرضيع من مضاعفات الحمل وظروفه التي تختلف من امرأة إلى أخرى قوة وضعفا.. فأرادت منع الحمل حينئذ.
ففي هذا الحالة أيضا يكون الباعث على منع الحمل أثناء هذه الفترة مشروعا، لأنه يكون الهدف منه حماية نفس الرضيع واستمرار رعايته وتتبعه بما يقويه ويساعده على النمو، والوصول إلى درجة الاستغناء عن الرضاعة التي هي عماد الحياة الأولى للطفل، والتي أثبت الطب أنها الغذاء الذي لا يعادله غذاء للطفل، وأي غذاء غيره فيه من المخاطر ما فيه.
لكل ذلك، ولنفس الأدلة التي سقناها في الباعث الأول يكون للزوجين الحق في منع الحمل أثناء هذه الفترة، ولا يكون عليهما إثم في ذلك.
الباعث الرابع: الخوف من كثرة النسل وتعاقبه:
إن التناسل أمر مرغوب فيه شرعا، به يعمر الكون، وهدف مشروع من بين الأهداف التي شرع من أجلها الزواج، به يبقى النسل ويتمادى ويتتابع الخلق كما شاءت إرادة الله تعالى.
وأيضا فإن كلا من الأبوين عليهما رعاية نسلهما، وحمايته، والتكفل بجميع متطلباته سواء من الناحية الصحية أو المادية أو الرعوية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الجوانب التي تتطلبها رعاية الأبناء حتى يشبوا قادرين على تحمل التكاليف، وتحمل متطلبات الحياة.
وهذه الرعاية أمر مقرر شرعا، سواء من حيث كونها أمانة يتحملها الزوجان نحو أطفالهما، وهذه الأمانة أمرنا بأدائها إلى أهلها، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [الآية 58 من سورة النساء] .
وقال تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [الآية 8 من سورة المؤمنون] .
أو من حيث كونها مسئولية وتبعة تحملها الزوجان طائعين، ويسألان عنها يوم الدين حفظاها أو ضيعاها، والأحاديث في ذلك كثيرة منها:
ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم إلا أنه قال: ((من يعول)) وقال صحيح الإسناد.
وروي عن الحسن رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه ابن حبان في صحيحه.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ لمسلم.
فإذا كان الإنسان مسئولا عن رعاية كل ذلك، ومنها رعاية ولده، فإن هذه المسئولية تشتمل على أمور متعددة: تشتمل على التربية السوية، والرعاية الحقة، حتى يصلحوا ويكونوا عناصر إيمانية قوية في أمة الإسلام.
وتشتمل على الرعاية المادية، حتى يوفر لهم – بإذن الله تعالى وتوفيقه – ما يحتاجون إليه من قوت، ومن ملبس ومشرب، ومن تعليم وتثقيف، ومن رعاية صحية واجتماعية، كل ذلك وغيره داخل في هذه المسئولية التي يسأل عنها الأب والأم كل فيما يخصه حسب منهج الشرع وأسلوبه الذي حدده.
فإذا رأى الزوجان أن تتابع النسل وتكاثره لا يمكنهما من توفير الرعاية المطلوبة والتربية الحقة التي أرادها الله وشرعها للمسلمين، حتى يكونوا أقوياء، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضيعف
…
)) رواه مسلم في صحيحه – فإنه في هذه الحالة يكون الهدف مشروعا، حيث أن المشرع الحكيم سائلنا عمن ضيعناه وأهملنا تربيته ورعايته، فإذا علم الأبوان أو ترجح لديهما أنهما لا يتمكنان من ذلك جاز لهما تنظيم الحمل وتحديده، بالوسائل المشروعة التي لا تضر بصلاحيتهما للإنجاب في الوقت الذي يرغبان فيه في المستقبل، وفي الحدود التي يغلب على ظنهما أنهما يستطيعان القيام بهذه المسئولية إزاء من ينجبانه.
وقد سبق أن بينا أنها مسئولية شخصية للأبوين دون غيرهما، وأنها تتم برضاهما معا.
هذا ويجب أن أوضح أن الفقر في ذاته لا يصلح عذرا للمنع ولا يصلح باعثا على ذلك المنع، فإن الرزق لكل كائن مقرر ومكتوب. قال تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [الآية 6 من سورة هود] . وقال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} الآية 31 من سورة الإسراء، وتراجع الآية 151 من سورة الأنعام.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود.
فالرزق مكتوب عند الله تعالى ومقدر ومقرر، والعلم به كما وكيفا لا يحيط به إلا الله تعالى، ولكن الذي نعلمه ونؤمن به أن لكل إنسان – أو كل دابة – رزقا محددا وعد الله به وهو لا يخلف الميعاد.
ومن هنا كان الباعث المشروع هو الذي يدور حول تمكن الأبوين من الرعاية المطلوبة شرعا – على الوجه الذي بيناه – أو عدم تمكنهما، فإذا ترجح لديهما أنهما لن يستطيعا ذلك كان لهما الحق في منع الإنجاب خلال هذه الفترة.
قال الله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الآية 286 من سورة البقرة] وإذا لم يترجح كان لهما ألا يمنعا ذلك.
وما قاله الإمام الغزالي من أن الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز عن الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله
…
"تقدم نص كلامه آنفا" نقول بشأنه ما يلي:
أ - إنه يسلم بأن النظر في ذلك فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فإن المؤمن سباق إلى الكمال، عامل دائما إلى ما هو الأفضل.
ب - قوله: "لكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره. مع كونه مناقضا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه".
نقول له: إن الأمر مختلف، إذ النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مأمور به شرعا وليس منهيا عنه بصريح الآيات والأحاديث. قال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [الآية 77 من سورة القصص] .
وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الآية 29 من سورة الإسراء] – ففيها نهي عن التبذير وضياع المال، والنهي عن الشيء أمر بضده. وهو حفظ المال وادخاره.
وقال تعالى {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [سورة الإسراء 26، 27] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة)) (أخرجه الطبراني عن جندب بن أبي سفيان البجلي) .
وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) رواه مسلم.
فابتغاء المال وطلبه للدنيا والآخرة، والإنفاق منه بقدر، دون إسراف أو تبذير، هو أمر واجب على المسلم، وضده منهي عنه، وإذا كان ذلك كذلك فيجب حينئذ الامتثال لما أمر به، والانتهاء عما نهي عنه.
أما أن يكون الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، باعثا مشروعا لعدم الإنجاب، فإن هذا لا يصلح أن يكون مناطا لهذا الحكم ولا باعثا عليه، لأن الله قد تكفل برزق كل مولود، والدخول في هذا المجال دخول فيما لا قبل للإنسان باستكشاف حقيقته، فكم من مولود كان أسعد حظا من والده، وكم من مولود تدفق الرزق على والديه بسببه.
الباعث الخامس: العمل على استبقاء جمال المرأة لدوام التمتع بها:
لا شك أن الحفاظ على الزوجة وما وهبها الله من جمال، أمر مرغوب فيه شرعا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)) رواه ابن ماجه، عن أبي أمامة.
وإذا كان أمرا مرغوبا فيه، فإن الحفاظ عليه أمر مشروع، لكن هل يصح أن يكون هذا الباعث معطلا للإنجاب نهائيا؟ لا: لا يصح أن يكون كذلك، لأنه إذا كان هذا مرغوبا، فأيضا الإنجاب مرغوب فيه، بل إن الرغبة في الإنجاب – ما دام ممكنا – تفوق الرغبة في حفظ جمالها، لأن لحفظ جمالها غاية خاصة بها أو به، وللإنجاب غاية عامة، وغاية خاصة، فأما عمومها فمن ناحية تعمير الكون وتتابع بني الإنسان تحملا للأمانة، وابتغاء لرضى الله تعالى، وأما خصوصها فمن ناحية وجود العقب وإرضاء غريزة الأبوة والأمومة، وتحصيل متعة امتداد الذكر وبقاء الاسم.
لكل ذلك أقول إن منع الإنجاب إذا كان الباعث عليه استبقاء جمال المرأة وعدم تشوه منظرها، إن كان ذلك مانعا من الإنجاب نهائيا كان باعثا غير مرضي عنه شرعا، وإن كان هذا المنع موقوتا، أو لفترة محدودة، أو بعد وجود بعض من الذرية، كان باعثا لا ينهى عنه الشرع.
الباعث السادس: الخوف من إنجاب البنات خوفا من العار:
لقد كان من العادات السيئة في الجاهلية كراهة إنجاب البنات، ووأدهن قال تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الآيات 57- 60 من سورة النحل] .
قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [8، 9 من سورة التكوير] .
ولكن الإسلام حرم ذلك، ومنع أن يكون النظر للبنت بهذه الكيفية، وجعلها صنو الولد، وجعل تربيتها وإحسان تثقيفها، وتعليمها موجبا لدخول الجنة.
قال تعالى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} الآيتان [49، 50] من شورى الشورى، وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء فقال ((استوصوا بالنساء خيرا)) الحديث.
وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كن له ثلاث بنات يؤويهن، ويرحمهن، ويكلفهن، وجبت له الجنة البتة قيل. يا رسول الله فإن كانتا اثنتين؟ قال: وإن كانتا اثنتين قال: فرأى بعض القوم أن لو قال واحدة لقال واحدة)) رواه أحمد بإسناد جيد والبزار والطبراني في الأوسط.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كن له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن (1) وضرائهن، (2) وسرائهن، أدخله الله الجنة برحمته إياهن فقال رجل: واثنتان يا رسول الله؟ قال واثنتان قال رجل: يا رسول الله: وواحدة؟ قال وواحدة)) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
الباعث السابع: تأفف المرأة وتضجرها من الوطء، ومبالغتها في النظافة وتحرزها من الطلق والنفاس والرضاع.
لقد أوجد الله الإنسان لحكمة، وخلقه على نهج قويم، وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، وخص كلا منهما بخصائص تناسب تكوينه، واستعداداته الفطرية وجعل لكل منهما مهام تناسب هذه الخصائص، وكلفه بتكاليف تتفق وما منحه وأعطاه وجعلت الشريعة الإسلامية خروج أي منهما عن خصائصه ونزوعه إلى الجنس الآخر أمرا معاقبا عليه شرعا، فلعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء.
فإذا كانت المرأة تمتنع عن الحمل تأففا وتضجرا وتحرزا من الطلق والنفاس والرضاع فهو تأفف فاسد، وقصد غير مستقيم، يتنافى مع طبيعة ما خلقت له من ناحية، وما تحملته بمقتضى عقد الزواج من ناحية أخرى، وما خطه الشرع ورسمه لمسيرتها من ناحية ثالثة.
لذلك كله نقول إن هذا القصد قصد فاسد.
هذا ما أردت معالجته وإبرازه في هذا البحث "تنظيم النسل أو تحديده" راجيا الله تعالى أن يجنبنا الزلل والخطأ.
أ. د حسن علي الشاذلي
(1) مشقاتهن، وفي النهاية اللأواء الشدة، وضيق المعيشة
(2)
أحزانهن وأتراحهن