المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

‌تحديد أرباح التجار

إعداد

الدكتور يوسف القرضاوي

بسم الله الرحمن الرحيم

تحرير موضوع البحث:

قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر.

وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المراد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان (التسعير) .

على أن التسعير لا يقتصر على التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع، ونحوهم..

كما أن بعض الباحثين يشتبه عليه موضوع الربح ونسبته، بموضوع (الغبن) ، وقد اشتهر عند بعض الفقهاء أن الغبن يتسامح فيه في حدود الثلث وما عدا ذلك يعتبر غبنًا فاحشًا، لا يجوز، أخذًا بالحديث المتفق عليه في شأن الوصية ((الثلث والثلث كثير)) .

ولكن الغبن شيء والربح شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فقد يربح التاجر 50 % أو 100 %، ولا يكون غابنًا للمشتري، لأن السلعة في السوق تساوي ذلك، أو أكثر، بل قد يكون مع الربح الكبير متساهلًا مع المشتري.

وقد يبيع للمشتري بربح قليل، بل بغير ربح، بل ربما مع خسارة تقل أو تكثر، وهو مع هذا قد غبن المشتري.

وهنا يلزم معرفة المراد من التجارة والربح

التجارة والربح:

التجارة هي: شراء السلع وبيعها بقصد الربح منها.

والتاجر هو: من يشتري السلعة ليبيعها بقصد الربح، وقد تسمى السلعة: البضاعة أو العرض، وتجمع على عروض.

ص: 2256

والربح هو: الفرق الزائد بين ثمن بيع السلعة وثمن شرائها مضافًا إليه المصاريف التجارية.

وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] .

وفي آية المداينة التي أمرت بكتابة الدين: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [سورة البقرة: الآية 282] .

كما عرض القرآن للتجارة المعنوية، كما في قوله تعالى:{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [سورة فاطر: الآية 29] .

وقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف: الآية 10] .

ووصف تعالى المنافقين بقوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [سورة البقرة: الآية 16] .

فدل هذا على أن الأصل في التجارة أن تربح، ومن لم تربح تجارته فلا بد أنه لم يحسن اختيار ما يتجر فيه، أو من يتعامل معه.

وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك)) وقال: حسن غريب (1) وهذا، لأن المقصود من التجارة الربح، فإذا دعا عليه المؤمنون ألا يربح الله تجارته، فقد ضاع مقصوده وذهب تعبه سدى.

وقد ذكر القرآن التجار المؤمنين بقوله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [سورة النور: الآية 37] .

وإذا كانت التجارة بيعًا وشراء، فقد ذكر القرآن البيع في رده على المرابين المتلاعبين:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] .

وذكر القرآن البيع في معرض الحث على السعي إلى الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [سورة الجمعة: الآية 9] .

وذكر القرآن فعل (يشري) بمعنى (يبيع)، وذلك في مجال المعنويات:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية 207] .

ومثله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ} [سورة النساء: الآية 74] .

(1) رواه في البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد، حديث (1321) .

ص: 2257

كما ورد فعل (شرى) في الماديات في قصة يوسف الصديق: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [سورة يوسف: الآية 20] .

وفي جملة آيات يطلق القرآن الكريم على التجارة وصفًا أو عنوانًا يوحي بالرضا عنها، وهو – الابتغاء من فضل الله – وذلك في مثل قوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة الجمعة: الآية 10] .

وقوله: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة المزمل: الآية 20] .

والقرآن لا يمنع ابتغاء هذا الفضل، ولو في موسم الحج، وقصد النسك والعبادة، فيقول سبحانه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة: الآية 198] .

كما نوه برحلتي قريش الشهيرتين بين اليمن والشام بقوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [سورة قريش: الآيات 1-3] .

ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال:

وقد روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) (1) .

وهذا الحديث إن كان فيه مقال، فقد روى الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعًا:((اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة)) (2) .

وصح نحو هذا مرسلًا، من حديث يوسف بن ماهك مرفوعًا، كما صح هذا المعنى موقوفًا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (3) .

وكل هذه الأحاديث تشير إلى أمر هام في ميدان الاقتصاد والتجارة، وهي أن الحد الأدنى الذي ينبغي أن تحققه التجارة الناجحة، هو: أن يفي الربح بما يجب في المال من زكاة، إلى جوار النفقة أيضا أي النفقة المطلوبة لرب المال ومن يعوله.

(1) رواه في أبواب الزكاة، حديث (641) ، ط. حمص. وفي سنده مقال.

(2)

قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: أخبرني سيدي وشيخي (يعني الحافظ العراقي) : أن إسناده صحيح (حـ 3/67) ، وحسنه الحافظ ابن حجر والسيوطي، كما في فيض القدير (1/108) .

(3)

انظر: كتابنا فقه الزكاة (حـ 1/122، 123) ط. وهبة بالقاهرة، السادسة عشرة.

ص: 2258

فإن المال كما ينقص ظاهرًا بإخراج الزكاة منه، بحيث تصبح المائة 97.5، فإنه لا شك ينقص بمقدار ما ينفق منه على حاجات مالكه.

وهذا يحتم على ذي المال القليل أن يربح أكثر، إما بإدارة المال مرات أكثر، أو بزيادة نسبة الربح، حتى يمكن لربحه أن يغطي نفقاته المتجددة، وإلا أكلت النفقة رأس ماله.

وهذا بخلاف ذي المال الكثير، فقد يكفيه القليل من الربح كل ما يحتاج إليه، وزيادة.

هل حددت النصوص نسبة للربح؟

ولكن، إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقى رأس المال سالمًا، فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟

الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الراشدية، وقبل ذلك للقرآن الكريم، لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خُمسًا أو عشرًا، مثلًا يتقيد بها ولا يزاد عليها.

ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة دائما.

فهناك فرق بين المال الذي يدور بسرعة بطبيعته كالأطعمة ونحوها، بحيث يدور في السنة عدة مرات، وبين المال البطيء الدوران الذي لا يدور في السنة إلا مرة، وقد تمضي أكثر من سنة، دون أن يتحرك، فالربح في الأول ينبغي أن يكون أقل من الربح في الأخير.

وهناك فرق بين من يبيع قليلًا ومن يبيع كثيرًا، وكذلك بين رأس المال القليل التافه ورأس المال الكثير الوافر، فإن ربح القليل في المال الكثير كثير.

وثمة فرق كذلك من يبيع حالًا، ومن يبيع بالأجل، فالمعروف أن البيع الحال المقبوض يكون الربح فيه أقل، على حين تكون نسبة الربح في البيع المؤجل أعلى، نظرًا لما فيه من احتمال إعسار المشتري أو مطله، أو تلف ماله بوجه من الوجوه، وبهذا يهلك مال البائع، فضلًا عن تعطيل ماله، هذه المدة، وقد أجاز جمهور العلماء الزيادة في الثمن إذا زيد في الأجل، إذا عرف ذلك من أول الأمر، وتحدد بوضوح وهو مقابل بيع السلم الذي تباع فيه السلعة بأقل من الثمن المعتاد.

وأيضًا يوجد فرق بين السلع الضرورية، أو الحاجية، التي يفتقر إليها جمهور الناس، وبخاصة الضعفاء والفقراء منهم، والسلع الكمالية التي لا يشتريها إلا الأثرياء.

ص: 2259

ففي الأولى ينبغي أن يقلل الربح رفقًا بذوي الضعف والحاجة، وفي الثانية يمكن أن يكون أكثر، إذ من الميسور الاستغناء عنها.

ولهذا شدد الشارع في احتكار الأقوات والأطعمة خاصة، أكثر من غيرها لاشتداد حاجة الناس – بل ضرورتهم – إليها، ولهذا أيضا حرم احتكارها بالإجماع، وجرى الربا فيها بالإجماع، ووجبت الزكاة فيها بالإجماع.

وكذلك ينبغي التفريق بين من يحصل على السلعة بسهولة، ومن يجهد ويتعب في جلبها من مصادرها، وكذلك بين من يبيع السلعة كما هي، ومن يدخل عليها تحويلات تكاد تجعلها سلعة أخرى.

كما أن ثمة فرقًا بين من اشترى برخص، كأن اشترى السلعة من منتجها بلا وسائط بسعر نازل، ومن اشتراها بعد تداول عدة وسائط لها، بسعر مرتفع، فشأن الأول أن يربح أكثر من الآخر.

والمقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًّا معينًا، أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العدل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقاته كلها

فالإسلام لا يفصل بين الاقتصاد والأخلاق، خلافًا لفلسفة النظام الرأسمالي، الذي يجعل (الربح) المادي الفردي، هو الهدف الأول، والمحرك الأكبر، للنشاط الاقتصادي، الذي لا يتقيد بكثير من القيود التي يقيده بها الإسلام فلا حرج في ابتغاء الربح عن طريق الربا أو الاحتكار، أو بيع المسكرات، أو غيرها مما يضر بالجماعة، ويدر الربح على الأفراد.

أما الإسلام فله قيود وضوابط دينية وأخلاقية وتنظيمية، يوجب على كل تاجر رعايتها والوقوف عندها، وإلا كان ربحه حرامًا أو مشوبًا بالحرام.

هذا، ولم أجد في كلام الفقهاء – في حدود ما أتيح لي الاطِّلاع عليه، ولم أبحث كل البحث – ما يدل على نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته.

إلا ما ذكره العلامة الزيلعي من علماء الحنفية في تعريف ما ذكره صاحب الهداية وغيره من شرعية التسعير إذا تعدى أصحاب الطعام تعديًّا فاحشًا.

فقد عرف الزيعلي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة (1) ولكنه لم يبين المراد بالقيمة: هل هي ثمن المثل في السوق في مثل هذا الوقت؟ حينئذٍ لا تلازم بين القيمة والربح أو قيمة ثمن الشراء الذي اشتريت به السلعة، وهنا يكون الربح محددًا بألا يزيد على مائة في المائة؟

(1) الزيلعي (6/28)، انظر: ابن عابدين (5/256) .

ص: 2260

وقد شاع لدى كثيرين أن في علماء المالكية من يحدد نسبة الربح بالثلث ولم أعثر على مصدر لهذه الدعوى وأخشى أن يكون ثمة خلط بين الربح والغبن، ولا تلازم بينهما كما ذكرت في أول البحث.

ولعل الإخوة الأجلاء من علماء المذهب المالكي، وهم متوافرون والحمد لله يفيدونني بما لديهم من علم في هذه المسألة.

لكنني – بتوفيق من الله تبارك وتعالى – وجدت في صحيح السنة المشرفة، وفي عمل الصحابة رضي الله عنهم، ما يدل على أن الربح إذا سلم من كل أسباب الحرام وملابساته، فهو جائز ومشروع، إلى حد يمكن لصاحب السلعة أن يربح فيها ضعف رأسماله، مائة في المائة (100 %) بل أضعاف رأس ماله، مئات في المائة، وهاكم الدليل.

مشروعية الربح إلى مائة (100 %) :

قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما يدل على مشروعية الربح إلى مائة في المائة (100 %) .

وهذا في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عروة بن الجعد – أو ابن أبي الجعد – البارقي رضي الله عنه.

روى الإمام أحمد في مسنده عن عروة، قال: عرض النبي صلى الله عليه وسلم جلب، فأعطاني دينار، وقال:((أي عروة، ائت الجلب فاشترِ لنا شاة)) فأتيت الجلب، فساومت صاحبه، فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما – أو قال: أقودهما – فلقيني رجل فساومني، فأبيعه شاة بدينار، فجئت بالدينار، وجئت بالشاة، فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم، وهذه شاتكم! قال:((وصنعت كيف؟!)) قال: فحدثته الحديث فقال: ((اللهمَّ بارك له في صفقة يمينه)) فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي. (1) .

ورواه الترمذي بنحوه (2) .

(1) مسند أحمد (ج 4 /376) ط المكتب الإسلامي.

(2)

رواه في البيوع – حديث (1258) .

ص: 2261

وروى الإمام البخاري في (كتاب المناقب) من صحيحه عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه! (1) .

ورواه أبو داود في كتاب البيوع من سننه – باب في المضارب يخالف – بنحو ما رواه البخاري (2)، وذكره المنذري في مختصر السنن (3) قال: وأخرجه الترمذي وابن ماجه (4) .

(1) انظر: الحديث (3642) فتح الباري (6/ 632) دار الفكر – بتصحيح وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والحديث من طريق شبيب بن غرقدة، قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة و (الحي) وإن جهل حالهم يمتنع تواطؤهم على الكذب، كما قال الحافظ، بالإضافة إلى ورود الحديث من الطريق الأخرى التي هي الشاهد لصحته، ورواها أحمد وغيره (الفتح: 6/635) ، فما قاله الإمام الخطابي في ترجيح مذهب الشافعي في عدم إجازة بيع الفضولي، ورده خبر عروة (إن الحي حدثوه) وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم بالحجة (معالم السنن: 5/49) لا وجه له بعد أن أخرج البخاري الحديث، فقد جاز القنطرة، فضلًا عن الطرق الأخرى.

(2)

انظر: الحديث (3384) ط. حمص _ إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس

(3)

الحديث (3244) من مختصر السنن مع معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنن لابن القيم بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، مصر.

(4)

أخرجه الترمذي في البيوع، حديث (1258) ، وابن ماجه في الصدقات، حديث (2402) ، باب الأمين يتجر فيه فيربح.

ص: 2262

وروى أبو داود أيضا عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له أن يبارك له في تجارته (1) .

ورواه الترمذي من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن حكيم بن حزام قال: وحبيب لم يسمع – عندي – من حكيم (2) .

مشروعية الربح أكثر من ذلك:

ومن الأدلة على مشروعية الربح بغير حد – إذا لم يأتِ عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما – ما صح أن الزبير بن العوام رضي الله عنه – وهو أحد المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته – اشترى أرض الغابة، وهي أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة بمائة وسبعين ألفًا (170000) فباعها ابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بألف ألف وستمائة ألف، أي مليون وستمائة ألف (160000) أي أنه باعها بأكثر من تسعة أضعافها!

ويحسن بي أن أسواق الحديث من الجامع الصحيح للإمام البخاري، كما رواه بسنده عن عبد الله بن الزبير، وقد ساقه في كتاب فرض الخمس – باب بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًّا (حديث 3129) .

قال عبد الله بن الزبير:

(لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شئنا؟ فقال: يا بني، بع مالنا فاقض ديني. وأوصى بالثلث وثلثه لبنيه – يعني عبد الله بن الزبير يقول ثلث الثلث -، فإن فضل مالنا فضل بعد قضاء الدين فثلثه لولدك، قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير – خبيب وعباد – وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات.

(1) رواه في البيوع، حديث (3386) ، عن طريق سفيان، عن أبي حصين، عن شيخ من أهل المدينة، وهو مجهول، فالحديث ضعيف بذلك.

(2)

الترمذي في البيوع، حديث (1257) .

ص: 2263

قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عنه،في شيء فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال والله ما وقعت في كربة من دينه، إلا قلت يا مولى الزبير اقضِ عنه دينه فيقضيه، فقتل الزبير رضي الله عنه ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين منها الغابة وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر. قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة. وما ولي إمارة قط، ولا جباية خراج، ولا شيئا إلا أن يكون في غزوة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، قال فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فقال يا ابن أخي: كم على أخي من الدين؟ فكتمه فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه! فقال له عبد الله: أرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه، فاستعينوا بي، قال وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال، من كان له على الزبير حق، فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا قال: قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: لك من ههنا إلى ههنا، قال: فباع منها فقضى دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف

) .

والحديث موقوف، ولكن عبد الله بن الزبير، وهو صاحبي، باع ما باعه من الغابة لعبد الله بن جعفر، وهو صحابي، ولمعاوية، وهو صحابي، وكثير من الصحابة أحياء متوافرون، إذا تم ذلك في عهد علي رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك أحد منهم، مع اشتهار الواقعة واتصالها بحقوق كثير من الصحابة وأبنائهم، فدل ذلك على إجماعهم على الجواز.

وأحب أن أنبه هنا على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها من العصر النبوي والعصر الراشدي، على جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلى ضعف رأس المال، أو إضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلى هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام ـ إن صح ـ وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها. ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع. ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس.

كما أن الواقعات المذكورة لم تقترن بأية محاولة من محاولات إغلاء السعر على الناس، أو أي لون من احتكار السلعة، أو غبن المشتري، أو استغلال غفلته أو حاجته أو التدليس عليه، أو ظلمه بأي وجه من الوجوه.

فهذا لو وقع، يجعل الربح الحاصل من الصفقة حرامًا. إذ كل ربح يأتي ثمره لتعامل يحظره الشرع، فإنه لا يطيب لكاسبه ولا يحل بحال من الأحوال. والمسلم لا يرضى أن يربح الدنيا، ويخسر الآخرة.

وهذا ما نحاول أن نبينه بإيجاز في الصفحة التالية، إن شاء الله.

ص: 2264

الربح المحرم

من المعلوم أن من ربح التجارة ما هو محرم بلا نزاع.

وذلك له جملة صور وأسباب

منها:

الربح بالاتجار في المحرمات:

ما جاء عن طريق الاتجار في أعيان محرمة شرعًا، مثل الاتجار في المسكرات، والمخدرات، وبيع الميتة والأصنام، ومنها: التماثيل المحرمة، وكل ما يضر بالناس، مثل الأغذية الفاسدة، والأشربة الملوثة، والمواد الضارة، والأدوية المحظورة، ونحوها

وقد جاء في عدد من الأحاديث النهي عن بيع الأعيان المحرمة، والانتفاع بثمنها.

فعن جابر: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام))

وفيه: ((قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه (أي أذابوه) ثم باعوه وأكلوا ثمنه)) [رواه الجماعة](1) .

وعن ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) [رواه أحمد وأبو داود](2) .

قال أبو البركات ابن تيمية: وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس.

وعن ابن عباس أيضا قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: إن جاءك يطلب ثمن الكلب، فاملأ كفه ترابا)) [رواه أحمد وأبو داود](3) .

(1) انظر: الحديث 2777، من منتقى الأخبار، لأبي البركات ابن تيمية، بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية. وانظر: إرواء الغليل للألباني، ص 1290، ط. المكتب الإسلامي، بيروت

(2)

انظر: الحديث 2778، من المنتقى السابق وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 5107.

(3)

انظر: الحديث 2781، من المنتقى المذكور، وانظر الحديث 3488، من سنن أبي داود، ط. حمص

ص: 2265

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حرمت التجارة في الخمر)) [رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه](1) .

وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها ،وبائعها ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) [رواه أبو داود وابن ماجه]، وزاد:((وآكل ثمنها)) (2) .

ذكره المجد ابن تيمية في (المنتقى) في باب تحريم بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، وكل بيع أعان على معصية (3) .

ومن هذه الأحاديث يتبين أن الربح الذي يتحقق من هذا اللون من التجارة في المحرمات، ربح خبيث محرم، قلت نسبته أو كثرت.

الربح عن طريق الغش والتدليس:

ومثل ذلك الربح عن طريق الغش والتدليس التجاري، بإخفاء عيوب السلعة، أو إظهارها بصورة خادعة، تغاير حقيقتها، تلبيسًا على المشتري وقد يدخل في ذلك الدعاية الإعلانية المبالغ فيها، التي تضلل المشتري عن واقع السلعة.

وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم، ممن غش، وقال:((من غشنا فليس منا)) [رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي](4) .

وعن عطية بن عامر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب، إلا بينه له)) [رواه أحمد وابن ماجه](5) .

وكان الصحابة والسلف رضي الله عنهم يرون إظهار عيوب السلعة من النصيحة التي بها يصح دين المسلم ويستقيم وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها، بصر المشتري بعيوبها، ثم خيره، وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك فقيل له: إنك إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع فقال: (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)(6) .

(1) رواه البخاري في المساجد والبيوع والتفسير، ومسلم في المساقاة حديث 1580، وأبو داود في البيوع: 759، وابن ماجه في التجارات: رقم 2167.

(2)

رواه أبو داود في الأشربة، حديث 3674، وابن ماجه في الأشربة أيضًا، حديث 3380، وأوله: (لعنت الخمر على عشرة أوجه

)

(3)

انظر المنتقى: 2/321.

(4)

انظر: المنتقى: 2/2937.

(5)

وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، انظر الحديث 2935 من المنتقى، تعليق المحقق عليه.

(6)

ذكر ذلك الغزالي في الإحياء: 2/76، وقوله: بايعنا رسول الله

إلخ، ثابت في الصحيحين.

ص: 2266

وكان واثلة بن الأسقع واقفًا، فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعى وراءَه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقبا قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لأحد يبيع بيعًا إلا أن يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه)) (1) .

قال الإمام الغزالي معقبًا على هذه الواقعة:

(فقد فهموا من النصح أن لا يرضى لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه، ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيادة المقامات، بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم، وهذا أمر يشق على أكثر الخلق فلذلك يختارون التخلي للعبادة والاعتزال عن الناس لأن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة ومجاهدة لا يقوم بها إلا الصديقون)(2) .

التدليس بإخفاء سعر الوقت:

ويدخل في ذلك، أو يقرب منه: التدليس في سعر الوقت، فالواجب – كما ذكر الغزالي – أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئًا، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان (3) .

(1) قال الحافظ العراقي: حديث واثلة

(2)

إحياء علوم الدين: ج 2، كتاب أدب الكسب والمعاش: ص 76، ط. دار المعرفة، بيروت.

(3)

حديث النهي عن تلقي الركبان: متفق عليه من حديث ابن عباس، وأبي هريرة.

ص: 2267

ونهى عن النجش (1) أما تلقي الركبان، فهو أن يستقبل الرفقة ويتلقى المتاع ويكذب في سعر البدل، فقد قال صلى الله عليه وسلم:((لا تتلقوا الركبان ومن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق)) (2) ، وهذا الشراء منعقد، ولكنه إن ظهر كذبه ثبت للبائع الخيار، وإن كان صادقًا ففي الخيار خلاف لتعارض عموم الخبر مع زوال التلبيس (3) .

ونهى أيضًا أن يبيع حاضر لباد (4) : وهو أن يقدم البدوي البلد ومعه قوت يريد أن يتسارع إلى بيعه، فيقول له الحضري: اتركه عندي حتى أغالي في ثمنه، وأنتظر ارتفاع سعره، وهذا في القوت محرم وفي سائر السلع خلاف، والأظهر تحريمه لعموم النهي، ولأنه تأخير للتضييق على الناس على الجملة، من غير فائدة للفضولي المضيق.

((ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش)) وهو أن يتقدم إلى البائع بين يدي الراغب المشتري، ويطلب السلعة بزيادة، وهو لا يريدها، وإنما يريد تحريك رغبة المشتري فيها، فهذا إن لم تجر مواطأة مع البائع، فهو فعل حرام من صاحبه، والبيع منعقد، وإن جرى مواطأة ففي ثبوت الخيار خلاف، والأولى إثبات الخيار لأنه تغرير بفعل يضاهي التغرير في المصراة وتلقي الركبان.

(1) حديث النهي عن النجش: متفق عليه من حديث ابن عمر، وأبي هريرة.

(2)

متفق عليه من حديث ابن عباس، وأبي هريرة، وأنس.

(3)

أقول: واتباع الخبر أولى.

(4)

رواه البخاري وغيره.

ص: 2268

قال الإمام الغزالي:

فهذه المناهي تدل على أنه لا يجوز أن يلبس على البائع والمشتري في سعر الوقت ويكتم منه أمرًا لو علمه لما أقدم على العقد، ففعل هذا من الغش الحرام المضاد للنصح الواجب، فقد حكي عن رجل من التابعين أنه كان بالبصرة وله غلام بالسوس يجهز إليه السكر، فكتب إليه غلامه، أن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة، فاشتر السكر، قال: فاشترى سكرًا كثيرًا، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا، فانصرف إلى منزله فأفكر ليلته وقال: ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا، وقال: بارك الله لك فيها، فقال: ومن أين صارت لي؟ فقال: إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت، فقال: رحمك الله قد أعلمتنى الآن، وقد طيبتها لك، قال: فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهرًا، وقال: ما نصحته فلعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد، وقال: عافاك الله خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي، فأخذ منه ثلاثين ألفًا!.

فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أنه ليس له أن يغتنم فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين، ومهما باع مرابحة بأن يقول: بعت بما قام على أو بما اشتريته، فعليه أن يصدق، ثم يجب عليه أن يخبر بما حدث بعد العقد من عيب أو نقصان، ولو اشترى إلى أجل وجب ذكره، ولو اشترى مسامحة من صديقه أو ولده يجب ذكره، لأن المعامل يعول على عادته في الاستقصاء أنه لا يترك النظر لنفسه، فإذا تركه بسبب من الأسباب فيجب إخباره، إذ الاعتماد فيه على أمانته (1) .

الربح عن طريق الغبن الفاحش:

فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه: لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه، فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان، ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلمًا، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار ولسنا نرى ذلك، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن.

ويروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان: ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة، فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان، ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه، في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين؟ فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس، فهو من باب الظلم وقد سبق (يعني أنه محرم) وفي الحديث: غبن المسترسل حرام (2) ، وكان الزبير بن عدي، يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحمًا بدرهم، فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم، وإن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت.

ثم ضرب الغزالي مثلًا للإحسان المحض في المعاملة، وهو أمر فوق العدل الواجب، بما روي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسينات بعشرة فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن ترد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي.

(1) إحياء علوم الدين: 2 / 72.

(2)

قال الحافظ العراقي: حديث (غبن المسترسل حرام) أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، والبيهقي من حديث جابر بسند جيد، وقال:(ربا بدل) حرام.

ص: 2269

قال الغزالي:

فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفًا أو واحدًا على ما جرت به العادة في ذلك المتاع في ذلك المكان، ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة.

كان علي رضي الله عنه، يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار، خذوا الحق تسلموًا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيرة.

قيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سبب يسارك؟ قال: ثلاث، وما رددت ربحًا قط، ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه، ولا بعت بنسيئة، ويقال: إنه باع ألف ناقة فما ربح إلا عقلها باع كل عقال بدرهم، فربح فيها ألفا وربح من نفقته عليها ليومه ألفًا.

الربح عن طريق الاحتكار:

ومن الربح الذي لا يحل لتاجر مسلم: ما جاء عن طريق الاحتكار الذي نهى عنه الشرع.

فقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يحتكر إلا خاطئ)) (1) .

والخاطئ هو الآثم، وقد وصف الله أكثر الطغاة المستكبرين بهذا الوصف حين قال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [سورة القصص: الآية 8] .

وروى أحمد والحاكم من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر الطعام أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه)) (2) .

وعن علي رضي الله عنه: من احتكر الطعام أربعين يومًا نسا قلبه!.

وعنه أيضا: أنه أحرق طعام محتكر بالنار (3) .

وقيل في قوله تعالى في شأن المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الحج: الآية 25] .

(1) رواه في كتاب المساقاة من صحيحه.

(2)

قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث (الإحياء) : رواه أحمد والحاكم بسند جيد وحسنه الحافظ في (الفتح) وقواه في (القول المسدد في اللب عن المسند) ردًّا على ابن الجوزي الذي ذكره في (الموضوعات) وعضده بجملة شواهد وأيده السيوطي ونقل ذلك عنه في اللآلئ المصنوعة: 2/147، 148

(3)

نقل ذلك الغزالي في الإحياء: 2/72، 73

ص: 2270

إنَّ الاحتكار من الظلم، وداخل تحته في الوعيد.

والاحتكار أن يحبس التاجر السلعة، ينتظر بها غلاء الأسعار.

وهو يدل على نزعة أنانية، لا يبالي صاحبها بما يقع من أذى وضرر على جمهور الناس، ما دام هو يجني من وراء ذلك أرباحًا طائلة.

ويتفاقم الضرر إذا كان التاجر هو البائع الوحيد السلعة، أو تواطأ مجموعة التجار الذين يبيعون السلعة على إخفائها وحبسها، حتى يشتد الطلب عليها، فيغلو سعرها، ويفرضوا فيها الثمن الذي يريدون وهذا هو شأن النظام الرأسمالي الذي يقوم على دعامتين رئيسيتين هما: الربا والاحتكار.

وللفقهاء هنا خلاف حول أمرين: الجنس الذي يحرم احتكاره من السلع ما هو؟.. والوقت الذي يحرم فيه الاحتكار.

فمن الفقهاء من قصر الاحتكار على (الأقوات) لا يتجاوزها قال الغزالي: أما ما ليس بقوت ولا هو معين على القوت، كالأدوية والعقاقير، والزعفران وأمثاله، فلا يتعدى النهي إليه، وإن كان مطعومًا، وأما ما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد سدًّا يغني عن القوت في بعض الأحوال، وإن كان لا يمكن المرادفة عليه، فهذا في محل النظر، فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت، وما يجري مجراه (1) .

ويفهم من كلام الغزالي هنا أنهم يعتبرون (القوت) محصورًا في الطعام الجاف مثل الخبز والأرز بلا سمن ودون أدام، حتى الجبن والزيت والسمسم ونحوها اعتبرت خارج دائرة القوت.

وهذا الذي ذكروه من القوت، لا يكتفي به الطب الحديث غذاء صحيحًا للإنسان، إذ لا بد أن تتوافر في الغذاء الجيد جملة عناصر ضرورية منها البروتينات والدهنيات والفيتامينات وإلا أصبح الآن عرضة لأمراض سوء التغذية، ومن هنا فإن كل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.

كما أن الأدوية في عصرنا أصبحت أمرًا ضروريا للناس، وكذلك الملبوسات ونحوها.

وحاجات الناس تتطور بتطور أنماط حياتهم، وكم من أمر تحسيني أو كمالي، أصبح حاجيًّا، وكم من حاجي غدا ضروريًّا.

والأرجح في رأيي تحريم الاحتكار لكل ما يحتاج إليه الناس، طعامًا كان أو دواء، أو لباسًا، أو أدوات مدرسية أو منزلية، أو مهنية، أو غير ذلك.

(1) الإحياء: 2/73، ط. دار المعرفة – بيروت.

ص: 2271

والدليل على ذلك عموم الحديث ((لا يحتكر إلا خاطئ)) أو ((من احتكر فهو خاطئ)) والوعيد عليه خاصة، لا ينفي ذلك العموم.

وعلة النهي أيضًا تؤكد ذلك، وهي الإضرار بعموم الناس، نتيجة حبس السلعة وحاجة الناس ليست إلى الطعام وحده، وخصوصًا في عصرنا، فهو في حاجة إلى أن يطعم ويشرب، ويلبس ويسكن، ويتعلم، ويتداوى، وينتقل، ويتواصل مع غيره بشتى الوسائل.

ومن هنا أرجح قول الإمام أبي يوسف في (الخراج) : كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار (1) .

وكل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.

وكذلك الخلاف في الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار، فمن العلماء من طرد النهي في جميع الأوقات، ولم يفرق بين وقت الضيق ووقت السعة أخذًا بعموم النهي، وعليه عمل الورعين من السلف.

قال الغزالي:

(ويحتمل أن يخصص بوقت قلة الطعام، وحاجة الناس إليه حتى يكون في تأخير بيعه ضر ما، فأما إذا اتسعت الأطعمة، وكثرت واستغنى الناس عنها، ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة، فانتظر صاحب الطعام ذلك، ولم ينتظر قحطًا، فليس في هذا إضرار،وإذا كان الزمان زمان قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها أضرار، فينبغي أن يقضي بتحريمه ويعول في نفي التحريم وإثباته على الضرار، فإنه مفهوم قطعًا من تخصيص الطعام، وإذا لم يكن ضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية، فإنه ينتظر مبادئ الضرار وهو ارتفاع الأسعار وانتظار مبادئ الضرار، محذور كانتظار عين الضرار، ولكنه دونه، وانتظار عين الضرار أيضًا هو دون الإضرار، فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم (2) .

وعن بعض السلف: أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد فوافق سعة في السعر فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا، إن كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله، فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافًا لا علي ولا لي (3) .

خاتمة:

وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية، وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب – دون تلاعب أو تدليس، أو تدخل مفتعل، لإغلاء الأسعار على عموم الناس

فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم – عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضى عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح التجار، بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالى، وهذا هو موضوع (التسعير) ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، وما شروطه، إلخ

وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص.

(1) الخراج، لأبي يوسف.

(2)

الإحياء: 2/73.

(3)

الإحياء: 2/73.

ص: 2272

الخلاصة

والخلاصة التي تخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي:

1-

أن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامى.

2-

أن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديها، بل وجد في السنة ما يدل على جواز بلوغ الربح إلى ضعف رأس المال أو أضعافه.

3-

أن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلى هدي السلف وأبعد عن الشبهات.

4-

أن الربح لا يحل للتاجر المسلم، إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام فأما إذا اشتملت على محرم كالاتِّجار في الأعيان المحرمة، أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوهما فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا.

5-

أن القول بأن للتجار أن يربحوا بالحلال ما شاؤوا، في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها.

الدكتور يوسف القرضاوي.

ص: 2273