المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي

إعداد

الدكتور عجيل جاسم النشيمي

الأستاذ المساعد في كلية الشريعة

والدراسات الإسلامية – جامعة الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) .

أما بعد (4) :

فلقد تعددت المشكلات التي تصيب اقتصاد الدول مما يؤثر تأثيرا بليغا على أحوالها وعلاقاتها واستقرارها، ويعود تأثيره أيضا على أوضاع أفراد المجتمع في تعاملهم واستقرار أحوالهم وشغل ذممهم.

وإن من أهم هذه المشكلات الاقتصادية المعاصرة اليوم مشكلة انخفاض القوة الشرائية للنقد أو ما يسمى بمشكلة التضخم. حيث يرخص النقد وتغلو السلع فتتأثر التزامات الدولة داخليا وخارجيا ويجر ذلك إلى مشكلات عديدة.

كما يتأثر أفراد المجتمع من خلال تعاملهم بالإقراض، أو البيع بالأجل.

فقد يحل أجل القرض أو البيع بالأجل، وقد تغيرت قيمة العملة من حيث قيمتها وقوتها الحقيقية بحيث لا يكون المدفوع عددا عند الأجل مكافئا ومساويا للمدفوع عند بدء التعامل، مما قد يلحق غبنا كبيرا على أحد الأطراف دون تقصير من جانبه.

فقد تقوم الدولة لأسباب اقتصادية متعددة بتخفيض قيمة علمتها بالنسبة للذهب الذي ينبغي أن يكون غطاء ثابتا لها، أو بالنسبة لقيمة العملات الأخرى، بل قد تقوم الدولة بإلغاء عملتها أو استبدالها بغيرها.

وإن مما لا شك فيه أن مشكلة تغير قيمة العملات تتربع اليوم على رأس المشكلات الاقتصادية على المستوى المحلي للدول وعلى المستوى العالمي، خصوصا بعد أن ارتبطت عملات الدول الصغيرة والنامية بعملات الدول الكبرى المتقدمة، وأصبحت هذه الدول متحكمة بها تحكما اقتصاديا تاما من خلال قوة عملتها الرئيسية تعليق: وأقوى هذه العملات وأكثرها تأثيرا في عالم الاقتصاد اليوم على المستوى العالمي العملة الأمريكية (الدولار) ،

(1) سورة آل عمران: الآية 102

(2)

سورة النساء: الآية 1

(3)

سورة الأحزاب: الآية 70 – 71

(4)

هذه خطبة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يعلمها أصحابه رضوان الله عليهم في كل شأن

ص: 1185

وإن نظرة سريعة للأرقام ترينا بجلاء تام خطورة الوضع الاقتصادي القائم، وحجم المشكلة الاقتصادية العالمية التي تقف أمريكا وراءها بصفة مباشرة؛ فللحفاظ على الاقتصاد القومي الأمريكي، ولتشجيع الصادرات وتخفيض العجز الهائل في الميزان التجاري كان أمام أمريكا حلان: أما أن تزيد معدلات الفائدة على الدولار فتحمي الدولار، وأما أن تترك الدولار ينخفض، وقد اختارت أمريكا الحل الثاني. يقول وزير الخزانة الأمريكي جيمس بيكر: " إن على الولايات المتحدة أن تختار بين حماية الدولار بزيادة معدلات الفائدة، وبين حماية الاقتصادي القومية بالحفاظ على انخفاض المعدلات وترك الدولار ينزلق، وأوضح وزير الخزانة الأمريكي: أن واشنطن اختارت ترك الدولار ينزلق وهي تعتمد على التعاون الدولي للحفاظ عليه من الانحدار كثيرا.

وهذه بعض الأرقام التي ترينا بوضوح حجم مشكلة تغير العملة خصوصا إذا كانت عملة رئيسية عالمية كالدولار، فإن انخفاض الدولار في الآونة الأخيرة أصاب الاقتصادي العالمي بهزة اقتصادية عنيفة لم يشهد لها التاريخ مثيلا في حجمها وآثارها العالمية.

ففي يوم الاثنين 19/10/1987 م خسرت أسواق الأوراق المالية في هذا اليوم فقط 500 بليون دولار، وبلغ حجم الأسهم المتداولة 600 مليون سهم.

وهبط سعر الأوراق المالية يوم الثلاثاء 20/10/1987 م بمقدار 12.2 % في بورصة لندن و15 % في بورصة طوكيو، و6 % في بورصة باريس.

وفي 3/11/1987 م شهد الدولار مزيدا من الانخفاض وبلغ في الولايات المتحدة أدنى مستوى له منذ 40 عاما مقابل الين الياباني. وانخفض سعر الدولار في الشرق الأقصى إلى 136.53. وفي 7/11/1987 م حطم الدولار حاجز الـ 136 ينا في سوق طوكيو مسجلا سعرا منخفضا قياسيا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

وانخفض الدولار مقابل المارك الألماني الغربي إلى 1.7097 ماركا بتاريخ

3/11/1987 م وهبط في 7/11/ 1987م إلى 1.70 ماركا، وهو أدنى حد منذ إدخال تحديد التسعيرات الرسمي للعملات في عام 1953م.

ص: 1186

وحدد البنك المركزي الألماني الغربي السعر الرسمي للدولار عند 1.7050 ماركا ألمانيا غربيا، وهو أدنى سعر للدولار منذ بدء التعامل بالمارك الألماني الغربي قبل 39 عاما، وهبط سعر الدولار في مواجهة المارك الغربي وبلغ 1.7055 وهو أدنى سعر رسمي سجله الدولار مقابل المارك عندما بلغ 1.7067 في عام 1980م في ذروة ركود اقتصادي أمريكي.

كما هبط سعر الدولار إلى نحو 1.41 فرنكا سويسريا وإلى 5.80 فرنكا فرنسيا وبلغ سعر الجنيه الإسترليني 1.7420 دولارا.

وفي 26/10/1987 م بلغت خسائر بورصة هونغ كونغ وحدها في هذا اليوم 50 مليار دولار أمريكي أما خسائر الأسهم في هذا اليوم فبلغت كالتالي:

لندن % 7 وطوكيو 5 % وهونغ كونغ 35 % ومدريد 5.4 % وباريس 6 % وأمستردام 4.2 %.

وفي 10/11/ 1987م في لندن منيت أسعار الأسهم بتدهور جديد لدى افتتاح عمليات التبادل في بورصة لندن وذلك تبعا للخسائر الجديدة التي لحقت بأسعار الأسهم في بورصة وول ستريت بنيويورك أمس الأول وبورصات لندن والشرق الأقصى صباح أمس.

وامتنع المتعاملون بالأسهم عن القيام بأي عمليات تبادل بانتظار ورود أنباء إيجابية عن عزم حكومة الولايات المتحدة على إصلاح عجز ميزانها التجاري، والذي لا يمكن بدونه إزالة الركود الذي يسيطر على الأسواق المالية والعالمية.

وهبط مؤشر صحيفة فايننشال تايمز لأسهم المؤسسات والشركات الثلاثين الأكثر نشاطا لدى افتتاح عمليات التبادل في بورصة لندن أمس بمعدل 35.7 نقطة حيث انتهي عند حدود 1529.5 نقطة.

ص: 1187

وشهدت أسعار الأسهم هبوطا حادا لدى إغلاق بورصة وول ستريت.

وتراجع مؤشر داوجونز بمعدل 54.54 نقطة حيث انتهي عند حدود 1904.51 نقطة.

* وفي طوكيو:

هبطت أسعار الأسهم في بورصة كوكيو تبعا لتدهور سعر الدولار الأمريكي حيث تراجع مؤشر نيكي داو جونز بمعدل 731.91 ليستقر عند حدود 21686.46 نقطة. ولحقت بورصة سيدني بكل من بورصتي لندن ونيويورك على طريق الخسائر حيث هبط مؤشر أول أورديناريز بمعدل 48.6 نقطة ليستقر عند حدود 203.3 نقطة.

وتأثرت بورصة هونغ كونغ بالضعف الذي طرأ على البورصات الأخرى حيث هبط مؤشر هانغ سينت بمعدل 96.07 نقطة لينتهي عند حدود 2043.24 نقطة وفي السوق الفرنسية انخفض مؤشر بورصة باريس إلى حوالي 4.5 في المائة مقارنة مع نهاية الأسبوع.

وفي 11 / 11/1987 م أصيبت أسعار الأسهم في طوكيو بانتكاسة جديدة إثر انحدار أسعار الدولار الأمريكي والسندات الحكومية اليابانية لدى بدء التعامل في سوق الأوراق المالية الياباني، وإن أسعار الأسهم انخفضت بشكل حاد، مما أثر على المؤشرات التجارية خاصة مؤشر نيكاي الذي يقيس أداء 225 من الشركات الصناعية الرئيسية.

وإن مؤشر نيكاي انخفض 809.14 نقطة ليستقر عند 20877.32 نقطة مقابل 731.19 نقطة أمس الأول.

وإن أسعار السندات الحكومية اليابانية فقدت عدة نقاط من قيمتها في تبادل محموم بسبب الارتفاع الملحوظ في أسعار العملة اليابانية، وانخفاض أسعار الأسهم في طوكيو ونيويورك. كما أصيبت الأسواق العالمية الأخرى بمزيد من الانخفاضات المتدنية

ومن خلال هذه الأرقام يتضح مدى الاضطرابات في الاقتصاد العالمي، وكان يخشى أن يعقب هذا التضخم العالمي كساد عالمي كما حدث في عام 1929 م حيث عانت الدول الأوروبية من ارتفاع الأسعار منذ بداية الحرب العالمية الأولى 1914–1918م وإلى أوائل العشرينات، حيث ارتفعت الأسعار في ألمانيا في 1923م ملايين المرات بالنسبة للمارك عما كان قبل سنوات قلائل، ثم أصاب الكساد العالمي معظم الدول الصناعية في صيف 1929م وأحدث انخفاضا كبيرا للغاية في مستويات الأسعار في هذه الدول (1) .

(1) جريدة " القبس الكويتية، في 27 / 10 / 1987 م، العدد 5552؛ و4/11/1987م، العدد 5560؛ و7/11/1987م، العدد 5562؛ و9/11/1987م، العدد 5564؛ و13 / 11 / 1987 م، العدد 5568، وجريدة " الوطن " الكويتية، في 11/1/1987م، العدد 4570 و12/11/1987م، العدد 4571

ص: 1188

أما عن تلمس وجهة الفقه الإسلامي في هذه المعضلة الاقتصادية المزمنة، وهي تغير قيمة العملات وما يترتب على ذلك من آثار، فإن الشريعة الإسلامية لما كانت شريعة تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم، وعلائقهم بالدولة، وتنظم علاقة الدولة بغيرها من جميع النواحي كان طبيعيا أن يحظى الجانب الاقتصادي بأهمية خاصة في التشريع الإسلامي لماله من خطورة فردية ومحلية ودولية.

وقد تضمنت الشريعة الإسلامية نظاما اقتصاديا متكاملا متميزا، له نظريته وأسسه وموازينه، وله علاجاته كل ما قد ينشأ من مشكلات اقتصادية في المجتمع والدولة الإسلامية.

إلا أن الشريعة الإسلامية ليست مسئولة عن حل مشكلات نشأت من طبيعة النظم الاقتصادية الأخرى؛ لأن لكل نظام أسلوبه في حل إشكالاته التي قد تنشأ من خلال التعامل، وهي التي قد ينجح هو في حلها، في الوقت الذي قد يعجز نظام آخر عن حلها، ولو كان أكثر تطورا وشمولا.

إن الأحكام الفقهية في الشريعة الإسلامية أحكام لواقعات تنشأ في المجتمع الإسلامي، وحينئذ لا بد لكل واقعة من حكم، ولا نعرف واقعة واحدة في تاريخ الدولة الإسلامية لم يجد الفقهاء لها حكما شرعيا.

ص: 1189

وهذا هو الذي يفسر لنا صعوبة الحل لمثل مشكلة الأوراق النقدية وتغير قيمتها فهي مشكلة لم تنشأ في ظل الشريعة الإسلامية، وما كان لها أن تنشأ لمصادمتها ابتداء لأسس النظام الاقتصادي الإسلامي الذي لا يسمح تطبيقه السليم بظهور مثل هذه المشكلة بالحجم والواقع المعاصر.

ولذلك فإن النظر في مثل هذه المشكلات الاقتصادية المعاصرة لا يستلزم بالحتم حلا، فقد يكون في التوقع عند إبداء الحكم الشرعي مندوحة، إذ ترتب عليه لي عنق الآية أو الحديث، أو تحميل اللفظ ما لا يحتمل، أو التحايل على نصوصه وقواعده. وهذا لا يمنع من إبداء الرأي في هذه المعضلة من منظور إسلامي، وهذا ما نحاول أن نطرحه من خلال هذا البحث بالرجوع إلى وقائع الأحداث المشابهة في التاريخ الإسلامي وآراء الفقهاء واجتهاداتهم وما يمكن أن يستنبط من تخريجات لموضوع تغير الأوراق النقدية. ويبقى كل ما يذكر رأيا لا حكما في المسألة موضوع البحث.

والله تعالى أعلم.

ص: 1190

المبحث الأول

تغير قيمة العملة وواقعاتها

تمهيد

سبق أن أشرنا في مقدمة هذا المبحث إلى خطورة موضوع تغير العملة بما له من أثر على الفرد والجماعة والدول، وهو بلا شك قضية العصر الاقتصادية، والتي انفجرت في هذه السنوات الأخيرة إثر تراكمات متوالية من المشكلات الاقتصادية المحلية والعالمية، ولعلها بدأت منذ أن ارتضت الدول واصطلحت على أن تتعامل بالأوراق النقدية من غير اشتراط أن يكون لها غطاء ذهبي أو فضي يوازن قيمتها ويحفظ اضطرابها الأمر الذي شجع كثيرا من الدول تحت ظروف اقتصادية سواء في حال السلم عامة، أو الحرب خاصة، أن تسرف في طبع هذه الأوراق وتغرق بها الأسواق، طمعا في تعديل اقتصادها وإرضاء المشاعر، أو تخديرها، أو كبت بوادر ومظاهر الثورات الاجتماعية، متجاهلة خطورة هذا التوسع في مردوده الاقتصادي الخطير على الأسعار والقوة الشرائية للعملة فيكون سببا في التضخم وهو ارتفاع الأسعار بسبب زيادة الإنفاق النقدي بنسبة أكبر من عرض السلع، ولا شك أن هذا يسبب مشاكل اقتصادية متشعبة المسالك صعبة الحل، وقد تتكرر هذه القضية على فترات تاريخية متقاربة فيقل الخطر أحيانا، ويمكن تلافي آثاره، ويعظم أحيانا فيصعب تداركه وتلافي آثاره السيئة على الفرد والجماعة والدولة، وكم من دول استبيحت أراضيها بأسباب اقتصادية، وكم من دول انهار بنيانها بعد قوة بسبب سوء تصريف اقتصاديا.

وكان الربا وما زال هو مرجع هذه الإشكالات، ومصدر المحن الاقتصادية الخانقة، وما التضخم أو الكساد أو غيرها، إلا بعض مظاهر الربا في واقع الأمر، وحقيقته بشكل مباشر أو غير مباشر، وإن موضوع تغير العملة يقع ضمن أدق وأخطر أبواب الفقه الإسلامي، فيقع ضمن أبواب القرض والبيوع والربا والصرف وغيرها، والصرف خاصة هو من أقرب الأبواب إلى الربا، وأمر يقع بين الصرف والربا لهو خطير جدا، وإن ممارسة الصرف وتشعيب قضاياه يحتاج إلى نوع حذر شديد، فلا توسع أبوابه حتى لا يكون ذريعة إلى الربا، ولا تضيق عن حدها فيدخل على الناس العنت في معايشهم وتعكر أحوالهم، وذاك أو هذا مما لا يرتضيه الشرع الحنيف. وينبغي أن تراعى في ذلك قواعد الصرف كما تراعى قواعد الأبواب الأخرى في الفقه حتى يسلم الحكم من شائبة الغرر أو الربا أو غير ذلك.

ص: 1191

والصرف خاصة: هو بيع الذهب أو الفضة بمثله، أو بيع أحدهما بالأخر، وبالإضافة إلى أركان البيع يشترط في الصرف ثلاثة شروط أخرى:

أولهما: أن يكون البدلان متساويين، سواء كانا مضروبين أو غير مضروبين فلا يصح بيع دينار بدينار مع زيادة في أحدهما، ولا سوار بوزن، وسوار بوزن أكبر.

ثانيها: الحلول: فلا يصح بيع الذهب أو الفضة مع تأجيل قبضهما أو أحدهما.

ثالثها: التقابض في المجلس لما جعل ثمنا ومثمنا، فإذا افترقا قبل القبض بطل العقد. فإذا كان البيع لأحد الجنسين بالآخر، فيشترط حينئذ شرطان، الحلول، والتقابض في المجلس.

هذا بالنسبة للذهب والفضة، وكذا بقية الأصناف الربوية عند فقهاء المذاهب سوى الحنفية فإنهم لم يشترطوا التقابض في غير الذهب والفضة.

وهذا القدر في الصرف متفق عليه بين المذاهب المعتبرة، أما محل الخلاف فإنما هو في الأثمان من غير الذهب والفضة، كالفلوس والذهب والفضة التي غلب عليها الغش، وهذا ما ستنفصل القول فيه من حيث تغير القيمة فيه بالإضافة إلى تغير قيمة الذهب والفضة في الدراهم والدنانير.

وسنتناول الكلام عن هذه القضية ببيان واقعات المسألة في العصور الإسلامية المختلفة، ودور الدولة في علاج هذه القضية، ثم عرض صور تغير العملة والمذاهب فيه ثم إعمال النظر، واختيار ما يغلب على الظن رجحانه.

وإن ما نتوصل إليه من الترجيح هو رأي قاصر، لا نلزم به أنفسنا بمجتهدين، ولا نفتي به أحدا ما فإنه لا يسعنا القول في مثل القول في مثل هذه القضية العامة، وما نقدمه لا يعدو كونه رأيا بدا، وإنما يسع جمهرة من فقهائنا الكرام، أن يتداولوا الموضوع ويشبعوه بحثا بما حباهم الله من علم رصين، سياجه ولحمته وسداه تقوى الله تبارك وتعالى، ثم يعلنوا ما ترجح لديهم من حكم الشرع في هذه القضية سواء في الجواز أو المنع، أو الجواز مع وضع الشروط والضوابط، ويسعهم في كل الأحوال التوقف إن رأوا فيه المصلحة. والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 1192

واقعات مسألة تغير العملة:

إن وقائع الأحداث التي تتكرر وتتجدد أو تستجد تحتاج إلى أحكام فقهية تضفي عليها الوصف الشرعي، لقد تكفل الشرع الحنيف بإعطاء كل واقعة في المجتمع الإسلامي حكما شرعيا من التحريم، أو الكراهة، أو الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، وهذه الأحكام أما مستندها الأدلة المتفق عليها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو الأدلة المختلف فيها، من الاستحسان أو المصالح المرسلة أو قول الصحابي أو عمل أهل المدينة وما إلى ذلك من الأدلة المختلف فيها، أو بالرجوع إلى القواعد الفقهية والأصولية المعتبرة من قواعد الضرورات وقاعدة التيسير وما إلى ذلك.

وفي ظل هذا الرصيد الوافر من الأدلة الحاكمة لم يواجه فقهاؤنا مسألة عابرة، أو معضلة شائكة إلا وكان لها وصف شرعي ضابط من الحظر أو الإباحة.

وإن مسألة تغير العملة كانت إحدى واقعات المسائل التي طرأت على واقع الفقه الإسلامي في عصور متفرقة، وكانت هذه الواقعات تصغر أحيانا، وتكبر في أحيان أخرى، ويلحظ أن هذا مرتبط بمدى تطبيق الأحكام الشرعية في واقع المجتمع المسلم، ومدى التزامه بقواعد الأحكام، خصوصا في مسائل البيوع الجائز منها والمنهي عنه، فكلما كان التطبيق شاملا تاما ندر أن تقع هذه الواقعات، وإن وقعت فحالات فردية، لا تشكل ظاهرة اقتصادية تترك آثارا عامة على المجتمع المسلم، وكلما كان التطبيق الشامل متخلخلا، ومتفاوتا بين فترة وأخرى، فإن ضغوطات التصورات وواقع المجتمعات غير الإسلامية التي قد يكون له تفوق اقتصادي، يبدأ ثقله بالضغط لإيجاد واقع يتجاوب وصفة واقع هذه المجتمعات.

ولذا فقد ظهرت هذه المشكلة باعتبارها قضية اقتصادية اجتماعية في العصور المتأخرة للدولة الإسلامية. وأما من قبل فلم تعد كونها فردية جزئية، وإن توسعت فمحلية قطرية ويكون حلها حينئذ تبعا لها فرديا أو محليا.

ص: 1193

وبطريق التتبع يمكن أن نسجل هنا بعض الوقائع التي حدثت في التاريخ الإسلامي، بقصد أن نقف على طريق نظر الفقهاء لهذه القضية، وصفة الحكم الذي انقدح في أذهانهم فعبروا عنه.

أما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فما نكاد نرى لموضوع تغير العملة حدثا يطابق صورته المعروفة اليوم، وإنما نجد بعض الوقائع التي هي من باب الصرف الجائز وهو اقتضاء أحد النقدين من الآخر، فيكون صرفا بعين في الذمة في قول أكثر أهل العلم، فقد روى أبو داود، والأثرم في سننهما عن ابن عمر رضي الله عنهما،، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((:لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء ")) .

ص: 1194

قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر إلا أصحاب الرأي: أنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي، قال: لأنه بيع في الحال، فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضا، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن بكر بن عبد الله المزني ومسروقا العجلي سألاه عن كرى – أي أجير – لهما له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أعطوه بسعر السوق)(1) .

ووجه اتصال هذا بموضوع تغير العملة هو: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأخذ بدل الدنانير دراهم أو بدل الدراهم دنانير، وقد يكون حالا أو مؤجلا، وفي الأجل قد يتغير سعر الصرف أي قيمة ما دفع أولا يوم البيع عن يوم الأداء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بسعر يوم الأداء وبشرط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((وبينكما شيء)) أي غير مقبوض والواو للحال. قال الخطابي: "واشترط أن لا يتفرقا وبينهما شيء، لأن اقتضاء الدراهم عن الدنانير صرف، وعقد الصرف لا يصح إلا بالتقابض"(2) .

ولا يخفي أن نسبة التغير بين الدراهم والدنانير يومها كان طفيفا لا يصل حد الغبن لتعاملهم بالذهب والفضة عينا، وقيمتهما تكاد تكون ثابتة على مر العصور التي كان الذهب والفضة فيها عملة الناس المتداولة.

(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق آبادي مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية: 9/203، والمغني: 4/38، وكشاف القناع: 3/266، الطبعة الثانية، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1388هـ – 1969 م

(2)

معالم السنن، للخطابي: 5 / 6

ص: 1195

وأما في العهود اللاحقة لعهد النبوة، فقد تكرر السؤال عنها خصوصا في عهود الأئمة الأربعة، والمدارس الفقهية في الحجاز والعراق ومصر والشام، مما يدل على ظهور هذه المسألة بين الفينة والأخرى، ويظهر أن هذه المسألة قد ازداد وقوعها عندما شاع استخدام الفلوس والتعامل بالدراهم والدنانير المغشوشة. وفي كل هذه العهود لا تكاد هذه المسألة تعدو كونها مسألة واقعات فردية، وبتغير في السعر طفيف إلا أن الفترات التي شكلت فيها هذه المسألة قضية أو مشكلة ظاهرة في المجتمع الإسلامي فهي في فترات متأخرة، وفي ذات الوقت في ظروف اضطراب سياسي كالحروب المسببة لإشكالات اقتصادية حادة قد تتفاوت فيها الأسعار وقد تقل القوة الشرائية وقد تضعف لارتباط الأسعار بالعرض والطلب. ولعل أول تغير للعملة كان سنة أربع وسبعين في عهد عبد الملك بن مروان حين أمر بضرب النقود في العراق، وقد كانت الدنانير ترد رومية والدراهم كسروية، فغيرها إلى عملة إسلامية (1) .

(1) فتوح البلدان للبلاذري: ص 452

ص: 1196

وقد ظهرت مشكلة تغير العملة باعتبارها مشكلة اقتصادية عامة في فترات عديدة من التاريخ الإسلامية ففي القرن الخامس الهجري يذكر الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي 914 هـ: أنه قد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر يوسف بن عبد الله القرطبي 368 (هـ –463 هـ) السكة الأخيرة. ثم قال: وأفتى أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (403 هـ – 474 هـ) أنه لا يلزم إلا السكة الجارية حين العقد (1) .

وقال الونشريسي أيضا: (سئل ابن الحاج (وهو محمد بن أحمد التجيبي 458 هـ – 529 هـ) عمن عليه دراهم، فقطعت السكة، فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا: أن ابن جابر (2)(وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن جابر) فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري في الأحكام، ومحمد بن عتاب (وهو أبو عبد الله القرطبي) حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن جهور (محمد بن جهور 391هـ – 462 هـ) بدخول ابن عباد (محمد بن عباد بن محمد اللخمي 431هـ – 488هـ) سكة أخرى) (3) .

(1) المعيار المعرب والجامع المغرب، للإمام أحمد بن يحيى الونشريسي: 6/164، طبع دار الغرب الإسلامي 1401هـ – 1981، بيروت؛ وحاشية محمد بن أحمد الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني، لمتن خليل: 5 /119، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية بولاق 1306 هـ بمصر.

(2)

وقد وقع في المعيار " أبا جابر " وهو خطأ لعله من الطابع

(3)

وقد وقع في المعيار "أبا جابر " وهو خطأ لعله من الطابع: 6 / 163

ص: 1197

وفي القرن السابع الهجري، قال الذهبي في تاريخه: في سنة اثنين وثلاثين وستمائة أمر الخليفة المستنصر بضرب الدراهم الفضة يتعامل بها بدلا عن قراضة الذهب فجلس الوزير أحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفرشت الانطاع، وأفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين بمعاملتكم بهذه الدراهم عوضا عن قراضة الذهب، رفقا بكم وإنقاذا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوية، فأعلنوا بالدعاء، ثم أديرت بالعراق، وسعرت كل عشرة بدينار، فقال الموفق أبو المعالي بن أبي الحديد الشاعر في ذلك:

لا عدمنا جميل رأيك فينا

أنت باعدتنا عن التطفيف

ورسمت اللجين حتى ألفناه

وما كان قبل بالمألوف

ليس للجمع كان منعك للصر

ف ولكن للعدل والتعريف

(1)

.

ويبدو أنها كانت بلوى عامة في عهد الإمام ابن تيمية 661 هـ – 728 هـ، وهو عهد كثير القلاقل والاضطرابات، وإجابته وتفصيله في الموضوع يوحي بعموم القضية. كما سيتبينه بعض النصوص لاحقا.

(1) الحاوي للفتاوى: 1/ 103

ص: 1198

وفي القرن الثامن الهجري يقول ابن كثير في تاريخه: في سنة ست وخمسين وسبعمائة: رسم السلطان الملك الناصر حسن بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه، وجعل كل أربعة وعرشين فلسا بدرهم، وكان قبل ذلك الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم.

ويتحدث ابن حجر عن أحداث سنة ست وسبعين وسبعمائة عن الغلاء وتغير أسعار السلع وما تبع ذلك فيقول: لما وقع الفَنَاء في هذه السنة بلغ ثمن الفروج خمسة وأربعين والفرخة خمسين، والرمانة عشرة، والبطيخة سبعين، وينقل السيوطي عن ابن حجر أيضا: بأنه قد بيع الأردب من القمح بمائة وخمسة وعشرين درهما نقرة، وقيمتها إذ ذاك ست مثاقيل ذهب وربع، قال السيوطي: وهذا على أن كل عشرين درهما مثقال، وقال ابن حجر أيضا: في هذه السنة، غلا البيض بدمشق، فبيعت الحبة الواحدة بثلث درهم من حساب ستين بدينار، وهذا أيضا على أن كل عشرين درهما مثقال. ثم ارتفع الفناء وتراجع السعر إلى أن بيع أردب القمح سعر سبعين، وفي آخر هذه السنة إلى عشرين (1) .

(1) إنباء الغمر بأبناء العمر، لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني: 1/93، الطبعة الأولى، طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية 1378 هـ – 1967 م الهند، والحاوي للفتاوى: 1 / 102

ص: 1199

وفي القرن التاسع الهجري في عهد الإمام جلال الدين البلقيني (وهو ابن رسلان البلقيني 791هـ – 868 هـ) يقول السيوطي في رسالته التي خصصها لموضوع تغير العملة والتي سماها " قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ": وتكلم في ذلك قاضي القضاة جلال الدين البلقيني: (نقلت من خط شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين البلقيني رحمه الله قال في فوائد الأخ شيخ الإسلام جلال الدين وتحريره ما قال: اتفق في سنة إحدى وعشرين وثمنمائة عزة الفلوس بمصر وعلى الناس ديون في مصر من الفلوس وكان سعر الفضة قبل عزة الفلوس كل درهم بثمانية دراهم من الفلوس ثم صار بتسعة، وكان الدينار الإفلوري بمائتين وستين درهما من الفلوس، والهرجة بمائتين وثمانين، والناصري بمائتين وعشرة وكان القنطار المصري ستمائة درهم فعزت الفلوس ونودي على الدرهم بسبعة دراهم، وعلى الدينار بناقص خمسين فوقع السؤال: عمن لم يجد فلوسا، وقد طلب منه صاحب دينه الفلوس فلم يجدها، فقال: أعطني عوضا عنها ذهبا أو فضة بسعر يوم المطالبة ما الذي يجب عليه؟)(1) .

(1) الحاوي للفتاوى 1 / 95 و 96

ص: 1200

وفي ظل الدولة العثمانية وخصوصا في أواخر عهدها تغيرت قيمة العملة أكثر من مرة، وقد كان النقد المتداول في جميع البلدان العربية في آسيا تقريبيا، يخضع قبل الحرب العالمية الأولى إلى الحكم العثماني، وبالتالي كان النقد المتداول فيها هو النقد العثماني بالدرجة الأولى. فكانت في أواخر القرن التاسع عشر الليرة العثمانية الذهبية وحدة البلاد النقدية، وذلك بعد أن خرجت الإمبراطورية العثمانية عام 1888م عن قاعدة المعدنين واتبعت قاعدة الذهب. وكانت النقود التركية الفضية والنحاسية تستخدم في المدفوعات الصغيرة، أما المدفوعات الكبيرة فكانت تتم بالليرات الذهبية العثمانية، والليرات الذهبية الإنكليزية والفرنسية أما في أطراف الإمبراطورية فكان التداول في أنواع أخرى من النقود.

ص: 1201

وفي أثناء الحرب العالمية الأولى أعلنت تركيا التداول الإجباري بالنقد الورقي الذي كان قد بدأ إصداره عام 1862م. ولم يلق النقد الورقي التركي في يوم من الأيام قبولا من الأهالي خصوصا في الأرياف والمناطق النائية، فبقى التعامل به محدودا جدا رغم أنه كان قابلا بادئ الأمر للتحويل إلى ذهب، وقد خفت ثقة الناس في النقد الورقي أكثر خلال الحرب، وذلك نظرا للسقوط المستمر الذي تعرضت له قيمته بسبب طبعه بكميات كبيرة لتمويل نفقات الحرب (1) . وقد اضطرت الدولة إزاء المشكلات الاقتصادية والسياسية لهذا التغيير، ويبدو أن اضطراب العملة كان متكررا في عهد الخلافة العثمانية منذ قرابة القرن العاشر الهجري، وهذا الاضطراب الاقتصادي في تغير العملة، أو نقص قيمتها أدى بلا شك إلى إشكالات في البيوع الآجلة خاصة والبياعات التي تمت قبل الأوامر السلطانية، وهذا الذي تشير إليه إفتاءات الفقهاء وخاصة الحنفية منها باعتباره مذهب دولة الخلافة، ولعل أول عمل يذكر في هذه الفترة رسالة الخطيب التمرتاشي، محمد بن عبد الله بن أحمد 939 هـ – 1004 هـ حيث ألف رسالة سماها " بذل المجهود في مسألة تغير النقود "(2) وقد اعتمد على هذه الرسالة من أتى بعد الإمام التمرتاشي، بل إن ابن عابدين بنى رسالته على رسالة التمرتاشي فلخصها وزاد عليها (3) .

(1) النقد والائتمان في البلاد العربية، للدكتور عصام يوسف عاشور: ص 1و2، طبع نهضة مصر1962 م بمصر.

(2)

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للعلامة محمد أمين المحبي: 4/18، طبع مكتبة خياط، بيروت؛ والأعلام، للزركلي: 7/117 وأشار إلى أن له رسالة في النقود وذكر عنوان الرسالة كاملا كما أثبته ابن عابدين في رسالته تنبيه الرقود: ص 75، وفي غيرها من كتبه.

(3)

العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، للعلامة محمد أمين، ابن عابدين: 1/280، نشر دار المعرفة بيروت.

ص: 1202

وفي القرن الثالث عشر الهجري ألف الشيخ عبد القادر الحسيني رسالة بعنوان "رسالة في تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني"(1) في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، فعرض هذه القضية عرضا تفصيليا على المذهب الحنفي، بدا الحسيني رسالته بما يشير إلى المشكلة حيث قال: "وبعد فلما صدر الأمر السلطاني إلى مدينة دمشق الشام ومحروسة حلب بتراجع سعر أنواع النقود الرائجة من الفضة والذهب، وكثرت وقائع الناس في البيوع والمعاملات، واضطربت مسائلهم في سائر العقود والصناعات، واختلفت الفتوى لاختلاف هذه الوقائع

" (2) ، إلخ.

(1) قام بدراسة وتحقيق هذه الرسالة القيمة الدكتور نزيه كمال حماد، ورجح أن هذه الرسالة سابقة لرسالة ابن عابدين " تنبيه الرقود على مسائل النقود " مستدلا على ذلك بأن الحسيني كتب رسالته في 1216 هـ ـ وابن عابدين كتب رسالته 1230 هـ، والحسيني متقدم في العمر والطبقة، راجع تحقيق رسالة الحسيني في "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، العدد الثاني، المجلد الثاني، 99 مطبعة الملك عبد العزيز 1405 هـ – 1985 م.

(2)

قام بدراسة وتحقيق هذه الرسالة القيمة الدكتور نزيه كمال حماد، ورجح أن هذه الرسالة سابقة لرسالة ابن عابدين " تنبيه الرقود على مسائل النقود " مستدلا على ذلك بأن الحسيني كتب رسالته في 1216 هـ ـ وابن عابدين كتب رسالته 1230 هـ، والحسيني متقدم في العمر والطبقة، راجع تحقيق رسالة الحسيني في "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، العدد الثاني، المجلد الثاني، 99 مطبعة الملك عبد العزيز 1405 هـ – 1985 م. ص 111

ص: 1203

وبعد قرابة أربعة عشر عاما في 1230هـ (1) ألف محمد أمين عابدين 1252 هـ رسالته " تنبيه الرقود على مسائل النقود " وقد ألف ابن عابدين هذه الرسالة على مذهب الحنفية السائد في الدولة العثمانية وقد لخص فيها رسالة التمرتاشي – كما سبق التنويه – ويبدو أنه لم يطلع على رسالة الحسيني، وعن نقل له رأي الحسيني ولم يرتضه، قال في تنبيه الرقود في معرض كلامه في رخص الفلوس:"وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري"(2) .

ولعله يريد من ذلك قول الحسيني في رسالته في ذات الموضوع فالظاهر من النقول – نصا ودلالة – أنه يفتي بدفع النقود على السعر الرائج بعد الأمر، بحساب القرش بأربعين مصرية (3) .

(1) وفاقا لما رجحه الدكتور نزيه كمال حماد كما سبقت الإشارة، المرجع السابق، ص 101

(2)

تنبيه الرقود: ص 64؛ وقد تعرض لهذه المسألة أيضا في حاشيته رد المحتاج على الدر المختار: 2/30 وما بعدها، و5/24، وما بعدها؛ وفي العقود الدارية: 1/280 وما بعدها

(3)

رسالة الحسيني في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي: ص 118

ص: 1204

وقد أشار ابن عابدين إلى خصوص المشكلة في عصره فقال: " وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقروش، وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة، ومنها كبار كل واحد باثنين، ومنها أنصاف وأرباع، والقرش عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلب تلك القطع وزادت قيمتها، فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكير بمائة مصرية (1) كما أشار إلى ذلك في حاشيته حين قال: إذا رخص بعض أنواع العملة أو كلها واختلفت في الرخص كما وقع مرارا في زماننا". وقال: "اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص"(2) .

وأشار عبد الحميد الشرواني " كان حيا 1289 م سنة إتمام حاشيته"(3) في حاشيته على تحفة المحتاج بشرح المنهاج تعليقا على قول المصنف" ولو نقدا أبطله السلطان: قال: " فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقرار الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها، وإن لم تكن نقدا" (4) .

(1) تنبيه الرقود: ص 63؛ وحاشية ابن عابدين: 4/26

(2)

حاشية ابن عابدين: 4 / 26، وتنبيه الرقود، ص 64

(3)

بروكلمان: 1/681

(4)

حاشية الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام أحمد بن حجر الهيتمي: 5 / 44

ص: 1205

ولعل ما ذكرناه هاهنا هو من أهم واقعات تغير العملة أو تبلدها وهو يمنح القضية وضوحا، من حيث صورتها وحجمها، لم يكن مقارنتها بوقائع الأحوال في أيامنا المعاصرة، ومن حيث الجملة فإن المبدأ نفسه وصورة التغير ذاتها، فالتغير في العملة الرئيسية المتداولة أما بتبدل العملة أو بتغيير قيمتها بالنقص، وربما اختلف حجم التعامل ونسبة التغير فحسب بين ما كان وما عليه الحال اليوم، ونظرا لهذا التقارب في الوقائع فإن ما أفتى به فقهاؤنا السابقون سيكون له دور أصيل في تحديد طريق النظر في هذه القضية، وتوضيح مواضع الإشكالات فيها وبه يتيسر استنباط الحكم بعون الله وتوفيقه.

ص: 1206

* **

المبحث الثاني

دور الدولة في استقرار العملة

مما لا شك فيه أن الإشراف التام على النقد من حيث نوعه وصفاته وإصداره وكمياته قضية هامة جدا، ولذلك فقد تكلم الفقهاء عن دور الدولة ومسئوليتها في هذا الجانب، وما ينبغي عليها أن تتخذه من إجراءات وأساليب، وفي خصوص ضرب العملة وغشها تكلم الفقهاء فيها سواء بالنسبة للأفراد أو الدولة ممثلة بالحاكم. أما بالنسبة للأفراد فإنهم قد يتدخلون فيما هو من اختصاص الحاكم، فيفتات عليه بضرب النقود، وقد كان هذا موجودا، وإن كان بشكل محدود وفي بعض فترات التاريخ الإسلامي، وهو يحمل شبهة التزوير والغش، وإن كان خالص الذهب، سواء كان في نفس العملة أو عملة أخرى لها تداول في سوق الناس.

وقد بين فقهاؤنا الحكم في مثل هذا بالنسبة للأفراد بأسلوب وقائي وعلاجي.

فقال: يكره لغير الإمام ضرب الدراهم الدنانير، وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد، ولأنه يخفي فيغتر به الناس.

وذكر الفقهاء الكراهة هنا محمول على عدم صدور قرار من الحاكم بالتزام العملة المضروبة من الدولة وحدها، ومن جانب آخر: لم تتوافر نية الغش والتزوير ممن يرب هذه العملة المساوية في قيمتها لعملة الدولة، فمن باب سد الذريعة قضوا بذلك، فإن صدر منع أو تحققت نية غش فيأخذ هذا الفعل حكم الفعل المحرم.

ص: 1207

وكذلك تكلم الفقهاء في ضوابط ضرب النقود بالنسبة للحاكم فهو قائم على مصلحة المسلمين، فلا يكون سببا في فساد أحوالهم واضطرابها، وإن غش العملة أو تغييرها أو إنقاضها كل ذلك مما يحظر على الحاكم فعله إلا في أضيق نطاق بحيث لا يؤثر على أحوال المسلمين، فلا يحملهم التزامات أكبر مما عليهم، ولا يشغل ذممهم بما ليس من قصدهم أو بسبب منهم. وأن يكون القصد من ورائه دفع مفسدة أعظم.

ولهذا قال الإمام الشافعي: "يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من غشنا فليس منا)) (1) ولأن فيه إفسادا وإضرارا بذوي الحقوق، وغلاء الأسعار، وانقطاع الأجلاب، وغير ذلك من المفاسد."(2) .

وقال السيوطي: "من ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها بل يسبكها ويصفيها، قال القاضي أبو الطيب: إلا إذا كانت دراهم البلد مغشوشة فلا يكره إمساكها، قال في شرح المذهب: وقد نص الشافعي على كراهة إمساك المغشوشة، واتفق عليه الأصحاب لأنه يغر به ورثته إذا مات، وغيرهم في الحياة، كذا علله "(3) .

وقال أيضا: "يكره للإمام إبطال المعاملة الجارية بين الناس لما أخرجه أبو داود عن ابن مسعود " قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجارية بينهم إلا من بأس)) . (4) .

وقال الأصحاب: " يكره لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد "(5) .

(1) أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة،

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، حديث رقم 164، وأبو داود في عون المعبود، كتاب البيوع، باب 50؛ والترمذي، كتاب البيوع، باب 72؛ وأحمد في مسند: 2/50 و242 و417 و3/416 و4/45، المجموع: 6/10، 11 والحاوي للفتاوى: 1/100، 101

(3)

الحاوي للفتاوى: 1/99، والمجموع: 6/11

(4)

الحاوي للفتاوى: 1 /100، 101

(5)

المجموع 6 / 11

ص: 1208

وجاء في كشاف القناع في ضرب النقد المغشوش. نقل صالح عن الإمام في دراهم يقال لها: المسبية عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة فقال: إذا كان شيئا اصطلحوا عليه كالفلوس واصطلحوا عليها فأرجو أن لا يكون فيها بأس، لا تغرير فيه، ولا يمنع منه لأنه مستفيض في سائر الأعصار، جارٍ بينهم من غير نكير، لكن يكره ضرب النقد المغشوش، لأنه قد يتعامل به من لا يعرفه، فإن اجتمعت عنده دراهم زيوف أي نحاس فإنه يسكبها ولا يبيعها ولا يخرجها في معاملة ولا صدقة، فإن قابضها ربما خلطها بدراهم جيدة وأخرجها على من لا يعرف حالها، فيكون ذلك تغريرا للمسلمين وإدخالا للغرر عليهم، قال أحمد: إني أخاف أن يغر به مسلما. وقال: ما ينبغي أن يغر بها المسلمين. ولا أقول: إنه حرام. قال في الشرح: فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وكان عبد الله "ابن مسعود "رضي الله عنه يكسر الزيوف وهو على بيت المال (1) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، ينبغي للسلطان أن يضرب لها فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا، بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصانع من بيت المال فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها صارت عرضا، وضرب لهم فلوسا أخرى أفسد ما عندهم من الأموال ينقص أسعارها، فيظلمهم فيها، ظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.

(1) كشاف القناع: 3 / 271، 272

ص: 1209

ثم بنى ابن تيمية المسألة على نهي النبي صلى الله عليه وسلم وسدا لذريعة الظلم والإفساد.

فقال: وأيضا فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)) . فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسا ويتجر بذلك: حصل بها المقصود من الثمنيه (1) .

وقد قرر جمهور الفقهاء العقوبة التعزيزية لمن يغير سكة المسلمين بأن يضرب على غير سكتهم، فيفتات على الحاكم بفعله، أو بغش العملة، ومن خالف في ذلك من الفقهاء نظر إلى عدم تحقق الضرر على المسلمين، فإن تحقق ضرر فلا خلاف من وجوب العقوبة، قال البلاذري:"حدثني الوليد بن صالح عن الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز أتى برجل يضرب على غير سكة السلطان فعاقبه وسجنه".

وقال: "حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن عبد الملك بن مروان أخذ رجلا يضرب على غير سكة المسلمين، فأراد قطع يده ثم ترك ذلك وعاقبه. قال المطلب: فرأيت من بالمدينة من شيوخنا حسنوا ذلك من فعله وحمدوه، قال الواقدي: وأصحابنا يرون فيمن نقش على خاتم الخلافة المبالغة في الأدب والشهرة وأن لا يروا عليه قطعا، وذلك رأي أبي حنيفة والثوري، وقال مالك وابن أبي ذئب، وأصحابهما: نكره قطع الدرهم إذا كانت على الوفاء، وننهى عنه لأنه من الفساد وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بقطعها إذا لم يضر ذلك بالإسلام وأهله".

وقال حدثني عمرو الناقد: قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي عون عن ابن سيرين: أن مروان بن الحكم أخذ رجلا يقطع الدراهم فقطع يده. فبلغ ذلك زيد بن ثابت، فقال لقد عاقبه، قال إسماعيل يعني دراهم فارس.

(1) مجموع الفتاوى 29 / 469

ص: 1210

قال محمد بن سعد، وقال الواقدي: عاقب أبان بن عثمان وهو على المدينة من يقطع الدراهم ضربه ثلاثين، وطاف به، وهذا عندنا فيمن قطعها ودس فيها المفرغة والزيوف.

وحدثني محمد عن الواقدي عن صالح بن جعفر عن ابن كعب في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (1) . قال: قطع الدراهم.

وقال ابن جرير الطبري في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من كسر الدراهم وقطعها وبخس الناس في الكيل والوزن. وأخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} . قال: نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم قالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء إن شئنا قطعناها وإن شئنا أحرقناها وإن شئنا طرحناها

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم وهو قوله تعالى {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}

وأخرج ابن جرير أيضا وابن المنذر وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم رضي الله عنه {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} قال: قرض الدراهم وهو من الفساد في الأرض.

وأخرجه عبد الرزاق وابن سعد وابن المنذر وأبو الشيخ وعبد بن حُمَيْد عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: قطع الدراهم والدنانير والمثاقيل التي قد جازت بين الناس وعرفوها من الفساد في الأرض.

وأخرجه أبو الشيخ عن ربيعة بن أبي هلال أن ابن أبي الزبير عاقب في قرض الدراهم (2) .

وقال البلاذري: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا يحيى بن سعد، قال: ذكر لابن المسيب رجل يقطع الدراهم، فقال سعيد: هذا من الفساد في الأرض (3) .

(1) سورة هود: الآية 87

(2)

جامع البيان عن تأويل أي القرآن للإمام أبي جعفر الطبري: 12/101، الطبعة الثانية 1373 هـ – 1954 م، مطبعة مصط في البابي الحلبي بمصر، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: 3/346 نشر محمد أمين دمج – بيروت.

(3)

فتوح البلدان: ص 455، ص 456

ص: 1211

وقال صاحب المعيار: "ولا يغفل – أي الحاكم – النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس، بأن يشد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله ويشرد به من خلفه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل من العقوبة ويحبسه بعد، على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه، ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم ويترجي لهم الزلفى عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله "(1) . وواضح من كلام الفقهاء: أن نظرهم في قضية تغير العملة أو غشها من حيث هو فعل يرتب عليه حكم شرعي، أن هذا الفعل يدخل في دائرة الحظر من حيث أصله، سواء بالنسبة للأفراد وهو حينئذ أشد حظرا، لأنه يدخل في دائرة الضرر العام، وقد يكون من الإفساد في الأرض فتلزم عقوبة المتسبب به سدا للذريعة.

وكذا إن كان تغيير العملة بالغش فيها من الدولة، فالأصل فيه الحظر، وخلافه استثناء فيتقيد بتحقيق مصلحة عامة، أو بقصد احتمال مفسدة أقل في سبيل دفع مفسدة أكبر، فلا تكفي حينئذ الحاجة المحتمل إهدارها، فإن كانت حاجة ملحة يترتب على تركها فوات مصالح عامة راجحة، جاز مع مراعاة ثابت الحقوق والالتزامات بالقدر الذي لا يحمل الناس فوق ما يطيقون، وإن رجح أو تيقن ضرر ومفسدة عامة في ترك التغيير، وجب حينئذ سدا للذريعة وحفظا للحقوق، وإن ترتب على ذلك تفويت بعض المصالح تبعا لقاعدة دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وأما في عصرنا الحديث فإن القواعد الفقهية التي ذكرناها والتي بنى عليها الفقهاء نظرهم في طبيعة موضوع تغيير العملة وآثارها بالغش أو غيره، تتحقق بذاتها وإنتاجها، وما ذكره الفقهاء من حكم وعقوبة يأتي هنا بتمامه، ويزاد على ذلك أنه ينبغي على الدولة أن تسترشد حين الإقدام على مثل هذا الفعل بما توصل إليه علم الاقتصاد الحديث من وسائل وتدابير وقائية للحيلولة دون احتياج الدولة إلى تغيير علمتها، والعمل على ثبات قيمة نقدها بالنسبة لغيرها من العملات الأخرى، وبالنسبة إلى أسعار السلع تجنبا للتضخم والكساد، كما يسع الدولة الأخذ بالأساليب الاقتصادية الحديثة في علاج هذه القضية إذا اضطرت إليها، وعلاج آثارها المبنية عليها. وكل ذلك مع مراعاة أصول وضوابط الاقتصاد الإسلامي في أبواب الفقه المختلفة وخاصة في أبواب البيع والصرف والربا.

(1) المعيار: 6 / 407

ص: 1212

المبحث الثالث

تغير قيمة العملة بالغش فيها

يعتبر غش النقد بمعنى خلطه بغيره نوع تغيير لقيمة العملة سواء أكان غشا للدنانير أم الدراهم، وقد يكون من فعل الأفراد أو الدولة وتختلف نسبة الغش فيه بالنسبة للذهب أو الفضة. ولقد كان ضرب النقد مع غشه من الأفراد، أو الدولة ثم التعامل به قضية واقعة ومُقَرَّة في فترات كثيرة من التاريخ كما يفهم مما سبق.

ويبدو أن غش الدراهم والدنانير، وغيرها كالفلوس، كان متقدما في العهد. فيروي البلاذري عن عمرو الناقد: قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا يونس بن عبيد عن الحسن، قال: كان الناس وهم أهل كفر قد عرفوا موضوع هذا الدرهم من الناس فجودوه وأخلصوه، فلما صار إليكم غششتموه وأفسدتموه، ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل فقيل: إذا لا بعير فأمسك (1) .

ولقد شاعت أنواع كثيرة من النقد المغشوش، وما تكاد ناحية أو بلدة إلا ويشيع فيها نوع منها، فكان منها ما يسمى بالمبهرجة وهي: ما كان مقدار الفضة منها أقل وغشها أكثر، ولذا كان بعض التجار يردها، وبعضهم وهو المتساهل يقبلها، ومنها ما يطلق عليه الفقهاء: زيوفا وهي: المغشوشة غشا يتجوز في قبوله التجار، وكان بيت المال يردها. ومنها ما يسمى: الستوقة وهي: المغشوشة غشا زائدا (2) ، ومنها العدالي منسوبة إلى العدل (3) والغطارفة منسوبة إلى غطريف بن عطاء الكندي (4) ، والدراهم البخارية وهي فلوس على صفة مخصوصة (5)، والطبرية واليزيدية وهما مما غلب غشه (6) والمسببة وهي: دراهم يغلب فيها النحاس الفضة (7) . والهروي وهو ذهب مغشوش (8) وغيرها. وقد بنى الفقهاء أحكامهم في النقد المغشوش من حيث ضربه وتداوله على رواجه أو عدم رواجه، وعلى اعتبار الناس له واصطلاحهم عليه أو عدم اعتباره وعلى علم من يتعامل معه أو عدم علمه، وهذه كلها تأخذ عند إبداء الحكم صورة ضوابط للنقد المغشوش، وسينكشف رأي الفقهاء في النقد المغشوش عند معرفة أحكامهم الجزئية الفرعية في مسائله، وسنوضح أهم قضيتين تكلم الفقهاء في حكمهما وهما زكاة النقد المغشوش، والتعامل به في القرض والاستقراض وغيرهما.

(1) فتوح البلدان: ص 456

(2)

حاشية ابن عابدين: 3 / 132 و 133، وفتح القدير: 5 / 511 بتصرف

(3)

تنبيه الرقود: ص 59

(4)

شرح فتح القدير: 5/382

(5)

حاشية ابن عابدين: 5/163

(6)

حاشية ابن عابدين: 4/24

(7)

كشاف القناع: 3/271

(8)

المجموع 6/289

ص: 1213

زكاة النقد المغشوش:

ذهب الشافعية والحنابلة: إلى أن الذهب والفضة إذا كانا مخلوطين بنحو نحاس أو رصاص أو نيكل، فلا زكاة فيهما حتى يبلغ ما فيها من الذهب والفضة والخالصين نصابا كاملا، سواء كان الذهب أو الفضة أكثر مما خلط به أو أقل.

وذهب الحنفية إلى أنه إذا سبك أحد النقدين بغيره، فما غلبت فضته أو ذهبه فكالخالص منهما، وكذا ما استوى فيه النقد وغيره احتياطا، ومراعاة لحال الفقراء، وإن سبك الذهب والفضة، فإن كان الذهب غالبا، فالكل في حكم الذهب الخالص، وكذا إذا استويا، لأنه أعز وأغلى قيمة، وإن كانت الفضة غالبة، وبلغت نصابا، ففيه زكاتها، وإن بلغ الذهب نصابا ففيه زكاته، وما غلب غشه ولم يكن ثمنا رائجا، تعتبر قيمته لا وزنه، فإن بلغت نصابا من أقل نقد، تفرض فيه الزكاة إن نوى فيه التجارة وإلا فلا.

وذهب المالكية: إلى وجوب الزكاة في المغشوش وناقص الوزن إن راج كل رواج الكامل في المعاملات، فإن لم ترج أصلا، أو راجت دون رواج الكاملة، حسب الخالص في المغشوش، فإن بلغ نصابا زكى، وإلا فلا، واعتبر كمال الناقص بزيادة ما يكمله، ونقل عن مالك أنه يغتفر نقص الحبة والحبتين، وعن أبي حنيفة أنه يغتفر ما دون النصف، ولا يخفي أن ما غلب غشه اعتبر من عروض التجارة فيحتاج إلى نية التجارة، وهذا ما لم يستخلص منه ما يبلغ نصابا من الفضة (1) .

(1) راجع تفصيله في درر الحكام: 2/205، والزرقاني على خليل: 2/141 و5/862، والمغنى مع الشرح الكبير: 2/599، والمبدع شرح المقنع، لأبي إسحاق إبراهيم بن مفلح: 4/207، طبع المكتب الإسلامي بيروت، والمجموع: 6/9، والدين الخالص: 8 /141، والفقه على المذاهب الأربعة: 1/612

ص: 1214

التعامل بالنقد المغشوش:

ذهب الفقهاء إلى جواز التعامل بالنقد المغشوش – في الجملة – على تفصيل وقيود. فذهب الحنفية: إلى جواز بيع الغالب الغش من الدراهم والدنانير، اعتبارا للغالب، فيصح بيع الغالب الغش بالخالص من الدراهم والدنانير إن كان الخالص أكثر من المغشوش، ويصح بيعه أيضا بجنسه متفاضلا بشرط التقابض في المجلس، وإن كان الخالص مثل غالب الغش أو أقل منه أو لا يدري فلا يصح البيع، وإذا راج غالب الغش لم يتعين بالتعيين وإن لم يرج يتعين به، وإن كان يقبله البعض دون البعض فهو كالزيوف لا يتعلق العقد بعينه بل بجنسه زيفا إن كان البائع يعلم حاله لتحقق الرضا منه، وبجنسه من الجياد وإن لم يعلم رضاه، واعتبر الحنفية المتساوي كغالب الخالص في المبايعة والاستقراض، وعليه فلا يجوز عندهم البيع بها ولا إقراضها إلا بالوزن فهي بمنزلة الدراهيم الرديئة، ولا ينقض العقد بهلاكها قبل التسليم ويعطيه مثلها، لأن الخالص موجود بها حقيقة ولم يصر مغلوبا، فيجب اعتبارها بالوزن شرعا إلا أن يشار إليها كما في الخالصة (1) .

وذهب المالكية إلى جواز بيع مغشوش كذهب وفضة بمغشوش مثله تساوي الغش أم لا مراطلة أو مبادلة أو غيرهما، ويجوز عندهم أيضا بيع المغشوش بالخالص على المذهب، والأظهر خلافه أي بيع المغشوش بالخالص، وأما بيعه بمثله فهذا لا خلاف في جوازه، والخلاف عندهم في المغشوش الذي لا يجري بين الناس كغيره، وإلا جاز قطعا، وشرط جواز بيع المغشوش، ولو بعرض أن يباع لمن يكسره أو لا يغش به، بل يتصرف به بوجه جائز كتحليله أو غيرهما، أما بيعه لمن لا يؤمن أن يغش به، مثله ابن رشد بالصيارفة، فيكره، وفسخ ممن يعلم أنه يغش به، فيجب رده على بائعه إلا أن يفوت بذهاب عينه أو بتعذر المشتري (2) .

(1) درر الأحكام: 2 / 205

(2)

حاشية الدسوقي والشرح الكبير: 3 / 43

ص: 1215

وقال الشافعية: ينظر في المعاملة بالدراهم المغشوشة: فإن كان الغش فيها مستهلكا بحيث لو صفيت لم يكن له صورة، كالدراهم المطلية بزرنيخ ونحوه، صحت المعاملة عليها بالاتفاق؛ لأن وجود هذا الغش كالعدم، وإن لم يكن مستهلكا كالمغشوش بنحاس ورصاص ونحوها: فإن كانت الفضة فيها معلومة لا تختلف صحت المعاملة على عينها الحاضرة وفي الذمة أيضا، وهذا متفق عليه صرح به الماوردي وغيره من العراقيين، وإمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، وإن كانت الفضة التي فيها مجهولة ففي صحة المعاملة بها معينة وفي الذمة أربعة أوجه: أصحها: الجواز فيها؛ لأن المقصود رواجها: ولا يضرب اختلاطها بالنحاس، كما يجوز بيع المعجونات بالاتفاق، وإن كانت أفرادها مجهولة المقدار، والثاني: لا يصح لأن المقصود الفضة، وهي مجهولة، كما نص الشافعي والأصحاب أنه لا يجوز بيع تراب المعدن؛ لأن مقصوده الفضة وهي مجهولة، وكما لا يجوز بيع اللبن المخلوط بالماء باتفاق الأصحاب والثالث: تصح المعاملة بأعيانها، ولا يصح التزامها في الذمة، كما لا يصح بيع الجواهر والحنطة المختلطة بالشعير معيبة ولا يصح السلم فيها ولا قرضها، والرابع: إن كان الغش فيها غالبا لم يجز وإلا فيجوز، والحكم في الدنانير المغشوشة كهو في الدراهم المغشوشة كما سبق ولا يجوز بيع بعضها ببعض ولا بالدنانير الخالصة، وكذا لا يجوز بيع دراهم مغشوشة بمغشوشة ولا بخالصة – وستأتي المسألة واضحة في باب الربا إن شاء الله تعالى – قال صاحب الحاوي:"ولو أتلف الدراهم المغشوشة إنسان لزمه قيمتها ذهبا؛ لأنه لا مثل لها، هذا كلامه، وهو تفريع على طريقته، وإلا فالأصح ثبوتها في الذمة وحينئذ تكون مضبوطة فيجب مثلها"(1) .

(1) المجموع 6/11 و12، ونهاية المحتاج 3/399، والحاوي للفتاوى: 1/99.

ص: 1216

وجاء في المجموع أيضا عن الدراهم المغشوشة: أنها إن كان الغش معلوم القدر صحت المعاملة بها قطعا، فإن كان مجهولا فأربعة أوجه أصحها: تصح المعاملة بها معينة وفي الذمة. والثاني: لا تصح والثالث: تصح معينة ولا تثبت في الذمة بالبيع، ولا بغيره والرابع: إن كان الغش غالبا لم تصح، وإلا فتصح وذكر هناك توجيه الأوجه وتفريعها وفوائدها، قال: أصحابنا: فإن قلنا بالصحيح وهو الصحة مطلقا: انصرف إليها العقد عند الإطلاق، ولو باع بمغشوش ثم بان أن فضته ضئيلة جدا، فله الرد على المذهب وبه قطع الجمهور، حكى الصيمري عن شيخه أبي العباس البصري: أنه كان يقول: فيه وجهان: أحدهما، هذا، والثاني: لا خيار: لأن غشها معلوم في الأصل، وحكى هذا الوجه أيضا صاحب البيان والرافعي وغيرهما (1) .

وذهب الحنابلة: إلى "جواز المعاملة بنقد مغشوش من جنسه أي لم يعرف الغش، لعدم الغرر، وكذا يجوز المعاملة بنقد مغشوش بغير جنسه"(2) .

" وقال أحمد فيمن اقترض من رجل دراهم، وابتاع منه شيئا، فخرجت زيوفا: البيع جائز، ولا يرجع عليه بشيء"(3) .

وقال ابن تيمية: بيع النقرة المغشوشة جائز على الصحيح، كبيع الشاة اللبون باللبون، إذا تماثلا في الصفة، أو النحاس وأما بيع النقرة بالسوداء، إذا لم يقصد به فضة بفضة متفاضلا، فإن النحاس الذي في السوداء مقصود، وهي قرينة بين النقرة والفلوس، فهذه تخرج على النزاع المشهور في مسألة " مد عجوة " إذ قد باع فضة ونحاسا بفضلة ونحاس مقصودين، والأشبه الجواز في ذلك، وفي سائر هذا الباب، إذا لم يشتمل على الربا المحرم (4) .

(1) المجموع: 9/ 262

(2)

كشاف القناع: 3 /271

(3)

المغنى: 4 / 243

(4)

الفتاوى: 29 / 466

ص: 1217

المبحث الرابع

تغير قيمة النقد من الدراهم والدنانير والمذاهب فيه

تمهيد:

يمتاز النقد من الذهب والفضة عن الأوراق النقدية بالاستقرار النسبي لقيمته منذ القدم؛ ولذلك لأن قيمتها راجعة إلى ذات معدنهما النفيس، وقد مضى الناس منذ القدم باعتبارهما أداة التبادل والتعامل، وسببا مقبولا لشغل الذمم وترتب الحقوق والالتزامات.

وكان الذهب ولا يزال يحتمل مكان الصدارة في الاستقرار والمحافظة عل سعره وقوته الشرائية بالنسبة للعملات الأخرى، وما قد يطرأ عليه من تغير فهو تغير محتمل يسير حتى في أشد ظروف الكساد، وتأتي الفضة في الدرجة الثانية في استقرار قيمتها النسبية، لكنها تتفاوت كثيرا بالنسبة إلى قيمة الذهب، فكان الدينار في صدر الإسلام يعادل صرفه عشرة دراهم، ولكن هذه النسبة كانت تتغير كثيرا بين فترة وأخرى، أما الأوراق المالية الاعتبارية الاصطلاحية المعروفة اليوم فإنها عرضة للتغير المستمر، كما هو الحال منذ أمد إقرار الدول التعامل بالأوراق النقدية.

وما مشكلة تغير العملة وما يترتب عليه من آثار إلا صورة واقعية لطبيعة هذه الأوراق القابلة للتغير وفقا لمتغيرات عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية.

وقد تطرق الفقهاء لموضوع تغير العملة في عدة مواضع، وفي مسائل عملية هامة، مما يقع كثيرا في التعامل بين الناس سواء أكان نقدا، دراهم أو دنانير، خالصة أو مغشوشة، أم كان فلوسا.

وأهم مسائله التي تطرقوا إليها: في القرض، والسلم، وبيع ما في الذمة، والأجرة والصداق، وبدل الغصب، والمقبوض بالبيع الفاسد، وفي الإتلاف بلا غصب، وفي إعارة الدراهم والدنانير للتزيين – على رأي من يجيزه – وما إلى ذلك.

وسنتناول فيما يلي مذاهب الفقهاء في تغير النقد إذا كان دراهم أو دنانير.

ص: 1218

مذاهب الفقهاء:

إذا ترتب على التعامل بالنقد الذهب والفضة دين سببه القرض أو البيع، ثم تغيرت قيمته وقت الأداء، لأي سبب كان، فهل يدفع ما اتفق عليه عددا، أو يدفع قيمته؟

اتفق الفقهاء: على أن الدين إن كان من الدراهم أو الدنانير، لا يلزم عند حلول أجل الدين غير ما اتفق عليه، فيؤدي بمثله قدرا وصفه سواء غلت قيمته أو رخصت، ويكاد يكون في حكم القاعدة عندهم "أن الديون تؤدي بأمثالها".

مذهب الحنفية:

قال ابن عابدين: "إذا كان عقد البيع أو القرض وقع على نوع معين منها كالريال الفرنجي مثلا، فلا شبهة في أن الواجب دفع مثل ما وقع عليه البيع أو القرض"(1) .

وقال أيضا: "إن الدراهم الخالصة أو المغلوبة الغش إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعا ولا يجب إلا رد المثل الذي وقع عليه العقد، وبين نوعه كالذهب الفلاني أو الريال الفلاني"(2) .

وقال ذات العبارة في تنبيه الرقود ثم زاد تعليلا قوله: لأنها أثمان عرفا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ثم بين أن خلاف أبي يوسف ليس جاريا في الذهب والفضة فقال:

"ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف. كما سيأتي بيانه – على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، أما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها"(3) .

ونقل عن شيخه سعيد الحلبي بعد أن تكلم شيخه عن الثمن الذي غلب غشه قال: "وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض، كان الحكم معلوما بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا نقضت قيمته، لا يتخير البائع بالإجماع، فلا يكون له سواه، وكذا لو غلت قيمته، لا يتخير المشتري بالإجماع، قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة، كالشريفي والبنقدي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود ".

ثم قال ابن عابدين: وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا، أو رخص، بأن باع ثوبا بعشرين ريالا مثلا، أو استقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص. وقال أيضا: تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن: دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق (4) .

(1) العقود الدرية: 1 /281

(2)

العقود الدرية: 1 / 280

(3)

تنبيه الوقود، ص 61 و 63

(4)

تنبيه الرقود، ص 64

ص: 1219

وذهب المالكية:

إلى أنه إن بطلت الدنانير أو الدراهم، فالمشهور قضاء المثل على من ترتب في ذمته، وكذا إذا تغيرت من باب أولى.

سئل الإمام مالك:

عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوب عليه من صرف عشرين بدينار، أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه، فأما إن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.

فقيل له:

أرأيت إن باعه ثوبا بثلاثة دراهم: ولا يسمى له صرف كذا وكذا، والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار؟.

قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا، أخد بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم، وإن قال بثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار، ارتفع الصرف أو انخفض.

قال محمد بن رشد: هذا كما ذكر، وهو مما لا اختلاف فيه أنه باع كذا وكذا درهما ولم يقل من صرف كذا، فله عدد الدراهم التي سمى، ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال: بكذا وكذا درهما، وصرف كذا وكذا، فلا تكون له إلا الدراهم التي سمى (1) .

وعلق الرهوني على قول خليل: "وإن بطلت فلوس فالمثل" قال: ومثلها في ذلك النقد، وهذا هو مذهب المدونة وقد عول عليه غير واحد، ولم يحكوا فيه خلافا، بل صرح ابن رشد، بأنه المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم، وذكر جماعة الخلاف ورجحوا ما للمصنف (2) .

(1) البيان والتحصيل: 6/ 487

(2)

حاشية الرهوني: 5/118؛ وشرح الزرقاني بحاشية البناني: 5/60

ص: 1220

وسئل ابن رشد عن الدنانير والدراهم إذا قطعت السكة فيها وأبدلت بسكة غيرها ما الواجب في الديون والمعاملات والمتقدمة وأشباه ذلك؟ قال:

المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله: أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة.

فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: إنه لا يجب عليه إلا السكة المتأخرة، لأن السلطان قد قطع تلك السكة وأبطلها فصارت كلا شيء، فقال وفقه الله: لا يلتفت إلى هذا القول. فليس بقول لأحد من أهل العلم.

وقد استدل ابن رشد لقوله: بأنه مقتضى الكتاب والسنة فالقول بخلافه مناقضة لهما في النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فاعتبر غير المثل من أكل أموال الناس بالباطل سواء بالزيادة أو النقص ولو لم يكن للعاقدين دخل في ذلك؛ لأنه من فعل السلطان.

ثم ساق مفارقات في هذه القضية لو قيل بخلاف ما ذكر فقال:

ويلزم هذا القائل أن يقول إن بيع عرض بعرض أنه لا يجوز لمتبايعيه أن يتفاسخا العقد فيه بعد ثوبته، وأن يقول: إن من كانت عليه فلوس فقطعها السلطان وأجرى الذهب والفضة فقط أن عليه أحد النوعين وتبطل عنه الفلوس.

وأن يقول: إن السلطان إذا أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر، أو الموازين بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول، أو بالميزان الأول، إنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير وإن كان أصغر، وإن على البائع الدفع بالثاني أيضا وإن كان أكبر. وهذا مما لا خفاء في بطلانه وبالله التوفيق (1) .

وقد نص غير واحد من علماء المالكية على أن هذا هو المشهور.

وقد يقال لمفارقات ابن رشد، إنها ليست في محل النزاع إذ هو في الأثمان وما هنا ليس كذلك. وسيأتي الكلام على مقابل المشهور في كساد الفلوس.

(1) فتاوى ابن رشد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، تحقيق د. المختار التليلي: ص 540 و541، الطبعة الأولى 1407 هـ – 1987م، دار المغرب بيروت؛ وحاشية الرهوني: 5 / 118، و119

ص: 1221

وذهب الشافعية:

إلى وجوب رد المثل في القرض وفي إبطال العملة ليس له غير ما تم العقد به، نقص أو زاد أو عز، فإن فقد وليس له مثل فقيمته.

قال الشيرازي: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثلي، وقال فيما لا مثل له: وجهان:

أحدهما: يجب عليه القيمة: لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات.

والثاني: يجب عليه مثله في الخلقة والصورة، لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر (1) .

وقال الرملي: ولو باع بنقد دراهم أو دنانير وعين شيئا اتبع وإن عز، فإن كان معدوما أصلا ولو مؤجلا أو معدوما في البلد حالًّا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن فيه نقله إلى البلد بشرطه لم يصح، أو إلى أجل يمكن فيه النقل عادة صح، ومنه ما فقد بمحل العقد. وإن كان ينقل إليه لكن لغير البيع فلا، وإن أطلق وفي البلد: أي بلد البيع، البيع سواء أكان كل منهما من أهلها ويعلم نقدها أو لا على مقتضى إطلاقهم نقد غالب من ذلك وغير غالب تعين الغالب.

وإن كان مغشوشا أو ناقص الوزن، إذ الظاهر إرادتهما له فإن تفاوتت قيمة أنواعه ورواجها وجب التعيين، وذكره النقد جرى على الغالب أو المراد به مطلق العوض، لأنه لو غلب بمحل البيع عرض كفلوس وحنطة تعين، ولو مع جهل وزنه وعلم من ذلك أن الفلوس لا تدخل في النقد إلا مجازا.

وإن أوهمت عبارة الشارح كابن المقري أنها منه، ويدفع الإيهام أن يجعل قوله: أو فلوس عطفا على نقد.

قال الأذرعي: ومحل الحمل على الفلوس إذا سماه، أما إذا سمى الدراهم فلا وإن راجت؛ لأن الإطلاق ينصرف من غير تعيين، ويسلم المشتري ما شاء منها (2) .

(1) المجموع 13 / 174

(2)

نهاية المحتاج: 3/397

ص: 1222

وقال الرملي أيضا: "ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس فإنه لا يجب غيرها، ثم بين العلة بأنها: إمكان تحصيلها مع العزة، بخلاف ما إذا انقطعت أو انعدمت أو فقدت (1) .

وقال السيوطي: إن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقا فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس زادت قيمته أم نقصت، أما في صورة الزيادة فلأن القرض كالسلم.

وأما في صورة النقص، فقد قال في الروضة من زوائده: ولو أقرضه نقدا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، فإذا كان مع إبطاله فمع نقص قيمته من باب الأولى، ومن صورة الزيادة أن تكون المعاملة بالوزن، ثم ينادي عليها بالعدد ويكون العدد أقل وزنا، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص فلا إشكال (2) .

وفي إبطال النقد قال النووي: "ولون أقرضه نقدا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه"(3) .

وقال الرملي: "لو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال: نقص سعره أم زاد أم عز وجوده، فإن فُقِد وله مثل وجب: وإلا فقيمته"(4) .

وإذا تقررت القيمة عند الشافعية فوقتها يوم المطالبة (5) .

(1) نهاية المحتاج: 3 / 399

(2)

الحاوي للفتاوى: 1 / 97

(3)

روضة الطالبين: 4 / 37

(4)

نهاية المحتاج: 3/399

(5)

نهاية المحتاج: 3/399

ص: 1223

وذهب الحنابلة:

إلى وجوب رد المثل في القرض، والقيمة عند الإعواز.

جاء في المغنى: "إذا كان الدراهم يتعامل بها عددا، فاستقرض عددا رد عددا، وإن استقرض وزنا رد وزنا، وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي ".

وقال في المغنى: "إن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص السعر أم غلا أو كان بحاله".

وقال أيضا: "يجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا"(1) .

وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "المكيلات والموزونات يجب رد مثلها، فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الإعواز"(2) .

وإذا كان المقرض ببلد المطالبة تحرم المعاملة به في سيرة السلطان، فالواجب على أصلنا: القيمة، إلا فرق بين الكساد لاختلاف الزمان أو المكان، إذ الضابط أن الدين الذي في الذمة كان ثمنا فصار غير ثمن، ويجب على المقرض رد مثل في قرض مكيل وموزون يصح السلم فيه لا صناعة فيه مباحة، قال في المبدع: إجماعا، لأنه يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هنا، مع أن المثل أقرب شبها بالقرض من القيمة سواء زادت قيمته أي المثل عن وقت القرض أو نقصت قيمته عن ذلك، فإن أعوز المثل، قال في الحاشية: عوز الشيء عوزا من باب: عز، فلم يوجد، وأعوزني المطلوب – مثل أعجزني لفظا ومعنى – لزم المقترض قيمته أي المثل يوم إعوازه لأنها حينئذ ثبتت في الذمة ويجب على المقترض رد قيمة ما سوى ذلك أي المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، فضمن قيمته كالغصب (3) .

(1) المغنى مع الشرح الكبير: 4/405 ح والمغنى: 4/717 و718، وطبعة سجل العرب: 4/239

(2)

مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مادة 749، دراسة وتحقيق د. عبد الوهاب أبو سليمان ود. محمد إبراهيم أحمد علي مادة 749، الطبعة الأولى – مطبوعات تهامة 1401 هـ – 1981 م المملكة العربية السعودية

(3)

كشاف القناع: 3 / 314

ص: 1224

المبحث الخامس

تغير قيمة الفلوس

"ومثلها الدراهم والدنانير غالبة الغش في الجملة"

تمهيد:

لقد تعددت آراء الفقهاء واختلفت فيما بينهم، وفي المذاهب الواحد حول الوصف الشرعي لتغير الفلوس، ومرجع خلافهم إلى تحديد طبيعة الفلوس، هل هي أثمان أو عروض؟ وهل يدخلها الربا في الصرف والبيع والقرض وغيرها أم لا؟ على التفصيل الذي سبق بيانه – وتبعا لهذا الاختلاف اختلف حكم الفقهاء في صور وحالات تغير الفلوس.

ويمكن حصر حالات التغير في الآتي:

الحالة الأولى: الكساد.

الحالة الثانية: الانقطاع

الحالة الثالثة: الرخص والغلاء.

الحالة الأولى – الكساد ومذاهب الفقهاء فيه:

فسر ابن عابدين الكساد: بأن تترك المعاملة بالنقد في جميع البلاد (1) .

إلا أن الفقهاء لم يلتزموا لفظ الكساد للدلالة على هذا المعنى دائما، وقد يستخدمون لفظ إبطال الفلوس، أو قطع التعامل، أو ترك المعاملة.

(1) حاشية ابن عابدين: 4/24.

ص: 1225

* مذاهب الفقهاء:

المذهب الأول:

ذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كسدت الفلوس (1) بأن بطل تداولها في كل البلاد، وسقط التعامل بها، وكذا إذا انقطعت فالبيع فاسد؛ لأن الثمن بالاصطلاح، وكسادها أو انقطاعها يسقط ثمنيتها، فيجب حينئذ رد المبيع إن كان قائما، ومثله إن كان هالكا وكان مثليا وإلا فقيمته.

وذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى عدم بطلان البيع لاحتمال أن يروج ثانية، وتجب القيمة عندهما، لكن وقتها عند أبي سوف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها – كما ستأتي الإشارة لذلك -

فإن كان الثمن عن قرض أو مهر مؤجل فيجب عند أبي حنيفة رد مثله، ولو كان كاسدا.

جاء في البدائع: ولو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض، انفسخ عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائما، وقيمته ومثله إن كان هالكا، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس.

وحجة أبي حنيفة: أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنا، لأن ثمنيتها ثبتت باصطلاح الناس، فإذا ترك الناس التعامل بها عددا فقد زال عنها صفة الثمنية، ولا بيع بلا ثمن فينفسخ ضرورة، ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددا، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا، لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية، وذلك مثل الدراهم قد ترخص وقد تغلو وهي على حالها أثمان.

(1) حاشية ابن عابدين: 4/24

ص: 1226

وحجة أبي يوسف ومحمد: أولا: أن الفلوس في الذمة وما في الذمة لا يحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكا بل يكون عيبا فيما يوجب الخيار، إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس، كما إذا كان الثمن رطبا فانقطع قبل القبض.

وثانيا: أن الواجب يقبض القرض رد مثل المقبوض وبالكساد عجز عن رد المثل لخروجها عن رد الثمنية وصيرورتها سلعة، فيجب عليه قيمتها كما لو استقرض شيئا من ذوات الأمثال وقبضه ثم انقطع عن أيدي الناس.

ثم اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما في وقت اعتبار القيمة، فاعتبر أبو يوسف وقت العقد؛ لأنه وقت وجوب الثمن، واعتبر محمد وقت الكساد، وهو آخر يوم ترك الناس التعامل بها؛ لأنه وقت العجز عن التسليم، ولو استقرض فلوسا نافقة وقبضها فكسدت فعليه رد مثل ما قبض من الفلوس عددا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وفي قول محمد عليه قيمتها (1) .

وجاء في حاشية ابن عابدين والفتاوى الهندية: إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس ولم يسلمها للبائع ثم كسدت بطل البيع، والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد ويجب على المشتري رد المبيع لو قائما، ومثله أو قيمته لو هالكا، وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا، وهذا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج، لكن عند أبي يوسف تجب قيمته يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف وفي المحيط والتتمة والحقائق: ويقول محمد يفتي رفقا بالناس (2) .

أما في الاستقراض فمذهب أبي حنيفة أنه إذا استقرض فلوسا فكسدت برد مثلها عددا اتفقت الروايات عنه بذلك، وأما إذا استقرض دراهم غالبة الغش، فقال أبو يوسف: في قياس قول أبي حنيفة عليه مثلها، ولست أروي عنه ذلك، ولكن لروايته في الفلوس إذا أقرضها ثم كسدت، وقال أبو يوسف على قيمتها من الذهب يوم القرض في الفلوس والدراهم، وقال محمد: عليه قيمتها في آخر وقت نفاقها.

(1) البدائع: 7 / 3245

(2)

حاشية ابن عابدين: 4/24؛ والفتاوى الهندية: 3/225

ص: 1227

ووجه قول أبي حنيفة هنا: أن استقراض المثلى إعارة كما أن إعارته قرض، ويجب في استقراض المثلى رد عينه معنى، والثمنية فضل فيه إذ القرض لا يختص به، وبالنظر إلى كونه عارية يجب رد عينه حقيقة، ولكمن لما كان قرضا، والانتفاع به إنما يكون بإتلاف عينه فإن رد عينه حقيقة، فيجب رد عينه معنى، وهو المثل، ويجعل بمعنى العين حقيقة؛ لأنه لو لم يجعل كذلك لزم مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وهو لا يجوز.

وأما عند أبي يوسف ومحمد تجب القيمة.

ووجه قولهما: أنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض، فيجب رد قيمتها كما إذا استقرض مثليا فانقطع. واختلفا في وقت القيمة – كالسابق – عند أبي يوسف يوم القبض وعند محمد يوم الكساد (1) .

وجاء في الدرر (2) : إذا استقرض أحد نقودا غالبة الثمن أو زيوفا عندما كانت واستهلكها ثم كسدت، ففي صورة تأديتها ثلاثة أقوال:

(1) فتح القدير وشرحه: 5/385 و386؛ وتنبيه الرقود: ص57

(2)

درر الحكام: 3/94

ص: 1228

القول الأول: قول الإمام الأعظم وهو لزوم مثلها كاسدا، وعدم لزوم قيمتها، ولا يعتبر الغلاء والرخص إذا كان في بلد واحد.

القول الثاني: قول الإمام أبي يوسف وهو لزوم قيمتها يوم القبض، وهذا القول أقرب للصواب في زماننا، وقد أفتى بعض مشايخنا بقول أبي يوسف.

القول الثالث: قول محمد وهو لزوم قيمتها في آخر يوم من رواجها والفتوى عليه.

وهذا كله في الكساد إذا كان عاما في كل البلاد، أما إذا كان في بعض البلاد دون بعض، فالمنصوص عليه عند الحنفية أنه لا يبطل البيع ويخير البائع، خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف فإنه يبطل.

قال ابن عابدين: والكساد أن تترك المعاملة في جميع البلاد، فلو في بعضها لا يبطل، لكنه تتعيب إذا لم ترج في بلدهم، فيتخير البائع إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته (1) .

وقال ابن عابدين أيضا: وفي عيون المسائل عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكا ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط، فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يهلك، ولكنه تعيب وكان للبائع الخيار إن شاء قال: اعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير (2) .

وقال البابرتي في العناية تعليقا على ما نقل في عيون المسائل: قالوا: وما ذكر في العيون يستقيم على قول محمد، وأما على قولهما – أبي حنيفة وأبي يوسف – فلا يستقيم – أي يبطل البيع – وينبغي أن يكتفى بالكساد في تلك البلدة بناء على اختلافهم في بيع الفلس بالفلسين (3) .

(1) حاشية ابن عابدين: 4/24

(2)

تنبيه الرقود: ص 57

(3)

شرح العناية على الهداية وفتح القدير: 5/383

ص: 1229

المذهب الثاني:

ذهب المالكية في المشهور والشافعية والليث بن سعد (1) : إلى أنه إذا كسد النقد لم يكن على المدين غير السكة التي قبضها يوم العقد، وحكى عن الشافعي وجه أن البائع بتخير بين إجازة البيع بالنقد القديم أو فسخه.

جاء في شرح الزرقاني على خليل: وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر أي قطع التعامل بها بالكلية، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها (2) .

وفي حاشية الرهوني – كما سبقت الإشارة -: وإن بطلت فلوس فالمثل، هذا هو مذهب المدونة وعليه عول غير واحد، ولم يحكوا فيه خلافا، وصرح ابن رشد بأنه المنصوص – كما سبق – وذكر جماعة الخلاف، ورجحوا ما للمصنف (3) .

وجاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: إن بطلت فلوس أو دنانير أو دراهم ترتبت لشخص على غيره فقطع التعامل بها، ومن باب أولى إذا تغيرت بزيادة أو نقص، فيجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها أو تغيرها (4) .

ولم يذكر خليل ولا الدردير والدسوقي في هذا خلافا، ولعلهما وافقا المصنف في إهمال خلاف المشهور واعتباره منصوصا عليه.

وجاء في منح الجليل: ومن ابتاع بنقد أو اقترضه، ثم بطل التعامل به، لم يكن عليه غيره (5) .

وجاء في المعيار أن أبا الوليد الباجي كان يفتي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (6) .

(1) أضاف ابن قدامة في المغنى الليث بن سعد: 4/365

(2)

شرح الزرقاني على خليل وبهامشهما حاشية البناني: 5/60 والخرشي على خليل: 5/55؛ والمعيار؛ 6 / 461

(3)

حاشية الرهوني: 5/118

(4)

حاشية الدسوقي: /54 و56

(5)

شرح منح الجليل على مختصر خليل، للشيخ محمد عليش: 2/534، وبهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجليل، تصوير دار صادر، بيروت.

(6)

المعيار: 6 / 163

ص: 1230

وجاء عند الشافعية في المجموع: ولو باع بنقد معين أو مطلق، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السكان المعاملة بذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد، هذا هو المذهب (1) .

وحكى البغدادي والرافعي وجها: أن البائع بخير: إن شاء أجاز البيع بذلك النقد وإن شاء فسخه (2) .

وفي تحفة المحتاج: ويرد وجوبا المثل في المثلي، ولو نقدا أبطله السكان، لأنه أقرب إلى حقه.

قال الشرواتي: فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا (3) .

المذهب الثالث:

ذهب الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى أن الفلوس إذا كسدت ترد القيمة.

واختلفوا في وقت تقدير القيمة، فذهب جمهور القائلين بهذا الرأي إلى أن الوقت يوم القبض، واشترط بعض المالكية أن يكون يوم القبض من النقد الرائج.

وقال محمد بن الحسن وبعض الحنابلة أنه وقت الكساد وترك المعاملة في آخر نَفاق الفلوس وفي قول عند الحنابلة وقت الخصومة.

(1) المجموع: 9/364؛ وروضة الطالبين، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي: 4/37، طبع المكتب الإسلامي، بيروت

(2)

المجموع: 9/ 309

(3)

تحفة المحتاج: 5 / 44

ص: 1231

جاء في المغنى مع الشرح الكبير: إن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها، لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها، ويكون له قيمتها وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها، نص عليها أحمد في الدراهم المكسرة. فقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها، ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا، وذكر أبو بكر في التنبيه أنه يكون له قيمتها وقت فسدت وتركت المعاملة بها؛ لأنه كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافقة، فإذا فسدت انتقل إلى قيمتها حينئذ كما لو عدم المثل. قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها (1) .

(1) المغنى مع الشرح الكبير: 4/365؛ ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، للعلامة مصطفى السيوطي الرحيباني: 3/241، 242، منشورات المكتب الإسلامي، بيروت، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للعلامة علاء الدين على بن سليمان المرادي: 5/127، الطبعة الأولى، مطبعة السنة المحمدية 1376هـ – 1956 م بمصر

ص: 1232

وفي كشاف القناع: إن كان القرض فلوسا أو دراهم مكسورة فيحرمها أي يمنع الناس من المعاملة بها السلطان، أو نائبه، سواء اتفق الناس على ترك المعاملة بها أو لا؛ لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها، فللمقترض القيمة عن الفلوس والمكسرة في هذه الحال وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا، والمغشوشة إذا حرمها السلطان كذلك. وعلم منه: أن الفلوس إن لم يحرمها وجب رد مثلها، غلت أو رخصت، أو كسدت وتكون قيمة ذلك من غير جنسه إن جرى فيه ربا فضل، كما لو أقرضه دراهم مكسورة، فحرمها السلطان أعطى قيمتها ذهبا حذرا من ربا الفضل وعكسه بعكسه، فلو أقرضه دنانير مكسورة فحرمها السلطان أعطى قيمتها فضة (1) .

وجاء في الإنصاف: إن كان فلوسا أو مكسرة فيحرمها السلطان " الصحيح من المذهب أن له القيمة، سواء اتفق الناس على تركها أو لا، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به كثير منهم، وقدمه في المغنى والشرح وغيرهما، وقال القاضي: إن اتفق الناس على تركها فله القيمة، وإن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها، لزمه أحدها، وقيل: له القيمة وقت تحريمها، قاله أبو بكر في التنبيه، وقال في المستوعب: وهو الصحيح عندي، وقال في الفروع غيره: والخلاف فيما إذا كانت ثمنا، وقيل: له القيمة وقت الخصومة"(2) .

(1) كشاف القناع: 3 / 314، والمغنى مع الشرح الكبير: 5 / 358

(2)

الإنصاف: 5 / 127؛ ومطالب أولي النهى: 3 / 249

ص: 1233

أما مقابل المشهور عند المالكية: فقد ذهب ابن عتاب وسعيد بن لب وعبد الحميد الصائغ، وعزى لأشهب، ونُقِل عن سحنون: بأن يرجع إلى القيمة، واختلفوا فقال ابن عتاب وسعيد بن لب وعبد الحميد الصائغ: يرجع إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب. وبه كان يفتي ابن دحون، وفسر ابن الصائغ القيمة بأنها يوم دفعها إليه بهذه السكة الموجودة.

وقال سحنون: يرجع إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة، ونقل عنه أنه يقضي بقيمة الفلوس، وقال أبو يونس وأبو حفص قيمتها يوم الحكم، وبه قال سحنون في صورة قرض – مخصوصة – كما سيأتي – وذهب ابن عبد البر بأنه يأخذ السكة الأخيرة الجارية حين القضاء. فجاء في أقوالهم: سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة.

فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن ابن جابر فقيه إشبيليه قال: نزلت هذه المسائل بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، فأفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب.

قال: وأرسل إلى ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة، وقال لي: الصواب فيها فتواي فاحكم بها، ولا تخالفها، أو نحو هذا الكلام.

ص: 1234

وسئل الأستاذ أبو سعيد بن لب عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول، فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف. وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فبأيهما يقضي له؟

فأجاب: لا يجب للبائع قِبَلَ المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه، وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبا لتعذره.

ومن باع بالدراهم المفلسة الوزانة فليس له غيرها، إلا أن يتطوع المشتري، بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلا منه.

وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض، أخبرني به الشيخ أبو عبد الله بن فرج عنه، وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى دارا أو حماما إما بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم تلك البلد إلى أفضل منها، أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء، دون النقد الجاري حين العقد.

وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة، وكانت حجته في ذلك، أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها، وهو خطأ من الفتوى.

وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (1) .

وجاء في حاشية الرهوني قوله: يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة أي على تقدير ثبوت التعامل بها، ووقع نحوه في كتاب ابن سحنون وحكاه المازري عن شيخه عبد الحميد، وعزى لأشهب؛ لأنه دفع شيئا منتفعا به فلا يظلم بإعطاء ما لا ينتفع به، وقيل يرجع في ذلك إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة، وقد يظهر ببادئ الرأي أن الشاذ أولى لظهور وجهه المتقدم، وليس كذلك بل المشهور هو الذي يظهر وجهه؛ لأن ذلك مصيبة نزلت كما قاله أبو الحسن (2) .

(1) المعيار: 6/163 و 462؛ وشرح الزرقاني بحاشية البناني: 5/60

(2)

حاشية الرهوني والمدني: 5/118 و119 و120

ص: 1235

وقد علق الونشريسي على فتوى ابن عتاب وعللها تعليلا جيدا، وبين أوجه ظواهر النقل فقال: ومن المعلوم أن ابن عتاب إنما التفت في فتياه إلى وصف التعامل على كيفيته في وقته؛ لأن قيمة الشيء بمنزلته، فقد جعل الخسارة في قطع التعامل لاصقة بجهة المطلوب، وذلك عين ما قصدت في النازلة المذكورة عند بقاء السكة نفسها ورجوعها إلى أصلها الذي لم يزل معتبرا فيها، ولما أهمل غيره ذلك الوصف مع أنه مدخول عليه في أصل العقد رأي أنه غير مصيب في فتياه، وهذا وجه ثان من ظواهر النقل، ثم قال: ومثل قول ابن عتاب وقع في كتاب ابن سحنون في الفلوس إذا قطعت، ونحوه حكى المزري عن شيخه عبد الحميد، وأنه عدل عن غيره إليه، وقد أضافه ابن محرز إلى أشهب في كتاب ابن المواز، وهذا وجه ثالث من ظواهر النقل (1) .

وذكر الونشريسي المسألة في موضوع آخر وعلق عليها، وذكر التفريع والتخريج فقال: عن حفص العطار: من لك عليه دراهم فقطعت ولم توجد قيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم لو وجدت.

وحكى ابن يونس عن بعض القرويين: إذا أقرضه دراهم فلم يجدها في الموضع الذي هو به الآن أصلا، فعليه قيمتها بموضع إقراضه إذا أقرضه إياها يوم الحكم لا يوم كان دفعها إليه.

وفي كتاب ابن سحنون: إذا أسقطت يتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت؛ لأن الفلوس لا ثمن لها وفرع على هذا الأصل: من تسلف دراهم فلوسا أو نقرة بالبلاد المشرقية، ثم جاء مع المقرض إلى بلاد المغرب، فوقع الحكم بأنه يلزمه قيمتها في بلدها يوم الحكم كما قال ابن يونس وأبو حفص مع ظاهر المدونة في الرهون، وعلى القول الآخر الذي تلزمه قيمتها يوم فقدت وقطعت وتكون حينئذ قيمتها يوم خروجه من البلد الذي هي جارية فيه، إذ هو وقت فقدها وقطعها وعليه أيضا إذا حالت السكة أو الفلوس بعد الوصول في تلك البلاد والفتاوى فيها أيضا أنه يعطي قيمة الفلوس أو الدراهم المقطوعة في تلك البلاد يوم الحكم ذهبا (2) .

(1) المعيار: 6/192 و193

(2)

المعيار: 6/106

ص: 1236

ويظهر مما سبق اضطراب النقل لمقابل المشهور، وقد جمع الرهوني أقوالهم وحصلها فقال: وحاصل ما ذكر: أنه يتعين أخذ السكة، إن كانت موجودة وهذا هو المشهور، والشاذ يقضي بقيمتها، قاله في كتاب ابن سحنون. ومثله لعبد الحميد الصائغ. قال ابن عبد السلام: لا أدري كيف يتصور القضاء بقيمتها مع وجودها إلا أن يريد بقيمتها يوم تعلقها في الذمة لا يوم حلول الأجل، وهو مع ذلك مشكل لأنه إلزام لمن هو في ذمته أكثر مما التزم، وأجاب الصائغ إذا فسدت السكة وباعه بثمن إلى أجل، وصارت غيرها، وصار الأمر إلى خلاف ما دخلا عليه، فعليه قيمتها يوم دفعها إليه بهذه السكة الموجودة الآن، وقد اضطرب فيها المتقدمون والمتأخرون والأولى ما ذكرت لك.

وفي كتاب ابن سحنون إذا سقطت يتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت؛ لأن الفلوس لا ثمن لها ووجه ما في المدونة أنها جائحة نزلت به، وجزم أبو الحسن في كتاب الصرف بأن الشاذ الإتب0اع بقيمة السلعة فقال ما نصه: وحكى عن ابن شاس أنه قال: إذا كانت الفلوس من بيع على المبتاع قيمة السلعة وهذا خلاف المشهور؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به، والذي في الجواهر لابن شاس هو ما نصه: لو كان التعامل بالفلوس، ثم قطعت فهل يقضي فيه بالمثل، أو بالقيمة، المشهور المعروف من المذهب القضاء بالمثل، وإن فسدت إذا وجدت، وحكى بعض المتأخرين عن كتاب ابن سحنون القضاء بالقيمة، ورآه أبو إسحاق التونسي وغيره قياسا (1) .

ونقل النص على القيمة من قول أبي يوسف ومحمد: "إذا اشترى بالفلوس أو الزيوف سلعة ثم كسدت قال أبو حنيفة: يبطل العقد، وقال أبو يوسف ومحمد: لم يبطل وعليه قيمتها، لكن عند أبي يوسف قيمته يوم البيع، وعند محمد آخر ما تعامل الناس بها"(2) ، وقد سبق تفصيل هذا الرأي.

(1) حاشية الرهوني والمدني: 5/118 و120

(2)

شرح فتح القدير: 5/383 ح والبدائع: /3245؛ وحاشية ابن عابدين: 4/24

ص: 1237

* * *

الحالة الثانية – الانقطاع ومذاهب الفقهاء فيه:

فسر ابن عابدين الانقطاع: بألا يوجد النقد في السوق، وإن وجد في يد الصيارفة والبيوت.

ثم نقل فقال " وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصح"(1) .

وقال الزرقاني والبناني في معرض بيان معنى الانقطاع: أنه الانعدام "جملة في بلد تعامل المتعاقدين وإنه وجدت – أي الفلوس – حين القبض في غيرها"(2) . والفقهاء لم يلتزموا لفظ الانقطاع فحسب، بل قد يستخدمون ألفاظا أخرى، كما سيتضح من النقول عنهم.

وقد اتفق جمهور الفقهاء: الحنفية في قول أبي يوسف ومحمد وهو المفتي به والمالكية والشافعية والحنابلة على وجوب القيمة عند الانقطاع لكنهم اختلفوا في وقت تقديرها: فعند المالكية في المعتمد وقت الحكم والقول الثاني أبعد الأجلين من الاستحقاق والانقطاع.

وعند الشافعية وقت المطالبة، سواء يوم انقطاع إن كان حالا، أو يوم حلول الأجل.

وعند الحنابلة ومحمد بن الحسن وبه يفتي عند الحنفية أن القيمة آخر يوم قبل الانقطاع وعند أبي يوسف يوم التعامل.

(1) حاشية ابن عابدين: 4/24، وتنبيه الرقود: ص 58

(2)

شرح الزرقاني على الخليل، بحاشية البناني: 5/60

ص: 1238

مذهب الحنفية:

ذهب أبو حنيفة – كما سبق – إلى أن الانقطاع يوجب فساد البيع، وخالفه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.

قال ابن عابدين: " إن انقطعت بأن لا توجد في السوق، ولو وجدت في يد الصيارفة، أو في البيوت، فقيل: يفسد البيع، وقيل: تجب في آخر يوم الانقطاع، وهو المختار "(1) .

ونقل ابن عابدين عن كتاب المضمرات قوله: " فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع وهو المختار"(2) .

وقال في تنبيه الرقود: "وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها، فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار "(3) .

وقال أيضا: وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد وعليه الفتوى: (4) .

وقال أيضا: "وأما الكساد والانقطاع فالذي يظهر أن البيع لا يفسد إجماعا إذا سميا نوعا منه، وذلك لأنهم ذكروا في الدراهم التي غلب غشها ثلاثة أقوال: الأول: قول أبي حنيفة بالبطلان، والثاني: قول الصاحبين بعدمه، وهو قول الشافعي وأحمد لكن قال أبو يوسف: عليه قيمتها وقت البيع. وقال محمد: يوم الانقطاع. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف. وفي التتمة، والمختار، والحقائق. بقول محمد يفتي رفقا بالناس"(5) .

وعلة قول أبي يوسف بوقت البيع؛ لأنه مضمون به، وعند محمد يوم الانقطاع؛ لأنه أوان الانتقال إلى القيمة (6) .

(1) العقود الدرية: 1/280

(2)

حاشية ابن عابدين: 4/24

(3)

تنبيه الرقود: ص 58

(4)

تنبيه الرقود: ص 57 و 60

(5)

تنبيه الرقود: ص 62

(6)

شرح فتح القدير: 5 / 383

ص: 1239

وقال المالكية في المعتمد:

القيمة يوم الحكم. وقول: وقت اجتماع الاستحقاق أي الحلول ويوم العدم فالعبرة بالمتأخر منهما، وهذا هو المشتهر عندهم.

جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: إن عدمت الفلوس بالكلية في بلد المتعاقدين وإن وجدت في غيرها، فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه ما تجدد أي يدفعها مما تجدد وظهر من المعاملة فيقال: ما قيمة العشرة دراهم التي عدمت بهذه الدراهم التي تجددت فيقال: ثمانية دراهم مثلا فيدفع المدين ثمانية من تلك الدراهم التي تجددت وإذا قيل: قيمتها اثنا عشر، دفع اثني عشر منها وهكذا.

وقال خليل: تعتبر القيمة وقت اجتماع الاستحقاق أي الحلول ويوم العدم، فالعبرة عنده بالمتأخر منهما، فإن كان العدم والاستحقاق حصلا في وقت واحد، فالأمر ظاهر. وإن تقدم أحدهما على الآخر فالعبرة بالمتأخر منهما، إذ لا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما، فإذا استحقت ثم عدمت اعتبرت القيمة يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت اعتبرت القيمة يوم الاستحقاق ولم يذكر خليل القول المعتمد.

وقال الدرديري: المعتمد أن القيمة تعتمد يوم الحكم، قال الدسوقي: أي اليوم الذي هو متأخر عن يوم العدم وعن يوم الاستحقاق. وانظر على هذا القول: إذا لم يقع تحاكم.

والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم، وحينئذ تعتبر القيمة يوم طلبها ثم قال: إن قول المصنف: من أن القيمة تعتبر وقت اجتماع الاستحقاق والعدم. وكذا على المعتمد من أنها تعتبر يوم الحكم. ظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس. وبه قال بعضهم. وقال بعض: كل من القولين مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطلب، وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة، أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة. وهذا هو الأظهر، لظلم المدين بمطله فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه وتبين ظلمه (1) .

(1) حاشية الدسوقي: 3/45 و 46، والخرشي على خليل: 5 / 55، وشرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني: 5/60، وقد خالف المالكية هنا في الحكم بين المماطل وبين الغاصب. فالغاصب يضمن المثل، ولو بغلاء مع أنه أشد ظلما من المماطل لتعديه، وإن لم يكن فمثله، وقد نبه على هذا الشيخ العدوي وأجاب: بأن الغاصب لما كان يغرم في الجملة خفف عنه، ولا كذلك المماطل. الخرشي. على خليل بحاشية العدوي: 5/55

ص: 1240

وقول المالكية باعتبار يوم الحكم أولى عندي من غيره فهو أرفق بالناس وأحرى ألا يختلفوا بعده، وما كان قبل هذا اليوم فهو مظنة الخلاف.

وقال الخرشي: إن عدمت فالواجب على من ترتبت عليه قيمتها مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين من العدم والاستحقاق، فلو كان انقطاع التعامل بها أو تغيرها أول الشهر الفلاني. وإنما حل الأجل آخره. فالقيمة آخره. بالعكس بأن حل الأجل أوله وعدمت آخره فالقيمة يوم العدم ولو آخره أجلا ثانيا وقد عدمت عند الأجل الأول فالقيمة عند الأجل الأول؛ لأن التأخير الثاني إنما كان بالقيمة، وبعبارة ولو آخره بها بعد حلول أجلها، وقبل عدمها، ثم عدمت في أثناء أجل التأخير فإنه يلزمه قيمتها عند حلول أجل التأخير، كما يفيده كلام أبي الحسن الشاذلي، ويفهم منه أنه إذا تأخر عدمها عن الأجل الثاني أن قيمتها تعتبر يوم عدمها، ثم قال: وكلام المؤلف مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل وإلا وجب عليه ما آل إليه، أي من المعاملة الجديدة لا القيمة لأنه ظالم (1) .

وهذا ترجيح من الخرشي للتقييد بالمطل – وقد خالف بذلك ظاهر كلام المصنف خليل والمدونة والوانوغي وكثيرا من المالكية.

وجاء في شرح الزرقاني عن انقطاع الفلوس: بأن القيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت اجتماع الاستحقاق، أي الحلول والعدم معا، ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما، فأشبه وقت الإتلاف، فإذا استحقت ثم عدمت فالتقويم يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت فالقيمة يوم استحقت، كأقصى الأجلين في العدة.

ثم قال: وهذا كله على مختار المصنف خليل هنا تبعا لابن الحاجب تبعا للخمي وابن محرز، والذي اختاره ابن يونس وأبو حفص أن القيمة تعتبر يوم الحكم قال أبو الحسن الشاذلي وهو الصواب.

وقال البرزلي وهو ظاهر المدونة فكان على المصنف أن يذكر القولين، أو يقتصر عن الثاني ثم استشكل الزرقاني مسألة تقييد الموضوع بالمطل، وهو أمر مختلف فيه فقال فيه: وعليه فانظر إذا لم يقع تحاكم: هل يكون الحكم ما مشي عليه المصنف أو تعتبر قيمتها يوم حلولها إن كانت مؤجلة، ويوم طلبها إن كانت حالة، أو يقال: بمنزلة التحاكم، وظاهر كلام المصنف كالمدونة سواء مطله بها أم لا. وقيدها الوانوغري وأقره في التكميل بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا وجب عليه لمطله ما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة كما هو ظاهر (2) .

ونقل في فتح الجليل عن القرافي قوله: "ولو انقطع ذلك النقد حتى لا يوجد لكان له قيمته يوم انقطاعه إن كان حالا، وإلا فيوم يحل الأجل لعدم استحقاق المطالبة قبله"(3) .

(1) الخرشي على خليل بحاشية العدوي: 5/55، وشرح الزرقاني: 5/60

(2)

شرح الزرقاني على خليل وبهامش البناني: 5/60، وحاشية الرهوني: 5/121، وفيه مناقشة لقول الزرقاني "وعليه فانظر إذا لم يقع تحاكم .... إلخ"

(3)

منح الجليل: 2/534

ص: 1241

وعند الشافعية:

جاء في تحفة المحتاج، ويرد وجوبا المثل في المثلي حيث لا استبدال، ولو نقدا أبطله السلطان فشمل الفلوس الجديد. وعللوا ذلك بأنه أقرب إلى حقه (1) .

وقال الرملي: إن فقد وله مثل وجب، وإلا فقيمته وقت المطالبة (2) .

وفصل في المجموع بناء على حكم الاستبدال على الثمن وانقطاع المسلم فيه. فقال: لو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس فالعقد باطل؛ لعدم القدرة على التسليم، فإن كان لا يوجد في ذلك البلد، ويوجد في غيره، فإن كان الثمن حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن نقله فيه، فالعقد باطل أيضا، وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها صح البيع، ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذاك، وإلا فينبني على أن الاستبدال على الثمن هل يجوز. إنا قلنا: لا، فهو كانقطاع المسلم فيه. وإن قلنا: نعم، استبدال ولا ينفسخ العقد على المذهب، وفيه وجه ضعيف: أنه ينفسخ. أما إذا كان يوجد في البلد ولكنه عزيز فإن جوزنا الاستبدال، صح العقد. فإن وجد فذاك وإلا فيستبدل، وإن لم نجوزه لم يصح. أما إذا كان النقد الذي جرى به التعامل موجودا ثم انقطع فإن جوزنا الاستبدال استبدل وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه (3) .

(1) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني: 5 /44

(2)

نهاية المحتاج: 3/399

(3)

المجموع: 9 / 364

ص: 1242

وقد حاول ابن البلقيني والسيوطي تخريج مسألة تغير قيمة الفلوس حال انعدامها أو عزتها على مسألة إبل الدية فقال:

وظهر لي في ذلك أن هذه المسألة قريبة الشبه من مسألة إبل الدية، والمنقول في إبل الدية: أنها إذا فقدت، فإنه يجب قيمتها بالغة ما بلغت على الجديد. قال الرافعي: فَتُقَوَّمُ الإبل بغالب نقد البلد، وتراعى صفتها في التغليظ، فإن غلب نقدان في البلد تخير الجاني. وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها. فإن كانت له إبل معيبة، وجبت قيمة الصحاح من ذلك الصنف، وإن لم يكن هناك إبل فيقوم من صنف أقرب البلاد إليهم، وحكى صاحب التهذيب وجهين: في أنه هل تعتبر قيمة مواضع الوجود، أو قيمة بلد الإعواز لو كانت الإبل موجودة فيها؟ والأشبه الثاني. ووقع في لفظ الشافعي: في أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب، والمراد على ما يفهمه كلام الأصحاب، يوم وجوب التسليم، ألا تراهم قالوا: إن الدية المؤجلة على العاقلة تُقَوَّم كل نجم منها عند محله، وقال الروياني: إن وجبت الدية والإبل مفقودة فتعتبر قيمتها يوم الوجوب أما إذا وجبت وهي موجودة فلم يتفق الأداء حتى أعوزت. تجب قيمة يوم الإعواز؛ لأن الحق حينئذ تحول إلى القيمة. ثم بين وجه الشبه بين المسألتين، وتخريج المسألة فقال: فهذه تناظر مسألتنا؛ لأنه وجب عليه متقوم معلوم الوزن، وهو قنطار من الفلوس مثلا فلم يجده، فإن جرينا على ظاهر النص الذي نقله الرافعي، فلا يلزمه الحاكم إلا بقيمة يوم الإقرار. فينظر في سعر الذهب والفضة يوم الإقرار، ويحكم عليه القاضي بذلك، وإن قلنا: بما قاله الروياني، فتجب قيمتها يوم الإعواز فإن الأقارير كانت قبل العزة- انتهي ما أجاب به ابن البلقيني.

ص: 1243

ثم قال السيوطي عن ابن البلقيني: واعلم أنه نحا في جوابه إلى اعتبار قيمة الفلوس؛ وذلك لأنها عدمت فلم تحصل إلا بزيادة. والمثلى إذا عدم أو عزَّ فلم يحصل إلا بزيادة لم يجب تحصيله، كما صححه النووي في الغصب بل يرجع إلى قيمته، وإنما نبهت على هذا لئلا يظن أن الفلوس من المتقومات وإنما هي من المثليات في الأصح والذهب والفضة المضروبان مثليان بلا خلاف، إلا أن في المغشوش منهما وجها أنه متقوم (1) .

وقال السيوطي أيضا: إن عدمت الفلوس العتق فلم توجد أصلا، رُجِعَ إلى قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويعتبر ذلك يوم المطالبة، فيأخذ الآن لو قدر انعدامها في كل عشرة أرطال دينارا.

ولو اقترض منها فلوسا عددا كستة وثلاثين، ثم أبطل السلطان المعاملة بها عددا، وجعلها وزنا كل رطل بستة وثلاثين، كما وقع في بعض السنين، فإن كان الذي قبضه معلوم القدر بالوزن رجع بقدره وزنا، ولا تعتبر زيادة قيمته ولا نقصها، وإن لم يكن وزنه معلوما، فهو قرض فاسد؛ لأن شرط القرض أن يكون المقرض معلوم القدر بالوزن، أو الكيل، وقرض المجهول فاسد، والعدد لا يعتبر به والمقبوض بالقرض الفاسد يضمن بالمثل، أو بالقيمة، وهنا قد تعذر الرجوع إلى المثل للجهل بقدره فيرجع إلى القيمة. وهل تعتبر قيمة ما أخذه يوم القبض أو يوم الصرف؟ الظاهر الأول فقد أخذ ما قيمته يوم قبضه ستة وثلاثون فيرد ما قيمته الآن كذلك. وهو رطل أو مثله من الفضة أو الذهب (2) .

أما الحنابلة فقد نصوا على حال الإعواز – كما سبق – جاء في كشاف القناع "وإذا كان المقرض ببلد المطالبة تحرم المعاملة به في سيرة السلطان، فالواجب على أصلنا القيمة، إذ لا فرق بين الكساد لاختلاف الزمان أو المكان، ثم قال: فإن أعوز المثل. قال في الحاشية: عوز الشيء عوزا من باب: عز فلم يوجد، وأعوزني المطلوب، مثل أعجزني لفظا ومعنى، لزم المقترض قيمته أي المثل يوم إعوازه؛ لأنها حينئذ ثبتت في الذمة، ويجب على المقترض رد قيمة ما سوى ذلك أي المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، فضمن بقيمته كالغصب"(3) .

(1) الحاوي للفتاوى: 1 / 98

(2)

الحاوي للفتاوى: 1/97

(3)

كشاف القناع: 3 / 314

ص: 1244

الحالة الثالثة – الرخص والغلاء ومذاهب الفقهاء فيه:

ومعنى أن الرخص والغلاء: أن الفلوس أو الأوراق النقدية، قد تهبط قيمتها بضعف قوتها الشرائية فترخص وهذا هو الغالب، وقد ترتفع قيمتها فتقوى قوتها الشرائية فيقال، غلت، وقد يحدث ذلك بعد أن ثبت في ذمة المدين قيمة قرض أو ثمن بيع بالأجل أو غير ذلك. وحل الأجل. فهل يؤدي ما التزم به باعتبار الرخص والغلاء، أما لا اعتبار لهما؟ وفي جميع الأحوال قد يحدث الرخص والغلاء بفعل الدولة أو بسبب العرض والطلب أو بغير ذلك.

اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين ووجه:

المذهب الأول:

ذهب جمهور الفقهاء: المالكية والشافعية والحنابلة وهو قول أبي حنيفة إلى أن الواجب أداء ذات النقد الثابت في ذمة المدين ولا اعتبار للرخص أو الغلاء.

فنص المالكية – كما سبق – على وجوب المثل في إبطال الفلوس، واعتبروا تغيرها كذلك من باب أولى، فقال خليل وشارحه الزرقاني: "وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر أي قطع التعامل بها بالكلية، وأولى تغيرها بزيادة، أو نقص، مع بقاء عينها، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها، أو التغير. ولو كانت حين العقد مائة بدرهم، ثم صارت ألفا به، كما في المدونة أي أو عكسه لأنها من المثليات (1) .

وقال الدسوقي: إذا بطلت فلوس ترتبت لشخص على غيره بقرض، أو بيع أو نكاح، أو كانت عنده وديعة وتصرف فيها، وكذا لو دفعها لمن يعمل بها قراضا، فالواجب المثل على من ترتبت في ذمته، ولو كانت الفلوس حين العقد مائة بدرهم، ثم صارت ألفا به" (2) .

وقال في منح الجليل عن المدونة: "إن أقرضته دراهم فلوسا، وهو يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليكم مثل ما أخذ لا غير ذلك "(3) .

(1) شرح الزرقاني على خليل: 5/60، ومثله في منح الجليل: 2/534

(2)

حاشية الدسوقي: 3/45، بتصرف يسير

(3)

منح الجليل: 2/535

ص: 1245

وفي المعيار: سئل سعيد بن لب عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف، وكان ذلك على جهة، فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فأيهما يقضي له؟.

فأجاب: لا يجب للبائع قبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده (1) .

وعند الشافعية يرد المثل أيضا. قال السيوطي في تعليقه على قول النووي في الروضة: " لو باع بنقد معين، أو مطلق، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان ذلك النقد

" قال السيوطي تفريعا على قول النووي: إن باع برطل فلوسا فهذا ليس له إلا رطل زاد سعره أم نقص، سواء كان عند البيع وزنا فجعل عددا أو عكسه، فإن باع بألف فلوسا، أو فضة، أو ذهبا، ثم يتغير السعر فظاهر عبارة الروضة المذكورة أن ليس له ما يسمى ألفا عند البيع، ولا عبرة بما طرأ، ويحتمل أن له ما يسمى ألفا عند المطالبة. وتكون عبارة الروضة محمولة على الجنس لا على القدر، وهذا الاحتمال وإن كان أوجه من حيث المعنى إلا أنه لا يتأتى في صورة الإبطال؛ إذ لا قيمة حينئذ إلا عند العقد لا عند المطالبة ويرده أيضا التشبيه بمسألة الحنطة إذا رخصت (2) .

وكذلك يرد المثل بناء على اعتبار الشافعية الفلوس من المثليات في الصحيح. فالقرض مثلا يرد بمثله مطلقا. سواء كان ذهبا أو فضة أو فلوسا، وسواء زادت قيمته أو نقصت قال ابن حجر:(ويرد وجوبا حيث لا استبدال المثل في المثلى، لأنه أقرب إلى حقه)(3) .

(1) المعيار: 6/462

(2)

الحاوي للفتاوى: 1 / 97

(3)

تحفة المحتاج: 5/44، والحاوي للفتاوي: 1/98

ص: 1246

وأما أقوال الحنابلة في رد المثل فجاء في المغني:

"وأما رخص السعر فلا يمنع سواء كان قليلا أو كثيرا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر. فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت، وكذلك يخرج في المغشوشة إذا حرمها السلطان".

وجاء فيه أيضا: "أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا"(1) .

وفي مطالب أولي النهى: "ويجب على مقترض رد مثل فلوس اقتراضها، ولم تحرم المعاملة بها، ورد مثل دراهم مكسرة أو مغشوشة غلت، أو رخصت"(2) .

وفي مجلة الأحكام مادة 750: "وإذا كان القرض فلوسا أو دراهم مكسرة، أو أوراقا نقدية، فغلت أو رخصت أو كسدت، ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها "(3) .

المذهب الثاني:

مذهب الحنفية: وهو قول أبي يوسف وعليه العمل والفتوى وهو وجوب أداء القيمة في الرخص والغلاء، فإن كان ما في الذمة قرضا، فتجب القيمة يوم القبض، وإن كان بيعا فالقيمة يوم العقد. وأما أبو حنيفة فرأيه مع الجمهور، ويعلم مذهبه من بيان رأي أبي يوسف التالي تفصيله.

نقل ابن عابدين عن المنتقى قوله: "إذا غلت الفلوس قبل القبض، أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها ثم رجع أبو يوسف، وقال: عليه قيمتها من الدراهم، يوم وقع البيع أي في صورة البيع، ويوم وقع القرض، أي في صورة القبض. ثم قال ابن عابدين: وبه علم أن في الرخص والغلاء قولان، الأول: ليس له غيرها، والثاني: قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى (4) .

ونقل عن الولواجية في: رجل اشترى ثوبا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلا قد فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك (5) .

(1) المغنى: 4/358، ومطالب أولي النهى: 2/241

(2)

مطالب أولي النهى: 3/241، والإنصاف: 5 / 128

(3)

مجلة الأحكام الشرعية مادة 750

(4)

تنبيه الرقود: ص 58، وحاشية ابن عابدين: 4/24

(5)

تنبيه الرقود: ص 56

ص: 1247

وقال ابن عابدين في حاشيته نقلا عن التمرتاشي في رسالته " بذل المجهود في مسألة تغير النقود ".

"إذا غلت قيمة الفلوس أو انتقصت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع كذا في فتح القدير، وفي البزازية عن المنتقى غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول – أبو حنيفة – والثاني – أبو يوسف – أولا – أي رأي أبي يوسف الأول – ليس عليه غيرها، وقال الثاني – أبو يوسف – ثانيا – أي قول أبي يوسف الثاني – عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى وهكذا في الذخيرة والخلاصة عن المنتقى، ونقله في البحر وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء، وقضاء، ولم أر من جعل الفتوى على قول الإمام، هذا خلاصة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في رسالته " بذل المجهود في مسألة تغير النقود " (1) .

ونقل عن البزازية: "استقرض منه دانق فلوس حال كونها عشرة بدانق، أو رخص وصار عشرين بدانق، يأخذ منه عدد ما أعطى، ولا يزيد ولا ينقص. قلت: هذا مبني على قول الإمام وهو قول أبي يوسف أولا، وقد علمت أن المفتى به قوله ثانيا، وجوب قيمتها يوم القرض، وهو دانق أي سدس درهم سواء صار الآن ستة فلوس بدانق أو عشرين بدانق تأمل "(2) .

وقال في العقود الدرية: وإن رخصت أو غلت فقيل: ليس للبائع غيرها، فيجب على المشتري رد المثل، وقيل: تجب بقيمتها يوم البيع، أو يوم القرض في صورة القرض. ثم قال وعليه الفتوى، وهذا كله في الدراهم التي غلب غشها والفلوس (3) .

(1) العقود الدرية: ص 281، وتنبيه الرقود: ص 58

(2)

حاشية ابن عابدين: 4 / 24

(3)

العقود الدارية 1/280

ص: 1248

وقد جزم ابن عابدين بأن المفتي به قول أبي يوسف نقلا عن الغزي قال: وقد تتبعت كثيرا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، بل قالوا: به كان يفتي القاضي الإمام. وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فليكن المعول عليه. انتهي كلام الغزي رحمه الله تعالى (1) .

ثم قال نقلا عن شيخه سعيد الحلبي بإقرار قول أبي يوسف إفتاء وقضاء فقال: وقد نقله شيخنا في بحر وأقره فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما، ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه وفي فتاوى قاضي خان يلزمه المثل، وهكذا ذكر الإسيجابي قال: ولا ينظر (2) .

(1) تنبيه الرقود: ص 65.

(2)

تنبيه الرقود: ص58

ص: 1249

الوجه، وهو رأي الشيخ الرهوني:

ذكر الشيخ الرهوني رأي المالكية في وجوب المثل في الرخص والغلاء، ووافق على هذا، وبين أنه لا خلاف في هذه المسألة، وإنما الخلاف في الكساد فقال:"ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب، وصريح آخرين منهم، أن الخلاف محله إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة، وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا".

ذكر حجة مقابل المشهور في وجوب القيمة وتعليلهم في الكساد بقصد رد هذه الحجة فقال: وقد يظهر ببادئ الرأي أن مقابل المشهور أولى لما علل به قائله من أن البائع إنما يدل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه مالا ينتفع به، وليس كذلك بل المشهور هو الذي يظهر وجهه؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به، ثم بين أن الإمام مالكا وأتباعه لم يلتفتوا إلى حجة المقابل في مراعاة ضرر البائع.

ومع تأييد الرهوني لحجة المشهور في المذهب، إلا أنه حين عرض لرأي المالكية في الرخص والغلاء، لاحت له حجة مقابل المشهور في الكساد، فقيد به رأي المذهب، قال: وينبغي أن يقيد – رأي المالكية في الرخص والغلاء – بما إذا لم يكثر ذلك جدا، حتى يصير القابض لها، كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف – في الكساد – من أن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به (1) .

(1) حاشية الرهوني والمدني: 5 / 118 و 120 و 121

ص: 1250

الرأي الراجح:

والذي يترجح – مع كثير من الوجل – في القول في بهذا الموضوع الخطير خصوصا وأن الحكم فيه شامل للحكم في الأوراق النقدية. هو قول الإمام أبي يوسف، ووجه الشيخ الرهوني، ورأي سحنون المنقول عنه في تقدير وقت القيمة في الكساد. فتجب القيمة في الرخص والغلاء، إذا كان كثيرا ووقت تقدير القيمة في القرض يوم القبض، وإن كان بيعا فنختار رأي سحنون في الكساد بأن يرجع إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة.

توجيه أدلة الرأي الراجح:

إن قول أبي يوسف بإيجاب القيمة في الرخص والغلاء قول يسنده العديد من قواعد الشرع كما سنذكره بعد قليل، ولعل أبا يوسف اعتبر الرخص والغلاء عيبا لحق الفلوس، سواء في القرض أو البيع، فترتب عليه ظلم للدفاع مع الرخص فينبغي أن يجبر بالقيمة، ولا يقتضي إبطال العقد كما لم يبطل في الكساد والانقطاع. وقد لاحظ أبو يوسف ها هنا أن الفلوس أثمان باصطلاح الناس، فإذا تغير اصطلاحهم، أو تغير ما اصطلحوا عليه، فينبغي مراعاة هذا التغير بحيث لا يترتب على طرف ضرر وإلا لم يعد للاصطلاح فائدة أو معنى.

وهذا النظر عند أبي يوسف جرى عليه في أحوال التغير كلها في الكساد والانقطاع، وكذا ها هنا في الرخص والغلاء، وإن رأي محمد بن الحسن تبعا لرأيه في الكساد والانقطاع بناء على دليل أبي يوسف، ينبغي أن يكون موافقا لرأيه على اعتبار أنهما اتفقا في دليل الحكم.

ص: 1251

وأما الوجه الذي ذكره الرهوني، فهو رأي وجيه متجه وهو بمثابة ضابط لرأي أبي يوسف، لئلا يمضي رأيه في كل رخص أو غلاء ولو يسيرا، فتضطرب المعاملات وتتزعزع ثقة الناس في التبادل بالفلوس ومثلها الأوراق النقدية. ولأن الغبن اليسير أو الغلاء والرخص اليسير لا تخلو منه المعاملات، ولو تُقُيِّدَ به دخل على الناس العسرُ في معاملاتهم لكن التغيّر في القيمة إذا كان كثيرا فإنه يترتب عليه ظلم على أحد الطرفين في الرخص والغلاء.

ولأن الدافع أولا لم يدفع – في غير القرض وأشباهه إلا بقصد الانتفاع والربح، وهذا هو الأصل في المبايعات، ولذا احتج الرهوني بقوله: إن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به، لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. والظلم متحقق حتى في القبض، وهو عقد إرفاق، ولو لم تقدر القيمة عند التغير الكبير لتحرج الناس من عمل الخير لئلا يجلب لهم ضررا.

ص: 1252

وينبغي أن يكون تقدير الرخص والغلاء من ولي الأمر، لأنه الأقدر على معرفة المصلحة العامة وتقديرها، كما ينبغي أن تعتبر مسألة تغير قيمة النقود قضية عامة لا خاصة أما الحالات الفردية فإنها لا تدخل بخصوصها. هذا ما يترتب على قيد الرهوني.

وكذلك قول سحنون له وجاهته ها هنا: ذلك أن الدراهم والدنانير تستند في عيار قيمتها إلى ذاتيتها خلقة، فإذا رخصت أو غلت فإنما ترخص وتغلو بالنسبة لذاتها من الذهب والفضلة، لكن الفلوس ومثلها الأوراق النقدية لا تستند إلى عيار من الذهب والفضة حتى تقاس به في الرخص والغلاء وإنما هي مرتبطة إلى حد كبير بالسلع، فكلما ارتفعت قيمة السلع رخصت قيمتها وكلما انخفضت قيمة السلع غلت قيمتها، فلابد للفلوس من ارتباط والسلع تصلح معيارا، أما اصطلاح الناس فلا يصلح بداهة.

ويمكن أن يخرج على قول سحنون هذا: ربط تغير العملة بأسعار السلع لمعرفة نسبة انخفاض ورخص العملة أو ما يسمى بالتضخم. ولا نجد ما يمنع من تنظيم الدول نسب التضخم، وتحديها كل عام تكون قائمة الأسعار مقياسا لتقويم العملة. وهذا موضوع ينظر تفصيله عند الاقتصاديين، لكن المبدأ مقبول ابتداء، حتى تنجلي صورته العملية من كل وجه ويتبين عدم مصادمته لنص، أو قاعدة، أو مقصد شرعي.

وإن هذا الرأي يتأسس صحيحا على ما سبق تفصيله من طبيعة الفلوس في أنها ليست ثمنا خالصا، ولا عرضا خالصا، وإنما فيها شوب من هذا ومن هذا، فقد تكون ثمنا فتجري عليها أحكام الأثمان، وقد تكون في حكم العروض فتجري عليها أحكام العروض. فلتكن ها هنا كالعروض المعيبة فتؤخذ قيمتها عند الرخص والغلاء الكثير في القرض، لأنه لا بديل عن ذلك، وتؤخذ قيمة السلعة في البيوع لإمكان التقدير بها، وهي عرض محض لا شائبة فيه، فيكون التقدير على وفقها أكثر اطمئنانا.

وقد يقال هنا: كيف افترقت الفلوس عن حكم الدراهم والدنانير في أنه لا يجوز القيمة فيها بحال، وقد قستم الفلوس على الدراهم والدنانير بجامع علة الثمنية في كل.

فيقال: إن اجتماعهما في علة الثمنية لا يمنع من حيث آثار كل أن يختلفا في قيمة هذه الثمنية، فالدراهم والدنانير لا تبطل ثمنيتها بحال. وقد ترخص بنسبة يسيرة لأنها في الخلقة ثمن، ولذا لا يترتب ضرر محقق للعاقدين حتى يجب رفعه، بخلاف الفلوس ومثلها الأوراق النقدية فإنها قد تبطل ثمنيتها، وقد ترخص كثيرا، فينظر حينئذ إلى ما انبني عليها من آثار شغل الذمم. ومن جانب آخر، إذا رخصت ثمنية الفلوس ومثلها الأوراق النقدية، لم يرخص ما دلت عليه من مقدار شغل الذمم. فقد فارقت في هذا الحال مماثلة الدراهم والدنانير صورة برخص قيمتها، ولم تفارقه حقيقة في مقدار ما شغلت به الذمة، مما اصطلح عليه حين العقد وإن لم يقبل هذا في مفارقة الفلوس الدراهم والدنانير، فيمكن اعتبار المفارقة استحسانا للمصلحة أو الضرورة على رأي الحنفية؛ إذ القياس الجلي هنا يقتضي المثل في الفلوس، والقياس الخفي وهو الاستحسان يقتضي القيمة بدليل المصلحة والضرورة.

ص: 1253

تخريجات الرأي الراجح:

يمكن أن يتخرج الرأي المختار على عدة نظائر، وقواعد فقهية.

أما النظائر: فقد تكلم الفقهاء في بيع الفلوس إذا حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فتجب القيمة، وتعتبر قيمتها يوم التلف على خلاف بينهم.

وتكلموا عن استعارة الفلوس، ففي تلفها قال بعضهم: بالقيمة يوم التلف.

وأيضا: لو أخذت الفلوس على جهة السوم، فتلفت ففيها القيمة يوم القبض، أو يوم التلف على خلاف بينهم.

أما القواعد التي يدخل فيها الموضوع وله فيها نوع تعلق فهي: قاعدة الضرورة – والضرر لا يزال بالضرر – والضرورة تقدر بقدرها – الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة – وتصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة – والخراج بالضمان – الميسور لا يسقط بالمعسور – والمشقة تجلب التيسير – ورفع الحرج.

إذا وقع العقد على نقد غير معين النوع:

هذا الذي سبق بيانه إذا رخصت أو غلت الدراهم والدنانير والفلوس وكان عقد البيع أو القرض وقع على نوع معين منها، لكن إذا وقع العقد على نقد غير معين من مثل القروش، فالحكم يختلف وقد تكلم ابن عابدين عن هذا الموضوع فقال: أما إذا وقع العقد على القروش التي لا يتعين منها نوع خاص فلا يمكن القول برد المثل؛ لأن المثلية إنما تعلم حيث علم النوع، وقد علمت أن أنواع النقود متفاوتة في المالية، وكذا رخصها الذي ورد الأمر به متفاوت فبعضها أرخص من بعض، وإذا جعلنا الخيار للدفاع كما كان الخيار له قبل ورود الأمر يحصل للبائع ضرر شديد، فإن الدافع يختار ما رخصه أكثر، فإن ما كان من بعض أنواع النقود وقت البيع يساوي مائة قرش مثلا، صار بعد الأمر يساوي تسعين، ومنه ما يساوي خمسة وتسعين، فيختار المشتري ما يساوي تسعين ويحسبه عليه بمائة. كما كان وقت البيع، فيحصل بذلك ضرر بين للبائع، ولا يقال: إن الخيار وقت البيع كان للمشتري، فيبقى له الآن؛ لأنَّا نقول: قد كان الخيار له حيث لا ضرر فيه على البائع، فإنه وقت البيع لو دفع له من أي نوع كان لا يتضرر، ولو كان رخص الأنواع الآن متساويا بلا ضرر لجعلنا الخيار للمشتري، ليدفع على السعر الواقع وقت العقد من أي نوع كان، كما كنا نخيره قبل الرخص، ولكنه لما تفاوت الرخص، وصار المشتري يطلب الأنفع لنفسه، والأضر على البائع قلنا: لا خيار إذ لا ضرر وضرار في الإسلام. ولما لم أجد نقلا في خصوص مسألتنا هذه تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل عصره، وأفقهم، وأورعهم فيما أعلم، فجزم بعدم التخيير، وجنح إلى الإفتاء بالصلح في مثل هذه الحادثة حتى نجد نقلا في المسألة، لأنك قد علمت مما قدمناه أن المنصوص عليه، إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل ولا الأكثر، كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري، وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى السعر الدارج وقت الدفع. ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري. لا يقال ما ذكرته من أن الأولى الصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون التخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلا.

ص: 1254

وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه. وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص. ثم بين وجه من أفتى بخلاف رأيه وشيخه فقال: ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفا: أن القروض في زماننا بيان لمقدار الثمن، لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلا، ودفع المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشا من الريال أو الذهب مثلا، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان، صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيا به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها، وقصد الإضرار كما قلنا، وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار، ولو تساوى رخصها لما قلنا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلا ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع. أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين، ومن نوع آخر خمسة وتسعين. ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفع تسعين اختص الضرر به فينبغي وقوع الصلح على الأوسط (1) .

ويفهم من كلام ابن عابدين رأيه الخاص فيما إذا وقع العقد في البيع أو القرض على القروش غير المعينة، وبين أن الأمر المتفق عليه قبل صدور الأمر السلطاني بالرخص فيها أن المشتري بالخيار في دفع القروش المسماة والمتفق عليها، أو ما يعادلها كل قرش بأربعين مصرية أو من غيرها كالريال، بناء على أن العرف الشائع عندهم أن من اشترى بالقروش لا يجب عليه دفع عينها.

أما بعد ورود الأمر السلطاني بالرخص، فأما أن تكون العملات متساوية في قيمتها، أو مختلفة فإن كانت متساوية في الرخص فيجب حينئذ دفع ما يعادل تلك القروش بالسعر الذي كانت عليه وقت العقد.

وإن كانت مختلفة فيلجأ إلى الصلح، ولا يخير المشتري لئلا يلحق ضررا بالبائع فينبغي دفع الوسط من الأقل والأكثر توزيعا للضرر على البائع والمشتري.

(1) العقود الدرية: 1/281؛ وتنبيه الرقود: ص 64

ص: 1255

وقد أشار ابن عابدين إلى خلاف رأيه في هذا الموضوع ولم يرتض الفتوى فيه حين أشار بقوله: وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا (1) .

ولعله يشير بذلك إلى فتوى الشيخ عبد القادر بن محمد الحسيني، وقد تكلم الشيخ الحسيني عن ذات المسألة في رسالة بعنوان " تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني "، وتكلم عن موضوع هو أخص من عنوان الرسالة فقد خصصها لواقعة حال كثيرة الوقوع وهي فيما يقع من التعامل بالقروش ثم يرد الأمر السلطاني برخص القروش ماذا يلزم؟ فقال الحسيني في بداية رسالته: مسألة ما إذا باع بالقروش المتعارفة قبل ورود الأمر السلطاني، ولم يقبض الثمن حتى ورد الأمر، هل للبائع طلب المسمى من القروش أو ما يعدله القرش من النقود؟ هل يدفع بالسعر الذي يروج به بعد ورود الأمر أو بالسعر الذي كان يوم البيع قياسا على ما إذا باع بالدراهم ثم رخصت قبل القبض؟ هل هذا القياس في محله أو مع الفارق؟

(1) هذه الإشارة: من رجاء أن يكون ابن عابدين أراد بما قال رسالة الشيخ الحسيني، قاله الدكتور نزيه كمال حماد في تحقيق الرسالة المسماة: رسالة تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني: ص102، ونشرت في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد الثاني، المجلد الأول 1405 هـ – 1985م، ط جامعة الملك عبد العزيز – كما سبقت الإشارة

ص: 1256

وقد أفتى بأن: (من باع بالقروش قبل ورود الأمر السلطاني، وقبل قبض الثمن، وورد الأمر بتراجع أسعار النقود، كالريال، وأنواع الذهب فعلى المشتري أن يدفع ما يعدل القرش بحساب العرف من أي نوع كان بالسعر الذي يروج به وقت القبض برضى البائع) . وللبائع طلب المسمى في عقد البيع، أو مثله، فإن كانت القروش المسكوكة موجودة بأربعين مصرية – كما كانت أولا – فله طلب ذلك، وإن لم تكن فتجري فيها أحكام الكساد والانقطاع والغلال والرخص

أي على المذهب الحنفي كما فصلناه سابقا – ثم قال: فعلى كل حال: الواجب أما عين القروش أو القيمة المعروفة كل وقت يوم البيع والقبض وغيره، فإذا دفع من النقود كالريال، وأنواع الذهب، فإنه يدفع برضى البائع بالسعر الذي يروج به يوم القبض، ويعدل القرش المسمى في العقد. ثم قال: وليس المشتري مخيرا في دفع أي نوع شاء إلا فيما كان مستويا في الرواج والمالية والجنس واحد

فإذا أراد المشتري دفع الريال بدل القروش بالسعر الرائج وأبى البائع لا يجبر البائع على القبض لاختلاف المالية، فكيف يجبر على قبضه بالسعر القديم، هذا لا قائل به، وليس للمشتري أيضا جبر البائع على أخذ الذهب مكان القروش

فإذا كان لا يجبر على قبض الذهب، ولا على قبض غير المسمى مما اختلفت ماليته فكيف ينبغي القول في وجوب إعطاء النقود بالسعر القديم؟ فإن أورد مسألة رخص الفلوس فجوابه: أن مسألة الغلاء والرخص في المسمى في بالعقد، لا في غير النقود. ثم قال مقررا: فالظاهر من النقول – نصا ودلالة – أنه يفتي بدفع النقود على السعر الرائج بعد الأمر بحساب القرش بأربعين مصرية ثم قال: ومثل البيع الإجارة كما إذا أجر بمائة قرش. ولم يقبض الأجرة فإنه يرد له مثل ما يقبض ريالا أو ذهبنا لا يعتبر غلاؤه ورخصه (1) .

ويظهر من وجه الحكمين في المسألة أن رأي ابن عابدين أرجح في ميزان القواعد الشرعية، وأحرى بتحقيق مقصود الشارع في استقرار المعاملات، ورفع الضرر ما أمكن، فإن حجة الحسيني أنه ليس للمشتري الخيار حال اختلاف السعر الرائج لاختلاف المالية. هذا أمر مسلم بنى عليه رأيه في عدم إجبار البائع أن يقبض بالسعر القديم وكذا ليس للمشتري جبر البائع على أخذ الذهب مكان القروش، وهذا قياس أو استنتاج خاطئ لأن عدم جواز إجبار البائع بالسعر القديم إنما سببه اختلاف المالية، وهذا عين الدعوى إذ مع تساوي المالية لا نزاع، ولاختلاف المالية لم يجبر أحد منهما؛ لأن الضرر متحقق في التخير لأيهما، ولذا فتقرير الدفع بالسعر القديم أو الجديد كلاهما ضرر فاختيار أحدهما تحكم في تخصيص أحدهما بالضرر.

وحجة ابن عابدين أرفق بالعاقدين فلا تخصيص لأحدهما بالضرر بل يتوزع عليهما بالصلح فيدفع الوسط. وبدونه يحدث الضرر فإن جعل الخيار للدافع يجعل الضرر على البائع شديدا؛ لأن الدافع سيختار الأكثر رخصا. وفيه ضرر لا مبرر له وكون الخيار له في الأصل حيث تساوى في المالية أما مع اختلافها فيتحقق الضرر. والضرر مرفوع للحديث " لا ضرر ولا ضرار "

الدكتور عجيل جاسم النشمي

(1) انظر تفصيل ذلك في رسالة تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني، للشيخ الحسيني: ص 111 – 119 ضمن مجلة أبحاث الاقتصادي الإسلامي

ص: 1257

مراجع البحث

1-

الأعلام، للأستاذ خير الدين الزركلي – الطبعة الثالثة.

2-

إنباء الغمر بأبناء العمر، لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني – الطبعة الأولى – طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية – 1378 هـ – 1967 م. الهند.

3-

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للعلامة علاء الدين علي بن سليمان المرادي – الطبعة الأولى مطبعة السنة المحمدية – 1376 هـ – 1956 م بمصر.

4-

بدائع الصنائع، للإمام علاء الدين مسعود بن الكاساني – الطبعة الأولى – مطبعة الجمالية 1328 هـ – 1910 م بمصر.

5-

البيان والتحصيل، لابن رشد.

6-

تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي بحاشية العلامة عبد الرحمن الشرواني، والعلامة أحمد بن قاسم العبادي.

7-

جامع البيان عن تأويل أي القرآن، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري – الطبعة الثانية مصطفى البابي الحلبي – 1373 هـ – 1945 م بمصر.

8-

تنبيه الرقود على مسائل النقود، للعلامة أحمد أمين، ابن عابدين – مجموعة الرسائل 2 / 56 – تصوير دار إحياء التراث العربي. بيروت.

9-

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للإمام محمد بن عرفة الدسوقي – طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر.

10-

حاشية محمد بن أحمد الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني، لمتن خليل – الطبعة الأولى – المطبعة الأميرية بولاق – 1306هـ بمصر.

11-

الحاوي للفتاوى، للإمام جلال الدين السيوطي – نشر دار الفكر. بيروت.

12-

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للعلامة محمد أمين المحبي – طبع مكتبة خياط – بيروت.

13-

درر الحكام في شرح غرر الأحكام، للعلامة منلا خسرو وبهامشه حاشية العلامة الشرنبلالي.

ص: 1258

14-

الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي – نشر محمد أمين دمج. بيروت

15-

رد المحتار على الدر المختار، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين – طبع الأميرية 1323 هـ بمصر.

16-

روضة الطالبين، للإمام ابن زكريا يحيى بن شرف النووي – طبع المكتب الإسلامي بيروت.

17-

شرح الزرقاني على خليل بحاشية البناني – نشر دار النشر 1398 هـ – 1978 م بمصر.

18-

شرح فتح القدير، للعلامة كمال الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الهمام مع تكملة نتائج الأفكار، للعلامة شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده على الهداية شرح بداية المبتدي، للعلامة برهان الدين علي بن أبي بكر المرغياناني وبهامشه شرح العناية على الهداية، للبابرتي – المطبعة الأميرية 1316هـ بمصر.

19-

شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، للشيخ محمد عليش وبهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجليل – تصوير دار صادر. بيورت.

20-

العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين – نشر دار المعرفة. بيروت.

21-

عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق آبادي مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية.

22-

فتاوى ابن رشد، للإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد – تحقيق الدكتور المختار التليلي – الطبعة الأولى 1407هـ – 1987 – دار الغرب الإسلامي. بيروت.

23-

فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن يتمية – الطبعة الأولى – مطابع الرياض 1383 هـ. السعودية.

24-

الفتاوى الهندية، للإمام فخر الدين الفرغاني بهامشه فتاوى قاضيخان – طبع بولاق 1400 هـ – 1980 بمصر.

25-

فتوح البلدان، للإمام أبي الحسن البلاذري – طبع دار الكتب العلمية 1398 هـ – 1978. بيروت.

26-

الفقه على المذاهب الأربعة، للشيخ عبد الرحمن الجزيري – الطبعة السادسة بمصر.

ص: 1259