المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

‌العرف

إعداد

الشيخ كمال الدين جعيط

خطة البحث

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حصرنا الموضوع في مقدمة وبحث وخاتمة:

أشرنا في المقدمة إلى مصادر الشريعة الأساسية المجمع عليها وما ألحق بها على خلاف فيه، وإلى مجموعة أخرى من المصادر اعتبرها جمهور العلماء مصادر متفرعة عن المصادر الأصلية كالاستحسان عن أبي حنيفة والمصالح المرسلة وسد الذرائع وعمل أهل المدينة عند مالك والاستصحاب عند الشافعي والإباحة الأصلية عند أحمد بن حنبل، ومن بين هذه المصادر العرف، فقد اعتمده الفقهاء بشروط اختلفوا فيها توسعة وتضييقًا، واعتمده رجال القانون حتى اعتدت الدول واعتبرته أصلًا ومرجعًا وأطلق بعضهم اعتباره وقدمه على النصوص اعتبارًا لسابقيته على الأديان، وهنا بينا الفرق بين العرف

ونظر الشرع والعرف في نظر القانون فهو في نظر الشرع يكون العرف في كل العلاقات الاجتماعية الأسرية والمعاملات المالية قولية أو فعلية، وهو في نظر القانون علاقة قانونية قائمة بين الأشخاص والدول ودائرة معاملاتهم فلا دخل للعرف قانونًا في المجاملات كالهدايا وتبادل الزيارات، وقد تأثر بعض رجال القانون بالفقه الإسلامي بحمل حقيقته على ما حرره الفقهاء.

وقد أوضحنا في المقدمة أن للعرف مزايا كما له مساوئ فمن محاسنه أنه يصور العادات ويعبر عما ترتضيه الشعوب بما اصطبغت به نفوسهم وألفته قلوبهم، كما أن من مساويه كونه حجر عثر في وجوه المصلحين، إذ يجد رائد الاصطلاح من التعنت والممانعة فيما تعودت به نفوس الناس وإن كانت فاسدة منكرة.

وقد أشرنا في عجالة إلى باعث القوة فيه وهل هي ناشئة عن أحكام القضاء وهي نظرية بعض أهل القانون أو أن مستند قوته من الضرورات الاجتماعية إذ هي التي ترضي مصالحهم وتتجاوب مع غرائزهم وهي نظرية بعض أهل القانون الآخرين. أما عند علماء الشريعة فقوته مستمدة من المصلحة مما لا نص فيه إذ هي معتمد الأحكام الاجتهادية.

ص: 2409

وقد أشرنا إلى أن بعض البلدان الإسلامية اعتمدت العرف بإطلاق كما اعتمده أهل الغرب ففي بعض المواد في القانون المصري تقليد للقانون الفرنسي بما انتقده العلامة السنهوري في كتابه الوسيط، وهنا أشرنا إلى أن الأردن اشترطت في قانونها أن يكون جاريًّا على مقتضى الفقه الإسلامي عند عدم النص وحيث أن القانون المدني الأردني مرتكز على الشريعة وأصولها ومستمد من قواعدها وآخذ بكل ما يتطلبه النمو الحضاري والتقدم البشري ونظم المعاملات حتى صار جامعًا بين أصالة الماضي وجدة الحاضر اقترحت جامعة الدول العربية على خبرائها أن يكون القانون الذي سيرفع إلى الأمانة العامة لوزراء العدل للدول العربية، وقد تابعه في ذكر القانون الذي سيرفع إلى الأمانة العامة لوزراء العدل للدول العربية، وقد تابعه في ذلك القانون المدنى الكويتي الذي ابتدئ العمل به في25 فبراير سنة 1981.

وينحصر موضوع البحث في عشر موضوعات:

الموضوع الأول: في ورود تكرر العرف والمعروف في القرآن والحديث، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة وتقرب لله وإحسان إلى الناس، وقد قيد سبحانه طاعته وطاعة رسوله به فقال:{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، تعدد ذكره في القرآن والحديث في صفة الأمة وحكومتها والأحوال الشخصية والمالية والآداب الإسلامية بما يجعلنا نجزم بأن المعروف هو المعهود بين الناس في معاملاتهم وعاداتهم وهو يختلف نوعًا وقدرًا وصفة باعتبارات مختلفة ويشمل كل معروف في الشرع في العادات والمعاملات ومن هنا كان ركنًا من أركان الدين وأصلًا من أصول الشريعة.

الموضوع الثانى: كون مرجع العبادات النصوص من الكتاب والسنة ومرجع العادات والمعاملات المعاني والمصالح، وقد تعرضنا هنا للمصالح المرسلة وأخذ المذاهب بها وفرقنا بينها وبين البدع بما أطال به الشاطبي في ذلك موفيًا بالغرض، وعلقنا على مبالغات الطوخي فيأخذه بالمصالح وتقديمه لها على النص والإجماع واعتماده في ذلك على حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وتعليله له بأن العبادات حق الشارع وخاصة به فلا تعرف إلا منه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا بخلاف حقوق المكلفين فقد وضعت لصالح العباد.

وقد أبرزنا أن أدلة الأحكام الدنيوية فيما يعرض للناس كافة قد تثبت بنص محكم قطعي أو بنص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه أو بنص تكليفي ظني أو بنص غير وارد مورد التكليف أو بما سكت عنه الشرع وكان مرجعه العرف والمعروف مما تستقر به الأمور وتنتظم به الحياة.

الموضوع الثالث: موقف الإسلام من العادات والتقاليد وقد قسمناها إلى ثلاثة أقسام، أولًا ما أقره الإسلام هو صلاح. ثانيًا ما قيده بما هو في حاجة إلى الإصلاح. ثالثًا من أبطله مما كان فسادًا يشهد لذلك ما ورد في الآيات والأحاديث في رفع الحرج والمشقة والتيسير وعدم التعسير.

ص: 2410

وقد تعرضنا لذلك بالشرح والبيان موضحين أن هذه الشريعة جاءت لتكون رحمةً لا لتكون نكاية ونقمة والإسلام ما جاء إلا لإصلاح ما فسد من أحوال الناس، فليس له غاية في هدم ما اعتاده الناس من العادات الصالحة التي تعارفوها قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل، وهنا تعرضنا لموقف الرسول والخلفاء الراشدين والصاحبة والتابعين والأئمة المجتهدين من عادات الناس وأعرافهم، فقد نظم الخلفاء الراشدون على هدى الكتاب العزيز والسنة النبوية والمقاصد الشرعية عادات البلدان التي فتحوها حتى دخلت هذه العادات في التشريع الإسلامي.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدون الدواوين وينظم الجيش ويقرر الخراج والجبايات، وقد أبقاها على ما كانت عليه بالفارسية في العراق والرومية في الشام ولم تدون بالعربية إلا في عهد عبد الملك بن مروان كما نص عليه ابن خلدون.

وزاد التابعون في الأخذ بالعرف وتحكيمه لكثرة الفتوحات وتوسع رقعة الإسلام واعتناق كثير من البلدان لهذا الدين ودخولها تحت لوائه، فأقر التابعون ما كان صالحًا من العادات وأبطلوا الفاسد وهذبوا ما كان فيه عوج، وأثروا بذلك الأحكام الفقهية.

ولم يبعد موقف أئمة المذاهب عن سابقيهم فقد اعتمد أبو حنيفة العرف حتى جرى على ألسنة الناس أن أكثر المذاهب اعتبارًا له واعتمادًا عليه، وألف ابن عابدين رسالة خاصة أسماها " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف" وضمنها كثيرًا من الفروع الفقهية التي كان اختلاف الحنفية فيها لاختلاف أعراف البلدان الآخذة بالمذهب الحنفي ومثله الشافعي فقد تأثر بأعراف الناس وتجلى ذلك في اختلاف قوليه القديم والجديد والمذهب الحنبلي الذي اشتهر بالتمسك بالنصوص هو أيضًا حكم العرف في كثير من الفروع وقد نقلنا منها الكثير عن ابن قدامة وابن رجب وابن القيم وقد صرح هذا الأخير في إعلام الموقعين أن إهمال قصد المتكلم ونيته وعرفه جناية على الإنسان وعلى الشريعة ومثلهم الأوزاعي والشيعة فقد حكموا العرف في بعض القضايا.

أما المذهب المالكي فهو أكثر المذاهب اعتبارًا للعرف حتى جعله أصلًا من أصوله وهو عند المالكية من أعظم المرجحات قد استندوا إليه في معرفة أسباب الأحكام عند عدم النص واعتبروه اعتبار العلة مع المعلول ولم يلبسوه لباس الديمومة، إذ تتغير الأعراف والعوائد ويتغير الحكم بتغيرها، قال ابن العربي:"إن العادة دليل أصلي بنى الله عليه الأحكام وربط بها الحلال والحرام ".

ص: 2411

الموضوع الرابع: في تقسيمات العرف، قسمناه إلى صحيح معتبر وفساد ملغى والصحيح إلى قولي وفعلي، وهنا تعرضنا لأنواع الحقائق وللفرق بين الحقيقة والمجاز كما تعرضنا لأنواع الوضع ثم قسمناه إلى عام وخاص، ونبهنا إلى التفرقة بين العرف اللغوي والاصطلاحي وإلى الشروط المستلزمة لاعتباره حتى تصبح له قوة الإلزام، كما نبهنا إلى تقديمه على الأصل والعادة لقصورهما عنه، كما ذكرنا اختلاف الفقهاء في اعتبار العادة قائمة مقام شاهد أو شاهدين، وذكرنا أمثلة كثيرة اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم في العادة من أنها تقوم مقام الشاهد أو الشاهدين. ثم نبهنا إلى أن اطراد العرف غير عمومه كما نبهنا إلى ما زاده رجال القانون من الشروط لاعتبار العرف، وألمعنا إلى أن ما زيد من الشروط هو مأخوذ في مفهوم العرف الصحيح في الشرع.

الموضوع الخامس: في سلطان العرف وهو سلطان واسع في استنباط الأحكام وتجددها وتعديلها وتحديدها وتقييدها، وفي تقعيد القواعد وتقريرها، وقد كان سلطانه قبل الإسلام مطلقًا غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط، له حرمة وقداسة حيث هو جزء من كيان الأمة ومميز من مميزاتها، ولهذا راعت الشريعة عوائد الأمم ولم يتعرض التشريع إلى تعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلا ندب لركوب الإبل ولا مانع من ركوب الحمير أو الحمل على البقر كما هو الشأن في الهند، ولم تلزم قومًا باتباع غيرهم في اتباع عاداتهم وتقاليدهم، بل تركت كل قوم على ما هم عليه مما لا يناقضها أو يخالف مبادئها، وذلك لمرونتها وعمومها وشمولها لكل أحوال البشر في كل العصور وهو معنى صلاحيتها لكل زمان ومكان، فهي بأصولها وكليتها قبالة للانطباق على مختلف أحوال العرف في الفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصينيين والأتراك وغيرهم من غير أن يجدوا في ذلك حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما تركوه من قديم عاداتهم الفاسدة دون انسلاخ بالكلية عما اعتادوه وتعارفوه مما هو مقبول ذلك أن أحكام الشريعة غالبًا كليات مشتملة على حكم ومصالح تتفرع عنها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد تتلاءم مع كل عصر، وذلك من سماحة الإسلام إذ هي رحمة وليست بنكاية ولا نقمة كما قدمنا.

ومن سلطان العرف تخصيصه للعمومات وتقييده للمطلقات بحملهما على ما يقتضيه: وإن اختلفت المذاهب في ذلك إذ جعل بعضهم ذلك للعرف القولي دون الفعلي وعاكس بعضهم ذلك، وأطلق بعضهم فجعله لكل عرف ومنعه بعضهم مطلقًا ولكنه اعتمده في تقسيم الدليل الشرعي اللازم حمله على المعنى العرفي كما هو مذهب الجعفرية، وقد ذكرنا أمثلة كثيرة موضحة لهذا الاختلاف، ولفتنا النظر إلى أن الفقهاء أولوا عناية خاصة لما جرى به العرف والعمل وألفوا كتبًا في ذلك أوردنا منها جزئيات كثيرة وأجرينا مقارنة في كثير منها بين ما جرى به العمل في تونس وما جرى به العمل في فاس وقرطبة قصد التيقن من قوة العرف وسلطانه في إنشاء الأحكام وتأثيره في اختلاف الفقهاء والحكام وهنا نبهنا إلى ما يجب على الفقيه من اتصاله بالناس حتى يتعرف على عاداتهم وتقاليدهم ويقف على معاملاتهم، إذ بذلك يصادف الحق في أحكامه وفتاويه ويكون أرفق بالناس على ما تقتضيه قواعد الشريعة من التيسير، ولذلك قال القرافي " الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسف الصالحين ".

ص: 2412

الموضوع السادس: في بيان أن الأحكام المبنية على العرف والعادة تتغير بتغير العادات والأحوال وهي قاعدة قررها علماء الاجتماع وتنبه إليها من قبل علماؤنا، يشهد لذلك كلام ابن خلدون في مقدمة كتابه العبر، وهذا ما جعل المتأخرين من الفقهاء يفتون في كثير من المسائل بخلاف ما أفتى به المتقدمون، وقد حصرنا دوافع هذا الاختلاف في ثلاث: تبدل الزمان وتباعد البلدان واختلاف الجهات والتقدم واختلاف الحضارات، وقد أوضحنا كل قسم بأمثلة تبرز مقام كل سبب من هذه الأسباب من عهد الرسول والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى هذا الزمان، فقد ورد النهي عن التقاط ضالة الإبل، وأمر عثمان بالتقاطها وورد الحكم بقطع اليد في السرقة وأفتى عمر بعدم القطع في الغزو وفي السرقة من الغنيمة على تفصيل في ذلك، وورد الإعطاء من مال الزكاة للمؤلفة قلوبهم ومنع من ذلك عمر، وقد مثلنا لتغير الأحكام نتيجة تطور الحياة ووسائلها بمثل تسجيل العقارات والأراضي، إذ بها ينضبط الملك بطريقة لا يخشى معها ضياع حق أو تلاشيه. وأنهينا فوائد ذلك إلى اثني عشر فائدة. ومما اقتضاه التطور والتقدم في الحياة المدنية تسجيل عقود الزواج بدفاتر الحالة المدنية بالمجالس البلدية نظرًا لضعف الإيمان وخراب الذمم وانعدام تقوى الأزواج أحيانًا كثيرة في الزوجات والبنين، وقد ضربنا أمثلة كثيرة موضحة للمقام ولا شك أن التطور العالمي في مختلف الميادين التقنية والعلمية والتنمية الاقتصادية أوجب وضع قوانين مختلفة وتضمينات إدارية متعددة نتج عنها أوضاع وأشكال أوجب علاقة غيرت العادات وأوجبت نوعًا من الاعتراف ترتبت عليها أحكام كإلزام الحكومات لأفراد شعوبهم بجواز سفر للتمكن من الخروج والانتقال إلى الأقطار وإلزام الناس ببطاقة تعريف قومية تكشف عن هوية صاحبها وجبر السواق بحمل بطاقة جواز سياقة، كل هذه استلزمتها تطور المجتمعات وهي توجب على العلماء أن يبحثوا في كثير من الجزئيات التي اقتضتها الحضارة وتقدم الصناعة ووسائل المعيشة واتساع المدن وتكاثف السكان واجتماعهم بعمارات ذات شقق كثيرة وتشابك المصالح، كل هذا فرض تقاليد جديدة في الحياة وأعرافًا وعادات اقتضتها المصالح، كإنشاء المؤسسات الاجتماعية لحضانة الرضع ورياض الأطفال الذين تعمل أمهاتهم بالمعامل والإدارات وإنشاء دور الأيتام والعجز والمتخلفين ذهنيًّا والمعاقين وغيرها وغيرها. كل ذلك أدى إلى حياة جديدة وعادات مستحدثة استلزمت أحكامًا.

الموضوع السابع: منزلة العرف بين الأدلة، لقد اتفق الفقهاء على اعتبار العرف دليلًا من الأدلة التي انبنى عليه كثير من الأحكام عند عدم النص، كما انبنى عليه كثير من القواعد كقاعدة الثابت بالعرف كثابت النص، وقاعدة العادة محكمة، وقاعدة الممتنع عادةً كالممتنع حقيقة وقاعدة الحقيقة تترك بدلالة العرف، والعرف بين التجار كالمشروطة بينهم إلى غيرها من القواعد التي أحصيناها وكلها مرجعها إلى تقرير مصالح العباد في معاشهم وهو العدل والرحمة والمصلحة بحيث كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى النكاية ومن المصلحة إلى العبث ليست من الشريعة في شيء، لأن شريعة الله هي عدله بين عباده ورحمته بخلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 2413

العرف يساعد كثيرًا في الاجتهاد لأن النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات، فالعرف يعين على تفهم الوقائع وتطبيق الأحكام عليها سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو معاملاتهم وعقودهم.

والعرف يقتضى تأليف النفوس ويقوي الوحدة ويجمع كلمة الأمة ويربط بين الناس، ولذا كانت مخالفته هدمًا لهذه الآثار، وبهذا ندرك أن مرتبته تأتي بعد مرتبة الكتاب والسنة حيث هو راجع إلى المصلحة وليس بعد الكتاب والسنة إلا المصلحة، ولقد اعتبره العلامة محمد الطاهر بن عاشور مصدرًا فطريًّا ولهذا لم يكتفِ به في بناء الأحكام العملية عليه، بل انبنت عليه قواعد أصولية، فإن كثيرًا من الاستحسان ومن الاستصحاب ومن المصالح المرسلة كان منشؤها العرف والعادة، وقد قال ابن العربي:" يترك الدليل العام لسبب من أسباب أربعة، المصلحة ورفع الحرج والإجماع والعرف " وقد مثلنا بفروع كثيرة ترك فيها الدليل العام لهذه الأسباب ومعلوم أن المصلحة تبنى على اختلاف أوضاع الناس وأعرافهم وهذه المصلحة المبنية على العرف.

الموضوع الثامن: ارتباط العرف بالقرائن والأمارات، أن القرينة تقوى فتبلغ إلى درجة اليقين وتضعف فتنزل إلى مجرد الاحتمال، وهنا أوضحنا علاقة القضاء بقرائن الأحوال وقسمناها إلى قرائن عقلية وعرفية وإلى قرينة شرعية قانونية وقرائن قضائية، وما كان من القرائن أسبابًا في بعض الأحكام وما كان منها دليلًا في تمحيص الوقائع وإثباتها عند الحكام، وفصلنا القول في القرائن اليقينية من القرائن الظنية ونقلنا عن ابن فرحون أحكامًا انبنت على القرائن وقد أنهاها إلى خمسين مسألة، ثم أوضحنا على أساس اعتبار القرائن، قرر الفقهاء حلولًا كثيرة في شتى الحوادث كما اعتبروها من المرجحات الأولية التي يعتمدها القضاء. وتعرضنا بالمناسبة لمن يصلح للقضاء بين الناس وما يشترط فيه من الشروط التي من بينها معرفته للعرف الصحيح المعتبر من العرف الفاسد الملغى- كما تعرضنا إلى متى يجب اتباعه لمن سبقه ومتى له أن يخالفه، وتطرقنا هنا إلى الكلام على بعض ما جرى عند بعض القبائل البربرية بالمغرب الأقصى من تطرف وابتعاد في عقود الأنكحة ومن مغالاة في اليمين بتشريك أقارب المتهم في تأدية القسم وفي أخذ الولي صداق ابنته لنفسه، ولاحظنا اختلاف أنظار علماء المغرب على طرائق ثلاث منهم من حمل على هذه الأعراف البربرية واعتبرها مروقًا من الدين وواجب محاربتها والقضاء عليها، ومنهم من سايرها ورأى أن مصلحة القوم لا تتحقق إلا بها فحبذها وآثر العمل بها ودافع عنها، ومنهم من توسط فأخذ بما يوافق الشرع ولا يناقضه وأنكر ورد وحارب ما يخالفه؛ وهذا ما اختاره الدكتور عمر بن عبد الكريم الجبيدي، ولقد أصاب في اختياره لأن معيار الأخذ بالأعراف بربرية كانت أو رومية أو فارسية أو مصرية فرعونية هو معيار الشرع وميزانه فما وافق مقاصده ولم يتعارض مع نصوصه ومبادئه أخذناه واعتمدناه وما خالفهما نبذناه وطرحناه ذلك أن المصلحة لا تتحقق بالأحكام الجائرة فلا وجه لحرمان المرأة من ميراث أبيها ولا في تنزيل العقاب بغير الجاني ولا مصلحة في إفساد المال وإحراقه، والحق أن كل ما ناقض كلية من كليات الشريعة التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال هو مردود لأنه محض جور وفجور وفسوق وعصيان لا ينتج عنه إلا الخراب والدمار.

ص: 2414

الموضوع التاسع: تحقيق معنى عمل أهل المدينة وما جرى به العمل في الأقطار ومعنى العادة والفرق بين هذه الثلاث وبيان علاقتها بالعرف، وقد نبهنا إلى خطأ بعض أهل الأصول في تخليطهم بين عمل أهل المدينة والإجماع، ثم قسمنا عمل أهل المدينة إلى ما يرجع إلى النقل المحض وما يرجع إلى الاجتهاد وأشرنا إلى مذاهب الأئمة في العمل به وأجريناه مجرى العرف، بل هو أقوى لأن مستنده فعل الرسول وتقريره وأهل المدينة أقرب عهد بالرسول وأصحابه، ثم نبهنا إلى الفرق بين عمل أهل المدينة والعرف، والفرق بينه وبين ما جرى به العمل، ثم أشرنا إلى أن العرف قد يوافق القول المشهور في المذهب، وقد يجري على القول الضعيف، ومنه ما جرى على نص فيه وما جرى على شبه دليل أو جرى على وفق دليل المخالف، وقد ضربنا أمثلة موضحة لكل هذه الأقسام والأنواع.

الموضوع العاشر: علاقة العرف بالحقوق، ذكرنا علاقته بالمال إذ العرف هو الذي يحدد ما هو مال مما ليس بمال، كما يحدد ما هو مقوم منه وما كان مثاليًّا، وهنا أشرنا إلى الفرق بين المال والملك، ثم أشرنا إلى أنواع الحقوق: حق الملك، وحق الانتفاع وحق الارتفاق ودور العرف فيها، كما تعرضنا إلى حق الشرب وحق المجرى وحق السير وحق المرور وحق الجوار، وأشرنا إلى حقوق الانتفاع وما كان ممنوعًا في الأصل ورخص فيه لرفع الحرج والمشقة، وأوردنا أمثلة بالعقود المستثناة من أصل ممنوح كالإجازة والمزارعة والمساقاة وتحكيم العرف فيها بين العامل وصاحب العقار. ثم أشرنا إلى حقوق الخيار وارتباط العرف بها، إذ هو الذي يحددها من مثل خيار الرؤية وخيار العيب وخيار النقد وخيار التعيين وخيار الكمية وخيار كشف الحال، وأوضحنا حقيقة كل منها ثم أشرنا إلى علاقة العرف بالعقوبات والتعزير كما أشرنا إلى الشهادة العرفية كشهادة اللفيف والصبيان، ثم نبهنا أخيرًا إلى أن مستند الحكم لا يخرج عن أن يكون يمينا أو إقرارًا أو إبراءً أو إسقاطًا أو التزامًا أو شهادةً. وأوضحنا أنه جرى العمل عندنا بتونس بتوجيه يمين التهمة عند وجود الخلطة.

ثم ختمنا الموضوع بالإشارة إلى العرف الدولي وفرقنا بين ما كان قانونًا دوليًّا وما كان عادة، فالأول يشكل مجرد سلوك اجتماعي بخلاف العرف الدولي، فهو يشكل قاعدة شرعية إلزامية بين الدول كمبدأ حرية الملاحة في المنطقة الدولية، فإنه ينشأ عن مخالفته وعدم احترامه جزاء ومطالبة بجبر الضرر تحكم به المحكمة الدولية المنتصبة بلاهاي.

أما الخاتمة: فقد أشرنا فيها إلى صلاحية التشريع الإسلامي لكل زمان ومكان في كل أمور الدين والدنيا حيث أصَّلت الشريعة كل الأحوال وقررت كل المقاصد وأوضحت كل المبادئ وتركت في الغالب التفاصيل والجزئيات للقائمين على تنفيذها ويستلهمون من روحها ويستنبطون من قواعدها وأصولها ما ليس في نصوصها مما تستلزمه المستحدثات وما يعرضه التقدم والحضارات، وهكذا كانت الشريعة صالحة لعلاج كل مشاكل الحياة وكانت مستغنية الاستغناء المطلق عن تحكيم القوانين الأجنبية الغربية بما فيها من مرونة، وبقابليتها للأعراف والعادات التي تتفق مع ملابسات الناس ومقتضيات الحضارة ولا تتعارض مع قواعدها ومقاصدها بهذا المنهج، وبهذه المرونة مدت الفقهاء والحكام بالأحكام المناسبة لعصورهم الملائمة لمقتضيات تصرفاتهم حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

ولعل فيما قدمنا عن العرف ومدلوله وعما انبثق عنه من قواعد وأحكام بما يتماشى ومصالح الأنام، وعن منزلته من بين الأدلة لها ما فيه كفاية لإنارة السبيل للعلماء والباحثين، ولعلَّ فيما أوضحت أكون قد شاركت قدر المستطاع في تجلية نظرية العرف وتوضيح آثاره في الشريعة والقانون بين الأفراد والجماعات والدول.

نسأل الله العلي القدير أن يرشد الأمة الإسلامية وحكوماتها إلى أن تعود إلى شريعتها وأحكام دينها فتستغنى بذلك عن القوانين الغربية الدخيلة، إذ في شريعتنا الكفاية إلى تحقيق كل غاية فهي شريعة الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها إلا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

ص: 2415

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد السيد السند وعلى آله وصحابته وتابعيهم بإحسان على طول الأمد.

وبعد: فإن علماء الأمة أجمعوا على اعتبار الكتاب والسنة المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي، كما اتفق جمهورهم على إلحاق الإجماع والقياس بهذين المصدرين، فكانت هذه الأربعة هي الأسس الأصلية للتشريع الإسلامي، ولقد اختلف المجتهدون في مجموعة أخرى اعتبرها جميعهم فرعية كالاستحسان عند أبي حنيفة والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة عند مالك، والاستصحاب عند الشافعي، والإباحة الأصلية عند ابن حنبل.

والعرف هو المصدر من المصادر الفرعية لاستقناء الأحكام واستنباطها ضمن شروط اختلف الفقهاء في بعضها توسعة وتضييقًا، ولقد اعتبره بعض الدول مصدرًا أساسيًّا في بناء الأحكام وتقنينها، وقدمته على الدين معتبرة أن العرف هو أقدم من الدين، وهو واضح خطؤه لأن الدين وحي من الله عز وجل، وهو الخالق لكل شيء، والدين أزلي والأعراف حادثة، ولا يشك عاقل في أن الحادث طارئ متأخر في الوجود بالإضافة إلى الدين.

ولما كان العرف هو عادة مستحكمة في الناس وسلوك معين في تنظيم ناحية من نواحي الحياة كان في نظر القانون مصدرًا لقاعدة قانونية أو هو القاعدة ذاتها، أما عند أهل الشريعة فاعتباره مقيد بعدم معارضته لنصوص الشريعة، وأن يكون مطردا غالبًا سابقًا أو مقارنًا على ما سيأتي بيانه في شروط الاعتداد به حيث يكون عرفًا صحيحًا، أما ما اختل منه بشرط أو أكثر، فهو عرف فاسد لا يعتمد عليه ولا يعول عليه في نظر أهل الشريعة.

لقد اعتبر علماء الشريعة العرف في كل شيء فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية الأسرية كالخطبة والزواج والهدايا، وفي الفراق والطلاق حسب العرف القولي، وفي المعاملات المالية ونحوها، بينما أهل القانون يقصرون العمل به على ما كان علاقة قانونية قائمة بين الأشخاص في دائرة معاملاتهم، أما ما يتعلق بالمجاملات والمظاهر كتبادل الهدايا والزيارات ونحوها، فلا يعتبرون العرف فيها غير أن المشرعين الفرنسيين تأثروا بالفقه الإسلامي وعلم الأصول فقيدوا العرف بالقيود التي قيده بها فقهاء الإسلام.

ص: 2416

وللعرف مزايا كما له عيوب، فمن مزاياه ومحاسنه أنه يعبر تعبيرًا واضحًا عما يرتضيه الشعب وجمهوره، حيث هو يعطي صورة صحيحة عن عاداتهم وتقاليدهم في منهجهم في الحياة. وهو من جهة أخرى قابل للتطور ومواكب للتغييرات التي تحدث في المجتمعات بينما النصوص القانونية المكتوبة تجمد في كثير من الأحيان، فتحتاج إلى التعديل والتغيير والتبديل كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ومن مساوئ العرف عند بعضهم أنه قد يقف حجر عثرة عن التقدم في وجوه رائدي الإصلاح خصوصًا إذا كانت الأعراف فاسدة وألفها الناس رغم فسادها، وقد استقر كثير من الأعراف الفاسدة عند جمهور المسلمين حتى فيما ينسب إلى الدين، وهو منها براء بحيث إذا قام المصلون بالدعوة إلى العودة إلى جوهر الدين في لبه وصفائه والتقيد بتعاليمه السامية ومقاصده الرائدة كانت هذه الأعراف حاجزة مانعة من قبول الإصلاح حيث يتركز المانعون للإصلاح على العرف، ويستندون إليه وبذلك يكون سدًّا منيعًا في وجه الإصلاح وهكذا يضطر الناس إلى ممارسة الازدواجية في مسالكهم، فهم من جهة متقيدون بهذه الأعراف، ومن أخرى يريدون التقدم والإصلاح وفق الآراء الجديدة والنظريات الصحيحة والنظم المتقدمة المستحدثة. وهكذا يضطر الناس إلى إظهار خلاف ما يبطنون ويعملون بغير ما يريدون.

والعرف في نظر الشريعة لا تكون له القوة الفعالة قوة الإلزام إلا إذا كان عرفًا صحيحًا مستندًا إلى أصل شرعي أو غير متعارض مع نص شرعى ومقصد من مقاصد الشريعة، وإذا كان كذلك فلا يكون مانعًا من التقدم كما ادعاه بعضهم، وإذا كان العرف صحيحًا وجب العمل به ووجب تحكميه وتطبيقه، وهو بهذا المعنى أشد من العادة؛ لأن العادة غير ملزمة. لذلك فلا تثبت الحقوق بمثل عادات التهادي والمناسبات والأعياد وما يبذله التجار لعملائهم من التسهيلات والهدايا لترغيبهم في الشراء، وما يجري بين الجيران على سبيل التسامح، فكل هذه الأمور لو ادعاها مدع أمام المحاكم لا تسمع دعواه، ولا يقضى له بها؛ لأنها وإن جرت بها العادة، فإنها لم تبلغ مبلغ العرف حتى تصير لها القوة الإلزامية التي له، وهل قوة العرف ناشئة من أحكام القضاء فلا اعتداد بها قبل تدخل القضاء وإقراره وقضائه بذلك العرف بحيث لا اعتداد به قبل القضاء به، وهذا ما ذهب إليه جماعة من أهل القانون وعلى رأسهم الحقوقي الفرنسي لامبير معتمدًا في ذلك على أن معظم العرف خرجه الكهنة والقضاة، وذهب آخرون إلى أن العرف تستند قوته الملزمة من الضرورات الاجتماعية لا من إرادة المشرع ولا من أحكام القضاء، وهذا أظهر النظريات باعتبار قوتها الحاجة الاجتماعية، واعتبار أن العرف يحكم العلاقات بين الناس في كثير من شؤونهم. ولكنه يرضي مصالحهم ويتجاوب مع غرائزهم، ونحن إذا نظرنا إلى الشريعة الإسلامية نراها لم تأخذ بأي النظريتين، وإنما اعتمدت العرف فيما لا نص فيه حيث لا مجال للاجتهاد مع النص، وقد كان اعتماد الشريعة الإسلامية على العرف ناشئًا من إقرار الأحوال المعتمدة في التشريع الإسلامي، وهي تأخذ به وتعتمد عليه في استنباط الأحكام الاجتهادية التي لا نص فيها، أو فيها نص ظني مطلق قابل للتقييد، أو عام قابل للتخصيص بالعرف.

ص: 2417

إنه لمن الغريب أن كثيرًا من القوانين المدنية لبعض البلاد الإسلامية قد أخذت العرف، واعتبرته مصدرًا أصليًّا من مصادرها وقدمته على نصوص الشريعة، فإنا نجد في القانون المدني المصري والعراقي والسوري في كثير من مواده، قد جرى على ما هو ثابت في القانون الفرنسي بحيث قلدته تقيلدًا أعمى لما جاء فيه، والقانون الفرنسي يعتمد العرف بإطلاق، والقانون المصري، والعراقي، والسوري، وإن استمدت قانونها من الفقه الإسلامي في بعض أحكامها، إلا أنها كانت في مجموعها وغالبها أجنبية حيث هي مستنقاة من القانون الفرنسي، وهي تقدم العرف بإطلاق، وإن خالف النص وأول من تفطن لرتق الفتق وإصلاح الوضع المشرع الأردني، فرفض القانون المدني المأخوذ من القوانين الوضعية والتي فيها تقديم العرف على الشريعة، فوضعت قانونًا مدنيًّا مستمدًا من الشريعة الإسلامية واعتمدت العرف في مادته الثانية منه ونصها:

1-

تسري نصوص هذا القانون على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بألفاظها ومعانيها ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص.

2-

فإذا لم تجد المحكمة نصًّا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون، فإن لم توجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية.

3-

فإن لم توجد حكمت بمقتضى العرف، فإن لم توجد حكمت بمقتضى قواعد العدالة، ويشترط في العرف أن يكون عامًا وقديمًا ثابتًا مطردًا، ولا يتعارض مع أحكام القانون أو النظام العام أو الآداب، أما إذا كان العرف خاصًّا ببلد معين فيسري حكمه على ذلك البلد.

4-

ويسترشد في ذلك كله بما أقره القضاء والفقه على أن لا يتعارض مع ما ذكره وكذلك القانون المدني التونسي، فقد نصت المادة 543، العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح والمادة 544 من استند إلى عرف كان عليه إثباته ولا يحتج به إلا إذا كان عامًّا أو غالبًا غير مناف للنظام العمومي والأخلاق الحميدة. وقد جاءت نصوص كثيرة تتعلق بالالتزامات والعقود نصت موادها على الاعتماد فيها على العرف عند عدم النص إذ المادة 516 نصت على أن المعمول به عادة بمحل الكتب كالمشروط نصًّا، وكذلك ما هو في طبيعة الأمر المقصود، وكذلك نصت المادة 526 على ما يتعلق بالمكاييل والموازين والمقادير من أن مرجعها إلى العرف والعادة بالمكان، وقد ذكر العرف في أكثر من خمسة عشر مادة من مواد القانون التونسي.

ص: 2418

وللعرف في القانون المدني دوران مهمان أولهما: أنه يرجع إليه في المسائل التي لا يجد القاضي نصا فيها من القانون المدني المستمد من الشريعة أو في الاجتهادات الفقهية المبثوثة في كتب الفقه. ثانيهما: الرجوع إليه بمقتضى الشريعة الإسلامية، وقد تقرر ذلك في القواعد الشرعية المعتبرة في مثل العرف كالنص ومثل استعمال الناس حجة والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا ومثل العادة محكمة وبهذا يظهر الدور الثاني للعرف في كونه مرجعًا مساعدًا في التشريع اعتمادًا على ما ذهب إليه جمهرة من الفقهاء من أن العرف يخصص العام ويقيد المطلق، ذلك أن الشارع إنما يخاطب الناس بما يفهمون وبما يتعارفون، وهذا هو العرف القولي ومثله العرف العملي عند جمهور الفقهاء وهذا هو سلطان العرف وتأثيره في استنباط الأحكام الشرعية عند عدم النص أو عدم المعارض لأنه لا قدرة له على إلغاء النص القانوني أو الشرعي سواء أكان عرفًا إيجابيًّا أو عرفًا سلبيًّا والإيجابي هو ما قدم على رضا الجماعة والضرورات الاجتماعية، ولو خالف التشريع، والعرف السلبي هو العرف الملغى بمقتضى عرف آخر، وليس للحجج التي يوردها أنصار مخالفي هذا الرأي مقتنع لأنها قائمة على أساس أن العرف أصدق تعبيرا من القانون عما في نفوس المجتمع، وأن المصلحة تقتضي الاستجابة للناس في اعتبار العرف وعدم إدخال الحرج والتضييق عليهم وذلك لأنهم أغفلوا منشأ العرف في المجتمعات السليمة، وهو إنما ينشأ من أصل مباح أو تجربة صادقة، كما غفلوا على المقياس الصحيح الذي به يؤخذ العرف أو يرد والذي يقع التمييز بين العرف الصحيح والفاسد، ولهذا لم يعتد بالأعراف التي كانت مخالفة للنصوص القانونية أو النصوص الشرعية من باب أول؛ لأن تشريعه وتشريع سماوي، وقواعده ثابتة ومسالكه سليمة، ولهذا نرى من القانونيين من مذهب إلى أن العرف لا يستطيع إلغاء نص قانوني ولاسيما القواعد الآمرة التي تتعلق بنظام المجتمع العام ومصالحه العليا.

وعلى أن العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، قد صرح بوضوح مثالب القانون المصري موضحًا أنه مأخوذ من القانون الفرنسي، فقد جاء في كتابه الوسيط في نظرية العقد ما يلي:

إنني جعلت الفقه والقضاء الفرنسيين هما من بين سائر النظم القانونية والأجنبية التي رجعت إليها لم أفعل ذلك دراية للقضاء الفرنسي، فهو القضاء الذي نزلنا ضيوفًا في ساحته الواسعة، ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته ويقول أيضًا: علينا أن نمصر الفقه فنجعله فقهًا مصريًّا خالصًا نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا، ففقهنا حتى اليوم لا يزال يحتله الأجنبي، والاحتلال هنا فرنسي وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتًا من أي احتلال آخر، ويقول أيضا: لا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي، والمرشد لا يكاد يتزحزح من فقهه أو ينحرف من مسراه، فهو ظله اللاصق وتابعة الأمين، فإذا قدر لنا أن نستقل بفقهنا، وأن نفرغه في جو مصري يشب فيه على قدم مصرية، وينمو بمقومات ذاتية بقي علينا أن نخطو الخطوة الأخيرة، فنخرج من الدائرة القومية إلى الدائرة العالمية، ومن جملة قوله: يمكن القول إن تقنيننا المدني فيه نقص ثم فيه فضول هو غامض حيث يجب البيان، مقتضب حيث تجب الإفاضة، ثم هو يتوسل في التافه من الأمر فيعتني به عناية لا تتفق مع أهميته المحدودة يقلد التقنين الفرنسي تقليدًا أعمى فينقل كثيرًا من عيوبه، وهو به متناقض في نواح مختلفة ويضم إلى هذا التناقض أخطاء معيبة.

ص: 2419

كانت هذه هي الدوافع التي دفعت الأردن لوضع مشروع قانون مدني أردني مستند في مأخذه من الفقه الإسلامي ومستند إلى الأحكام الشرعية الإسلامية غير مأخوذ من مشاريع أجنبية، كالقانون الفرنسي أو الإيطالي، أو غيرهما، بل هو مستمد من تراثنا وعقيدتنا وفقهنا وشريعتنا ولما في هذا القانون المدني الأردني من الميزات اتفقت جامعة الدول العربية على أن تجعله منطلق تقنين القانون لمجموعة الدول العربية وذلك لما تحض عليه من الأخذ بكل ما يتطلبه النمو الحضاري والتقدم البشري مركزًا على دعائم ثابته في تشريعاته، ينتظم المعاملات ويجمع بين أصالة الماضي وجدة الحاضر، ويرعى الاتجاهات المختلفة في الحفاظ على التراث الخالد الذي ساد البشرية قرونًا طويلة على اختلاف عقائد من خضعوا لأحكامه دون أن يروا فيه ما ينبوا عن حاجات المجتمع، ويبعد عن قواعد الحق والعدل والإنصاف، وذلك لأن القانون لا يبلغ القمة إلا إذ واصل بين الحاضر والماضي، وأنار السبيل للمستقبل وكان وسيلة للوصول إلى حفظ المجتمع وتثبيت دعائمه وتحقيق حياة يسودها العدل والنظام والاستقرار، ولا يخفى أن اتجاهات النظم القانونية في العالم لا تخرج عن أحد النظامين، النظام المادي والنظام الشخصي، والأول: يرعى الإرادة الظاهرة في العقد ويضع لذلك المقاييس المادية التي تحلل كثيرًا بالعرف الجاري. والثاني: وهو النظام الشخصي وينظر إلى الإرادة الباطنة دون الظاهرة، ولا يخفى أن النزعة المادية الموضوعية، أو الواقعية في القانون دليل على تقدمه، إذ يهدف بهذه النزعة إلى إثبات المعاملات واستقرارها، وهي نزعة الشريعة الإسلامية بوجه عام فهي وإن كانت العبرة فيهما بالمعاني لا بالألفاظ، لكن ليس ذلك على إبطال الدلالة الظاهرة ولهذا نرى حرص الفقهاء على تفسير معاني الألفاظ حسب قواعد اللغة وأصولها، وفرقوا بين الكنايات الظاهرة والكنايات الخفية، وبين ما كان صريحًا، وما كان ظاهرًا، وما كان مجملًا، وما ينوي فيه صاحبه مما لا ينوي فيه، وبين ما كان من ذلك في باب القضاء وما كان في باب الفتوى بحيث وقفوا عند الإرادة الظاهرة التي يكشف عنها اللفظ، كل ذلك حرصًا على ثبات التعامل واستقراره، كما أن هذه الشريعة الغراء راعت المألوف في التعامل والمتعارف بين الناس والمتبادر إلى الأذهان حسب العادات والتقاليد والاستعمال حيث كان ذلك هو المعيار الموضوعي الذي يبدو في أحكام العقود على اختلافها، وفي كثير من الأبواب والمسائل التي يلعب العرف دورًا عظيمًا في استنباط أحكامه على ما سيأتي بيانه.

ص: 2420

العرف

المعروف في اللغة: ضد المنكر والعرف ضد النكر: يقال أولاه عرفًا أي معروفًا، والمعروف كالعرف وقوله تعالى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي مصاحبًا معروفًا، قال الزجاج هنا يحسن من الأفعال وقوله تعالى:{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [سورة الطلاق: الآية6] .

وقال {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [سورة المرسلات: الآية1] .

قيل الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان. والعرف والعارفة، والمعروف واحد، ضد النكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير، وتأنس به، وتطمئن إليه، وفي الحديث تكرر لفظ المعروف وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات، ونهى عنه من المقبحات، وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه (1) .

وقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، والمعروف الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن انتصب على أنه مصدر وصف لمصدر محذوف أي صاحبهما صحابا معروفا لأمثالهما، وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالشكر، وشمل ذلك أن يدعو الوالد إلى ترك ما ينكره الله ولا يرضى به، ولذلك لا يطاعون إذا أمروا بمعصية، والأمر بمعاشرتهم بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين، فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما، وفي الحديث أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي جاءت راغبة أفأصلها، فقال:((نعم صلي أمك)) وكانت مشركة (وهي قتيلة بنت عبد العزى) ، وشمل المعروف ما هو لهما أن يفعلاه في أنفسهما وإن كان منكرًا للمسلم، فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر، لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكرًا في الدينين، فلا يحل للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه (2) .

(1) لسان العرب لابن المنظور: 9 /239، وما بعدها

(2)

التحرير والتنوير: 21 /161

ص: 2421

والعرف والمعروف من أصول التشريع الإسلامي فقد قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: الآية 199]

فالعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال، فهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة: فلا النكر معروف ولا العرف ضائع. فقابل النكر بالعرف. فالمعروف إذن هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرصي به لأن الشيء إذا كان معروفًا كان مألوفًا مقبولًا مرضيًّا به، وهو في الآية ما يقبل عند أهل العقول وفي الشرائع وهو الحق والصلاح لأن هذا مقبول عند انتفاء العوارض والمنكر ضده وهو مجاز في المكروه، والكره ملازم للإنكار لأن النكر في أصل اللسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به في الآية الباطل والفساد لأنهما من المكروه في الجبلية عند انتفاء العوارض (1) . والقول الجامع أن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول، والمنكر هو المستقبح عند الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره، أو يذمونه، ويذمون مرتكبيه، وسورة الأعراف مكية، وهي قد نزلت في أصول الدين وكليات الشريعة وآية:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} تثبت لنا أن العرف والمعروف أحد الأركان للآداب الدينية، ومما انبنى عليه التشريع الإسلامي اعتبار عادات الأمة الحسنة، وما تواطأت عليه من الأمور النافعة والأفعال الخيرة مما يحقق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد في مجاري العادات حتى إن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعته وطاعة رسوله بالمعروف في عقد مبايعته للنساء حيث قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [سورة الممتحنة: الآية 12] .

ومعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول فتقيد طاعته صلى الله عليه وسلم فيه بالمعروف التزام، والمعروف من أعظم أركان الدين روى البخاري عن أم عطية، قالت: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: ((أن لا تشركن بالله شيئًا)) ، وفي البخاري، عن ابن عباس، قال: شاهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبي الله، فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال، فقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ} حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ:((أنتن على ذلك)) فقالت امرأة منهن واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، قال:((فتصدقن)) .

(1) التحرير والتنوير: 4 /40

ص: 2422

وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضا، فعن عبادة بن الصامت، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تسرقوا)) وقرأ آية النساء (أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة)((فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئًا فستره الله، فهو إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) ، واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالًا ونساء. وجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة على النساء على ذلك، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما الطاعة في معروف)) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، عن علي أي لا تجوز طاعة السلطان، أو نائبه في معصية، ولذا لما قام من أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية؟ ألم تعلموا أنه يجب عليكم طاعتي؟ فقالوا: نعم ،فقال: ائتوا بحطب وأوقدوه وادخلوا فيه، فلما تأججت النار، وصاروا يقربون منها صار بعضهم ينظر إلى بعض، ثم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لإنقاذ الناس من النار فكيف تأمرنا بالدخول فيها فخمدت النار وذهب غضب الأمير، فلما رجع أخبر النبي بذلك، فقال:((لو دخولها ما خرجوا أحياء)) ، أي ماتوا فيها، وذكر الحديث ((إنما الطاعة في معروف)) (1) ولقد تكرر ذكر المعروف في السور المدنية، وكان أكثرها في بيان الأحكام الشرعية العملية وذلك في عشرات من الآيات بعضها في صفة الأمة الإسلامية، وحكومتها وأكثرها في الأحوال الشخصية والأحكام المالية، ومن الأول قوله تعالى في تعليل الإذن للمؤمنين بالقتال في سورة الحج:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) .

ومنه قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) أي بما هو معروف في الشرع غير منكر، وينهون عما هو منكر في الدين غير معروف.

وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (4) .

(1) حاشية الحنفي على الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير: 1 /320

(2)

سورة الحج الآيات 39، و 40 ،و41

(3)

سورة آل عمران: الآية 104

(4)

سورة آل عمران: الآية 110

ص: 2423

وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)

وقد وصفهم الله تعالى بعد ذلك بقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (2) ، أي القائمون بأمر الناس بما هو معروف والشريعة، والقائمون بإنكار كل فعل أنكره الشرع – فكل هذه الآيات أصول لا مندوحة للأمة من التزامها في آدابها وتشريعاتها.

ومن النوع الثاني، وهو ما ورد في الأحكام الفرعية العملية، ففي الحقوق الزوجية، كما في قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ، أي ما تعرفه العقول السليمة المجردة عن الانحياز إلى الأهواء والعادات الضالة، وذلك هو الحسن وما جاء به الشرع نصًا أو قياسًا واقتضته المقاصد الشرعية، والمصالح العامة التي ليس في الشرع ما يعراضها وتحتها تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال للمجتهدين في مختلف العصور وتعدد الأقطار يشهد لذلك اختلاف الفقهاء في جبر البنت البكر من أبيها دون الابن مصداقًا لقوله وللرجال عليهن درجة. ومن منعها من التبرع بما زاد على الثلث إلا بإذن زوجها عملًا بقوله وللرجال عليهن درجة: إلى غير ذلك من الجزئيات، التي اختلفت فيها الأنظار بين المماثلة بين الذكر والأنثى وبين جعل درجة للرجل عليها وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر، ففي هذه الآية الكريمة احتباك والتقدير: ولهن مثل ما على الرجال، مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول لدلالة الآخر وبالعكس، وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال وتشبيهه بما للرجال على النساء لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة مسلمة من أقدم عصور البشر، أما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه، أو كانت ولكنها متهاون بها وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند الزوج، فلما جاء الإسلام أقامها وكانت هذه الآية أعظم ما أسست به، وكانت هذه الآية ركنًا من أركان حقوق الزوجية، بما يفضل الإسلام جميع الشرائع والقوانين والأديان في العدل والإنصاف، والمصلحة مما لم تنل النساء مثله في أمة من الأمم ومنها قوله تعالى في أحكام الطلاق:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3)

(1) سورة التوبة: الآية 71.

(2)

سورة التوبة: الآية 112

(3)

سورة البقرة: الآية 229.

ص: 2424

فقد روى مالك في جامع الطلاق من الموطأ، عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، ثم قال: والله لا آويك ولا تحلين أبدًا فأنزل الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق، وقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله تعالى الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)) ، والمقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلق قيد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان إذ ما جاء للوصية والإرشاد في أثناء التشريع وإيماء إلى أنه الأهم المرغب فيه في نظر الشرع والإمساك بالمعروف أي على ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام وهو مناسب للإمساك إذ يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان المعاشرة وغيرها؛ إذ المعروف أعم من الإحسان والتسريح بإحسان هو الفراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن والبذل بالمتعة، كما قال تعالى:{فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .

وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمتعوهن من حليهن ورياشهن ويكثرون الطعن فيهن (1) . ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الطلاق: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (أي أمسكوهن بحسن معاشرة ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن){وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (2)

ومنها قوله تعالى في المطلقات الرجعيات: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (3) .

وهو شرط للنهي لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته نصحًا لها وخوفًا عليها، ولا يحق له بحال إذا تراضى الزوجان بعود المعاشرة أن يمنعها إذ ليس هو بأدرى من ميلها لزوجها منها فهو على حد قولهم رضي الخصمان ولم يرض القاضي.

(1) التحرير والتنوير: 2 /403- 407

(2)

سورة الطلاق: الآية 2.

(3)

سورة البقرة: الآية 232

ص: 2425

ومنها قوله تعالى في المطلقات: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (1) متاعًا بالمعروف وهو ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له فالاعتبار في ذلك بحال الزوج وهي من الغنى فوق المتعة من الفقير إذ ليس الموسع وهو من اتسعت حاله كالمقل المقتر، وهو من عسرت حاله، فالمعروف ما تعورف في الشرع والعادة (2)

ومنها قوله تعالى في معاشرة الأزواج: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3) .

والمعاشرة المخالطة مفاعلة من العشرة، والمعروف ضد المنكر وسمي الأمر المكره منكرًا لأن النفوس لا تأنس به، فكأنه مجهول عندها نكرة، إذ الشأن أن المجهول يكون مكروهًا، ثم أطلقوا اسم المنكر على المكروه وأطلقوا ضده على المحبوب لأنه تألفه النفوس والمعروف هنا ما حدده الشرع ووصفه العرف (4)

ومما جاء في العفو عن القصاص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (5) .

فالاتساع مستعمل في القبول والإرضاء، أي فليرض بما بذل له من الصلح المتيسر وليؤدِّ باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ومقصد الآية إبطال ما كان في الجاهلية من اعتبار أن أخذ الصلح في القتل العمد هو بيع لدم صاحبهم، قال مرة الفقعسي:

فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني

أرى العار يبقى والمعاقل تذهب

فجاء القرآن وأطلق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام وجعل التوافق في العقيدة أشد من التوافق في النسب ذلك أن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية، والروح كما هو معلوم أشرف من الجسد، وقوله تعالى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وصف أي الرضا بما هو معروف تألفه النفوس وتستحسنه من كل ما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ومنها ما في الوصية للوالدين والأقربين، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (6)

(1) سورة البقرة: الآية 236

(2)

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني: 1 /226.

(3)

سورة النساء: الآية 19

(4)

التحرير والتنوير: 4 /286.

(5)

سورة البقرة: الآية 178

(6)

سورة البقرة: الآية 180

ص: 2426

والمعنى: كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ما ألفته العقول ولم تنكره النفوس وهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفًا لكثرة تداوله والتأنس به حتى صار معروفًا بين الناس وهو العدل الذي لا يحصل منه تحاسد بين الأقارب ولا تباغض وتدابر، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب وقد قال طرفة:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

وقد كانوا في الجاهلية يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، وكان هذا مما يفضي إلى الإحن، الأمر الذي يتسبب في اختلال الحالة الاجتماعية بإلقاء العدواة بين الأقارب ومنها في أكل الموصى من مال اليتيم، فقد قال الله تعالى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، ففي قوله بالمعروف حوالة على ما يناسب حال الوصى ويتيمه بحسب الأزمان والأماكن، ولقد أرشد إلى ذلك حديث أبي دواد في سننه أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء، قال:((كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل)) ، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت نزلت هذه الآية فيولي اليتيم إذا كان محتاجًا أن يأكل منه بالمعروف، ولهذا قالت المالكية: يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله، وقد قال عمر رضي الله عنه: إني نزلت نفسي من مال الله منزلة الوصي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت. قال عطاء وإبراهيم النخعي: لا قضاء عليه أن أيسر وهو مذهب الجمهور وروي عن ابن عباس من كان من الأوصياء غنيًّا فليستعفف بماله، ولا يتوسع بمال محجوره ومن كان فقيرًا فإنه يقتر على نفسه لئلا يمد يده إلى مال يتيمه، وقد استحسنه النحاس وعلي بن على الطبري المعروف مالكيًّا الطبري نسبة إلى طبرستان قرب الري (1) قال الإمام الشافعي: وجماع المعروف إتيان ذلك بما يحسن لك ثوابه، وكف المكروه (2) .

إننا بما نقلنا نرى أن المعروف في هذه الآيات المتعددة معتبر في هذه الأحكام المهمة كما ندرك أن المعروف فيها هو المعهود بين الناس في المعاملات وفي العادات، ومن المعلوم بالضرورة أن العادات والتقاليد تختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد، والأوقات، وأن تحديد الأحكام وتعيينها من دون مراعاة عرف الناس يكون مخالفًا لنص كتاب الله (3) ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من فقهاء الحديث أقوال حكيمة في المعروف فقد ذكر في أحكام الطلاق (4) وما ورد فيه من الآيات المقيدة للإمساك بالمعروف والتراضي بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وفي أن لهن وعليهن بالمعروف ورزقهن وكسوتهن بالمعروف قال: هذا المعروف المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين.

(1) التحرير والتنوير: 4 /245، إلكيما بهمزة مكسورة في أوله فكاف مكسورة معناه الكبير بالفارسية.

(2)

أحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ: 1 /203

(3)

تفسير المنار، للشيخ رشيد رضا: 9 /534

(4)

مجموع الفتاوي لابن تيمية: 34 /84 إلى 91

ص: 2427

والمعروف هو الذي يعرفه الناس في حالهما نوعًا وقدرًا وصفة وهو يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار، والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيضعهما في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم وكذلك ما يجب عليه من المتعة والعشرة، فعليه أن يبيت عندها ويمسها بالمعروف، وكل هذا يختلف بحاله وحالها، كذلك النفقة تقدر بالمعروف فتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين وقد قال بعضهم هي مقدرة بالشرع نوهًا وقدرًا مدًّا من حنطة أو مدًّا ونصفًا، أو مدين قياسا على الإطعام والواجب في الكفارة على أصل القياس والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علمًا وعملًا قديمًا وحديثًا. فإن القرآن قد دل على ذلك وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهند امرأة أبي سفيان، لما قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فأمرها أن تأخذ بالمعروف ولم يقدر لها نوعًا ولا قدرًا)) ، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات. وفي صحيح مسلم ،عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته العظيمة بعرفات:((لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) وكل ذلك يرجع للعرف والعادة، فإذا كان عادتهم أكل التمر والشعير أعطاها ذلك وإن كان أكل الخبز والإيدام أعطاها ذلك، وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت، فعل ذلك، وإن كانت عادتهم يشتري الخبز من السوق فعل ذلك، كل ذلك على ما هو معروف عندهم، وكذلك القدر لا يتعين مقدار مطرد بل تتنوع حتى تتنوع المقادير- والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطًا لا يحرم حلالا ولا يحلل حرامًا فالمسلمون عند شروطهم إذ موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة ومن العرف تارية أخرى لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله.

واللفظ في العرف والمعروف عام، يشمل كل معروف في الشرع وفي العادات والمعاملات، فلا بد من الاعتماد على العرف والاعتداد به إذا لم يكن هناك نص من الشارع، أما إذا كان هناك نص صار هو نفسه من جملة المعروف الذي هو ضد المجهول كما يكون بالضرورة من المعروف الذي هو ضد المنكر.

والعقائد والعبادات مرجعها إلى النصوص من الكتاب والسنة فلا يجوز بحال من الأحوال إحداث عبادة جديدة أو الإتيان بها على غير الوجه الذي كان أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا ينفع في ذلك اجتهاد ولا قياس ولا إجماع من بعد الرسول وأصحابه، كما لا ينفع فيها علل ولا نظريات حيث أن الله قد أكمل الدين، وقال سبحانه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)

(1) سورة المائدة: الآية 3.

ص: 2428

وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما سكت عنه، فهو معفو عنه فمن زاد على ذلك شيئًا كان مراغمًا لنص القرآن أو طاعنًا في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زاعمًا أنه هو أكمل منه علمًا بالدين، وقد قال مالك رضي الله عنه لمن أراد أن يحرم بالحج من المسجد النبوي: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال الرجل وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك قد سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .

ومن أجل كلامه رضي الله عنه في ذلك قوله من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين (2) / قال الشاطبي: ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادئ الرأي وقوفًا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه (3) ولم يلتفت رضي الله عنه في إزالة الأحداث ورفعها إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفعها النية، ولم يجعل غير الماء المطلق الذي لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه. وكذلك امتنع من إقامة التكبير والتسليم في القراءة بغير العربية، ولم يجعل غيرها يقوم مقامها في التحليل والتحريم والإجزاء، وكذلك منع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر في الكفارات على مراعاة العدد وما أشبه ذلك ومسلكه في هذا كله دائر على ما حده الشرع دون ما يقتضيه معنى من المعاني مناسب، وذلك لقلة وجوده في التعبديات وندوره في الديانات وهو رضي الله عنه بخلافه في العادات الذي هو جار على المعنى المناسب، الظاهر للعقول فقد استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم معاني المصالح مع مراعاة مقصود الشارع وعدم مناقضة تلك المصلحة لأصل من أصوله التي قسمها العلماء إلى ثلاثة: مناسب علم اعتباره الشارع له، ومناسب علم إلغاؤه له ومناسب لم يعلم إلغاؤه ولا اعتباره، وهو الذي لم يشهد له أصل معين بالاعتبار بل أخذ من مقاصد الشريعة العامة وهو المسمى بالمصالح المرسلة (4) .

(1) سورة النور: الآية 63

(2)

الاعتصام ،للشاطبي: 1 /167- 2 /198

(3)

الشاطبي: 3/ 300

(4)

ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ،للشوكاني

ص: 2429

وقد اشتهر انفراد المالكية به، قال الزركشي: وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك، ولقد أطنب أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ في بحث البدع والحث على التزام السنة من كتابه الاعتصام بما لم يسبق إلى مثله وفرق بين البدع والمصالح المرسلة تفرقة واضحة بينه، وأثبت فيها أن مالك بن أنس كان يقول بها على تشدده في نصرة السنة ومبالغته في مقابلة البدع حتى قال فيه أحمد بن حنبل إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه مبتدع، وقال فيه عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالكًا بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة، كما أنه ممن أطنب غاية الإطناب في بحث المصالح من المشارقة نجم الدين الطوبي الحنبلي المتوفى سنة 716 حتى بلغ به الأمر إلى أن قدم المصلحة على النص والإجماع، وقد ركز كلامه على حديث أبي سعيد الخدري:((لا ضرر ولا ضرار)) ، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مرسلًا، ورواه مالك كذلك مرسلًا، وقال: إنه يقتضي رعاية المصالح إثباتًا ونفيًا والمفاسد نفيا، ثم استدل على المسألة بعد أدلة من الكتاب والسنة تفصيلًا وإجمالًا وجعل مدار تعليل الأحكام الشرعية عليها ودعم ما ذهب إليه بالاستدلال بالنظر العقلي ولم يكتفِ بكل هذا حتى جعل رعاية المصالح مقدمًا على النص والإجماع عند التعارض فقال: وإن خالفها وجب تقديم رعاية المصالح عليها بطريق التخصيص والبيان لهما لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، ثم قال بعدها: واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من حديث ((لا ضرر ولا إضرار)) ثم قال: وليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام، ثم علل ذلك بأن العبادات وشبهما حق للشارع خاصة به، ولا يمكن معرفتها ومعرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي بها العبد على ما رسم له، ولهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله وضلوا وأضلوا، قال: وهذا بخلاف حقوق المكلفين، فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، فعلينا أن نأخذها من أدلته، فإذا رأينا الشرع متقاعدًا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا فيتحصيلها على رعايتها (1)

ونحن إذا نظرنا الأمور الدنيوية من حيث الحلال والحرام ومن حيث القضاء والسياسة والآداب وجدناها تنقسم بحسب الأدلة إلى ستة أقسام:

الأول: ما فيه نص محكم قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وهذا واجب العمل به ولا مجال للاجتهاد فيه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه من النصوص الخاصة لموضعه أو العامة كنفي الحرج ونفي الضرر والضرار وكون الضرورات تبيح المحظورات كما قال تعالى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)

(1) رسالة نجم الدين الطوفي، المصلحة المرسلة.

(2)

سورة الأنعام: الآية 119.

ص: 2430

والإضطرار الوقوع في الضرورة ويغلب فعله البناء للمجهول وهي حالة توجب على الإنسان أن لا يقدم على المحرمات إذا كان رائمًا بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج إليها، وتوجب عليه أن لا يحجم من تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصب والسرقة ونحوها يدل على ما ذكرنا قوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) أي غير باغ، ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين فهي تقدر بقدرها وتزول بزوال مقتضياتها.

القسم الثاني: ما دل عليه نص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه دلالة واضحة أجمع عليها أهل الصدر الأول، أو عمل بها جمهورهم وعرف شذوذ من خالفهم، فالواجب في هذا عين الواجب في الأول بشرطه عند من عرفه.

القسم الثالث: ما ورد فيه نص تكليفي ظني الدلالة، أو حديث لا هو واهٍ ولا هو صحيح، وقد اختلف فيه الصحابة أو من بعدهم من علماء السلف والأئمة المجتهدون للاختلاف في صحة روايته، أو للاختلاف في صراحة دلالته، فمثل هذا يعمل فيه كل مكلف حسب اجتهاده ويعذر فيه كل من خالفه فيها ظهر له أنه الحق وليس أن يعيب على أحد ولا له أن ينتقده كاختلاف السلف في بعض أحكام الطهارة والنجاسة، فلم يعب أحدهم مخالفه فيه ولم يمتنع من الصلاة معه لا إمامًا ولا مأمومًا، وكما فهم بعض الصحابة من آية البقرة:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2)

وقد نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال فنزلت الآية، قال في الكشاف: " فترك الخمر قوم وشربها آخرون حيث اختلف فهمهم في تحريمها وعدم تحريمها عمل كل ما ظهر له، ولم يعترض على غيره ومثله ما يستنبطه بعض العلماء من الكتاب والسنة في كل زمان، فمن ظهر له أن ذلك من الدين وأن كلام الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة عليه عمل به، ومن لم يظهر له ذلك فلا يكلف تقليد من استنبطه، وقد نقل عن أشهر المجتهدين من الأئمة أنه لا يجوز لأحد أن يقلدهم وأن يأخذ بشيء من أقوالهم إلا إذا عرف مأخذه وظهر له صحته وترجح له دليله وعند ذلك يكون متبعًا لما أنزل الله لا لما رآه غيره، وبذلك لا يكون مخالفًا لقول الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (3) .

(1) سورة البقرة: 173.

(2)

سورة البقرة: الآية 219.

(3)

سورة الأعراف: الآية 3

ص: 2431

وأما ما يتعلق بالأمور العامة من هذا القسم كالأحكام القضائية والسياسية، فينبغي أن ينظر أولو المر وأن يتشاوروا فيه من حيث تصحيح النقل، ومن حيث طريق الدلالة على الحكم، فإذا ظهر لهم ما يقتضي؛ إلحاقه بأحد الأقسام السابقة ألحقوه به فكان له حكمه وإلا كان كالمسكوت عنه.

القسم الرابع: ما ورد فيه نص غير وارد مورد التكليف كالأحاديث المتعلقة بالعادات من الأكل والشرب والطب ونحوها مما يسميه العلماء إرشادًا لا تشريعًا، وكذا ما كان من قبيل الفتاوي الشخصية فلم يعمل به الجمهور لعدم الأمر بتبليغه، فالأولى والأفضل للمسلم أن يعمل بها ما لم يمنعه من ذلك مانع من الشرع، والمصلحة أو المنفعة العامة أو الخاصة ذلك أن المبالغة في الاتباع حتى في العادات والتقاليد مما يقوي وحدة الأمة ويثبت الرابطة بين المسلمين ويقوي شوكتهم في أعين أعدائهم. نعم، لا ينبغي لحكام المسلمين في مثل هذا أن يجبروا أحدًا على الفعل أو الترك وإنما يحسن أن يكونوا قدوة صالحة في مثله.

القسم الخامس: ما سكت عنه الشرع فلم يرد عنه فيه ما يقتضي فعلًا، ولا ما يقتضي تركًا، وهذا هو الذي عفا الله عنه رحمة منه وتخفيفًا على عباده وليس لأحد أن يكلف أحدًا من عبيد الله يفعل شيئًا لم يأذن الله فيه وإن ما أمرنا الله به من طاعة الأمراء وأولي الأمر منا خاص بأمور الدنيا ومصالحها ومشروط بأن لا يكون في معصية الله كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان في الصحيحين وأبو دواد والنسائي عن على كرم الله وجهه: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة في معروف أما أمر الدين فقد تم واكتمل، فليس لأولي الأمر من المسلمين سلطان على أحد في أمر الدين المحض لا بزيادة على مدلل النص ولا بنقصان منها قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) .

ومن زاد أو نقص فقد جعل نفسه أو جعل شريكًا لله أو اتخذ ربًا من دون الله، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) .

ولما كانت طاعة أولي الأمر خاصة بأمور الدنيا ومصالحها كان حتمًا تحكيم العرف والمعروف فيما لا نص فيه إذ لا يستقيم نظام الأمة إلا على أساس ثابت.

(1) سورة الشورى: الآية 13.

(2)

سورة الشورى: الآية 21

ص: 2432

فإذا كانت فوضى غير مقيدة بأصول وأحكام وفضائل ثابتة، ولا بد من شيء ثابت لا تختلف فيه المصالح والمنافع، ولهذا جاء الشرع العزيز بالعرف والمعروف. ولو اختلف الناس فيما يعرفون وما ينكرون فالناس على عاداتهم وتقاليدهم، وقد أحسن الجصاص إذ عرف العرف فقال: هو ما يستحسن في العقل فعله، ولا تنكره العقول الصحيحة وقد ذهب جماعة إلى أنه العرف والعادة مترادفان، فالعرف عندهم هو العادة، وهي غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد، أو على بعضه وعرفها بعضهم بأنها الأمر المكرر من غير علاقة عقلية كتكرار حدوث الأثر مع المؤثر وتكرار المعلول عند وجود علته كسرعة البلوغ في البلاد الحارة وبطئه في البلاد الباردة، قال القرافي في تعريف العادة: إنها غلبة معنى من المعاني على الناس، وهو غير جامع لعدم اشتماله عادة الفرد، وقد عرفها بعضهم وقصرها على العادة العملية ولا وجه لما ذهب إليه لأن الفقهاء عمموا العادة في الأقوال والأعمال، وأدى تعريف لها ما عرف به ابن فرحون، حيث قال في تعريفها: غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها، وقد عرف العرف بما استمر الناس عليه على حكم العقول، وعادوا إليه مرة بعد مرة وبتعريفه للعادة وتعريفه للعرف ندرك أنهما مترادفان، وهذا يؤيده وجه نظر أغلب الفقهاء والأصوليين لكن منهم من فرق بينهما، وجعلوا العادة أعم من العرف باعتبار أنها جنس يندرج تحته أنواع كثيرة من جملتها العرف، إذ العادة تشمل ما كان ناشئًا عن عامل طبيعي أو عن عادة فردية شخصية، أو عن عادة عامة بين الجمهور، وهو العرف، فكل عرف عادة وليس كل عادة عرفًا، وذهب بعضهم إلى أن العادة تختص بالأفعال، والعرف بالأقوال وفيه متكلم.

أما أهل القانون، فيفرقون بين العرف والعادة بأمور أولها: أن أحكام العرف تلزم الطرفين ولو كانا جاهلين في حين أن العادة لا تلزمهما إلا إذا قصد الإحالة عليها صراحة أو دلالة. ثانيهما: أن من يريد التمسك بالعادة فعليه أن يثبتها بخلاف العرف فلا يحتاج للإثبات لأنه مفروض فرضا ولهذا يتعين على القاضي معرفة ذلك حتى يميز بين الطالب والمطلوب. ثالثها: أنه لا يعتد بحكم الحاكم إذا خالف العرف التي نصت عليها القوانين العرفية، واصطلحت على تسمية الركن المعنوي بالعرف، وبركن الاعتقاد بلزوم العادة وهو ما يميز العادات التي أصبحت عرفًا من العادات التي لم تبلغ هذه المرتبة وما تزال في طور الاستعمال المتوارث دون التزام (1) .

(1) الإحكام في أصول الأحكام: 2 /759؛ مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي: ص 152:

ص: 2433

يقول الإمام الشاطبي: اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد ثم يقول في المسألة التالية العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أمرًا ونهيًّا ،أو إذنًا أم لا، أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر، وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك، ثم يقول بعد كلام ولما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزن واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأن أصل التشريع سبب المصالح، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع (1) ، وقد قسم الشاطبي العوائد إلى عوائد عامة، لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، والثاني: العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيئات اللباس والمسكن ونحوها. والأول: يقضي به على أهل الأعصار للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذه السنن لا تتخلف بما يجري منها في الزمان الحاضر محكومًا به على الزمان الماضي والمستقبل أكانت العادة وجودية أو شرعية، والثاني: لا يصح أن يقضي به على ما تقدم حتى يقوم الدليل على الموافقة من الخارج فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة، وكذلك في المستقبل. والنوع الأول: راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق وهذه العادة معلومة. أما النوع الثاني: فعادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم وهذه لا يصح أن يحكم بها لاحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى، وهذه القاعدة محتاج إليها في القضاء فيجب على القاضي أن يكون عالمًا بما كان عليه الأولون لتكون حجة للآخرين، وهذه القاعدة يستعملها الأصوليين في البناء عليها ورد القضاء بالعلمية إليها (2) .

ولشدة الارتباط بين العرف والعادة وتداخلهما جرت المالكية على الرأي الأول من أن العرف والعادة لفظان مترادفان (3) .

(1) الموافقات للشاطبي: 2 /180-184.

(2)

الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى: 2 /180- 184- 188

(3)

انظر العيار: 3 /238-257؛ مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي: ص 151

ص: 2434

ولقد استدل العلماء على الاحتجاج بالعرف من السنة بما أخرجه الإمام أحمد ومسنده. قال: حدثنا عبد الله حدثني أبي، حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زيد بن حبيش ،عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دنيه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء (1) وجه الاستدلال أن ما رآه المسلمون مستحسنًا قد حكم بحسنة عند الله، فهو حق لا باطل فيه لأن الله لا يحكم بحسن ما هو باطل، فإذا كان العرف مما استحسنه المسلمون كان محكوما باعتباره، وقد انتقد هذا الدليل من حيث الثبوت والدلالة، أما من حيث الثبوت فقد نقل عن العلائي أنه لم يجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه، قال: وأخرجه أحمد في مسنده وصرح الزيلعي بأن الحديث غريب مرفوع (2)

وجزم ابن حزم بأن لا وجود للحديث في مسند صحيح، وإنما يعرف عن ابن مسعود (3) ، وذكر الشيخ عبد الحي الكتاني أن هذا الحديث لا يصلح مبينًا أن ابن نجيم أخطأ في نسبته لأحمد في مسنده وإنما هو في كتاب السنة له، كما نص عليه السخاوي في المقاصد ثانيًا أن سياق كلام ابن مسعود يفيد أن المراد بالمسلمين الصحابة والمجتهدين، فالمراد بالمسلمين في الحديث المجتهدون لا عموم الناس يشده لذلك فعل ما رآه في الحديث لأن الرأي في عرف الصحابة هو ما يراه القلب بعد فكر وتأمل واجتهاد لوجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات ويدخل في ذلك ما يستنبط بطريق القياس والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وهذا لا يمكن أن يكون إلا ممن بلغ درجة الاجتهاد وهو خواص الخواص وعلى تقدير أن " أل " في المسلمين للعموم، فهي تشمل جميع المسلمين أي المسلمين من أهل الحل والعقد إذ ما أجمعوا عليه يجب اتباعه لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا تجتمع أمتي على ضلالة ولا تجتمع على خطأ)) فقوله: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) بهذا المعنى، وهذا ما صرح به علماء الأصول كالآمدي وغيره (4) فقد قال الآمدي: وما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن إشارة إلى إجماع المسلمين، والإجماع حجة ولا يكون إلا عن دليل، وليس في الحديث دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسنًا، فهو حسن عند الله تعالى، ومثل هذا الكلام قال الشاطبي في كتابه الاعتصام على ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه إلى أن قال: وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه أحدها: أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنًا، فهو حسن والأمة لا تجتمع على باطل فاجتماعهم على حسنه شرعًا، لأن الإجماع يتضمن دليلًا شرعيًّا، فالحديث دليل عليكم لا لكم، والثاني: أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع، والثالث: أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع، وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العامة، وهو باطل بإجماع (5) .

(1) مسند الإمام أحمد 1 / 379، ط. الميمنة.

(2)

الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93؛ الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 63، نشر العرف في بناء الأحكام على العرف ،لابن عابدين ،مجموع رسائل ابن عابدين: 2 /115.

(3)

الإحكام في أصول الأحكام: 2 /759؛ الزيلعي: 4 /133، وفي تمييز الطيب من الخبيث: ص141، لابن الديبع أن الحديث رواه أحمد في كتاب السنة مصرحًا بحسنه، وقال ابن الديبع: إن الحديث أخرجه البراز والطيالسي وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبن مسعود

(4)

انظر الأحكام، لسيف الدين الآمدي: 3 /138

(5)

الاعتصام، لابن إسحاق الشاطبي: 2 /130-131

ص: 2435

وإذا أمعنا النظر في شريعتنا الغراء، وجدناها شريعة مستكملة الأحكام صالحة لكل زمان ومكان مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد في هذا العمران متسعة المجال صالحة لجميع الأقاليم والأجيال عقيدة حكم بصحتها العقل والنقل، وأن في اختلاف علمائها مما تختلف فيه الأقطار بما تقتضيه الأطوار في اختلاف الأمصار والأعصار لدليل على كمال توسعها وصلاحها، ومعلوم أن المأخذ متحد يعتمده كل معتمد فكالوادي إذا جرى إلى أراضٍ مختلفة فاختلف نباتها باختلاف جهاتها، فليس من اختلاف المياه، فالوارد من أواخر جداوله يستوي مع من ورد من منبعه ومصبه والماء واحد وإن اختلفت الموارد وهكذا شريعتنا، فهي متحدة الأصول وإن اختلفت في جزئياتها الفحول على أنها قد حافظت على ما لا يخالف أصولها من أحكام الشرائع السابقة حتى كان شرع من قبلنا شرعًا لنا ما لم يرد ناسخ، وصانت أيضًا ما لا ينقص أحكامها مما جرى به العرف والعوائد على أنه إن ذهبنا إلى أن آية الأعراف {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .

وحديث: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن لا يقوم بهما الاستدلال صراحة بخصوصهما، فمن الآيات والأدلة ما يقوي جانبهما مما لا يترك مجالًا إلى اعتبار العمل والعرف وأنهما أصل من الأصول التي انبنت عليه كثير من الأحكام. فمن الآيات قوله تعالى فيما يجب للزوجات على الأزواج من النفقات:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) .

فقد قيدت الإنفاق بما تعارفه الناس واعتادوه، وقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .

فقد صرحت الآية بأن الكسوة والرزق والإنفاق مرجعه إلى ما اعتاده الناس، وقوله تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) أي أمسكوهن بما عرف بين الناس من حسن المعاشرة من غير مضارة.

وقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي بعيشة حسنة رضية استقر عرف الناس عليها، وقوله تعالى في المطلقات:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} (4) وهو ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له والاعتماد في ذلك على حال الزوج من الغنى والفقر والسعة والضيق، ومنها قوله تعالى في معاشرة الأزواج {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (5) .

(1) سورة البقرة: الآية 228

(2)

سورة البقرة: الآية 232

(3)

سورة الطلاق: الآية 2

(4)

سورة البقرة: الآية 236

(5)

سورة النساء: الآية 19

ص: 2436

فالمعروف هنا ما حدده الشرع ووصفه العرف وتألفه النفوس ولا تستنكره، ومنها قوله تعالى في العفو من القصاص {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1) .

فاتباع بمعروف أي بما تألفه النفوس وتستحسنه في مجاري العادات ولا تشمئز منه وتستنكره، ومنها قوله تعالى: في الوصية للوالدين {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (2) ، أي بما ألفته العقول ولم تنكره النفوس وهو المحبوب المرضي سمي بذلك لكثرة تداوله بين الناس والتأنس به حتى صار معروفًا بين الناس معتادًا وهو العدل الذي لا يحصل منه تحاسد ولا تباغض بين الأقارب.

ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .

والجلباب ثوب أصفر من الرداء وأكبر من الخمار والقناع تضعه المرأة على رأسها، فيتدلى جانباه على ذراعها وينسدل سائره على كتفيها وظهرها تلبسه المرأة عند الخروج، ولا شك أن لباسه يختلف باختلاف أحوال النساء التي تبينها العادات والتقاليد، وما استشهدنا به من الآيات أوردناها لتؤكد على أن معناها يدور كله على العرف الذي يقضي به في المعاملات والعادات ما لم تكن مخالفة لنص من نصوص الشريعة والله عز وجل إنما يخاطب عباده بما يفقهونه إما بطريق النص مما جاء في الكتاب والسنة وما لم يرد فيه نص فيجري على ما تعارفه الناس واعتادوه، وكل هذه الآيات لتعزز آية الأعراف التي استدل بها الفقهاء على اعتبار العرف وهي حجة على ما أنكر الاستدلال به.

وأما من السنة فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، فلما قدم المدينة وجد الناس يتعاملون بالسلم، وهو بيع ما ليس عند الإنسان، فأقرهم عليه بعد أن نظمه لهم مراعيًا في ذلك العرف ورفع الحرج فقال صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس:((من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم)) ، والأصل أن لا يصح التعاقد على معدوم كبيع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه وكبيع اللبن في الضرع لاحتمال عدمه بكونه انتفاخًا وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولهذا ورد النهي عن بيع حبل الحلبة وهي المضامين ما في أصلاب الإبل والملاقيح، وهو ما في بطون النوق.

(1) سورة البقرة الآية 178

(2)

سورة البقرة الآية 180

(3)

سورة الأحزاب: الآية 59

ص: 2437

وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منبع التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد استحسانًا ومراعاة للحاجة ورفعًا للحرج عن الناس لتعارفهم عليها وإقرار الشرع صحة السلم والإجارة والمساقاة نحوها، وإنما صحح الشرع بيع المعدوم وبعض المواضع وإن كان الأصل عدم ذلك، فذلك تخفيفًا ورفعًا للحرج واحتياج الناس لذلك، فلهذا أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود المعدوم الذي لم يخلق بعد ومما يدل على اعتبار العرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة:((إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعروف)) ، فقال العباس: إلا الإذخر وهو نبت طيب الرائحة، فإنه لا بد لهم منه فإنه للقبور والبيوت فقال صلى الله عليه وسلم:((إلا الإذخر)) فاستثناؤه صلى الله عليه وسلم الإذخر ما هو إلا مراعاة لعادة ألفوها ويعسر عليهم ترك عادتهم فرخص لهم في ذلك دفعًا للحرج. ومما يدل على مراعاة عرف الناس وعادتهم ما اتخذه الشرع من وضع الدية على العاقلة واشتراط الكفاءة في الزواج وبنائه على العصبية ومثله الإرث ومنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: ((خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (1)، أي حسب العادة والتقاليد كذلك ما في الصحيحين والموطأ من قوله صلى الله عليه وسلم:((لقد هممت أن أحرم الغيلة والرضاع لولا أن قومًا من فارس يفعلونها ولا تضر أطفالهم)) . ومن رحمة هذه الشريعة الغراء أن أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة بها إذا لم يكن فيها استرسال على فساد يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار، أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام)) ، وفي صحيح البخاري باب ما أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيع والإجارة والمكيال والوزن، وسنتهم على نياتهم ومذاهبهم المشورة، قال ابن حجر: مقصود البخاري بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ حتى أنه لو وكل رجل غيره في بيع سلعة فباع بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الكيل، أو الوزن المعتاد (2) .

ثم أضاف ابن حجر إن الرجوع إليه في كثير من الأشياء، كمقادير الأيام والحيض والطهر وأكثر مدة الحمل ومقدار سن اليأس، وإحياء الموات والإذن في الضيافة، ودخول بيت قريب، والأيمان، والوصايا، ومقادير المكائيل والموازين، فكل هذه المسائل مرجعها إلى العرف والعادة. وكل ما لم ينص الشارع عليه فيحمل على ما تعارفه الناس وتعامل به أهل تلك البلدة، قال ابن حجر: وهذا ما قصده البخاري من الترجمة، أي من إثبات الاعتماد على العرف والعادة (3) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه: 7 / 65

(2)

فتح الباري، شرح صحيح البخاري: 4 /276

(3)

فتح الباري، شرح صحيح البخاري: 4 /277

ص: 2438

وقال بدر الدين العيني في شرحه لهذا الباب: أي هذا باب يذكر من أجرى أمرها إلى الأمصار على ما يتعارفون بينهم أي على عرفهم وعوائدهم في أبواب البيوع والإجارات والمكيال، ثم قال: كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي، أو وزني، يعمل في ذلك على ما تعارفه أهل تلك البلدة مثلا الأرز فإنه لم يأتِ فيه نص من الشارع أنه كيلي، أو وزني، فيعتبر في عادة أهل كل بلد على ما بينهم من العرف فيه فإنه في البلاد المصرية يكال، وفي البلاد الشامية يوزن ونحو ذلك من الأشياء لأن الرجوع إلى العرف جملة من القواعد الفقهية. وقوله: وسننهم عطف على ما يتعارفون بينهم، أي على طريقتهم الثابتة على حسب مقاصدهم وعاداتهم المشهورة وحاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف والعادة (1) .

ومما يدل على اعتبار العادة الحسنة ما أخرجه أبو داود في سننه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للسائب بن أبي السائب:((كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري)) (2) ، وفي رواية ((ولا تداريني ولا تماريني)) ، والمداراة الملاطفة، والمير الإيتاء بالميرة، وهو الطعام، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها في الجاهلية تستأجر الرجال في مالها بشيء تجعله، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم يسلفون في التمر السنة والسنتين، فقال الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري:((من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم)) ، فلقد أبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من العادات مما كان عليه العرب في الجاهلية ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وأبقى حتى بعض الشعائر الدينية التي تتماشى مع الفطرة البشرية، والتي تسربت لهم من الديانة اليهودية أو النصرانية، ولم يبطل منها إلا ما كان فاسدًا كربا الفضل والنسيئة وبيوع الغرر والجهالة كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وما نعت من أنكحتها ما كان فاسدًا، كنكاح الاستبضاع والبغاء والسفاح والمخادنة، ونحوها، وأبقت ما هو صلاح متعارف تألفه الطباع وتستحنه العقول النيرة وهو ما عليه الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها (3) .

وقد أبقى الإسلام ما كان عليه العرب في الجاهلية من حججهم واعتمادهم، أخرج البخاري عن عاصم بن سليمان، قال: سألت إنسانًا على الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ونظام القسامة في الإسلام، هو الذي كان في الجاهلية، فقد روى مسلم، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمصار أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (4) .

(1) عمدة القاري، في شرح صحيح البخاري: 12 /16

(2)

سنن أبي داود.

(3)

صحيح البخاري: 7 /15.

(4)

صحيح مسلم: 4 /68.

ص: 2439

وفي باب الصيام روى البخاري ومسلم، عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:((ما هذا؟)) ، قالوا: هذا يوم صالح نجى الله تعالى موسى عليه السلام، وبني إسرائيل من عدوهم فصامه وأمر بصومه (1)

وكذلك كان الاعتكاف في الجاهلية من القربات، فجاء الإسلام به فقد أخرج البخاري ومسلم، عن ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: ((فأوفِ بنذرك)) (2) ، إن ما نقلناه يعطينا صورة واضحة جلية وموقف الإسلام من العادات، وإنه ليتضح من ورائها أن الشرع أقر كثيرًا مما كان عليه الناس في العهد الجاهلي مما هو صلاح وقيد بعضها وهذبها بما هي في حاجة إليه، وأبطل منها ما كان فاسدًا فلم تهدم الشريعة كل ما كان متعارفًا عند العرب في الجاهلية، بل أقر ما كان مسايرًا لمبادئ الإسلام ومقاصده مهتمًا اهتمامًا عظيمًا بالعادات والتقاليد مراعيًا العرف الصالح فيما يشرع من أحكام حتى يتقبلها الناس بصدر رحب والإنسان ابن ما تعود. ومن مبادئ هذه الشريعة رفع الحرج، إذ هو أساس من أسسها الثلاث التي بنيت عليه، وهو رفع الحرج وقلة التكليف والتدريج في التشريع، ولقد أوضح العلامة المقدس المبرور محمد الطاهر بن عاشور هذا المعنى في كتابه مقاصد الشريعة، بعد ما بين أن ليست الشريعة بنكاية فذكر أن مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير، فبين أن للتشريع مقامين: الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة البقرة: الآية 257] .

وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة: الآية 16] .

والتغيير قد يكون إلى أشد رعيًا لصالح العباد، وقد يكون إلى تخفيف إبطالًا لغلوهم كتغيير اعتداد المرأة المتوفى عنها زوجها من تربص سنة إلى تربص أربعة أشهر وعشر وكتغيير الحداد بتهذيبه من لبس المرأة شر الثياب ومكثها في الحفس (بيت صغير) وعدم التنظيف والتطبيب مدة سنة، فأبدل ذلك بعدم لبسها للمصبوغ إلا الأسود وعدم التطيب والاكتحال مدة أربعة أشهر وعشر. أما المقام الثاني: فهو تقرير ما كانوا عليه في الجاهلية من الأحوال الصالحة التي اتبعها الناس والمعبر عنها بالمعروف، ولقد توارث الناس من القدم كثيرًا من المصالح التي كانت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والأنبياء والمرسلين والحكام العادلين حتى رسخت في النفوس واستحسنها العقول كإغاثة الملهوف ودفع الصائل وحراسة القبيلة والمدينة، والتجمع في الأعياد واتخاذ الزوجة وكفالة الصغار وغيرها، مما فيه صلاح البشر قديمًا وحديثًا، ثم إن التقرير لا يحتاج إلى القول إلا إذا كان عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال أو تحريض على فعل وما عدا ذلك يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس ولذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقها لا تنحصر ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على الفساد (3) ، وما جاء الإسلام إلا لإصلاح ما فسد من أحوال الناس، ولم يكن غايته هدم ما اعتاده الناس من العادات الصالحة التي تعارفوها قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل باحترام الشريعة للعرف، والعادة يكون قد شرعه للناس وأصبح مصدرًا من مصادر تشريعه.

(1) صحيح البخاري: 8 /44.

(2)

صحيح البخاري: 3 /48

(3)

مقاصد الشريعة الإسلامية ص 102 – 104، ط. 1.

ص: 2440

موقف الصحابة من العرف:

لقد أخذ به الصحابة وحكموه في كل ما لا يصادم نصًّا، ولا يتعارض مع مقصد من مقاصد الشريعة ومبادئها، ولقد أقرت الصحابة في فتوحاتهم لمصر، والشام، ورومان البربر أقروهم على عوائدهم الصالحة وألغوا ما كان فاسدًا، وقد أثبت التاريخ أن لهذه الأمم من العادات والتقاليد ما يمثل مظهرًا من مظاهر حياتهم فدخلت هذه الأعراف، والعادات والتقاليد وأصبحت من العادات الإسلامية كما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد العربية، وأصبحت بعد ذلك من العادات الإسلامية المبنية على السنة النبوية، ولقد اهتدى الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون على عادات لم يعرفوها من قبل فنظموها على هدي الكتاب العزيز والسنة النبوية والمقاصد الإسلامية حتى دخلت في التشريع الإسلامي من إجماع المجتهدين أو من بقية الأدلة، كالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وقد فعلوا ذلك تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا دوَّنَ عمر رضي الله عنه الدواوين، وهي عادة فارسية ونظَّم ديوان الجيش وقرَّر الخراج والجبايات، وأبقاها على ما كانت عليه قبل الإسلام بالفارسية في العراق، وبالرومية في الشام ولم يغير من ذلك شيئًا ولم يتغير ذلك إلا بعد ما جاءت دولة الأمويين وذلك في عهد عبد الملك بن مروان، واستحالت الخلافة إلى ملك، وانتقل القوم من غضاضه البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان، فأمر عبد الملك بن سلمان بن سعد والي الأردن لعهده أنه ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه، ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكاتب الروم: اطلبوا العيش وغيره هذه الصناعة، فقد قطعها الله عليكم. أما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن، وكان يكتب بالعربية والفارسية، ولقن ذلك عن زيدان فروخ كاتب الحجاج قبله، ولما قتل زيدان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحًا هذا مكانه، وأمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية (1) .

(1) المقدمة، لابن خلدون من كتاب العبر، وديوان المتبدأ والخبر في أيام العرب والعجم: 1 /205 – 206.

ص: 2441

موقف التابعين من العرف:

ولقد توسع التابعون في الأخذ بالعرف وتحكيمه وبناء الأحكام عليه حيث وجدوا لأنفسهم في الاعتماد عليه سندا من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، فلقد أدركوا في زمانهم أشياء لم تكن زمن الصحابة، واعترضتهم حوادث لم تحدث زمن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث كثرت الفتوحات في عهدهم وتوسعت رقعة الإسلام ودخلت أقطار كثيرة تحت رايته. ودخل في دين الله كثير من الناس من بلدان متعددة وأقطار متباعدة لكل عادتهم وتقاليدهم وأعرافهم جعل التابعين يعيرون اهتمامًا زائدًا بما تعارفه الناس في أقطارهم، وجرت عليه عاداتهم، وقد بلغت الفتوحات الإسلامية إلى أقصى البلاد شرقًا وغربًا، وبلغت السلطة الإسلامية أوجها في اتساع رقعتها التي شملت أقطارًا كثيرة وبلدانًا متقاصية اختلفت قوانينها وأخلاقها وعاداتها، ولما نزل التابعون بهذه البلدان قضاة وحكامًا ومفتين وواجهوا هذه العادات على تباينها وجهلهم بها فكان لزامًا أن يعلموا بما تقتضيه قواعد الشريعة ومقاصدها حتى لا يعطوا هذه العادات أحكامها ويثبتوا ما هو صالح منها فيبقوه ويقروه، وما كان فيه عوج فيهذبوه، وما كان فسادًا فيبطله اقتداء بسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، لقد تأثر التابعون بالوسط الذي حلوا فيه ونظروا إلى عادات الناس التي كانت تكتفهم وتحيط بهم، وعلموا أن الأحكام التي أنزل الله إنما هي لمصالح عبادة إذ هو غني عن العالمين، وأدركوا المرونة التي في هذه الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتفهموا مدى تأثر الأحكام المبنية على العادات المتأصلة في الناس وتأثر المبيئات بها. فلو لم تجرِ الأحكام على مقتضاها مما لا تخالف نصًّا، ولا مبدأ من مباديها، ولا مقصدا لأصاب الناس الضيق والحرج ولصارت الشريعة معاكسة للغرض الذي بنيت عليه، وقد ذكرنا فيما سبق أنها بنيت على أسس ثلاث من بينها رفع الحرج، وهو مقصد قطعي من مقاصد الشريعة يثبت قطعية، ما ورد من الآيات القرآنية في إثبات التيسير وعدم التعسير كقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) .

فهذا التأكيد الحاصل بقوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} بعد قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، قد جعل دلالة الآية قريب من النص، ويضم إليه قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)

(1) سورة البقرة: الآية 185

(2)

سورة الحج: الآية 78.

ص: 2442

وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (1)

وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (2) .

وقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (3)

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم ((بعثت بالحنيفية السمحة)) ، وقوله:((عليكم من الأعمال ما تطيقون)) .

وفي المبسوط للسرخسي أن في النزع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا ذكر هذا حين الكلام على أن الشرط في البيع على أوجه (4) .

وقد شاع على السنة العلماء الفقهاء أن المذهب الحنفي يعتبر من أكثر المذاهب الإسلامية اعتبارًا للعرف واعتمادا على العادات، يشهد لذلك الرسالة التي ألفها ابن عابدين نشر العرف في بيان بعض الأحكام على العرف، وذكر عدة مسائل مما تبين على العرف، مما اختلف فيه لاختلاف الأمصار ولاختلاف الأعراف في الأقطار بين الديار الشامية وغيرها، فذكر من مسائل الوقف واعتماد الخطوط والتوثيق وأحكام السياسة، وما يأخذونه من الغرامات وعشر الأراضي المستأجرة وبيع الثمار على الأشجار عند ظهور بعضها، كما ذكر مسائل في النكاح مما انبنى على العرف إلى غيرها من المسائل التي تبرز مدى اعتبار المذهب الحنفي للعرف. أما الإمام الشافعي فمن أبرز ما يظهر اعتماده على العرف ما نجده من الفرق بين أقواله القديمة وأقواله الجديدة بعدما نزل مصر، ولا شك للأعراف والعادات الأثر الفعال في هذا التجديد والتغيير، ولقد ذكر أبو علي الحسن بن محمد المردودي الشهير بقاضي حسين وهو من كبار فقهاء الشافعية أن مذهب الشافعي بني على قواعد خمس هي اليقين لا يرفع بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والأمور بمقاصدها، والعرف.

وقد صرح الرافعي من كبار أئمة الشافعية أن الأصح فيما جعل من كيل ووزن مراعاة العرف كما صرح بأن العادة تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيها يروح في النفقة ولقد عقد السيوطي فصلا في كتابه الأشباه والنظائر فصل فيه القول وذكر فيه كثيرا من الفروع الفقهية التي بنيت في المذهب الشافعي على العرف والعادة، واستعرض أمثلة كثيرة أحال فيها فقهاء الشافعية على العرف كسن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل مدة الحيض والنفاس والأفعال المنافية للصلاة التي تبطل بها والنجاسات المعفو عن قليلها والرد بالعيب وعمل الصناع واستئجار الدواب ودخول الحمام وغيرها من الأمثلة الكثيرة (5) .

(1) سورة البقرة: الآية 286.

(2)

سورة البقرة: الآية 187.

(3)

سورة النساء: الآية 28.

(4)

المبسوط، للسرخسي: 13/ 14، 15

(5)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 63

ص: 2443

وفي كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج من الفروع الفقهية في المذهب الشافعى ما يوضح كثرة الفروع الفقهية التي بنيت على العرف ومذهب الشافعية (1) .

وحتى الحنابلة الذين عرف عنهم التشبث بالنصوص، فقد حكموا العرف في كثير من الفروع، وقد استدل ابن قدامه بالعرف في قضايا عديدة كتقدير النفقات الواردة في قوله تعالى:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} . قال ابن قدامة: وهذا قد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله، فوجب أن يجزئه، روى الإمام أحمد في كتاب التفسير بإسناده عن ابن عمر ليس أوسط ما تطعمون أهليكم، قال: الخبز واللبن، وفي رواية عنه الخبز والتمر، والخبز والزيت، والخبز والسمن، وقال أبو رزين: من أوسط ما تطعمون خبز وزيت، وقال الأسود بن يزيد: الخبز والتمر، ثم نقل عن ابن سيرين، قال: كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسه الخبز والتمر (2) .

وذكر ابن رجب الحنبلي في قواعده القاعدة الثانية والعشرون بعد المائة إلى أن قال: ومنها لو استأجر أجيرًا يعمل له مدة معينة حمل على ما جرت العادة بالعمل فيه من الزمان دون غيره بغير خلاف، ومنها لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة اختصت يمينه بما يؤكل منها عادة، وهو التمر دون ما لا يؤكل عادة كالورق والخشب (3) .

وقد بين ابن القيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين، أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، وأن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأحوال، ولقد ندد ابن القيم بإهمال قصد المتكلم ونيته وعرفه، واعتبر أن ذلك جناية على الإنسان وعلى الشريعة (4) .

ومثل هؤلاء الأئمة الإمام الأوزاعي، اعتبر العرف مرجعًا لبناء الأحكام، فمن تتبع الفروع الفقهية لمذهبه يدرك أنه كان فيما يعتمد عليه من الأدلة المختلف فيها العرف فقد اعتمد عليه في مسألة أقل الحيض حيث لم يرد دليل على تقدير أقله لا شرعًا ولا لغة (5) ، بل حتى الشيعة حكموه في بعض القضايا، فقد نصوا على أن العرف يحتاج إليه وتقويم المسروق إن لم يكن من النقود فما رآه العرف يساوي ربع دينار، فما زاد يجب فيه القطع، وما لا فلا يكون معه القطع والمذهب الجعفري، وإن لم يعتبر العرف من الأدلة الشرعية لكنه اعتبره في تفسير الدليل اللازم حمله على المعنى العرفي وهم لم يختلفوا في الأخذ به، وإن اختلفوا في العدد الذي تحصل به العادة أهو اثنان أو ثلاثة (6)

(1) نهاية المحتاج: 7 / 40 – 109 – 134 – 156- 176 – 190

(2)

المغني، لابن قدامة: 8 /736 – 737

(3)

القواعد، لابن رجب الحنبلي: ص 277

(4)

إعلام الموقعين عن رب العالمين: 3 / إلى 50.

(5)

الإمام الأوزاعي ومنهجه كما يبدو في فقهه: ص 327

(6)

التشريع الجنائي الإسلامي: ص 124، و 309، و 310.

ص: 2444

وقوله: إن هذا الدين يسر وليس بالعسر، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن:((يسرا ولا تعسرا)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم ((وإنما بعثتم مبشرين)) ، فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن مقاصد الشريعة التيسير، لأن الأدلة المستنبطة في ذلك كلها عمومات متكررة وكلها قطعية النسبة إلى الشارع لأنها من القرآن وهو قطعي المتن ومثلها المقاصد الظنية القريبة من القطعي على ما قاله الشاطبي في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة (الدليل الظني) إما أن يرجع إلى أصل قطعي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مثبوت منعه في الشريعة كلها في وقائع وجزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [سورة البقرة: الآية 231] .

وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6] . وقوله {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [سورة البقرة: الآية 233]

ومنها النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار وضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل، أو النسل، أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك (1) .

وبوجه عام، فالتابعون اتبعوا ما ترمي إليه الشريعة وتقصده من تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وجروا على ما تقتضيه الشريعة من رفع الحرج والتيسير وعدم التعسير الذي يستلزم اعتماد العادات والتقاليد التي لا تتضارب ومقاصد هذه الشريعة، وهكذا أصبح العرف في الفقه الإسلامي معتبرًا تبنى عليه الأحكام بل أصبح في نظر الفقهاء دليلًا شرعيًّا كافيا في ثبوت الأحكام الإلزامية إذا لم يكن دليل سوها.

موقف أئمة المذاهب من العادة والعرف

لقد تأثر أئمة المذاهب بما تأثر به من قبلهم من الصحابة والتابعين، فكان لوسطهم الذي عاشوا فيه تأثير عميق لا ستنباطهم للأحكام وارتباط واضح في تأثرهم بعادات مجتمعهم وتقاليده، وقد زاد المعنى وضوحا بالنسبة للفقهاء المقلدين، حيث كانوا أكثر تحكيمهًا للعرف والعادة ممن سبقهم لما شهدوا من الحوادث والنوازل الطارئة ما لم يشهده السابقون، فما من مذهب من المذاهب إلا وقد حكم العرف وجعله مصدرًا للتشريع، يقول القرافي: نقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وليس كذلك أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك (2) .

ويؤيد كلام القرافي النظر في كتب المذاهب الفقهية، فالحنفية اعتبروا العرف وجعلوه أصلًا من الأصول يرجع إليه عند فقد غيره، قال ابن نجيم: واعلم أن العادة والعرف يرجع إليه الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في الأصول، في باب ما تترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة (3)

(1) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ص 40 – 42

(2)

شرح تنقيح الفصول: ص 76

(3)

الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93 (تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل) ط. الحبلي

ص: 2445

وفي شرح الأشباه للبيري، قال المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي. وفي المبسوط الثابت بالعرف كالثابت بالنص ومن ابن عابدين والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار. قال ابن عابدين: لما شرحت أرجوزتي التي أسميتها عقود رسم المفتي ووصلت في شرحها إلى هذا البيت أردت إفراد الكلام على البيت برسالة مستقلة تظهر المقصود إلى العيان لأني لم أرَ من أعطى هذا المقام حقه ولا من بذلك له في البيان مستحقه. وسميت هذه الرسالة نشر العرف في بيان بعض الأحكام على العرف. ومما يوضح هذه الحقيقة فتوى محمد بن الحسن الشيباني في جواز بيع النحل ودود القز حيث وجد الناس يتعاملون بذلك بيعا وشراء، وكان يذهب إلى الصباغين يسأل عن معاملاتهم وما تعورف بينهم وما جرت عليه عاداتهم، ليلاحظ ذلك في فتاويه ومما يحدث بينهم. وقد ذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة إلى أن الحكم الشرعي الذي يثبت بالنص بناء على عرف الناس يتغير بتغير العرف كوجوب المماثلة كيلًا في بيع القمح بالقمح، ولقد صحح الحنفية ما تعارف عليه الناس مما ورد النهي عنه كبيع وشرط فصححوا الشروط مبينين بأن النهي لم يكن إلا لأن الشرط في عقد البيع يفضي إلى النزاع غالبًا والعرف يقضي على هذا النزاع، ويقول شمس الأئمة السرخسي: أن الثابت بالعرف ثابت بدليل والرأي الذي يرى أن العرف يتحقق بتكرره مرتين يوافق مذهب المالكية في ثبوت العادة (1) .

والرأي الثاني أي من يرى أن العادة لا تثبت إلا بتكرر الأمر ثلاثًا يوافق ما ذهب إليه بعض الشافعية، وقد حكى جلال الدين السيوطي الخلاف بين فقهاء الشافعية في أن العادة تتحقق بتكرر الفعل مرتين أو ثلاث ورجح أبو حامد الغزالي من الشافعية القول الثاني (2) .

(1) مواهب الجيل: إن واظب على ترك المسنون وعلى فعل المكروه فهو الذي يؤدب ويجرح ومن كان منه ذلك مرة لم يؤدب: 6 /320.

(2)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 64

ص: 2446

ولقد أخرنا القول عن العرف عند المالكية لأن مالكًا رحمه الله اعتبره نوعًا من المصلحة وتوسعت المالكية في الأخذ به حتى جعلوه مخصصا لنصوص وقد فاق المذهب المالكي غيره من المذاهب في الاعتماد عليه والأخذ بمقتضاه واعتبره أصلًا من أصوله الفقهية، وقد ذكر الإمام الفقيه ابن رشد، عن شيخه ابن محمد صالح أنه قال: الأدلة التي بنى عليها الإمام مالك مذهبه ستة عشر، نص الكتاب، وظاهره وهو العموم، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة، ودليل الكتاب، وهو باب أحرى، وتنبيه الكتاب، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} ، ومن السنة أيضًا مثل ذلك فهذه عشرة، والحادي عشر: الإجماع، والثاني عشر: الاستصحاب، والثالث عشر: عمل أهل المدينة والرابع عشر: قول الصحابي، والخامس عشر: الاستحسان، والسادس عشر: الحكم بالذرائع، واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف فمرة يراعيه ومرة لا يراعيه. من شرح التسولس على التحفة (1) . ولقد اعتبرت المالكية العرف نوعًا من المصلحة وتوسعوا فيه كثيرًا حتى خصصوا به بعض النصوص، قال القرافي في تنقيحه: والعوائد عندنا مخصصة للعموم إن قارنت الخطاب أو تقدمته وكل من له عرف وعادة في لفظ إنما يحمل لفظه على عرفه فإن قارنت العوائد نصًّا شرعيًّا خصصته وإن قارنت ألفاظ الإيمان والعقود خصصتها، إلا إذا دل دليل على أن العموم جاء لشمول تلك الألفاظ بالحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، بعد تعودهم اشتراط الولاء لمن أعتق. ولقد فاق المذهب المالكي غيره من المذاهب في الاعتماد على العرف واعتباره أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي واعتبروه ضربًا من ضروب المصلحة التي لا يمكن إغفالها يدل لذلك قول ابن العربي: إن العادة دليل أصلي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام (2) . وفي قواعد المقري أصل مالك اعتماد العرف الخاص والعام (3) والعرف والعادة من الأدلة المشروعة في المذهب المالكي، قال ابن عاصم في منظومته الأصولية.

(1) منهج التحقيق والتوضيح، لحل غوامض التنقيح: 1 /277

(2)

أحكام القرآن لابن العربي:4/ 1842

(3)

قواعد المقري: ص 164

ص: 2447

والعرف ما يعرف بين الناس: ومثله العادة دون بأس ومقتضاهما معًا مشروع: في غير ما خالفه مشروع.

ومما خصصوا بالعرف قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1) فقد ذكر القرطبي في المسألة الثالثة من تفسير الآية قال: اختلف الناس في الرضاع، هل هو حق للأم أم هو حق عليها، واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن، كما قال تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ، ولكن هو عليها في حال الزوجية وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به

وقد ذكر الونشريسي أن من أصول الشريعة عند مالك تنزيل العقود المطلقة على العوائد المتعارفة وهذا يتماشى مع ما كنا نقلناه عن المقري في قواعده من أن العادة عند مالك كالشرط تقيد المطلق، وتخصص العام ولقد رجحوا به الأقوال الضعيفة والشاذة، وهو عند المحققين من المالكية من أعظم المرجحات، وقد نقل الشيخ المهدي أن ابن عتاب، وابن رشد وابن سهل، وابن زرب، وابن العربي، واللخمي ونظراءهم لهم اختيارات وتصحيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور وجرى فيها باختيارهم عمل الحكام تطبيقًا لقاعدة العادة محكمة ومثل ذلك الفتوى وذلك لما تقتضيه المصلحة وجرى به العرف (2) .

قال الأغلالي في منظومته: ورجحوا بالعرف وهو أقوى من سائر المرجحات (3) والأحكام تحرر مع العرف والعادة، قاله القرافي في قواعده وابن رشيد في رحلته وغيرهما من الشيوخ حتى إنه لا يعتبر من أحكام القضاة في هذا الزمان إلا ما وافق المشهور، أو الراجح، أو ما به العمل على ما ذكره الشيخ التاودي بن سودة المزي في شرحه على تحفة ابن عاصم (4)، حيث يقول: وهو الحق الذي لا شك فيه، ونحوه قوله في أجوبته: وهو الحق المتعين الذي لا محيد فيه، ومثله للشيخ السنوسي، والعقباني، والبرزلي، وابن عرفة، وغيرهم نقل هذا الشيخ الرهوني في حاشيته على الزرقاني.

(1) سورة البقرة: الآية 233

(2)

حاشية المهدي على التحفة، للتاودي: 1 /69

(3)

منظومة الأغلالي فيما تجب به الفتوى – مخطوط -

(4)

شرح التاودي بحاشية المهدي 1 /68

ص: 2448

الفرق بين القول الراجح والمشهور والشاذ:

والفرق بين القول الراجح والمشهور، أن الراجح ما قوي دليله والمشهور ما كثر قائله، وإذا تعارض الراجح والمشهور قدم الراجح ومقابل المشهور هو الشاذ، وقد ذكر الشيخ عبد القادر الفاسي أن القاضي إذا حكم بالشاذ لا يلتفت لحكمه ولا يعتد به وحمل حكمه على سبيل الغلط والجهالة معللًا ذلك بأنه لا يفعل ذلك إلا من كان له غرض فاسد من اتباع الهوى والميل إلى المحكوم له إلا إذا جرى به العمل فإن ما جرى به العمل مقدم على المشهور لأن وجوب العمل بالمشهور مقيد بما لم يجر عمل بمقابله، وإلا فهو المقدم وقد نظم ذلك أبو زيد الفاسي، فقال:

وما به العمل دون المشهور

مقدم في الأخذ غير مهجور

الفرق بين ما جرى به العمل وبين العرف:

معنى قولهم به العمل أو العمل به، معناه أن القول حكمت به الأئمة واستمر حكمهم به، أما جريان العرف بالشيء فمعناه عمل العامة من غير استناد لحكم من قول أو فعل ولقد اعترض الشيخ علي الأجهوري في باب الفلس على التاتائي إذا اقتضى كلامه أن رجحان العمل بالشيء هو جريان العرف به، قال العلامة السجستاني في نوازله: بعد أن وجه العمل في مسألة ذكرها، فإذا اتضح لك توجيه ما جرى به العمل لزم إجراء الأحكام عليه لأن مخالفة ما جرى فتنة وفساد كبير حتى قال بعض العلماء: إن خروج القاضي عن عمل بلده ريبة قادحة في حكمه فيجب حينئذ أن يقتصر من العمل على ما ثبت ويسلك المشهور فيما سواه (1) .

ولقد نبه الشيخ ميارة في شرحه على لامية الزقاق أنه لا بد لجريان العمل من أمور ثلاثة: أن يكون العمل صدر من العلماء المقتدي بهم، ثانيًا: أن يكون جاريًا على قوانين الشرع ولو كان شاذا. ثالثًا: أن يثبت بشهادة العدول المتثبتين.

ولقد راعوا عرف المتكلم في جميع الأحوال سواء تعلق الأمر بالأفعال الشرعية من معاملات وإقرارات أو الأفعال العادية من ألفاظ وغيرها من سائر التصرفات حتى قال القرافي في تنقيحه في الكلام على تخصيص العموم بالعادة، فكل من له عرف وعادة في لفظ، إنما يحمل لفظه في عرفه. فإن قارنت العوائد نصًا شرعيًّا خصصتهما وإن قارنت ألفاظ الأيمان والعقود خصصتهما إلا إذا دجل دليل على أن العموم جاء لشمول تلك الألفاظ بالحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل بعد تعودهم اشتراط الولاء لمن اعتق (2) .

(1) حاشية الشيخ المهدي: 1 / 68

(2)

التنقيح، للقرافي بحاشية ابن عاشور: ص 248.

ص: 2449

ويقول المقري: كل متكلم له عرف فإن لفظه يحمل على عرفه في الشرعيات والمعاملات والإقرارات وسائر التصرفات (1) .ويقول أيضا: من تقررت له عادة عمل عليها (2) ولهذه الاعتبارات استحبوا في القاضي أن يكون بلديًا عالمًا بأعراف الناس مطلعًا على أحوال المتقاضين وعاداتهم حتى يقضي بين الناس طبقا لما جرت عليه عاداتهم وتصرفاتهم التي اعتادوها في حياتهم اليومية وفي أسواقهم ومجتمعاتهم، حتى يكون أقرب إلى الحق في أحكامه مطابقًا لمصلحتهم جاريًا على أعرافهم.

نقل الونشريسي في المعيار عن ابن منظور القيسي الإشبيلي قال ينبغى عندي للمشاور (أي المستشار) في المسألة أن يحضر عند ذلك أمورًا يبني عليها فتواه ويجعلها أصلًا يرجع إليه أبدًا فيما يستحضره في ذلك منها مراعاة العوائد في أحوال الناس وأقوالهم وأزمانهم لتجري الأحكام عليها من النصوص المنقولة عن الأئمة. ولهذه المراعاة جرى على ألسنة العلماء وكثير من المواضع المنقول فيها اختلافهم أن يقولوا هذا خلاف في حال لا في مقال، وقد نقل بعض الناس الإجماع على مراعاة ذلك، وأن الفتاوي تختلف عند اختلاف العوائد ولا يجوز طرحها مع اختلافها، ومنها مراعاة قول بعض أئمة السلف لو أدركت الناس إلى الكوعين وأنا أقرؤها إلى المرفقين لتوضأت إلى الكوعين. يشير بذلك إلى الحث على الاقتداء بمن تقدم في فعله وطريقته (3)

ولقد قيل للشيخ ابن عبد السلام قاضي الجماعة بتونس إن القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم قال لهم: أنا أعرف العوائد وأمشيها (4) ولا شك أن القاضي كلما تمكن من معرفة عادة البلد الذي يحكمه كلما سهل عليه تطبيق الأحكام ويحق ما تعارفه الناس واعتادوه، لأن معرفته لعاداتهم وتقاليده يمكنه من معرفة مشاكلهم ودوافع نوازلها وهذا ما أوضحه الشاطبي في موافقاته من أن على القاضي أن يلاحظ العرف الجاري بين الناس وأن لا يجمد مع الروايات ويقطع النظر عن العادات؛ إذ أن الجمود على النصوص لا يليق بالقاضي وأن عليه أن يعتبر العوائد وإن ذلك من الضرورات (5) ذلك أن العرف والعادة أحد الدعائم الخمسة التي بني عليها الفقه والتي هي: اليقين لا يرفع بالشك، والضرر يزال، والأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والعرف فهو من الدعائم التي استندوا إليها في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية كالصغر والكبر والكثرة والقلة في الأقوال والأفعال والصلاة، وثمن المثل في البيع والتعدي ومهر المثل والكفء في النكاح وتعيين الفروض من المؤونة والكسوة والسكن في النفقات كما استندوا إلى العرف في مقادير الحيض والطهر والصلاة والعدد وأقصى أمد الحمل في النسب واستندوا إليه في فهم الألفاظ في الأيمان والوقف والوصية والطلاق إلى غير ذلك (6) .

(1) قواعد المقري، القاعدة:459.

(2)

قواعد المقري، القاعدة: 117

(3)

المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب، للعلامة الونشريسي: 8 / 287.

(4)

شرح الزرقانية، لسيدي عمر الفاسي: ص 248.

(5)

الموافقات، للشاطبي: 2 / 287

(6)

شرح المنجور للمنهج المنتخب: ص 90

ص: 2450

وبما نقلنا ندرك كيف توسع المذهب المالكي في الأخذ بالعرف واعتباره له أصلًا أصيلًا في بناء الأحكام عليه وتطبيقها على الحوادث والجزئيات كلما لم يوجد نص من الشارع، بل قد غالى بعضهم في اعتباره حتى قال: إن قطع العوائد المباحة قد يوقع في المحرمات سنن المهتدين: ص 48.

الأحكام تدور مع العوائد:

ولقد نبه العلماء الأجلاء إلى وجوب الاعتماد على العوائد عند عدم النقل والى وجوب أن تدور الأحكام مع العوائد وليس من المعقول أن يلبس العرف لباس الديمومة أو القداسة، بل الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها حيثما دارت وتبطل معها إذا بطلت، ذلك أن الأقضية والفتاوى تتبع العوائد حسب عرف ذلك الزمان والمكان وأهله قال القرافي: إن كل ما هو في الشريعة يتبع الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة والجمود على ما كان في الكتب ضلال وإضلال (1)، وقد نظم الإغلالى هذه القاعدة فقال:

وكل ما يبنى على العرف يدور معه وجودًا وعدمًا دور البذور فما اقتضته عادة تجددت، تعين الحكم به إذا بدت، وفي لامية الزقاق: وكن ذا تأنٍّ عارفًا بعوائد وأحدث قضاء للبجود كما ترى. وفي قواعد المقري: كل حكم رتب على عادة فإنه ينتقل بانتقالها إجماعًا (2) ، فالمذهب المالكي توسع كثيرًا في الاعتماد عليه وبناء الأحكام حسب مقتضاه، بل هو أصل يرجع إليه الفقيه والقاضي والمفتي في معرفة الأحكام الشريعة التي لا نص فيها، بل هو طريق لمعرفة المدعي من المدعى عليه، فقد ذكر الشيخ الوالد رحمه الله محمد العزيز جعيط في كتابه الطريقة المرضية والإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية في الفصل الثالث في المدعي والمدعى عليه في التفرقة بينهما وتمييز المدعى من المدعى عليه إلى أن قال بعد كلام وأقربها أن المدعي من تجرد قوله من أصل أو عرف والمدعى عليه من أعضده، أحدهما، فإن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه، ثم قال ولدقة تحقيق المناطق وتطبيق القواعد جزئيتها صعب أمر القضاء وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء، ولقد استعرض الفقهاء جملة من الأصول في بعض الأشياء واختلفت الفتاوى والأحكام لاختلاف الأعراف المبنية عليها وساق جملة مما ذكروه ومثل لها حتى تكسب الناظر بصيرة، فقال: قالوا: الأصل براءة الذمة قبل تحقق عمارتها، فإذا تحققت عمارتها فالأصل الاستصحاب، إن استصحاب تلك الحالة حتى يتحقق الرافع والأصل الصحة وزاعم المرض مدع خلاف الأصل فعلية البينة، لأنها مدعية خلاف الأصل والأصل عدم العداء، فلو ادعى على الطبيب العمد فيما زاد على المأذون فيه وادعى الطبيب الخطأ.

(1) الأحكام، للعراقي: ص 27؛ والتبصرة: 2 /67

(2)

القاعدة رقم 1037

ص: 2451

فالقول قول الطبيب لأن الأصل الخطأ لا العمد قال خليل: والقول للسيد ونفي العمد، واضطرب قول سحنون في الزوج والسيد يفقأ عين زوجته أو عبده: فقالا فعل بنا ذلك عمدًا، وقال السيد والزوج أدبتهما فأخطأت، أنه لا شيء على السيد ولا على الزوج أدبتهما فأخطأت أنه لا شيء على السيد ولا على الزوج حتى يظهر العداء والقول قول السيد والزوج (1) ، واستظهر ابن رشد حمل أمر السيد على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل واستظهر عدم حمل الزوج على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل واستظهر عدم حمل الزوج على الخطاب مع زوجته وإنما يحمل على شبه العمد، ومعنى ذلك أن تكون الدية على الجاني ولو حمل على الخطأ لكانت على العاقلة ولو حمل على العمد لوجب القصاص – وزاد ابن رشد ولو طلبت المرأة فراقه وقالت: أخافه على نفسى طلقت عليه طلقة بائنة. اهـ -. والأصل فيمن ادعى عليه العلم بالشرع الجهل حتى يثبت العلم فإذا أقام الشريك على مشتري حصة شريكه بالشفعة بعد سنة مدعيًا عدم العلم بالبيع إلا وقت قيامه وادعى المشتري علمه بالبيع فالقول للشفيع بيمينه لأنه مدعى عليه، والأصل في الإنسان الفقر لسبقه، ولكن الناس محمولون على الملأ لغلبته وهذا من باب تعارض الأصل والغالب، ولهذا كان زاعم الإعسار وإن وافقه الأصل الذي هو الفقر مدعيًا فهو المطلوب بالبينة على الإعسار فلو ادعي على الزوجة الطالبة للنفقة أنها عالمة بعدمه توجهت عليها اليمين، والأصل في العقود الصحة فمن ادعى الفساد فهو المدعى عليه ويكون من قبيل ما تعارض فيه الأصل والغالب (2) .

ومن الفروع التي كان حكمها مبنيًّا على شهادة اعرف تمزيق رسم الدين أو قطع طرقه أو سطر بسملته فإنه يدل عادة على البراءة من الدين فلا يفيد المستظهر به شيئًا بخلاف محو ظاهر باطني به عقد ونحوه فإنه يستظهر على من قام به بيمين، بناء على عدم حصول عادة في هذه الصورة كحصولها فيما مر، وإنما ذلك ريبة وشبهة يجب رفعها باليمين كما ترفع ريبة التزوير فيمن قام بعقد ظهرت فيه تلك الريبة وشهدت بينه أن الشهادات التي فيه من وضع شهوده وشهدت أخرى أنها ليست من وضعهم وإنما هي مزورة عليهم فطلبت يمين القائم به لمكان البينة، والشهادة المثبتة هي المقدمة قاله الشيخ عظوم في الدكانة (3) .

(1) من شرح المواق من كتابه تاج الإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل، للحطاب 6 /335

(2)

شرح المنجور على المنهج المنتخب: ص 119

(3)

هو محمد بن أحمد بن عيسى بن فندار القيرواني المعروف عظوم من تلامذة البرزلي والرعيني وغيرهما من مؤلفاته: مواهب العرفان والمباني اليمينية ورعاية الأمانة والدكانة وكان حيا سنة 889

ص: 2452

ومن الفروع التي وقع استناد القضاء فيها للعادة ما حكم به أحمد القلشاني قاضي الجماعة بتونس في ساقية أحدثت مدار بأبي عائشة واتصلت إلى شارع باب المنارة الذي تمر فيه فضلات مراحض دوره إلى أن تصل إلى الخندق المعد لذلك، وقد امتنع من الموافقة على أحداثها من تمر عليه وترافعا في ذلك فحكم بتمكين المحدث مما أحدثه بعد أن تذاكر في النازلة مع الشيخ عظوم فاستظهر الحكم بذلك معللًا بأن وضع الشوارع بتونس قد علم حين وضعها وتخطيط دورها عدم حفر آبار لفضلات أهلها، ووضعوا السواقي في شوارعهم لذلك، واستمروا على ذلك على تعدد الأزمنة والأعصر، وأهل كل زقاق قد دخلوا على ما وجدوا عليه من تقدمهم في ذلك والحادث عهده تبع لمن سبقه إلى زمن الواضع وعلى هذا مشت أحوالهم واستمرت قصودهم وأفعالهم وإذا دخل على ذلك المتقدم وجب إلحاق حكم الطارئ به إذ لا يملك الطارئ من الشارع إلا ما يملكه من خلفه هو فيه (1) .

ومن الفروع المبنية على العادة القضاء بشهادة الحيازة على الملك والحيازة لا تنقل الملك، ولكن تدل عليه وما ذكره القلشاني عن المازري من الشروط فمنشؤه تحقيق الحال التي تكون فيها الحيازة شاهدة للحاز بالملكية حيث ذكر لها شروطا سبعة هي وضع اليد على الشيء المجاز وأن ينسب إليه وأن يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه وأن تطول المدة وأن لا ينازع في تلك المدة وأن يكون المدعى للملكية على الحائز حاضرا عالمًا بالغًا رشيدا وأن لا يمنعه من القيام مانع، ولهذا لا تنفع الحيازة إلا مع ادعاء الحائز الملكية وجهل أصل مدخله أما إذا تحققنا أن مدخله كان بوجه لا يقتضي الملكية كالعارية والإسكان ونحوهما فلا تنفعه الحيازة ولو طالبت حيازته جدًا.

ولتحقيق حال الشهادة عرفًا للحائز قسم فقهاء المالكية الحائز إلى أجنبي وقريب غير شديد القرابة، وقريب جدا وإصهار وجعلوا مدة الحيازة في الأجنبي عشر سنين وفصلوا بين أن يكون شريكًا فاشترطوا فيه أن يكون التصرف يشمل الهدم والبناء الكثير والغرس في الدار والأرض والاستغلال في غيرهما واكتفوا في التصرف بمثل السكنى وزرع الأرض إذا كان غير شريك، وإذا كان قريبًا غير شديد القرابة كالإخوان والأعمام والأخوال وأبنائهم وفي معناهم الأصهار والموالي، فإذا كان التصرف ضعيفًا كسكنى الدار وزراعة الأرض وعمارة الحانوت فلا تقبل دعوى الحائز للملكية لما حاز إلا مع طول المدة جدًا وهو ما زاد على أربعين سنة إن لم تكن بينهم عداوة وإلا كفى في حيازتهم عشر سنين كالأبعدين وإذا كان التصرف قويًا جدًا كالتفويت بالبيع والهبة والصدقة لم تشترط مدة، بل السكوت يوجب انقطاع الحق بانقضاء المجلس وإذا كان الحائز قريبًا جدًا كالأب مع أبنه أو العكس فلا يعتبر التصرف بمثل السكنى والازدراع ويعتبر بمثل التفويت بالبيع ونحوه واختلف هل يجوز كل منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس على قولين: قيل لا يجوز عليه بذلك إن ادعاه ملكًا لنفسه قال عليه في حياته أو بعد وفاته وهو قول مالك وقيل يجوز إن طال الأمد جدًا إلى ما تهلك فيه البينات وينقطع فيه العلم وهو قول ابن رشد والاختلاف في مقدار المدة المؤثرة ونوع التصرف المعتبر باختلاف صفة الحائز ودرجة قرابته، لأن العادة قاضية بالتسامح مع الأقارب ووصل رحمهم بمثل سكنى الدار والزرع للأرض والاعتمار للحانوت بخلاف التصرف بما هو أقوى من ذلك ولو قال القائم على الحائز ما علمت حتى الآن فقيل: لا يقبل قوله، وهو ما أفتى به ابن عرفة وأبو مهدي عيسى الغبريني وبفتواهما جرى العمل على ما حكاه الرصاع ونقله عظوم في البرنامج، وقيل يقبل قوله بيمينه وهو قول ابن سهل وغيره، وبه أفتى الرزلي فأدخل مشقة عظيمة على أهل القيروان إذ كثير من الناس يزهد في عقود أشرية البائع فيقوم على المشتري بعد طول، ويقول لا علم عندي إلا الآن وربما يضيع عقد الأصل. وفي الوثائق المجوعة لو قال: علمت بحقي ولم أجد ما أقوم به إلا الآن، قال العبريني: يقبل قوله سواء كانت البينة استرعاء أو غيره، وقال ابن ناجى: الصواب عندي أنه لا يقبل منه، لأنه كالمعترف بأن لا حق له مدعٍ رفعه، وإذا كان لا يقبل قوله في عدم علمه بحقه بأحرى أن لا يقبل مع اعترافه بعلمه وادعائه أنه لم يجد ما يقوم به.

(1) قال الشيخ عظوم في الدكانة، الورقة 48

ص: 2453

وفي مطالبة الحائز بوجه ملكه ثلاثة أقوال، الأول يطالب إذا أثبت المدعي الملكية أو أقر لها بها قال ابن فرحون في التبصرة نقلا عن ابن رشد: الذي مضى عليه العمل فيما أدركنا، وبه أفتى شيوخنا فيما علمنا أن من ادعى عقارًا بيد غيره رغم أنه صار إليه فيمن ورثه عنه أن المطلوب لا يسأل عن شيء حتى يثبت الطالب موت مورثه الذي ادعى أنه ورث ذلك العقار عنه فإذا ثبت ذلك وقف المطلوب حينئذ على الإقرار والإنكار خاصة. ولمن يسأل من أين صار إليه فإن أنكر وقال: المال مالي والملك ملكي ودعواك فيه باطلة اكتفي منه بذلك ولم يلزمه أكثر من ذلك، وكلف الطالب إثبات المالك الذي زعم أنه ورثه وإثبات موته ووراثته له، فإن أثبت ذلك على ما يجب سئل المطلوب حينئذ من أين صار إليه وكلف الجواب عن ذلك، فإن ادعى أنه صار إليه من غير مورث الطالب الذي ثبت له الملك لم يلتفت إليه ولا ينفعه إثباته أن أثبته، وإن ادعى أنه صار إليه من قبل موروث الطالب بوجه ذكره، كلف إثبات ذلك، فإن أثبته وعجز الطالب عن الدفع في ذلك بطلت دعواه، وإن عجز عن إثبات ذلك قضي عليه للطالب، هذا مذهب ابن القاسم رواه عن مالك في المدينة – القول الثاني يطالب ببيان وجه الملك – الثالث لا يكلف ببيان وجه ملكه مطلقا وهذا ما اقتصر عليه ابن سلمون وغيره وجرى به عمل فاس وهو الموافق لما يفعله القضاة عندنا بتونس إذ أن المنكر دعوى القائم إذا أجاب بملكيته للمحوز وحيازته لذلك المدة القاطعة، يكلف المجيب بإثبات الحيازة التي ادعاها لأن في إثباتها اختصارًا لمسافة الخصام، لأن الحيازة متى ثبتت عجز القائم عن الطعن فيها، يحكم باستحقاق الحائز للمدعي فيه، وبطلان دعوى القائم، ولا فائدة في تكليف القائم بإثبات بينة لا تسمح لثبوت الحيازة، أما عجز المطلوب المجيب بالإنكار عن إثبات الحيازة التي يدعيها فيعجز ويطلب القائم بالبينة المثبتة للتملك ويجري بعد ذلك ما نقل عن ابن رشد.

ص: 2454

أنواع العرف

ينقسم العرف إلى صحيح وفاسد، فالفاسد لا يقول به أحد ولا يعتمد عليه، والعرف الصحيح ينقسم إلى ما يتعلق بالألفاظ أو يتعلق بالأفعال فالمتعلق بالألفاظ هو ما تعارف الناس على استعماله بحيث إذا نطق الإنسان باللفظ انصرف أولًا إلى هذه الحقيقة العرفية وابتعد عن الحقيقة اللغوية حيث صار منقولًا من المعنى الذي وضع له لغة إلى المعنى الثاني المصطلح عليه عرفًا بحيث يصبح هذا المعنى الثاني هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق والتجرد عن القرائن.

ويتكون هذا العرف من اتفاق الناس على هجران المعنى الأصلي وينتقل إلى المعنى الذي ينصرف إليه اللفظ بكثرة الاستعمال الشائع بينهم من غير قرينة حتى إن هذا الاستعمال يعتبر وضعًا جديدًا، وحقيقة عرفية حيث هو مستعمل فيما وضع له في عرف التخاطب وهذا ما عناه القرافي في فروقه في الفرق الثامن والعشرين بين العرف القولي والفعلي حيث يقول: العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة ونحن نرى أن لفظ الدينار كان يطلق في الأصل على عملة ذهبية مسكوكة بقيمة معينة محددة ووزن معين (وهو 3.60 جرامات وقد حدده بنك فيصل الإسلامي في السودان 6.457 جراما وهو الوسط المعقول ولا فرق بين الدينار والمثقال لكن الحنابلة ترى أن الدينار أصغر من المثقال) لكن هذا اللفظ هو الدينار إذا أطلق اليوم فإنما ينصرف إلى العملة الرائجة في البلد مهما كان نوعها ومهما كانت قيمتها وهي اليوم أوراق نقدية بعيدة كل البعد عن حقيقة الدينار الذهبي الأصلي.

وهذا معنى حقيقة عرفية أي جعله كثرة الاستعمال إذا أطلق اللفظ لا ينصرف إلا إليه، أما العرف العملي فهو الفعل الذي استمر الناس عليه بحسب الفطرة أو الاختصاص كاختصاص الرجل بالسلاح والمرأة بأدوات الزينة ونحوها، ثم كل من العرف القولي والعملي منه ما كان صحيحًا مقبولًا ومنه ما كان فاسدا مردودًا فأهل العرف إذا استعملوا قولًا في معنى من المعاني واشتهر ذلك بينهم بحيث إذا ذكر لا ينصرف إلا للمعنى المتعارف لديهم ككثير من مصطلحات أهل الصناعات – ومن العرف القولي ما هو عام كإطلاق لفظ الدينار، فإنه لا ينصرف إلا للعملة المتداولة بيننا، وهذا المعنى هو المتبادر للأذهان- أما ما كان في الأصل مما هو نقد ذهبي مسكوك موزون بوزن خاص لهذا المعنى قد تنوسي بكثرة الاستعمال في المتداول بين العموم وقد مثل له القرافي في الفرق الثامن والعشرين بالدابة التي وضعت لغة لكل ما يدب على الأرض ووقع نقلها للحمار بكثرة الاستعمال حتى صارت حقيقة عرفية عامة وبلفظ الغائط للنجو، ثم جعله قسمين ما يكون في المفردات كالدابة وما يكون في المركبات وهو أدق في الفهم وأبعد عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبة مع غيره ومثل له بقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} .

ص: 2455

إذ التحليل والتحريم ينصبان على الأفعال لا على الذوات كالأكل وفي الميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات والبنات.

وخرج على هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)) ، ومعلوم أن الأعراض والأموال لا تحرم وإنما يحرم ما يضاف إليها كسفك الدماء وأكل الأموال وثلب الأعراض، وخرج على هذا جميع الأحكام التي أضيفت إلى الذوات أي كانت من باب المجاز العقلي وهو إسناد الفعل إلى غير من هو له يتول، قال: إن كثرة الاستعمال صيرته موضوعًا في العرف للتعبير عن تحريم الأفعال المضافة إلى هذه الذوات، ثم عطف على هذا القسم أفعالًا هي ليست بأحكام وإنما هي أخبار قد خصصها العرف كقولهم: أكلت رأسًا فقد صار لا يطلق إلا على رأس الأغنام وهو لغة يشمل كل رأس قال: ومن هذا القبيل ما اشتهر في مصر من قولهم: قتل زيد عمرًا يريدون ضربه، وفلان يعصر خمرًا وهي لا تعصر وإنما العنب الذي يعصر، فهذا ونحوه مجاز في التركيب بالنسبة للغة وحقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص بالعرف والعادة ومنه أيضًا طحن الدقيق وقتل فتيلًا، لأن المقتول لا يقتل المطحون لا يطحن إذ تحصيل الحاصل من المحال ولكنه كلام صحيح في العرف والعادة إذ لا يتصور إلا لقتل الحي وطحن الحب، وهذا ما يعبر عنه بالحقائق العرفية في المفردات والمركبات وبهذا يفرق بين المجاز في المفرد والمركب بين الحقيقة العرفية فيهما، ثم بين القرافي أن النقل العرفي مقدم على الموضوع اللغوي، لأنه نساخ له والناسخ مقدم على المنسوخ وهذا ما يعنونه قولهم: الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية.

ثم تكلم القرافي على العرف الفعلي مبينا أنه وضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه كلفظ الثوب صادق على ما كان من الكتان أو القطن أو الحرير أو الوبر أو الشعر لكن أهل العرف استعملوه فيما كان من الأنواع الثلاثة الأول دون الأخيرين، فهذا عرف فعلي وكذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر والشعير وغيرهما إلا أن العرف استعمله في البر لا غير من أغذيتهم فوقوع الفعل في نوع وانصراف المعنى إليه بخصوصه هو الحقيقة العرفية ولهذا قلنا ترك مباشرة المسميات لا يخل بالوضع اللغوي وغلبه استعمال لفظ المسمى في غيره ونقله يخل، وهذا هو تحرير العرف القولي وتحرير العرف الفعلي.

ص: 2456

وأن العرف القولي يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصًا وتقييدًا وإبطالًا وأن العرف الفعلي لا يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصًا ولا تقييدًا ولا إبطالًا لعدم معارضة الفعل وعدمه للوضع اللغوي.. ومعارضة غلبة استعمال اللفظ في العرف للوضع اللغوي، وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع في أن العرف الفعلي لا يؤثر في وضع اللفظ للجنس بخلاف العرف القولي، قال القرافي: ورأيت المازري في شرح البرهان نقل خلافًا في ذلك، قال القرافي: وفيه نظر والظاهر حصول الإجماع فيه، قال القرافي: ولم أر أحدًا جزم بحصول الخلاف فيه. وما ذكره بعضهم مما أوجب شكا وترددًا فهو على التأويل وأنه لا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل التي أدخلت الشك والتردد، ولقد أوضح الفرق بين العرف القولي والفعلي بأربعة مسائل؛ الأولى إذا فرضنا ملكا أعجمًا يتكلم بالعجمة وهو يعرف اللغة العربية غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبًا ولا يأكل خبزًا وكان حلفه بهذه الألفاظ العربية التي تجري عادته باستعمالها وعادته في غذائه لا يأكل إلا خبز الشعير ولا يلبس إلا ثياب القطن، فإنا نخنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله، سواء كان من معتاده في فعله أم لا وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت له عادته استعمال اللغة العربية لكان طوال أيامه يقول أكلت خبزًا أو ائتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا المنطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ اللغة فلا نحنثه بغير خبز الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في اللفظ اللغوي عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد. اهـ.

وتعقبه ابن الشاط فوافق على تقرير القاعدة وخالفه في حكم المثال، وقال: لا تسلم تحنيثه، بل اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن مقيد لمطلق اللفظ ويكون هذا من قبيل بساط الحال، إذ الأيمان إنما تعتبر بالنية، فإن لم تكن نية فببساط الحال، فإذا عندما حينئذ اعتبرت بالعرف، فإن لم يكن عرفًا فباللغة.

المسألة الثانية التي ذكرها القرافي: إذا حلف لا يأكل رؤوسًا يحنث بجميع الرؤوس عند ابن القاسم ولايحنث إلا برؤوس الغنم عند أشهب، والقولان مبنيان على أن أهل العرف قد نقلوا هذا اللفظ المركب أكلت رؤوسا لأكل رؤوس الأنعام دون غيرها بسبب كثرة الاستعمال لهذا المركب في هذا النوع خاصة دون بقية أنواع الرؤوس، فهذا مدرك أشهب فيقدم العرفي على الوضع اللغوي وابن القاسم يسلم استعمال أهل العرف لذلك، لكن لم يصل الاستعمال عنده إلى هذه الغاية الموجبة للنقل، فإن الغلبة قد تقصر عن النقل ألا ترى أن أهل العرف يستعلمون لفظ الأسد في الرجل الشجاع استعمالًا كثيرًا، ولم يصل ذلك إلى حد النقل، فإنه لا يفهم منه الرجل الشجاع إلا بقرينة، وضابط النقل أن يصير المنقول إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة وغيره هو المفتقر إلى القرينة، فهذا هو مدرك القولين فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقل العرفي مقدم على اللغة إذا وجد واختلفا في وجوده هنا فالكلام بينهما فيتحقيق المناط.

ص: 2457

المسألة الثالثة: إذا حلف بأيمان المسلمين تلزمه فحنث فمشهور فتاوى الأصحاب على أنه يلزمه كفارة يمين وعتق رقبة إن كان عنده وأن كثروا، وصوم شهرين متتابعين والمشي إلى بيت الله في حج أو عمرة وطلاق أمراه، واختلفوا هل هي واحد أو ثلاث والتصدق بثلث ماله ولم يلزموه اعتكاف عشرة أيام ولا المشي إلى مسجد الرسول ولا لبيت المقدس ولا الرباط في الثغور الإسلامية ولا تربية اليتامى ولا كسوة العرايا ولا إطعام الجياع ولا شيء من القربات غير ما تقدم ذكره، وسبب ذلك أنهم لاحظوا ما غلب الحلف به في العرف فيقدم على المسمى اللغوي ويختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها المشتهرة – ولفظ الحلف والأيمان إنما تستعمل فيها دون غيرها. وليس المدرك أن عادتهم يفعلون مسمياتها وإنما يصومون شهرين أو يحجون أو غير ذلك من الأفعال، بل لغلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها ولأجل ذلك صرحوا بأن من جرت عادته بالحلف بصوم لزمه صوم سنة، فجعلوا المدرك الحلف اللفظى دون العرف الفعلي، فهذا هو مدرك هذه المسألة على التحرير والتحقيق. قال القرافي وبناء على هذا لو اتفق في وقت آخر اشتهار حلفهم ونذرهم للاعتكاف والرباط وإطعام الجيعان وكسوة العريان دون ما تقدم لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبله لأن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها وجودًا وعدمًا تدور كيف دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة التي تحددت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في مادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبًا موجبًا لزيادة الثمن لم ترد به، قال القرافي: وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، نعم قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا؟ وعلى هذا القانون يجب أن تراعى الفتاوى، فمهما تجدد العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه وبين أنه لا يلزم العالم أن يجمد على المسطور في الكتب وأنه إذا جاءك ممن ليس من أهل البلد يستفتيك لا تفته على عرف بلدك، بل اسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك. والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح الذي يجب اتباعه والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، قال القرافي: وعلى هذا تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير ما كان صريحًا كناية وما كان كناية صريحًا مستغنيًا عن النية.

ص: 2458

المسألة الرابعة: إذا قال أيمان البيعة تلزمني فتخرج ما يلزمه على هذه القاعدة وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم تكن له نية، فأي شي جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به وبيعتهم، واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفًا ومنقولًا متبادرًا للذهن من غير قرينة على القانون المتقدم حمل يمينه عليه، فإن لم يكن كذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه (1) .

وتعقبه سراج الدين أبو القاسم قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط في حمل اليمين على العرف، ثم على النية، ثم على البساط، وقال فيه نظر لأنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أو لا يترتب، فإن لم يترتب عليها حكم فالمعتبر النية، ثم السبب أو البساط، ثم العرف، ثم اللغة وإن ترتب عليها حكم فالمعتبر العرف، ثم اللغة لا غير، والله أعلم (2)

قال القرافي القاعدة أن كل متكلم له عرف في لفظه فإنما يحمل لفظه على عرفه، فإذا صدر اللفظ من حالف أو واقف أو موص أو مقر، فإنما يحمل لفظه على عرفه الذي عاد فيه التكلم به فهو خاصة أو أهل بلده عامة بناء على القاعدة أن من له عرف، فإنه يتبع في حقه وكذلك إذا اختلفت العوائد الناقلة للغة حمل لفظ أهل كل عادة على عادتهم دون عادة غيرهم – ثم قال: وإنما يحمل لفظ صاحب الشرعي على العرفي دون اللغوي إذا علم مقارنته تلك العادة لزمن الخطاب، أما لو تأخرت فلا، بل تتعين اللغة، فإن الصارف عنها منتف حالة التكلم، وكذلك القول في كل متكلم يشترط في حمل لفظه على العادة مقارنة تلك العادة كتلفظه. اهـ (3) .

ولما للعادة والعرف من أثر في الأحكام جاء في كتاب العمليات الفاسية في المقدمة من المعلوم عند الخاصة والجمهور أن أقوال المذهب منها المأخوذ به ومنها المهجور وأن جريان العمل بالقول موجب تقديمه على المشهور وجب أن يكون البحث عن القول المعمول به من أجل الأمور التي فيها مزيد الثواب وكثرة الجور وأن وجوده من أعظم الفوائد وتوقيف القضاء عليه يعدل الإتحاف بسني الفرائد وقد مكثت زمانًا أبحث عن ذلك جهدي وأستخرج من غضون الدفاتر ما قرب به عهدي كلما وجدت ذكر العمل بالقول في مسألة أصبتها قيدتها في صحف معدة لذلك وكتبتها ولم أزل على ذلك مدة مديدة حتى جمعت مسائل عديدة كانت الرغبة مني في جمعها شديدة، ثم صارت الحاجة إلى نظمها بعد الجمع أكيدة لكون النظم على صونها أعون وعلى دوائم حفظها أهون، ثم شرحها وزاد عليها قدر شطرها (4) .

(1) الفروق للقرافي الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي والعرف الفعلي: 1 /217 – 225

(2)

إدراك الشروق على أنواء الفروق بهامش الفروق: 1 /224

(3)

المسألة الرابعة من الباب السابع من نفائس الأصول وشرح المحصول للقرافي خط: 1 /488.

(4)

فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المشتهر بالعمليات الفاسية، لابن عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الجليل الفلالي السجلماسي، ط1 سنة 1290هـ

ص: 2459

بين الحقيقة العرفية والمجاز:

إن العرف القولي هو في الحقيقة من قبيل المجاز اللغوي إذا احتاج فهم المعنى المقصود إلى قرينة أو علاقة عقلية، فإذا استغنى عن هذه الملاحظة وعلى هذه العلاقة العقلية بكثرة الاستعمال حتى صار يتبادر المعنى الثاني إلى الذهن وصار المعنى اللغوي كالمهجور كان ذلك من قبيل الحقيقة العرفية وإلا فهو مجاز لغوي أن كان في المفردات أو مجاز عقلي أن كان في المركبات فمن رأيته يجري وراء غيره وبيده عصا وهو يصيح لأقتلنك فلا شك إنه يفهم من هذه القرينة الحالية أن مراده الضرب المؤلم.

ولو وقفت أمام متعاقدين وسمعت أحدهما يقول وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير، فلا شك أنك تفهم من ذلك البيع لا الهبة ذلك أن الهبة تكون بغير مقابل فقوله بعشرة دنانير قرينة مانعة من حمل اللفظ على حقيقته وحمله على مجازه وهو البيع، وكما لو قال الحاكم حكمت المحكمة على فلان بكذا، فإن المحكمة وهي البناية لا تحكم، وإنما الذي يحكم هو الحاكم فنسبة الحكم إليها من باب إسناد الفعل إلى غير من هوله وذلك هو المجاز العقلي، ومثله فتح الأمير البلاد وإنما الفاتح جنده، فهذه الاستعمالات كلها من قبيل المجاز إذ هي قائمة على قرائن لفظية أو حالية مانعة من حمل اللفظ على ظاهره وليست من الحقائق العرفية في شيء.

أما العرف الفعلي وهو ما يعبر عنه بالعرف المعنوي فهو ما اعتاده الناس في حياتهم وتعودت به أنفسهم وقد عرفها القرافي في تنقيحه فقال: العادة غلبة معنى من المعاني على الذهن، وقد تعم جميع الأقاليم كحاجة الناس إلى الغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالآذان للمسلمين والناقوس للنصارى فهذه العادة يقضي بها عندنا. اهـ (1)

ومن هذا الوادي اختلاف الزوجين في متاع البيت مما جرت العادة أن يملكه الزوج كالرمح والسيف قضي به له وما اختص بالزوجة كالفرش والوسائد وأدوات التجميل قضي به لها (2) .

(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المشتهر بالعمليات الفاسية، لابن عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الجليل الفلالي السجلماسي، ط1 سنة 1290هـ.

(2)

تبصرة القضاء والاخوان في وضع اليد وما يشهد له من البرهان، للشيخ حسن العدوي: 181

ص: 2460

فالعرف العملي هو اعتياد الناس أفعالًا في حياتهم وجريان معاملاتهم المدنية عليها في حياتهم اليومية وتبادلهم المصالح وتصرفاتهم في عقودهم وبيوعاتهم وأنكحتهم ويدخل في ذلك عطلهم وأعيادهم وكل ما جرى عليه عملهم على حسب جهاتهم وعاداتهم فلو اعتادت جهة من الجهات أو البائع هو الذي يوصل البضاعة إلى بيت المشتري، كان ذلك على البائع، ولو أعتادوا أن الصداق يدفع شطرة عاجلًا وشطره آجلًا أو أن أجر العمال يدفع أقساطًا على رأس كل شهر، وكانت هذه العقود مطلقة قيدها العرف لأن المعروف كالمشروط وأعراف الناس العملية كثيرة لا تحصى والعمل فيها على ما جرى به العرف والعادة (1) .

وينقسم العرف القولي والعملي إلى عام وخاص.

فالعرف العام هو الذي يكون عامًا فاشيًا في جميع البلاد الإسلامية بين غالب الناس في أي أمر من الأمور وقد عرفه ابن عابدين بقوله: هو ما تعارفه عامة أهل البلد سواء كان قديمًا أو حديثا (2) ، وعرفه ابن فرحون بقوله غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد (3) .

وهذا النوع من العرف ينتظم كثيرًا من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في العالم كالاستصناع، فإن الناس محتاجون إليه في كل زمان لا يخلو يوم من التعامل به في كل مكان حتى أصبح جاريًا في كل الحاجيات كالبيع بالمعاطاة وتأجيل جانب من المهر ونكاح التعويض في بعض الجهات وتقسيم الصداق إلى معجل ومؤجل واعتبار الأدوات الضرورية للسيارات والدراجات، وكألفاظ تعارف الناس على أنها لإزالة العصمة في المنكوحات وتحديد الركاب في الطيارات واستهلاك الماء المجهول في الحمامات واعتبار وضع اليد دليلًا على الملكية في الحيازات إلى غيرها مما لا يحد ولا يحصى كثرة مما هو معلوم لدى الخاصة والعامة.

وبخلافه العرف الخاص، ببلد أو فرقة أو جماعة أو من فئة من أهل الاختصاصات، فهذا العرف متنوع متعدد لا تحصى صوره لأن مصالح الناس واحتياجاتهم وعلاقاتهم متجددة متنوعة حسب نوع الاختصاص، فللتجار أعرافهم وللمحامين أعرافهم وللأطباء أعرافهم وهكذا فيما هو عيب مما ليس بعيب عند التجار وتقدير الأجور عند المحامين والعدول وتعليقها على نجاح الأمور، ومعلوم توصيل الركاب ونقلهم من محطة إلى محطة ومن جهة إلى جهة وتعارف التقسيط في نوع من البيوع وتأجير الغرف في السناد وألفاظ الواقفين وعباراتهم والوصايا والأيمان وما إليها، كل هذا من قبيل العرف الخاص.

(1) المدخل الفقهي العام: 2 /847

(2)

نشر العرف، بناء بعض الأحكام على العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /139.

(3)

التبصرة: 2 /57

ص: 2461

وقد قسم محمد بن يحيى الولاتي الشنقيطي العرف إلى قسيمن الأول: عرف الشارع القولي كغلبة استعمال الصلاة في الأركان المخصوصة في العرف الشرعي، حيث نقل الشرع لفظ الصلاة من مطلق الدعاء إلى العبادة التي تفتتح بتكبيرة الإحرام وتختم بالسلام، وقد صار لفظ الصلاة إذا أطلق لا ينصرف إلا للمعنى الثاني وأصبح المعنى اللغوي مهجورًا.

القسم الثاني: عرف الشارع الفعلي كالأذان حيث صار علامة عرفية على دخول وقت الصلاة في عرف الشرع ذلك أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه، كما يقوله تقي الدين ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام (1) ، ولا شك أن الشارع حينما يخاطب يتعين حمل كلامه على المعاني الشرعية إذ ذلك هو عرفه وإن كان قد مانع بعضهم في العرف الشرعي واعتبره داخلًا ضمن العرف الخاص لكن المحققين من الأصوليين أثبتوا الحقائق الشرعية، فقد نقل القرافي في تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الفصل السابع في الفرق بين الحقيقة والمجاز (2) : أن للحقيقة الشرعية تفسيرين، الأول: أن يقال إن حملة الشرع غلب استعمالهم للفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة حتى بقي اللفظ لا يفهم منه إلا هذه العبادة المخصوصة وهذا لا نزاع فيه، والثاني: أن يقال أن صاحب الشرع وضع هذه الألفاظ لهذه العبادات وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال: قال القاضي أبو بكر الباقلاني لم يضع صاحب الشرع شيئًا، وإنما استعمل الألفاظ في مسمياتها اللغوية ودلت الأدلة على أن تلك المسميات اللغوية لا بد معها من قيود زائدة حتى تصير شرعية، وقالت المعتزلة: بل تجددت هذه العبادات كمولود جديد يتجدد فلا بد له من لفظ يدل عليه، وقال الإمام فخر الدين وطائفة معه ما استعمل في المسمى اللغوي ولا نقل، بل استعمل اللفظ في خصوص هذه العبادات على سبيل المجاز، لأن الدعاء الذي هو أصل الصلاة لغة جزء الصلاة الشرعية، لأن فيها دعاء الفاتحة ويبعد غاية البعد أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام:((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) أن يكون مراده الدعاء من حيث هو دعاء. وزاد في نفائس الأصول في شرح المحصول يبين أن الوضع له ثلاثة معان جعل اللفظ دليلًا على المعنى كتسمية الولد زيدًا ومنه تسمية اللغات ووضعها ويقال الوضع على غلبة الاستعمال للفظ في المعنى حتى يصير أشهر من غيره، وهذا هو وضع الحقائق الثلاث الشرعية كالصلاة للفعل المخصوص والعرفية العامة كالدابة للحمار والعرفية الخاصة كالجوهر والعرض عند المتكلمين، ويقال الوضع على مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي سمع منهم مرة واحدة التجوز لذلك النوع من المجاز ولم يسموا مطلق الاستعمال وضعًا إلا في هذا الوضع (3) ،

(1) أحكام الأحكام: 1 /177

(2)

تنقيح الفصول بهامش حاشية ابن عاشور: ص 46

(3)

نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي- خط: 1 /340

ص: 2462

العرف المعتبر في اصطلاح الفقهاء:

إن العرف المعتبر في الاصطلاح هو ما استقر في النفوس من جهة العقل وتلقته الطباع السليمة بالقبول ولم يعارضه نص شرعي فخرج بقيد ما استقر في النفوس ما حصل ندرة ولم يجر في عادة الناس، فهذا لا يعد عرفًا، وبقيد من جهة العقول خرج ما استقر في النفوس من جهة الأهواء والميولات والشهوات فمن اعتاد شرب المسكرات واللعب بالأوراق وارتكاب أنواع الفجور والموبقات لا يعد ذلك من العرف في شيء، كذلك ما استقر في النفوس لسبب خاص كاللكنة الخاصة بسبب اختلاط العجم بالعرب وكتفاؤل قوم أو تطيرهم من بعض الأعمال لاقترانها مصادفة بنفع أو ضر كما تعارف ذلك عند العرب في الجاهلية فهذا لا يعد عرفًا أيضًا في الاصطلاح (1) وهذا التعريف يفارق التعريف اللغوي للعرف، لأنه في اللغة يطلق على كل ما تتابع الناس فيه بعضهم ببعض لا فرق بين أن يكون مصدره العقل أو الغريزة أو مجرد الصدفة والاتفاق. وأما القيد الأخير وهو أن لا يعارض بنص شرعي، فذلك لأن العقل يخطئ ويصيب وليس كل ما حسنه العقل هو حسن ولا كل ما قبحه العقل قبيح خلافًا للمعتزلة إذ الحسن عند أهل السنة ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين مسألة تداخلت فيها الأنظار واختلف فيها أهل المعرفة الذين إليهم يشار ومنهم من سلك فيها مسلك الإفراط ومنهم من اتبع طريق التفريط، وقد سلك الشيخ محمد جعيط مسلكًا وسطًا بين الطريقتين في رسالة ألفها سماها زبدة التحصيل والتنقيح في مسألة التحسين والتقبيح (2) .

ولكي يصبح للعرف قوة الالتزام والاعتبار اشترط الفقهاء شروطًا لا بد من توافرها فيه، إذ ليس كل عرف يصلح أن تبنى عليه الأحكام الشرعية كما قدمنا، وليس كل عرف لغوي دليلًا يرجع إليه الفقيه كلما أعوزه النص من الكتاب والسنة، وهذه الشروط هي أولًا الاطراد والغلبة ومعناه أن يكون العمل به جاريًا بين متعارفيه في جميع الحوادث، ولذلك قالوا: لا تعتبر العادة إلا إذا اطردت أو غلبت وانبنى على هذا الشرط أن لو باع أحد بنقود (بعشرين) ولم ينص على النقد، فإن العقد ينصرف إلى النقد المتعارف في ذلك البلد، فإذا تعدد النقد انصرف إلى الأغلب لأن الأغلب هو المتعارف فينصرف المطلق إليه ويلغي في هذه الحالة العرف المشترك ولا يعمل به ولا تبنى عليه الأحكام، جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف، وكذلك لو غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح (3) .

(1) العرف والعادة، للشيخ أحمد فهمي أبي ستة: ص9

(2)

ضمن هذه الرسالة حاشية المسماة منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 1 /313-348.

(3)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 65.

ص: 2463

فإذا تساوت العادات أهملت ولا يعمل بواحدة منها فلو جرى ببلد أن الأب يجهز ابنته من ماله الخاص، كما جرت العادة بأن ما يجهز ابنته به يعتبر عارية وبعد أن زفت الزوجة بهذا الجهاز إلى بيت الزوجية اختلفا فادعى الأب أنها عارية، وادعى المنازع أنه تمليك والعادة في البلد واقعة بهما، ولم تكن بينة تثبت ما ادعاه أحدهما فلا يكون هذا العرف المشترك دليلًا ولا حجة لأحد الخصمين نظرًا لتعارضهما ولو أخذ بأحد العادتين لكان ترجيحًا بلا مجرح وهو تحكم (1) ، فلذا لا يبنى الحكم على هذا العرف ويرجع إلى الأصل، والأصل يشهد للأب لأنه المعطي وهو أدرى بحقيقة ما أعطاه، وإنما يقدم العرف على الأصل إذا تعارض الأصل والعرف، أما إذا سقط العرف لمعارضته بما يماثله رجعنا إلى الأصل، فكان الأب مدعى عليه لأن من شهد له أصل أو عرف كان مدعى عليه فإن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه ولدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء، وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء (2) وإنما قدم العرف على العادة لأنها قاصرة عن العرف إذ يلزم لقيامه توافر الركنين المادي والمعنوي في حين أن العادة يكفي فيها توفر الركن المادي والعادة وإن كانت معتبرة لكنها لم تصل إلى العرف الذي بلغ إلى درجة الإلزام والعادات لا تلزم الأفراد إلا إذا اتفقوا عليها وانصرفت إرادتهم إلى التقيد بها صراحة أو ضمنًا (3) .

وندرك أنه لا يلزم من العمل بالعرف المخالف للنص ترك النص؛ فالعمل بالمتعارضين أولى من

واختلف في العادة هل هي كشاهدين فلا يمين معها أو كشاهد يحتاج معها إلى يمين والمشهور توجيه اليمين إن كان للمدعى فيه نزاع غير من احتج بالعادة فتجب اليمين على المحتج بها، فإن لم يكن منازع فلا يمين قاله صاحب الدكانة عظوم وانتزعه من تعليل القرطبي (4) وابن عرفة عدم توجه اليمين على صاحب اللقطة بعدم منازع له فيها، قال الشيخ الوالد رحمه الله: وما ذكره عظوم غير مطرد ينتقض بمسألة ما إذا زوج ابنه البالغ وهو ساكت حتى إذا فرغ أنكر بحدثان ذلك، فإنه يستحلف أنه لم يرضَ فإن نكل لزمه النكاح وكان عليه نصف الصداق (5)

والخلاف في لزوم النكاح للناكل مبني على الخلاف في أن العادة هل هي كالشاهد أو كالشاهدين، فإن قلنا كالشاهدين لزم النكاح بنكوله وعليه نصف الصداق، وإن قلنا كالشاهد لم يلزمه وقد بسط المسألة شراح العمليات الفاسية عند قول الناظم ومن تحمل عن ابنه النكاح (6)

(1) سلم الأصول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: ص 247

(2)

الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، للشيخ محمد العزيز جعيط: ص 44

(3)

مقاصد الشريعة الإسلامية، لعلال الفاسي: ص 153

(4)

هو أحمد بن عمر الأنصاري الأندلسي القرطبي يعرف بابن المزين وممن أخذ عنه القرطبي صاحب التفسير والتذكرة.

(5)

الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية: ص 51.

(6)

العمليات الفاسية: 1 /11.

ص: 2464

ولا يلزم من اطراد العرف أو غلبته أن يكون عامًا بين جميع الناس، لأن عموم العرف غير اطراده (1) ، فقد يكون العرف منتشرًا عامًا في جميع البلاد وقد يكون خاصًا ببلد معين أو خاصًا بأهل مهنة معينة أو أهل حرفة مخصوصة دون سواها فيكون معروفًا من جميع أهل تلك الحرفة غير مقتصر على عدد منهم وهذا ما يسمى بالعرف الخاص فهو عام بين أهل تلك الصناعة معروف لدى الأغلبية الساحقة من أهل تلك الصناعة كأهل التجارة أو الزراعة وأي مهنة من المهن ويطلق عليه عرف مهني أو طائفي أو إقليمي (2) ، والعرف أعم من أن يكون عامًا أو خاصًا فيشترط لاعتباره وتحكيمه في المعاملات المطلقة أن يكون في محيطه مطردًا أو غالبًا على أعمال أهله (3) .

وندرك من وراء ذلك أن المراد من العموم إنما هو عمومه في المكان الذي يقع فيه أو عمومه في الأشخاص الذي صدر عنهم العمل بمقتضاه كالعرف الصناعي والعرف المهني، فإن اختل هذا الشرط سقط عن الاعتبار فلا يكون ملزمًا وينزل عن درجة العرف الملزم إلى درجة العادة التي لا تلزم إلا إذا اشترطها المتعاقدان إذ لا تصلح أن يكون مستندًا أو دليلًا للرجوع إليها في تحديد الحقوق والواجبات المطلقة، كما فصلناه سابقًا، وقد قال القرافي في الأحكام: لا يكفي في الاشتهار كون المفتي يعتقد ذلك لأن ذلك نشأ من دراسة المذهب وقراءته والمناظرة عنه، بل الاشتهار أن يكون أهل ذلك لا يفهمون عند الإطلاق إلا ذلك المعنى (4) ولهذا اعتبرنا من شرط العادة أن تكون عرفًا الاطراد والغلبة فلا يكون عرفًا إذا كان لا يعرفه إلا الخواص من أهل المعرفة.

الشرط الثاني لاعتبار العرف دليلًا يصار إليه أن لا يكون مخالفا لنص شرعي إذ هو لا يقوى قوة النص وقد جاء في المبسوط كل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر (5) .

قال ابن عابدين في نشر العرف: لأن العرف قد يكون عن باطل بخلاف النص، كما قال ابن الهمام، وقد قال في الأشباه: العرف غير معتبر في المنصوص عليه، قال في الظهيرة من الصلاة وكان محمد بن الفضل يقول: السرة إلى موضع نبات الشعر من العانة ليس بعورة لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا ضعيف وبعيد لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر. انتهى بلفظه (6) .

(1) المدخل الفقهي العام: 2 /875

(2)

المدخل للعلوم القانونية، لتوفيق فرج: ص 132

(3)

المدخل الفقهي العام: 2 /875

(4)

الأحكام في تمييز الفتاوى والأحكام: ص 71

(5)

المبسوط، للسرخسي: 12 /196

(6)

نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف – مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /115

ص: 2465

وهذا يعني أنه إذا أثبت العرف حكمًا مخالفًا لما أثبته النص يعمل بالنص ويترك العرف المخالف ولا يعتد به، لأن النص أقوى من العرف ولا يترك الأقوى بالأضعف، فإذا كان العرف مخالفًا للنص من كل وجه حيث لو عمل به لزم منه ترك النص وعدم العمل به؛ مثل تعارف الناس كثيرًا من المحرمات شرعًا كتعاملهم بالربا واعتيادهم لعب القمار وتناول المسكرات وغير ذلك من كل المحرمات بالنص، فإن ما جرى به العرف واعتاده الناس لا ينقل الحكم الشرعي من الحرمة إلى الحلية، نعم إذا لم يكن العرف مخالفًا للنص من كل وجه ولا مبطلًا للحكم الذي أثبته النص، كما إذا كان النص الشرعي عامًا والعرف خاصًا كأن يخالفه في بعض أفراده، فإذا يعمل بهما ويكون العرف مخصصًا لذلك الحكم العام الذي ورد به النص وتخصيص العام وتقييد المطلق ليس نسخًا لحكم الأصل ومن أمثلة ذلك أن الفقهاء اشترطوا في محل العقد أن يكون المعقود عليه موجودًا وقت التعاقد، فقالوا بعدم صحة التعاقد على معدوم كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته ولاحتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه وبيع اللبن في الضرع وبيع اللؤلؤ في الصدق أو العقد على مستحيل الوجود في المستقبل كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فهذه العقود كلها باطلة، وذلك لما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة، والمضامين في أصلاب الإبل والملاقيح، ونهي ما في بطون النوق ونهيه عن بيع ما ليس عندك لأن البيع فيها وقت التعاقد معدوم وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منع التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، وذلك استحسانًا ومراعاة لحاجة الناس وتعارفهم على ذلك وإقرار الشرع لهذه العقود، فقد ثبت في السنة تشريع المساقاة والمزارعات والإجارات وقرر الاستصناع مع أنه مستثنى من بيع المعدوم، وندرك أنه لا يلزم من العمل بالعرف المخالف للنص ترك النص؛ فالعمل بالمتعارضين أولى من إلغاء أحدهما، فيبقى النص عاملًا في عمومه ومستثني منه ما وقع استثناؤه وذلك معنى تخصيص العام، أما إذا تعارض العرف مع النص من كل الوجوه تعين ترك العرف والعمل بالنص؛ لأن العرف لا يقوى على إلغاء النص وإهداره، ولهذا لما جاء الإسلام ألغى كثيرًا مما كان متعارفًا عند العرب وجرت عليه عاداتهم في حرمان النساء من الميراث واعتبار الظهار طلاقًا ونحوها مما جرت عليه عاداتهم في الجاهلية (1) .

وقد استثنى بعضهم العرف التجاري باعتبار أن العرف التجاري هو تقنين للعادات التي اصطلح عليها التجار فيما بينهم، ورد ذلك بأنه لا يخرجه عما تعارفه الناس فيلزم أن لا يتعارض مع النصوص الشرعية.

(1) فلسفة التشريع، لصبحي محمصاني: ص 269، ومبادئ الثقافة الإسلامية، لفاروق النبهان: ص 272

ص: 2466

وخلاصة القول: إن الأعراف المعتبرة هي التي توافق الدلة الأصولية المعتبرة، أما ما ورد على خلافها وجاء معاكسًا لمقاصد الشريعة وغاياتها فهو مردود لا يعتد به ولا يعوَّل عليه، وقد ذكر القرافي في تنقيحه في الفصل الثالث في مخصصات العام، قال: وعندنا العوائد مخصصة للعموم، قال الإمام: إن علم وجودها في زمن الخطاب وهو متجه، قال شيخنا محمد الطاهر بن عاشور: المراد بالعوائد العامة وهي ما غلب على الناس من قول أو فعل أو ترك وهي تخصص ما قارنته، فإن قارنت نصًّا شرعيًّا خصصته وإن قارنت ألفاظ الأيمان والعقود خصصتها ومثل للعمل بالنص والعرف معًا عند المالكية بقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [سورة البقرة: الآية 233] .

فخصت المالكية ذوات القدر والشرف من عموم الوالدات وكذلك من كل رجلًا على أن يشتري له ثوبًا فاشترى له ما ليس من لباس أمثاله، فإنه لا يلزمه ما اشتراه (1) .

قال ابن عابدين: اعلم أن العرف نوعان خاص وعام، وكل منهما إما أن يوافق الدليل الشرعي والمنصوص عليه في كتب ظاهر الرواية أو لا، فإن وافقهما فلا كلام، وإلا فإما أن يخالف الدليل الشرعي أو المنصوص عليه في المذهب فنذكر ذلك في بابين: الباب الأول إذا خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالفه من كل جهة بأن لزم منه ترك النص فلا شك في رده كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحرميه نصًّا، وإن لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عامًا والعرف خالفه في بعض أفراده أو كان الدليل قياسًا والعرف خاصًا، فإنه لا يعتبر وهو المذهب كما ذكره في الأشباه، حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ولكن أفتى كثير من المشائخ باعتباره، وقال في الذخيرة البرهانية في الفصل الثامن من الإجارات فيما لو دفع إلى حائك غزلًا على أن ينسجه بالثلث، قال: ومشائخ بلخ كنصير بن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يجيزون هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر، قال ابن عابدين: وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان لأبي الحائك، إلا أن الحائك نظيره يكون واردًا فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في قفيز الطحان كان تخصيصًا لا تركًا أصلًا وتخصيص النص بالتعامل جائز، ألا ترى أنا جوزنا الاستصناع للتعامل، والاستصناع بيع ما ليس عنده وإنه منهي عنه وتجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا ترك للنص أصلًا، لأن عملنا بالنص في غير الاستصناع قالوا بخلاف ما لو تعامل أهل بلدة بقفيز الطحان، فإنه لا يجوز ولا تكون معاملتهم معتبرة؛ لأنا لو اعتبرنا معاملتهم كان تركًا للنص بالتعامل ولا يجوز ترك النص أصلًا وإنما يجوز تخصيصه.

(1) التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح: 248

ص: 2467

قال ابن عابدين: ولكن مشائخنا لم يجيزوا هذا التخصيص، لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وتعامل أهل بلدة واحدة لا يخص الأثر لأن تعامل أهل بلدة إن اقتضى أن يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص فلا يثبت التخصيص بالشك، بخلاف التعامل في الاستصناع فإنه وجد في البلد كلها. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: تنبيه هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام أو مطلق العرف ولو كان خاصًا؟ المذهب الأول قال في البزازية معزيًا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه: الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص وقيل يثبت. انتهى (1)

الشرط الثالث: عدم معارضة العرف بتصريح يخالفه، فإذا اشترط أحد المتعاقدين شرطًا يخالف ما جرى به العرف ولايتناقض العقد وجب العمل بمقتضاه لأن الناس على شروطهم ولا عبرة للعرف حينئذ، وإنما يعتد بالعرف ويرجع إليه عند الإطلاق فمثلًا جرى العرف أن مصاريف كتب العقد وتسجيله يكون على المشتري فلو اشترط المشتري على البائع أن تكون هذه المصاريف على البائع ورضي البائع بذلك فلا عمل على العرف لأن الناس على شروطهم إذا كان الشرط لم يحل حرامًا أو يحرم حلالًا، كما ورد ذلك في الحديث إذ العرف منزل منزلة الشرط الضمني ولا يقوى الشرط الضمني أمام الشرط الصحيح (2) ، ولأن المقرر عند الفقهاء أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا فقد نزل العرف منزلة الشرط المصرح به، أي عند عدم وجوده، أما مع وجوده فلا يعتد به، إذ لا يعتمد على شرط ضمني مع شرط منصوص عليه، ثم سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف وعدم اشتراطهم إياه صراحة يعتبر واقعًا منهم اعتمادًا على العرف، فإثبات الحكم المتعارف في هذه الحالة إنما هو من قبيل الدلالة فإذا صرح بخلافه بطلت هذه الدلالة ولا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح (3) .

وقد نقل في الأحكام عن العز بن عبد السلام الشافعي، قال: كل ما ثبت بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل ولا شرب ويقطع المنفعة للزمه ذلك، أما لو شرط عليه أن يعمل شهرًا في الليل والنهار، قال فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء بها فكان ذلك غررًا لا تمس الحاجة إليه وتنزل القرينة العرفية منزلة الشرط، فلو أن امرأة أقامت بينة عند التنازع في الجهاز على ما هو من خصائص الرجال أو أقام الرجل بينه على أن ما هو من خصائص النساء فإنه يقضي بما شهدت به البينة والشهادة إذ البينة تقدم على العرف، وهذا ما عناه العز بن عبد السلام حيث يقول: إن البينات أقوى من الظن المستفاد من هذه الجهات ومدرك هذا الشرط أن دلالة العرف أضعف من دلالة اللفظ يترجح عن المعارضة.

(1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص: 106

(2)

فلفسة التشريع، لصبحي محمصاني: ص 268، وسلم الوصول لعلم الوصول، لعمر عبد الله: ص 244 – 245

(3)

المدخل الفقهي العام: 2 /879

ص: 2468

الشرط الرابع: للاعتماد على العرف أن يكون سابقًا للنص فلا عبرة بالعرف المتأخر عن النص، فإذا تأخر عن تاريخ العقد أو تاريخ التصرف فلا يمكن الاحتكام إلى العرف المتأخر، يقول القرافي: إنما يعتبر من العادات ما كان مقارنًا لها، فكذلك النصوص الشرعية لا يؤثر فيها إلا ما قارنها من العادات، وأما العوائد الطارئة بعد النطق فلا يقضى بها على النطق، فإن النطق سالم عن معارضتها فيحمل على اللغة ونظيره إذا وقع النقد في بيع فإن الثمن يحمل على العادة الحاضرة في النقد وما يطرأ بعد ذلك من العوائد في النقود لا عبرة به في هذا البيع المتقدم وكذلك النذر والإقرار والوصية إذا تأخرت العوائد عليها لا تعتبر وإنما يعتبر من العوائد ما كان مقارنًا لها، فكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر في تخصيصها إلا ما قارنها من العوائد (1) فلو وقع الاتفاق على ثمن المبيع بدراهم أو دنانير في بلد قد اختلفت فيها النقود ولم يقع التنصيص على نوع النقد انصرف الثمن إلى النقد المعروف بين الجميع والذي هو فاش في البلد متدوال بين الجميع، ولا ينصرف أصلًا إلى ما طرأ بعد ذلك العقد من أصناف أو تغيير ولذا يتعين حمل ألفاظ الواقفين في أوقافهم وفي النصوص والوثائق في العقود والتصرفات، وما جاء فيها من قيود وإطلاقات يتعين فيها مراعاة العرف الذي كان زمن إنشائها، فإن لم يراع في فهمها وتفسيرها ما كان قائمًا من أعراف ساعة صدور العقود وإنشاء التصرفات وقعنا في الخطأ في فهم المعنى المراد ذلك أن كل متكلم إنما يتكلم بحسب عرفه ولا يقصد من كلامه إلا ما يتعارفه ولا يمكن حمل كلامه أصلًا على ما نشأ من الأعراف والعادات الحادثة لقاعدة أن العرف يعمل فيما يوجد بعده لا فيما وجد قبله (2) .

وهكذا النصوص التشريعية يجب أن تفهم بحسب مدلولاتها العرفية في عصر صدور النص فإن لم يكن عرف حملت على مدلولاتها اللغوية ولا يمكن حملها على ما نشأ بعد من العرف والعادة بعد صدورها ولا عبرة بتبدل مفاهيم الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة وإلا لم يستقر للنص التشريعى معنى فمثلًا أوجب الله صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية التي جاءت في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: الآية 60] .

(1) تنقيح الفصول، للقرافي بهامش التوشيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح: ص 248

(2)

تنقيح الفصول: ص 248، وسلم الوصول لعلم الوصول: ص 245

ص: 2469

فالصنف السابع وهو سبيل الله هم الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [سورة الصف: الآية 4] .

وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية 190] .

فيدفع إليهم من مال الزكاة لإنجاز مهمتهم وعودتهم، ولو كانوا عند الجمهور أغنياء لأن في الجهاد مصلحة عامة أما من له شيء مقدر من الديوان فلا يعطي لأن من له رزق راتب يكفيه فهو مستغن به وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يعطي الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرًا أو مريدًا للحج، والحج عند الحنفية وبعض الحنابلة من السبيل، فيعطى مريد الحج من الزكاة لما روى أبو داود، عن ابن عباس أن رجلًا جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأة الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ((اركبيها فإن الحج في سبيل الله)) ، فيأخذ مريد الحج من الزكاة إن كان فقيرًا ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض وأما التطوع فلا، والصنف الثامن ابن السبيل هو المسافر في طاعة غير معصية، وقد عجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة، وقد اتفق فقهاء المذاهب على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله في الآية كبناء المساجد والجسور والقناطير والساقيات وإصلاح الطرق وتكفين الموتى وقضاء الدين والتوسعة على الأضياف ونحوها من القرابات لكن فسر الكاساني في البدائع سبيل الله بجميع القرب، فيدخل عندئذ كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا لأن في سبيل الله عام في الملك فيشمل حينئذٍ عمارة المساجد ونحوها مما ذكر.

وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم ولو كان الطالب غنيًا قال أنس والحسن: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية لكن قال مالك رحمه الله: سبيل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو، فهو حينئذٍ حقيقة شرعية في الجهاد وإذا كان ذلك فلا يصح حمله على كل ما كان من قبيل القرب فحمله على كل قربة يخالف ما جرى عليه العرف عند نزول الآية فلذا لا يشمل كل القرب، وهو ما مال إليه بعض العلماء لأن النص يجب أن يحمل على معناه العرفي الأول الذي قال فيه مالك: لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله غير الغزو، وقد قال القرافي: دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ، فكما أن العقد يحمل الثمن فيه على النقود المعتادة ولا عبرة لما حدث بعد ذلك من العادات في التغيير في النقود، فكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر فيها إلا ما قارنها من العادات (1) .

(1) التنقيح، للقرافي: ص 249.

ص: 2470

وما ذكرناه هو في العرف القولي أما العرف العملي فيعتبر في كل تصرف العرف الذي كان موجودًا عند التصرف دون الحادث بعده، فلو تغير عرف الناس فيما يعد عيبًا في المبيعات، أو فيما يدخل في البيع تبعًا للمبيع، أو في تقسيط أجرة العقارات المؤجرة أو في كون الخلاص بالشهر الشمسي لا القمري أو في أن المهر في النكاح معجلًا كله أو مؤجلًا بعضه، أو لا يحل باقية إلا بموت أحد الزوجين أو الفراق مثلًا فإن العرف الحادث بعد وقوع هذه العقود لا يسري على التصرفات السابقة ولا يغير شيئًا من أحكامها ولا من التزاماتها، وإنما تخضع تلك التصرفات والعقود جميعها إلى ما قارنها من العادات والتقاليد لا إلى ما حدث بعدها، أما التصرفات الجديدة الواقعة في ظل هذه العادات الجديدة فنها تكون خاضعة لها، حيث كانت مقارنة لها، أو العادات سابقة لها (1) .

هذه هي الشروط المعتبرة في العرف وتحكيمه في كل التصرفات والالتزامات بحيث يسقط عن الاعتبار إذا افتقد شرط من هذه الشروط وتنعدم صلوحيته في بناء الأحكام عليه عند علماء الشريعة.

أما أهل القانون من المعاصرين فزيادة على الشروط المتقدمة الذكر اشترطوا أن يكون العرف مطابقًا للنظام العام والآداب في المجتمعات، فإذا جرت عادة الناس على ما ينافي الأخلاق والنظام العام فإنه لا يعتد به، مثلًا مسألة الأخذ بالثأر في بعض الأقاليم فإن هذا وإن تتطبع به بعض الجهات فإنه لا ينشأ عنه عرف ملزم قانونًا؛ لأنه يتعارض مع قاعدة أساسية من القواعد التي تقوم عليه المجتمعات من أن الدولة هي التي تتولى القصاص من الأفراد وتقيم الحدود على المعتدين، ولا يجوز بحال لأحد أن يثأر لنفسه ويأخذ حقه بيده؛ لأن الدولة هي التي تقوم على حراسة الناس ومصالحهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وهي التي تنشر الأمن والأمان بين المواطنين، وإن مخالفة ذلك يستوجب العقاب ويعد الآخذ بثأر نفسه من المعتدين ويترتب على ذلك وجوب احترام القانون وأن كل من خالفه عرض نفسه للجزاء لأنه بعدم احترامه للقانون وبمخالفته لما يوجبه اعتبر من المعتدين. وقد جرى العرف بوجوب احترام القانون واستقر ذلك في نفوس الناس وأن القانون فوق الجميع حتى أصبح قاعدة مسلمًا بها مجمعًا عليها. ومن القديم عند شدة القوة الرومانية وعند تفرق الممالك بالاستقلالية، وقد أخذت كل دولة مأخذها بعد جميع شملها واختارت من الأحكام ما وافق عوائدها وأحوالها وجعلتها أساسًا لما وضعته، وهكذا صارت الأحكام الرومانية اصلًا أصيلًا لجميع القوانين الدولية في معظم الممالك الأوروبية ومدار جميعها على العدالة في الحكم والتحلي بالإنصاف ونشر الخصال الشريفة ودفع الأمة عن الرذائل.

* * *

(1) المدخل الفقهي العام، للشيخ الزرقاء: 2 /878 –879

ص: 2471

سلطان العرف

إن للعرف في نظر الشريعة الإسلامية قيمة كبرى في التشريع حيث يعد مستندًا لكثير من الأحكام العملية بين الناس في مجالات كثيرة في الحياة، كما أن للعرف سلطانًا واسعًا في استنباط الأحكام وتجددها أو تعديلها وتحديها وتقيدها وإطلاقها. ولقد كان للعرف اعتبار قبل الإسلام وكان أساسًا لكل مظهر من مظاهر الحياة وهذه فرنسا مثلًا أحكامها جارية حسب العوائد بحيث كل جهة من جهاتنا تجرى أحكامها على عوائدها، وتلك العوائد في الأصل ليست مكتتبة، ثم وقع كتاب كثيرًا منها وممن كتب بعض تلك العوائد الملك فيليب الرابع المتولي ملك فرنسا سنة 1285 ميلادية، ثم لما كانت الجهة الجنوبية من فرنسا قريبة من إيطاليا تداخلت فيهم الأحكام الرومانية حتى كانت أحكام فرنسا عند نهاية القرن الثامن عشر على قسمين: فالقسم الشمالي أحكامهم منوطة بالعوائد، والقسم الجنوبي أحكامهم مشتركة بين العوائد والأحكام الرومانية، لكن رئيس الطبقة الرابعة من ملوك فرنسا نابليون بونابرت كانت له عناية بضبط الأحكام قبل ولاية الإمبراطورية واختار لذلك خاصة رجال مملكته وترأس عليهم بنفسه في مجلس كتب الأحكام الذي تألف من أربعين شخصًا فضبطوا جميع ما وصلهم علمه من العوائد الجارية بالقسمين مما هو مكتتب أو غير مكتتب، وأخذوا من أحكام الرومان ما ناسب الحال عندهم وما جرى به العمل في جهاتهم وجمعوا من ذلك كله (كودنابليون) ، فأعلنه بفرنسا في مارس سنة 1804م أربعة وثمانمائة وألف عندما كان نابليون هو القنصل الأكبر النافذ الكلمة، وعلى إثر ذلك ولي الإمبراطورية في باريس في 16 مايو ووقعت في قانونه الزيادة مع التعديل سنة عشر ثم تعدل أيضا سنة 1812، ولم يزل العمل به جاريًا في المملكة الفرنسية وكان أمره منوطًا بمجلس الشورى الذي له النظر في معنى فصوله ولمجلس النواب والسناة حق تغيير الأحكام ووضع القوانين على حسب ما يقتضيه الحال وكلما اقتضى الحال تغيير شيء من فصوله غيروه على ترتيبهم ويعرف الآن باسم (كودسفيل) وهو القانون الجاري به العمل وينعتونه بالقانون المدني الفرنسي ومحتواه ألفان ومائتان وإحدى وثمانون مادة ترجع إلى ثلاثة أصول ذكرت في ثلاث مقالات.

المقالة الأولى في الكلام على الأشخاص – المقالة الثانية في الأملاك وما يعتريها من أحكام، والمقالة الثالثة في أنواع الطرق التي تفيد الملكية وقد ترجمه إلى العربية رفاعه بك ناظر قلم التحرير وعبد الله بك رئيس القلم وأحمد حلمي وعبد السلام أفندي وطبع في مطبعة بولاق سنة 1982 (1) .

(1) مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري: ص 91- 92، ط. المطبعة الرسمية التونسية سنة 1305 هـ

ص: 2472

وكذلك كان العرف أساسًا لكل مظهر من مظاهر العرب في حياتهم من أمانة وأخلاق وتجارة ومعاملات، وقد دخلت بعض هذه العادات في التشريع الإسلامي من أبواب مختلفة كبناء بعض الأحاديث عليها أو سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعضها كما دخلت كذلك في باب إجماع المجتهدين وفي باب الأدلة الشريعة كالاستحسان والمصالح المرسلة ونحوها، ذلك أن التقاليد التي تعتادها كل أمة وتتخذها منهجا تسير عليه ومسلكًا متبعًا تصبح من ضروريات الحياة التي لا يمكن أن تستغنى عنها وتصبح بمرور الزمن بمثابة الدين حرمة وتقديسًا؛ لأن العمل بكثرة تكراره يصير جزءًا من كيان الإنسان لا يمكن أن ينفصل عنه ويتخلص منه وكما قيل: الإنسان ابن ما تعود ولا شك أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيما.

ولقد راعت الشريعة الإسلامية عوائد الأمم المختلفة وإن كان خلاف الأصل في التشريع الإلزامي والذي يسع ذلك إنما هو الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم، لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك في العوائد فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت قواعد الشريعة العامة من وجوب أو تحريم، ولذا نرى التشريع لم يتعرض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الأسفار ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير ولا أهل الهند والترك من حمل على البقر لذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال الجمل والدراجات والعربات والأرتال والطيارات والبواخر.

وكذلك لم يحتاجوا إلى تطلب الدليل على إباحة أصناف الطعام. التي لا تشتمل على أي شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلا جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع. إنا نوقن أن عادات قوم ليس يحق لها بما هي عادات أن يحمل عليها قوم آخرون في التشريع ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك، نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيروها لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملاتهم إذا سكتوا عما يضادها وهذا ما تقتضيه الشريعة باعتبار عمومها وشمولها لكل البشر في كل العصور.

ص: 2473

فمعنى صلاحيتها لكل زمان ومكان أنها قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر، وأما بمعنى أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أن مكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا إحراجًا ولا عسرا في الإقلاع عما نزعوه من قديم عاداتهم الباطلة ومن دون أن يلجأوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة، وهذا هو معنى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، أي باعتبار أن أحكامها كليات مشتملة على حكم ومصالح صالحة؛ لأن تتفرع عنها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد. وهذا معنى سماحة الشريعة ونفي الحرج عنها وكونها ليست نكاية للأمة وإنها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها في عموم الأمة وفي خويصة الأفراد ولا يتم ذلك إلا بطريق التيسير وعدم التعسير (1) وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج وأي حرج، وذلك لما للعادات من التغلغل في النفوس.

وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير قالت: ويحك وما يضرك، قال: يا أم المؤمنين أرني مصحفك، قالت: لم قال لَعَلِّي أُؤَلِّفُ القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: ما يضرك أيه قرأت قبل. إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا ولو نزل ولا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده قال فأخرجت له المصحف فأمليت عليه آي السورة (2) .

يحتمل أن يكون سؤال الرجل من الكفن خبر عن الكم أو الكيف أو النوع وكلمة ويحك للترحم وقولها: وما يضرك أي: أي شيء يضرك بعد موتك وسقوط التكليف عنك في أي كفن كفنت، وقوله: لعلي أؤلف القرآن عليه أي على القراءة التي بعث بها عثمان بعد للعواصم إذ كان القرآن على قراءة ابن مسعود في العراق، وكان تأليف مصحف العراقي مغايرًا لتأليف مصحف عثمان فلذلك جاء لعائشة وسأل الإملاء من مصحفها وقولها: أيه قرأت أي القرآن قرأت قبل قراءة السورة الأخرى من القرآن وقولها: إما نزل أول ما نزل منه من المفصل سمي مفصلًا لكثرة ما يقع فيها من فصول التسمية بين السور، وقد اختلف في أول المفصل: فقيل سورة ق، وقيل سورة محمد، وأول ما نزل إما (المدثر) وإما (اقرأ) ففي كل منهما ذكر الجنة والنار، ففي المدثر قوله تعالى:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [سورة المدثر: الآية 26] .

(1) مقاصد الشريعة الإسلامية للعلامة محمد الطاهر بن عاشور: ص 88 – 100

(2)

الحديث أخرجه مسلم في التفسير، وفضائل القرآن، عن يوسف بن سعيد بن مسلم

ص: 2474

وقوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} ، وأما اقرأ فقوله تعالى:{كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، وقوله:{إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} ، وقولها: حتى إذا ثاب، أي رجع نزل الحلال والحرام أشارت به إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل وأنه أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد والتبشير للمطيعين والإنذار للجاحدين الكافرين فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء ولا تشربوا الخمر إلى آخره وذلك لانطباع النفوس بالنفرة عن ترك المألوف وتعلقها بما تعودت به وتشبثها بما استأنست به (1) .

وتبدو هذه الظاهرة جلية واضحة لدى المسنين، فهم أكثر الناس تشبثًا بالقديم وتمسكًا بالعوائد والتقليد رافضين لكل جديد ولو بدا القديم غير صالح أو باطلًا.

ولا شك أن العرف تولده الحاجات التي تنقلب إلى عادات تكرر وتتجدد حتى تصبح نظامًا معتبرًا تنبني عليه الأحكام وتجري الفتوى على ما تقتضيه مما يعرض للناس في معاشهم ويكشف عن مقصودهم ونياتهم وعما اصطلحوا عليه في كلامهم.

ولهذا كان اعتبار العرف والاعتداد به مما يسهل مهمة القاضي في القيام بواجبه وتنكبه الحق والصواب في إصدار أحكامه، وأول ذلك أنه به يفرق بين المدعي والمدعى عليه، كما تقدم بيانه وإذا عرف المدعي من المدعى عليه لا يخطئ في من يطالب بالبينة ومن يطالب باليمين عند عجز المدعى عن إقامة البينة ولذا نجد الفقهاء، وأهل القانون متفقون على أن النصوص وحدها لا تغني عن العرف ذلك أن النصوص لا تستوعب جميع الجزئيات والتفاصيل لذا لم يكتف أهل الأصول بالنصوص بل اعتبروا أدلة أخرى كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعادات وغيرها من القواعد والأدلة التي اعتمدها الفقهاء، ثم أن المصالح تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد قد تتغير من بلد إلى بلد حتى استحسن بعضهم تعيين القضاة من أصل البلد لأنهم أعرف بعوائدها وتقاليدها وبذلك يبتعدون عن الوقوع في الخطأ في أحكامهم وقضائهم، وقلما خلا باب من أبواب الفقه من الاعتماد على العرف والعادات حتى في الجرائم والعقوبات جاء في التشريع الجنائي أن التعدي على الإنسان بالشتم والإهانة يعتبر من الكلام ما كان العرف يقضي بأنه شتم وتعد على كرامة الإنسان وتعتبر أن الإنسان مسؤول عن الترك والامتناع فيما يوجب العرف فيه العمل ويعتبر بهذا الترك جانبًا، كذلك تعتبر العادة في التعازير وهي تختلف باختلاف البلدان والعادات فما قد يباح في بلد ما قد يمنع في بلد آخر وما قد يعاقب عليه في جهة لسبب ما قد يعاقب عليه في آخر لوجه آخر، وقد يكون العرف حجة في جريمة من الجرائم، أو عقوبة من العقوبات (2) .

(1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري لبدر الدين محمود بن أحمد العيني: 20 /21-22

(2)

التشريع الجنائي الإسلامي في المذاهب الخمسة مقارنًا بالقانون الوضعي للأستاذ عبد القادر عوده: ص 132

ص: 2475

ولو نظرنا إلى العقوبة التعزيرية نرى أن الشرع لم يحدد مقدارها ولا نوعها وإنما فوض الأمر فيها للحكام حسب ما تقتضيه المصلحة في كل زمان وحسب ما يحقق الزجر بالنسبة للجناة وهي تقدر شرعًا بحسب العرف الذي يقتضي الكف عن المخالفة وسد الأقدام عليها في نظر العقلاء وعرفهم بحسب درجات الجرم حتى لا يكون أكثر مما يستدعيه الجرم المرتكب فيكون ظلمًا ولا أقل فيكون تهاونا بالحقوق، والقاعدة أن كل ما رتب عليه الشرع حكمًا ولم يحد فيه حدًا يرجع فيه العرف والتعزير لا يتقدر بقدر ويخير في العقوبات على قدر الجريمة وصاحبها، وهذا موكول لاجتهاد الإمام (1)

ولقد نص ابن فرحون في التبصرة نقلًا عن القرافي أن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار فرب تعزير في بلد آخر يكون إكرامًا في بلد كقطع الطيلسان (من لباس العجم) ، ليس تعزيرًا في بلاد الشام بل هو إكرام وككشف الرأس فليس هوانا عند الأندلسيين وهو هوان بمصر والعراق (2) .

ولا شك أن المجتهدين تأثروا ببيئاتهم وعاداتهم وتقاليدها وهناك من كان متأثرًا بالحضارة الفارسية وبعضهم الحاضرة الرومانية أو بالحضارة الفرعونية أو البربرية والتي كانت عليها عاداتهم وقوانينهم، وقد كان هذا من أعظم أسباب الاختلاف بين الفقهاء في استنباطهم للأحكام وليس معنى هذا أن العرف والظروف تتحكمان في النصوص الصريحة فيحمل المجتهد على القول بحكم غير الذي تعطيه النصوص وإنما معناه أن النصوص منها ما كان قواعده عامة يمكن تطبيقها حسب الظروف والأحوال ومنها ما هو معلل بمصالح خاصة تدور الأحكام وتتغير حسب هذه المصالح، وهكذا يظهر واضحا اختلاف المذاهب في الأحكام المستنبطة كالخلاف في كثير من الفروع بين المذهب الحنفي الذي نشأ بالعراق وبين المذهب المالكي الذي نشأ بالحجاز وأجلى من ذلك ما كان من الإمام الشافعي الذي أخذ فقهه عن الإمام مالك ثم انتقل إلى العراق وتأثر بالطريقتين، ثم لما قدم مصر واطلع على العادات المخالفة لما عرفه بالحجاز وبالعراق، وكان قد كتب مذهبًا بالعراق فلما قدم مصر واطلع على عاداتهم وتقاليدهم ورأى أحوالا غير أحوالهم دعاه ذلك إلى أن يعدل في كثير من اجتهاداته واستنباطه فكان في كثير من الفروع نرى له قولين قوله القديم وقوله الجديد بعد هجرته إلى مصر.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن قوة العرف تظهر في تخصيص العام وتقييد المطلق فيحمل العام على ما يقتضيه العرف وبينا أن مالكا رحمه الله خصص قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [الآية 233 من سورة البقرة] فاستثنى الشريفة التي جرى العرف بأن أمثالها لا يرضعن وإن اختلفت المذاهب في تخصيص العام به، فبعضهم يعتبر ذلك في عرف القولي دون الفعلي وبعضهم لا يعتبر في تخصيص العام إلا العرف الفعلي وبعضهم لا يعتبر العرف من المخصصات أصلًا قولًا أو فعلًا كالمذهب الجعفري، وإنما يعتمدون على العرف في تقسيم الدليل الشرعي اللازم حمله على المعنى العرفي.

(1) أحكام الأحكام، شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد: 4 /137.

(2)

التبصرة، لابن فرحون: 2 /202

ص: 2476

وكان المجتهدون تعرض لهم العادات المختلفات باختلاف الجهات فيطبقون عليها القواعد العامة ومنها (العادة محكمة) كاستئجار الكاتب في كون الحبر والأقلام عليه واستئجار الخياط في كون الخيط والإبرة عليه أو على المستأجر فالحكم تابع لعرف ذلك البلد وعلف الحيوان المستأجر، هل على ربه أو على المستأجر، وكاستئجار الظئر بطعامها وكسوتها، فإنه جائز للعرف وإن كان مجهولًا. فكان لزامًا على المجتهدين أن يراعوا عادات الناس وما جرى عليه عرفهم في مختلف الأقطار وأن يطبقوا القواعد العامة في ذلك وأن يقروا الأحكام على حسب العادات الصالحة ويبطلوا منها ما كان مناقضًا لأسس الشريعة ومقاصدها، فقد أخذ عمر رضي الله عنه بتدوين الدواوين وهي عادة فارسية.

وكم من فرع وارد في باب البيوعات والإجارات أخذوا به واعتمدوه في أحكامهم لما فيه من مصلحة واضحة، وحتى ما كان فيه نوع من العوج هذبوه وأقروه كوضع الخراج على الأرض، فإن ذلك كان معروفًا عند الفرس وقد قبله عمر رضي الله عنه ومعه الصحابة بعد أن عدل نظامه. وقد علق المهدي الوزاني بعد أن نقل قول مالك فيمن دفع إلى شهود كتابًا مطويًّا، وقال: اشهدوا عليَّ بما فيه، أو كتب الحاكم كتابًا إلى حاكم وختمه وأشهد الشهود به ولم يقرأه عليهم، فقال: الشهادة جائزة نقله عن الباجي، ثم نقل كلام الرهوني على قول المختصر، وأفاد أن أشهدهما أن ما فيه حكمه أو خطه كالإقرار، قال الرهوني: وكذلك شهادتهما به، وإن لم يشهدهما عند ابن القاسم وابن الماجشون، قال الشيخ المهدي: فإن هذا أمر قد تمالأت عليه العدول والقضاة وجرت به عادتهم في أزمان طويلة ودهور متوالية، وقد نص الأئمة على أن العادة تقوم مقام الإفصاح باللسان وتغني عما أغفل رسمه بالبنان كما في المعيار عن المعقاني، بل قدم ابن رشد ما شهدت به العادة بشرطيه على شهادة الشهود بكتبه على الطوع في كثير من الأحكام (1) .

وقد نبهنا إلى أنه إذا تعارض الأصل والعرف قدم العرف على الأصل لأنه أقوى بحيث لو شهد لأحد المتخاصمين الأصل وشهد للآخر العرف كان المدعى عليه من شهد له العرف، لأن العرف أقوى من الأصل، وقد نقلنا عن الشيخ الوالد رحمه الله أنه لدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء، وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء (2) .

(1) حاشية المهدي الوزاني على تحفة الحكام: 1 /199

(2)

الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 44.

ص: 2477

ولقد استند القضاء في كثير من الأحكام والفتيا وفي كثير من المسائل طبقا لما يقتضيه العرف كالتقادير في الصغر والكبر والكثرة والقلة في الأقوال والأفعال في الصلاة وفي ثمن المثل في البيع ومهر المثل والكفء في النكاح، كما أسند على العرف في تعيين العروض في المؤونة والكسوة والمسكن في النفقات، واستند إليه في مقادير الحيض والطهر في الصلاة والعدد وأقصى أمد الحمل في النسبة واستند إليه في فهم الألفاظ في الأيمان وفي الوقف وفي الوصية وفي الطلاق (1) ، والرهن والإجارة والقراض والمساقاة وغيرها (2) .

وقد أورد ابن فرحون أمثلة عديدة روعي فيها العرف والعادة (3) من ذلك اختلاف الزوجين في متاع البيت، وهما في العصمة أو بعد طلاق أو وفاة وكان التداعي بين الورثة أو مات أحدهما وكان التداعي بينه وبين ورثة الآخر، وأن الحكم في ذلك يقضي للمرأة بما يعرف للنساء، وللرجال بما يعرف للرجال طبقًا للعرف المتبع، وكذلك إذا اختلف المتبايعان في قبض السلعة أو الثمن، فالأصل بقاء الثمن بيد المبتاع وبقاء المبيع بيد البائع ولا ينتقل ذلك إلا ببينة أو عرف كالسلع التي جرت العادة أن المشتري يدفع ثمنها قبل أن يبين بها كاللحم والخضر والغلال ونحوها فيحكم ذلك بالعرف والعادة.

ومن ذلك الحكم بمقتضيات الألفاظ، يقول البائع: بعتك هذه الأرض بكذا ولم يزد على هذا، فإن هذا اللفظ يتناول ما هو متصل بالأرض كالبناء والشجر، وهذا بحكم العرف ولفظ الشجر والدار يشمل الثوابت والرفوف والسلم المستمر والأشجار التي في الدار لأن العرف قاضي بهذا (4)

ومن الفروع التي كان حكمها مبنيًّا على شهادة العرف تمزيق رسم الدين أو قطع طرفه أو سطر بسملته، فإنه يدل عادة على براءة من الدين فلا يقيد المستظهر به شيئًا، ومن الفروع التي استند القضاء فيها للعادة أحداث الساقية التي تمر فيها الفضلات التي تصل إلى الخندق، فمن امتنع من الموافقة على إحداثها ممن تمر عليه أجبر عليه لأن العادات قضت بذلك، ومن الفروع المبنية على العادة القضاء بشهادة الحيازة على الملك وهذا كله يشهد بأن العرف دعامة من الدعائم التي ارتكزت عليها أحكام القضاة وفتاوى الفقهاء (5)

(1) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 52

(2)

شرح لامية الزقاق، لعمر الفاسي: ص: 300

(3)

التبصرة، لابن فرحون: 2 /67

(4)

تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، للقاضي ابن فرحون: 2 /60.

(5)

الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 46 – 52.

ص: 2478

ولقد سُئِل مالك عن النكاح يلزمه أهل المرأة هدية العرس وجل الناس تعمل به حتى إنه لتكون الخصومة، أترى أن يقضى به؟ قال: إذا كان ذلك قد عرف من شأنهم وهو عملهم لم أرَ أن يطرح ذلك عنهم إلا أن يتقدم فيه السلطان لأني أراه أمرًا قد جروا عليه (1)

وقد ذكر القرافي أن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب والأعراض والمبيعات ونحو ذلك، ولو تغيرت العادة في النقدين والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في العادة رددنا به المبيع، فإذا تغيرت تلك العادة وصار ذلك المكروه محبوبا لزيادة الثمن لم يرد به. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا اختلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا (2) ، وكذلك نقل الونشريسي الإجماع على أن الفتاوي تختلف باختلاف العوائد (3) .

قال القرافي وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تحدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين (4) .

وفي جواب لابن منظور ورد فيه أن أحكام الأقضية والفتاوى تتبع عوائد الأزمان وعرف أهلها جاء ذلك في تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس (5) ، ولقد نظم ذلك صاحب العمل الفاسي، فقال: واعتبر الأعراف في الفتوى وفي الحكم لكن بانتفائها نفي. وقد نقل السجلسماسي في شرحه أن العقباني أثبت كثيرًا من مسائل الفقه أن الحكم فيها جرى على مقصود أهل العرف ولو كانت الألفاظ على خلافها (6) .

(1) التبصرة: 2 /62.

(2)

الفروق للقرافي، الفرق الثامن والعشرين: 1 /223 ط بولاق

(3)

المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والإندلس والمغرب، لابن العباس أحمد الونشريسي: 8 /290

(4)

الفروق للقرافي: 1 /224.

(5)

تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس ط حجرية: 1 /48

(6)

شرح العمل الفاسي لأبي عبد الله السجلسماسي ط حجرية: 1 /62

ص: 2479

ذلك أن كلام الناس ينصرف إلى ما تعارفوه ولو خالف المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة حيث إن العرف قد نقل هذه الألفاظ من أصل معانيها اللغوية إلى هذه المعاني العرفية بحيث لا يخطر ببال المتكلم المعنى الحقيقي اللغوي لغلبة اللفظ في الاستعمال إلى الحقيقة العرفية بحيث لو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية لأدى إلى إلزام المتكلم في عقوده وإقراراته وأيمانه وطلاقه وسائر تصرفاته القولية إلى ما لم يعنه ولم يخطر بباله وإلى ما لا يفهمه الناس من كلامه ولهذا المعنى قرر الفقهاء قاعدة، فقالوا: الحقيقة تترك بدلالة العادة، وقالوا أيضًا يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالف لغة العرب والشارع، وقد نقل ابن عابدين عن القنية قال: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف (1) ، وجامع الفصولين مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف وفي فتاوي العلامة قاسم التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافقت لغة العرب ولغة التاريخ (2) ، ولقد طبق الفقهاء أحكامًا كثيرة منها مثلًا لو حلف المرء لا يجلس على بساط فجلس على الأرض، أو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء، أو لا يستضيء بسراج فاستضاء بالشمس، أو لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لم يحنث في كل ذلك. وإن سمى القرآن الأرض بساطًا إذ قال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (3)، وقال:{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (4) وقال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (5) .

فهذه الأسماء التي وردت في الكتاب وإن كانت هي الحقائق اللغوية، لكن غلب استعمالها في المحرف على المعاني المقصودة للمتكلم التي لا يخطر بباله حين أقسم لا يبيت تحت سقف أن السماء سقف أو أن الشمس سراج ولا الحيتان لحم، ولذا لم يلزم الناس الحنث بها وإن كانت ما أقسم يصدق عليها لغة، كذلك لو حلف الإنسان أن لا يضع قدمه في منزل فلان انصرفت يمينه إلى معنى مطلق الدخول الدار إذ هو المعنى العرفي الذي ينصرف إليه الذهن ويفهمه السامع فيحنث بدخوله ولو راكبًا ولو أدخل رجله من غير أن يدخل بدنه لا يحنث ومن هذا القبيل كذلك إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى وإطلاق الناس اللحم على غير لحم السمك فلو أقسم لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لم يحنث للعرف كذلك لو أقسم لا يركب دابة وكان عرفهم أنها لا تطلق إلا على الحمار خاصة كمصر فركب فرسًا لا يحنث، وهكذا يتعين حمل اللفظ تنزيل الكلام على ما جرى بين الناس وتحديد ما يترتب على تصرفاتهم القولية من حقوق وواجبات حسب المعاني العرفية، وإن لغة العامة في كل مكان هي من هذا القبيل فيتعين حمل كلامهم على ما تعارف بينهم وكذلك العرف العملي أو الفعلي، فإن الفعال العادية والمعاملات المدنية لها السلطان المطلق في فرض الإحكام وتقييد آثار العقود والالتزامات على ما جرى بينهم وتعارفه خاصتهم وعامتهم في كل ما لا يخالف نصا من نصوص الشريعة (6) بل هذا العرف العملي هو نفسه يعتبر دليلًا شرعيًّا – حيث لا دليل سواه – ومرجعًا للأحكام.

(1) رسالة نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين 2 /115

(2)

رسالة نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 5 /133

(3)

سورة نوح: الآية 19.

(4)

سورة نوح: الآية 16.

(5)

سورة النحل: الآية 14

(6)

المدخل للفقه العام: 2/ 837.

ص: 2480

والعرف العملي منه ما هو أفعال عادية شخصية ومنه ما كان معاملات مدنية وهو يثبت على أهله عاما كان أو خاصًا، فإن من ألف شيئًا وجرى عليه في حياته أصبح لما تعود عليه سلطان وتأثير في توجيه الأحكام التي تتصل بتلك الأفعال فمثلًا من وكل أحدا بشراء ثوب أو طعام فاشترى له ثوبًا مما لم يعتد لباسه كأن يكون لا يلبس إلا اللباس التقليدي فاشترى له فستانًا أو اشترى له لحم خنزير أو جمل وهو لم يعتد في حياته إلا أن يأكل لحم الضأن مثلًا، فإن هذا الشراء لا يسري على الموكل ولا يلزمه، بل يلتزمه الوكيل بخلاف ما إذا اشترى له ما كان معتاد لباسه ومعتاد طعامه فإنه يلزمه – ومن هذا القبيل نفقة الزوجة وهي تجب على زوجها وذلك بالقدر المتعارف المعتاد بين أمثالها وحسب حالهما.

ولا بد من مراعاة حال الغني والفقير والشرف والضعة، وليست حالة الوسط الذي يعيش فيه الأغنياء كحالة الوسط الذي يعيش فيه الفقراء، ولا عيشة الأشراف والأمراء كعيشة السوقة والضعفاء، ولهذا قال ابن العربي: إن المرأة الشريفة إذا امتنعت عن إرضاع ولدها فلا يلزمها ذلك نظرًا للعرف، قال ابن العربي (1) : وهو أمر كان في الجاهية في ذوي الحسب وجاء الإسلام عليه فلم يغيره وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه، فقال به: وإلى زماننا فحققناه شرعًا وفي المنتقى لو استأجر دابة ليحمل عليها إلى مكان يتعدى مكان الكراء وتجاوز مسافة الكراء، كأن يكتري دابة للركوب من مصر إلى برقة فيركبها إلى إفريقية، فهذا حكمه فيطول الإمساك وقربه مثل الزيادة على زمن الكراء إن ردها سالمة، فقد روى ابن حبيب عن مالك: أنه إذا لم يجاوز المد إلا باليسير الذي لا خيار لصاحبها فيه إذا سلمت فليس لصاحبها الإكراء ما زاد وإن زاد كثيرا فيه الأيام التي تتغير ومثلها سوقها من ربها إن ردها المعتدي سالمة على ما تقدم وإن عطبت في القليل أو الكثير فهو ضامن لها – إلى أن يقول، وأما التعدي في الحمل فعلى وجهين، أحدهما: الزيادة فيه من جنسه.

(1) أحكام القرآن، لابن العربي: 1 / 87

ص: 2481

والثاني: حمل غير ذلك الجنس، فما الزيادة فيه من جنسه ففي المدونة فيمن اكترى بعيرًا ليحمل عليه عشرة أقفزة، فحمل عليه أحد عشر قفيزًا فلا ضمان عليه في عطب البعير إذا كان الفقير يسيرا لا تعطب منه الدابة، فإن كانت الزيادة يعطب من مثلها فلصاحب الدابة الكراء وكراء الزيادة أو قيمة الدابة يوم التعدي دون الكراء فهو مخير في ذلك وإن كان لا يعطب من مثله تلك الزيادة فليس له إلا الكراء الأول وكراء ما تعدى فيه، وقال سحنون: إن زاد في الحل ولو رطلًا واحدًا ضمن. قال عبد الملك: والفرق بين هذا وبين الزيادة في المسافة أن مجاوزة المسافة تعد كله فلذلك ضمنها في قليله وكثيرة وزيادة الحمل إذا اجتمع فيه تعد وإذن، فإن كانت الزيادة يعطب من مثلها ضمن وإلا لم يضمن وأما إن حمل غير الجنس الذي اتفق معه فلا يخلو أن تكون مضرته كمضرة ما تكارى عليه أو أشد، فإن كانت مثل مضرته فلا ضمان عليه وأصل ذلك أن الحمل لا يتعين عند مالك إلا بجنس المضرة ولو اكترى رجل من حمال على حمل بعينه كان له أن يبدله بمثله مما مضرته مثل مضرته وليس له بدله بما هو أعظم مضرة منه، فالمراعى في ذلك ما يضغط بثقله جانبي الدابة ويضر بها، فإذا حمل ما هو أضر بها فعطبت الدابة فهو ضامن، وهذا في الأحمال، أما الراكب فقد يختلف حاله باختلاف أخلاق الناس مع تساوي أجسادهم فمنهم من فيه رفق وفيهم من فيه عنف، وقد قال مالك: لا يعجبني أن يكري الرجل دابة فيحمل عليها غيره، قال ابن القاسم: فإن حمل عليها من هو مثله في الثقل والحال والركوب لم يضمن وإن حمل عليها من هو أثقل منه أو غير مأمون فهو ضامن، قال ابن حبيب: ومعنى ذلك في الدابة معها صاحبها يتولى سوقها والحمل عليها والحط عنها فأما أن يسلمها إلى المكتري فله منعه من الكراء من غيره لاختلاف سوق الناس ورفقهم وحياطتهم وتضييعهم لها (1) .

ونستخلص من هذه الفروع الفقهية أنه ليس لحد الحق في أن يتجاوز حد المنفعة المتفق عليها الذي إن تجاوز اعتبر صرفا مضرا بغيره، ولذا إذا حصل منه ذلك كان عليه الضمان والمدارك في كل هذا مرجعه العرف والعادة وبما ذكرنا ندرك مدى تأثير العرف في الأمور العادية من أكل وشرب ولباس وركوب وانتفاع. وكيف أن العرف هو الذي يقيدها ويحدد التزاماتها وتخضع للعادة والعرف تصرفاتها وتجري الأحكام عند التنازع على وفق ما يقتضيه عرف كل بلد وعاداته.

(1) المنتقى، لأبي الوليد الباجي: 5 /264 – 267.

ص: 2482

أما عرف الناس في معاملاتهم المدنية، فلقد جاء في صحيح البخاري باب من إجراء الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، قال العيني: فيعتبر في عادة أهل كل بلد على ما بينهم من العرف، فإنه في البلاد المصرية الأرز يكال وفي البلاد الشامية يوزن لأن الرجوع إلى العرف جملة من القواعد الفقهية قال: وقوله: وسننهم عطف على ما يتعارفون بينهم أي على طريقتهم الثابتة على حسب مقاصدهم وعاداتهم المشهورة، قال: وحاصل كلام البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف والعادة، قال البخاري وقال شريح يعنى أبن الحارث الكندي القاضي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب للغزالين سنتكم بينكم ربحًا يعني عاداتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (1) .

وقد حمل الإمام السهيلي شرب النبي صلى الله عليه وسلم من إناء قوم دون استئذان في حديث الإسراء على العرف والعادة (2) ، حيث أن العرب في الجاهلية كان من عاداتهم والمعروف عندهم المطرد بينهم إباحة الرسل (اللبن) لابن السبيل فضلا عن شرب الماء حتى لو كسر أحد الزبناء إناء الشراب وأتلفه فلا يلزمه ضمان ما أتلف اعتمادا على العرف الجاري بين الناس حيث لم يتعمد تكسيره مع أن القاعدة من أتلف شيئًا ضمنه، ولقد جوز جماعة من الفقهاء أن يأكل الإنسان من ثمر البساتين المتروكة تحت الشجر بلا إذن صاحبها إذا كانت الثمرة مما يسرع إليها الفساد بناء على أن العرف قد جرى بذلك، ولقد قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع فيها يسرع إليه الفساد إذ بلغ الحد الذي يقطع في مثله كالتين والسفرجل والرطب ونحوها من الأطعمة الرطبة، وقالا: سواء أخذت من حرم أم لا لعدم قابلية الادخار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا قطع في ثمر ولا كثر)) ، أخرجه مالك في الموطأ، قال الباجي: ولا قطع في الثمر المعلق، رواه القاضي أبو محمد وروى ابن المواز ذلك ما كان في الحوائط والبساتين فأما من سرق من ثمرة نخلة في دار رجل ومنزله فهذا يقطع إاذا بلغت قيمتها على الرجاء والخوف ربع دينار، فجعل للدار تأثيرًا في حرز مثل هذا ويكون صاحب الدار ساكنًا معها (3)

(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 18 /16 ط المنيرية.

(2)

الروض الأنف، لأبي القاسم عبد الرحمن الخثعمي السهيلي ط الجمالية بمصر: 1 /246.

(3)

المنتقى لأبي الوليد الباجي: 7 / 182

ص: 2483

وذلك لأن هذه الأشياء لا تعد مالا عادة إذا لم تكن في حرز وخطرها على الناس قليل وهي في ذاتها تفاهة ولأنها معرضة للهلاك أيضا، أما ما كان في حرز أو كان مما يبقى من سنة إلى سنة فيدخر كالجوز واللوز والتمر اليابس ونحوها، فإذا بلغ قيمته الحد الذي يقطع فيه يقع القطع (1) وعند أبي يوسف يجب القطع فيما لا يحتمل الادخار لأنه منتفع بها حقيقة والانتفاع بها مباح شرعًا، فكانت مالًا فيقطع فيها كسائر الأموال (2) وما ذهب إليه أبو يوسف هو ما جرى به العرف اليوم لأن هذه الفواكه أصبحت من الأموال المهمة وليست من التفاهة في شيء كما كان عليه عرف الناس في الماضي.

وقد ذكرنا أن العوائد كثيرا ما تتغير بتغير الزمان والمكان على أن المذاهب الثلاث المالكية والشافعية والحنابلة ترى القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض عنه لا فرق بين الطعام والثياب والحيوان والأحجار وغيرها لعموم قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: الآية 38] . نعم ذلك إذا اجتمعت فيه شروط السرقة كأن يكون في حرز مثله (3) .

وهذا لا يمنع اتفاق العملاء على عدم القطع في الأكل من الثمرة المعلقة على الشجر أو الحنطة في سنبلها إذا لم يكن في رجز مما جرى به عرف الناس لأن الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد معلوم مقرر في الشرع، وإنما مرجعه إلى عرف الناس، وقد ذكر الشافعي أن حديث رافع (لا قطع في ثمر) خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها، فإذا أحرزت بالجدران أو الأسلاك الشائكة ونحوها كانت كغيرها، أن العرف والعادة ركن من أركان الشريعة عند مالك وأصحابه وبنوا على ذلك النيابة العرفية يلزم النائب والمنوب عنه في شراء شيء أو أداء خدمة وما إلى ذلك، وقد سئل أبو عبد الله النالي الغماري عن قوم عادتهم إذا نزل بهم ضيف استضافوه وقام اثنان أو ثلاثة من أهل القرية فاشتروا بهيمة وذبحوها وقدموا له الطعام تكريمًا له، فأجاب بأن الثمن يكون على جميع أهل القرية الحاضر والغائب، القوي والضعيف اعتبارًا لعرفهم وعادتهم. ومن هذا القبيل ما في الأرياف عند جز الضأن أن يجتمع أهل الحي لجزها بغير مقابل ويذبح لهم صاحب الماشية ويطعمهم، فهل يستحق أحدهم أجر؟ أفتى بعض مشائخنا بأنه لا يستحق مقابلًا لعمله ويعتبر منه ذلك تطوعًا عملًا بالعرف والعادة.

(1) المبسوط للسرخسي 9 /153

(2)

البدائع: 7 /69

(3)

بداية المجتهد للحفيد ابن رشد: 2 /441، المذهب: 2 /277 المغني، لابن قدامة: 8 /260

ص: 2484

وقد نقل المهدي الوزاني عن الفقيه ابن عرضون أن ابن أبي زيد القيرواني سئل عن رجل من قبيلة، اشترى فرسًا من ابن عمه هدية إلى رئيس القبيلة لينصرهم على من بغى عليهم وطلب البائع الثمن فأجابه المشتري بأنك تعلم أني ما اشتريته إلا على الجماعة، فقال البائع: ما بعته إلا منك وكان العرف عندهم أن ذلك يكون على جميع القبيلة فأجاب ابن أبي زيد إن كان العرف عندهم أن شراء مثل هذا على الجماعة وأن المتولي للشراء هو وكيل عرفًا فلا يلزمه غلا ما يلزمهم وإن لم يكن كذلك فالثمن على المتولي الشراء وكما أن الوكيل صراحة له الرجوع عليهم فكذلك الوكيل عرفا له الرجوع عليهم. ومن هذا القبيل إذا أجر كبير القرية غماما للصلاة والعادة أنه يعتبر وكيلا عن جميع أهل القرية فهو حين يتكلم يتكلم بلسان جميعهم إذ هو وكيلهم، فإنهم يطالبون بأداء حصتهم من أجرة الإمام أو المؤدب أو المعلم، فإن لم يكن لهم عادة بذلك فالأجرة على عاقدها. ولهذا نجد من المفتين من أفتى بعدم لزوم الإجارة لغير من عقدها وأفتى بعضهم بلزومها. والحق أن لا خلاف وإنما الخلاف في حال حيث إن المسألة تابعة للعرف والعادة فمن كانت عادتهم كذلك، لزمتهم الأجرة ووزعت عليهم، ومن لم تكن عادتهم كذلك لزمت الأجرة العاقد دون سواه. وفي حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق: تنبيه من الوكالة العرفية تصرف الزوج في مال زوجته حتى يثبت التعدي وتصرف الأخ في الريع المشترك بينه وبين إخواته وقبض خراجه وتصيير ملازم سبيله وعلاجه فيصدق في دفعه لزوجته وأخته ما تصرف لهما فيه كتصديق الوكيل، لكن قال ابن عبد السلام: بناني هنا لا يحمل بيع الزوج أوصل زوجته على الوكالة العرفية إلا بعد ثبوت جريان عرف بلدهم، بذلك باعتبار عرف الأقدمين وليس العرف يقاس في هذا الزمان على اعتبار الوكالة العرفية فلا يعمل بها ولا يحكم بمقتضاها (1) .

وفي المذهب الحنفي تثبت الولاية على المال بالنسبة للصغير القاصر للأب ثم لوصية، ثم للجد، ثم وصي الجد، ثم القاضي، ثم وصي القاضي الذي عينه وهي في المذهب المالكي والحنبلي تكون أولا للأب ثم لوصي الأب، ثم للحكام ثم لمن يقيمه وليا عنه ولا ولاية للجد وغيره من القرابة (2) ، ومع هذا فقد سئل أبو إسحاق إبراهيم بن هلال السجلسماسي عن الجد، فقال: إن الجد، فقال: إن الجد وصية بالعادة في البلاد السوسية والولاية عند الشافعية هي للأب أولا، ثم للجد أبي الأب ثم لوصييهما، ثم القاضي (3)

ومن مفعول العادة عقود التعاطي التي أقرها فيها الفقهاء في انعقاد المعاوضات المالية بالقبض والدفع دون أيجاب وقبول باللفظ، وقامت المعاطاة مقام الصيغة اللفظية بالعرف ويظهر ذلك في المغازات الكبيرة اليوم أين نجد أسعار البضائع مرسومة فوقها، فهي معروفة القيمة محددة الثمن فيدفع الزبائن الثمن وتأخذ البضاعة المشتراة بلا إيجاب ولا قبول.

(1) حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق: ص 178

(2)

الشرح الكبير للدردير: 3 /292 وغاية المنتهى: 2 /140

(3)

نهاية المحتاج 3 /356.

ص: 2485

ومن هذا القبيل أيضًا شراء الجرائد والمجلات الموجودة في دكاكين أصحابها، فإننا ندفع الثمن ونأخذ الجريدة من غير الكلام مع بائعها أكانت داخل الدكاكين أو خارجها، وكل ذلك مرجعه إلى العادات وما تعارفه الناس وجرى في حياتهم اليومية أن العهدة في كل ذلك مرجعها إلى العرف العام الذي يعتبر القبض بعد معرفة الثمن في قوة التعبير عن الإرادة بالإيجاب والقبول في عادة الناس ومنها أجرة السمسار وكتابة العقود ودفع معاليم النقل إذا سكت المتعاقدان فيه عن بيان ما يلتزم به كل منهما، فقد اعتبر الفقهاء في ذلك العرف ويلزمهما بما تعورف عليه، وهو في هذه الأمور جري العرف أن هذه المصاريف على المشتري ومن هذا القبيل ما جرى به العرف من أن حبل الدابة داخل ويستحقه المشتري بلا مقابل، وكذلك السلم المثبت في الدار ومفتاحها، وكذلك من اشتري سيارة فيدخل ما هو من مستتبعاتها كالرافع للعجلات والأدوات الضرورية التابعة لها، وكل هذا ونحوه بحكم العرف فيه، ومن هذا القبيل مسألة من أعطى ولده لصانع قصد تعليمه صنعة دون أن يشترط أحدهما أجرة على الآخر وبعد تعلم الصبي، أو طالب أحدهما الأجر من الآخر فإنه يرجع إلى ما جرى به العرف والعادة فإن شهد العرف للصانع حكم له بأجرة المثل لذلك التعليم وإن كانت الأجرة عادة للصبي لزم الصانع دفعها له، فإن جرى العرف أن لا أجرة لأحدهما على الآخر حتى ساعة تحصيل الصنعة وقص الشعر وإصلاحه فلا شيء لأحدهما على الآخر كما هو العمل في تونس.

ومما كان مرجعه إلى العرف تشوير الأب الغني ابنته بمثل نقد ابنته ذكر ابن غازي في شفاء الغليل عن فتوى الشيخ أبي محمد عبد الله العبدوسي أن الذي جرى به العمل في أغنياء الحاضرة إجبار الأب أن يجهز ابنته بمثل نقدها، فإذا نقدها الزوج عشرين جهزها الأب بأربعين؛ عشرين من نقدها وعشرين زيادة من عنده، وهذا إنما هو إذا فاتت بالدخول أما أن طلب الزوج هذا قبل الابتناء، فلا يجبر أب ويقال للزوج إما ترضى بأن يجهزها لك بنقدها خاصة وإلا فطلق ولا شيء عليك وبهذا القضاء وبه العمل (1) قال في العمليات العامة:

وعند فاس ذو الغنى يشور

بمثل نقد بنته ويجبر

أن وقع الدخول أما أن طلب

الزوج ذا قبل فلا يجبر الأب

وقيل للزوج تجهز إليك

بالنقد أو طلق ولا شيء عليك

(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد ص 32

ص: 2486

ومما انبنى على العرف وجرى به العمل وجوزه الفقهاء لذلك خلو الحوانيت وأجرة الدلال والحمال ونحوهما من غير تسمية الأجرة بناء على أن الأجير يستحق من الأجرة ما جرت به العادة ومثلها أيضا تقسيم الأشياء ومعرفة المكيلات والموزونات والمزروعات، فهي تتوقف على العرف والعادة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإذا بيعت سلعة على أساس وزنها بالأرطال انصرف ذلك الرطل إلى المتعارف في محل التعاقد أو التسليم وفاقًا لنية المتعاقدين، وقد يختلف الرطل من مكان إلى مكان.

ومن مثل ما اتضح فيه العرف ما في المدونة أن ما يباع في الأسواق كاللحم والفواكه والخضر أو على النقد كالصرف، وقد انقلب به المبتاع فادعى البائع عدم دفع الثمن فالقول قول المشتري أنه قد دفعه مع يمينه لشهادة العادة له بصدقة، ومن شهد له أصل أو عرف، فهو مدعى عليه. قال الإمام المازري: وهذا لم يختلف فيه لاتضاح العادة الدالة عليه وذكر ابن رشد أنه لاختلاف وأن القول هنا قول المبتاع (1) قال أبو إسحاق التونسي: ما كان من الأشياء عادتها أن تقبض قبل دفع السلعة أو معها معًا، فإذا قبض المشتري السلعة كان القول قوله مع يمينه أنه دفع الثمن لدعواه العادة، وقال ابن محرز: إن لم ينقلب به وكان قائما مع بائعه، فقد اختلف في ذلك، فروى أشهب عن مالك إن القول قول رب الطعام مع يمينه، وقال ابن القاسم: القول قول المبتاع، قال ابن القاسم: وذلك إذا كانت عادة الناس في ذلك الشيء أخذ ثمنه قبل قبضه أو معه قال ابن محرز فقد نبه ابن القاسم على المعنى الذي ينبغي أن يعتمد عليه في هذا الأصل وهو العادة، فمن ادعى المعتاد كان القول قوله مع يمينه في جميع الأشياء المشتراة على اختلافها من دور وبناء وطعام وغير ذلك (2) .

وفي العمليات العامة: وفي اختلاف بائع ومشتر في الدفع، فالثانى بتعجيل جرى.

قال ابن عبد السلام: يؤخذ أخذا ظاهرًا يقرب من النص أن المشتري هو المبتدئ بدفع الثمن من قول المدونة في كتاب العيوب من اشترى عبدا فللبائع منعه من قبضه حتى يدفع إليه الثمن وعلى القول المعمول به جرى صاحب المختصر، بل نقل الأجهوري عن ابن رشد أن هذا الحكم متفق عليه في المذهب ولفظه قال ابن رشد: من حق البائع أن لا يدفع ما باع حتى يقبض ثمنه لأن ذلك في يده كالرهن بالثمن، فمن حقه أن لا يدفع إليه ما باع منه ولا يزنه له، ولا يكيله له إن كان مكيلا أو موزونًا حتى يقبض ثمنه، وهذا أمر متفق عليه في المذهب مختلف فيه في غيره (3) .

(1) انظر تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني: ص 150

(2)

انظر تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني: ص 150.

(3)

فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي: ص 153

ص: 2487

ومن باع سلعة وادعى بعد طول أنه لم يقبض ثمنها وأنكر ذلك المبتاع، فالقول قوله بيمينه، وقد اختلف في حد الطول، قال الإمام المازري: الطول غير محدد ولا مقدر إلا بحسب ما تجري به العوائد في سائر الجهات.

ومن هذا أيضا اختلاف الكاري والمكتري في دفع الكراء، فالقول للمكتري: إذا أطال الأمد بعد انقضاء أمد الكراء حتى جاوز الحد الذي جرى العرف بتأخير الكراء إليه.

ومنه أيضا دعوى الزوج دفع الصداق إلى الزوجة فقد قال مالك وابن القاسم أن الزوج يصدق في دفع الصداق إذا اختلفا في ذلك بعد البناء ويحلف وبه الحكم. قال ابن الماجشون: إن كان قريبا وجاءت بلطخ حلف فإن طال فلا يمين عليه، وقال ابن وهب: عند قول ابن المواز إن قامت بحدثان الدخول فالقول قولها وإن طال الأمر فقوله وما ذكر من كون القول قول الزوج بعد البناء مقيد بقيود: منها أن يدعي الدفع قبل البناء وأن لا يقيد في رسم الصداق ما ينفي قبول قوله إلا ببينة، قال في المختصر: إن ادعى الدفع بعد البناء حلفت الزوجة أو من يلي أمرها وغرمه الزوج، قلت لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقال أيضًا: إن عقد في الصداق بعد ذكر النقد أنه لا يبريه منه البناء بها ولا طول المقام معها فإنه حينئذ لا يقبل قوله في الدفع كسائر الديون (1) ويعطف عليه ما قالوه من أن رب الدين إذا حضر قسمة التركة ولم يطالب بدينه وسكت من غير عذر فلا شيء له، والأصل في كل ما نقلنا وشبهه شهادة العرف والعادة، ونلاحظ من ذلك ما للعرف من قوة واعتبار في إنشاء الأحكام وابتنائها عليه وبوساطة العرف ندرك ما أولاه الفقهاء من عناية واعتبار للعرف حتى ألفوا كتبًا ورسائل فيما جرى به العرف والعمل حسب الأقطار المختلفة فمثلًا اختلف الفقهاء هل يجوز للقاضي الإفتاء في الخصومة فقيل بالجواز وهو قول ابن عبد الحكم وقيل بالمنع، وقد جرى العمل بفاس بجواز الإفتاء للحكام وجرى العمل بعدم جواز الإفتاء للحكام بتونس عملًا بقول التحفة، ومنع الإفتاء للحكام، قال صاحب العمليات إن العمل على قول ابن الحكم في إفتاء القضاة شائع أي في فاس إلا أنهم ربما تجنبوا ما كان يرجع إليهم التحكيم فيه ملاحظة للقول الآخر (2) .

(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي: ص 60

(2)

فتح الجليل: ص 404

ص: 2488

كذلك اختلف الفقهاء في الترشيد والتسفيه فالذي جرى به العمل عند الموثقين من أهل فاس أنه لا يكفي فيه عدلان اثنان، وعليه درج ابن عاصم وتحفته ونقل عن أصبغ الاجتزاء برجلين مع الفشو وهو ما عليه العمل بتونس من قبول عدلين في التسفيه والترشيد والزيادة أفضل من هذا القبيل ما اختلف فيه الفقهاء من الشفعة فيما لا ينقسم كالحمام، ففي التوضيح عند قول أبي الحاجب، وفي غير المنقسم كالحمام ونحوه قولان قال ما نصه: يعني وفي الشفعة فيما لا يقبل القسم إلا بضرر قولان وهما لمالك وابن عبد السلام وفي المدونة ما يدل على كل واحد منهما وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون وأصبغ، قال صاحب الذخيرة: وعدم الشفعة هو المشهور قال صاحب المعين وبه القضاء وقد جرى عمل قرطبة بثبوت الشفعة وأفتوا به لما جمعهم القاضي المنذر بن سعيد، حيث جاءه خط أمير المؤمنين عبد الرحمن أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاورهم فقالوا: مالك يرى في الحمام الشفعة فقضى منذر بذلك وحكم له بها، قال ابن حارث: وأخبرني من أثق به أنه جرى العمل عند الشيوخ بإيجاب الشفعة في نحو الحمام ومن الأبرحة والآبار والعيون والشجرة الواحدة وشبه ذلك وقد جرى العمل بتونس بعدم الشفعة فيما لم ينقسم. ومثل هذا الخلاف الخلاف في كراء الدار بين رجلين كرى أحدهما نصيبه منها، فهل لشريكه أن يشفع ذلك من يد المكتري لأن الكراء بيع منفعة أو ليس له ذلك فيه قولان جرى القضاء بكل منهما، قال القلشاني في شرح الرسالة: اختلف في الشفعة في كراء الربع فقال ابن القاسم والمغيرة وعبد الملك بسقوط الشفعة وبه الحكم الآن بإفريقية على ما سمعت، وقال أشهب ومطرف وأصبع: فيه الشفعة، وروي عن ابن القاسم أيضا، والقولان لمالك وبالثاني الحكم بالمغرب والأندلس فيما سمعته وفي نوازل ابن هلال ما نصه مسألة جرى العرف بالشفعة في الكراء وبه أفتى ابن علال والتازغدري رحمهما الله تعالى، وجعلا المكتري كالشريك في الأصل وخالفهما القاضي عبد الرحيم اليزنانسني واقتصر في التحفة على أن الحكم فيه ينفي الشفعة فقال: والخلف في أكرية الرباح والدور، والحكم بالامتناع وعندنا في تونس لا شفعة في الكراء مطلقًا.

ومما وقع فيه الخلاف بين الفقهاء دعاء الأئمة عقب الصلوات المكتوبة، قال ابن ناجي في آخر كتاب الصلاة نص مالك على كراهة الدعاء لأئمة المساجد والجماعة عقب الصلوات المكتوبات جهرًا للحاضرين خوفًا من الرياء، والعمل عندنا بأفريقية على جواز ذلك لأنها بدعة مستحسنة لورود الدعاء من حيث الجملة ومع جري العادة ينتفى الرياء، وفي المعيار في فصل المستحسن من البدع وغيرها ما نصه قال ابن عرفة: عمل من يقتدى به في العلم والدين من الأئمة على الدعاء بأثر الذكر الوارد أثر تمام الفريضة وما سمعت من ينكره إلا جاهل غير مقتدى به وفي نوازل الصلاة منه من الأمور التي هي كالمعلوم بالضرورة استمرار عمل الأئمة في جميع الأقطار على الدعاء إدبار الصلوات في مساجد الجماعات واستصحاب الحال حجة واجتماع الناس عليه في المشارق والمغارب منذ الأزمنة المتقادمة من غير نكير إلى هذه المدة من الأدلة على جوازه واستحسان أخذ به وتأكده عند علماء الملة. اهـ. باختصار

ص: 2489

قال ابن زرقون: ورد الخبر بمسح وجه باليدين عند انقضاء الدعاء واتصل به عمل الناس والعلماء وقال ابن رشد أنكر مالك مسح الوجه بالكفين لكونه لم يرد أثر وإنما أخذ من فعله عليه الصلاة والسلام للحديث الذي جاء عمر رضي الله عنه، قلت: بجواز مسح الوجه باليدين عند ختم الدعاء قال الأستاذ أبو سعيد بن لب وأبو عبد الله بن علاق وأبو القاسم بن سراج من متأخري أئمة غرناطة وابن عرفة والبرزلي والغبريني من أئمة تونس والسيد أبو يحيى الشريف وأبو الفضل العقباني من أئمة تلمسان وعليه مضى عمل أئمة فاس والمراد بالحديث الذي جاء عمر رضي الله عنه ما أخرجه الترمذي عنه ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه)) نقل ذلك المازري وغيره (1)

وبما ذكرنا ونقلنا ندرك ما للعرف من قوة واعتبار في إنشاء الأحكام وابتنائها وتأثير العرف على اختيارات الفقهاء واختلاف الأحكام باختلاف العادات حسب الجهات وهذا التأثير سيظل متجددًا ما دام في الناس أعراف وعادات وما يتجدد في الحياة باختلاف الحضارات وتبدل أساليب المعيشة وتطوره العلم وكثرة العمران ولا شك أن لدى العمال في مصانعهم أعرافًا ولدى المزارعين في حقولهم أعرافًا ولدى الحرفيين أعرافًا ولكل قطر أعرافًا، ولذا لا يمكن تجاهلها وغض النظر عنها، ولذا كان على الفقيه والمجتهد أن يكون متصلًا بالناس عارفًا بأحوالهم وتقاليدهم وعاداتهم حتى يكون حكمه صحيحًا وفتواه مقبولة وحتى يكون أميل إلى الرفق بالنس جاريًا على ما تقتضيه قواعد الشرع من رفع الحرج والتيسير وعدم التعسير.

(1) فتح الجليل الصمد وشرح التكميل والمعتمد للسلجسماسي: ص 289 و 547 و 548

ص: 2490

تغير الأحكام بتغير العادات والأحوال:

يقول العلامة ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر: يحتاج صاحب هذا الفن (أي التاريخ) إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبًا لأسباب كل حادث واقفا على أصول كل خبر وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحًا وإلا زيفة واستغنى عنه وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة، وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله الخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعي بالمهمل واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور، ومن الخلط الخفي في التاريخ الذهول من تبدل الأحوال في الأمم والأجيال تبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وفوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص، والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عبادة وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثم جاء بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابها وإلى ما يباينها أو يباعدها، ثم جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى، وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السلف، ثم درست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف الذين تقيدوا عزهم ومهدوا ملكهم، وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق والبربر بالمغرب، والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق، والبربر بالمغرب، والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل تابعة لعوائد سلطانه إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد وأن يفرعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدولة بغض المخالفة لعوائد الجيل الأول فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم وخرجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضًا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة، ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهى إلى المباينة بالجملة، فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة.

ص: 2491

والقياس والمحاكمة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيرًا من أخبار الماضين، ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينها كثيرًا فيقع في مهواة من الغلط، فمن هذا الباب ما نقله المؤرخون من أن التعليم في صدر الإسلام والدولتين لم يكن العلم صناعة إنما كان نقلًا لما سمع من الشارع وتعليمًا لما جهل من الدين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه وقتلوا واختصوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عامل الأنفة ويشهد لذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه مع وجود العرب يعلمونهم حدود الإسلام، وما جاء به من شرائع الدين بعث في ذلك أصحابه العشرة فمن بعدهم، فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولتها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها، فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف وانقلب حرفة للمعاش.

وقد بين الدكتور صبحي محمصاني قاعدة تغيير الأحكام بتغير العادات، أن هذه الحقيقة التي أدركها علماء الاجتماع والقانون كالعلامة منتسكنو وغيره، قد أدركها علماء الإسلام في القرن السابع الهجري الثالث عشر ميلادي، فلاحظها شهاب الدين القرافي وابن القيم الجوزية وأبو إسحاق الشاطبي، وقد قدمنا كلام ابن خلدون في ذلك، بل هي عند فقهاء المسلمين من البديهية التي لا جدال فيها ونوه بها في أواخر القرن التاسع عشر مفتي الديار المصرية الإمام عبده في مقاله اختلاف القوانين باختلاف الأمم (1) .

(1) فلسفة التشريع في الإسلام ص221.

ص: 2492

إننا ندرك مما نقلنا أن مصالح الناس تتغير وتتبدل حسب تبدل مظاهر المجتمع وتغيره كما أن أحكامها ومعاملاتها تابعة في تشريعها لمصالحها، فكان منطقيًّا أن تتبدل هذه الأحكام وفق هذه الأحكام وفق تبدل الزمان وتغير الأحوال، وهذه تتأثر بمظاهر المحيط والبيئة الاجتماعية. وأن كثيرًا من الفروع الفقهية ليختلف الحكم فيها باختلاف جلب المصلحة ودرء المفسدة وما يكون مصلحة في زمان قد يكون مفسدة في زمن آخر، وأن من الفقهاء من لم يقتصر في ترتيب الأحكام على خصوص المنصوص فإن لم يجد اجتهد وتأمل وفكر فيما هو أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء أكان يتعرف ذلك أقرب من نص معين وهو المسمى بالقياس أم الأقرب للمقاصد العامة للشريعة وذلك هو المصلحة وعلى رأس من أخذ بالمصلحة عمر بن الخطاب، فأفتى وأفتى معه كثير من الصحابة بالمصلحة في ذاتها كحكيم بقتل الجماعة بالواحد وكتضمين الصناع، فقد قال علي كرم الله وجهه: لا يصلح الناس إلا ذاك.

وكان عمر رضي الله عنه في إدارة شؤون الدولة يجتهد عن طريق المصلحة فيما لا نص فيه، وقد جاء كتابه إلى أبي موسى الأشعري (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة اعرف الأشياء والأمثال وقس الأمور عند ذلك)، وكان له نوعان من الشورى: الشورى الخاصة والشورى العامة وشوراه الخاصة تكون لذوي الرأي من علية الصحابة من المهاجرين والأنصار السابقين وهؤلاء يستشيرهم في أمور الدولة التي يحتاج إلى أوجه النظر المختلفة، سواء أكانت من صغرى أمور الدولة أم كانت من كبراها. وأما الشورى العامة فإنها تكون لأهل المدينة أجمعين وفي الأمور الخطيرة من أمور الدولة أو التي تقرر قاعدة عامة تسير في مستقبل الأمة على أنها من القرارات الثابتة فإذا جد أمر من هذا النوع يجمع أهل المدينة في المسجد الجامع وإذا ضاق بهم جمعهم خارج المدينة وعرض عليهم الأمر الخطير ويتناقشوا فيه، ومن ذلك استشارتهم في أرض سواد العراق فقد كان من رأي الغزاة قسمتها بينهم، وكان من رأي عمر عدم قسمتها وأن تترك في أيدي أهلها الذين كانت أيديهم عليها، وقد تناقشوا فيها يومين أو ثلاثة وانتهى الأمر إلى موافقة عمر عندما ساق لهم قوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: الآية 7] .

ص: 2493

وقد أبطل الإسلام حصره في الأغنياء يتداولونه بينهم ولا ينال أهل الحاجة نصيبًا منه إذ من مقاصد شريعتنا الغراء أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات والفيء واللقطات والركاز أو كان جزءًا معينًا مثل الزكاة والكفارات وتخميس المغانم والخراج والمواريث وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل، مثل القراض والمغارسة والمساقاة وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل الفيء والركاز وما ألقاه البحر (1) .

كان عمر يجمع أهل المدينة ويستشيرهم في الأمور، وكان سكان المدينة في هذا يشبهون سكان أثينا في عهد بركليس إذ كان كل شخص من أهل هذه المدينة له رأي في شؤون الدولة وإن الرأي الذي يكون في اجتماع ويوافق عليه المجتمعون يكون أقوى من الرأي الذي يكون نتيجة دراسة للموضوع من كل نواحيه وجوانبه مع تبادل أوجه النظر المختلفة، ولهذا كان الرأي الجماعي وهو الذي تسير عليه مقتضيات شؤون الدولة وجاء من بعد الصحابة والتابعين من اعتبر الرأي الجماعي إجماعًا وعده مصدرًا رابعًا حتى صارت المصادر عنده الكتاب والسنة والإجماع والرأي، ومما لا شك أن القصد من الأحكام إقامة العدل ودرء المفسدة وجلب المصلحة فيصدر الحكم على وفق ما يحقق تلك المصلحة أو يدرأ تلك المفسدة ويكون علاجًا ناجعًا وتدبيرًا حكيمًا لبيئة معينة في زمن معين، ثم بعد جيل، أو أجيال، وتغير الأحوال لا يبقى صالحًا، ولا محققا للغرض المنشود بل ربما يفضي إلى عكس المطلوب لتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق، ولقد انتبه المتأخرون إلى هذه الحقيقة، ولاحظوها في كثير من المسائل وأفتوا في كثير منها بعكس ما أفتى به الأوائل معللين مخالفتهم لأئمتهم والسابقين من فقهاء مذهبهم باختلاف الزمان وفساد الأخلاق، وهم في الواقع غير مخالفين لهم، موضحين بأنه لو استمر بهم الحال ورأوا ما رأى المتأخرون لقالوا بمثل ما قالوا ولعدلوا عن كثير من الأقوال التي كانوا قد أفتوا بها في قديم الزمان (2) ويعبرون عن مخالفتهم لمن قبلهم بأنه اختلاف في حال وهؤلاء مجتهدو التخريج المنتسبون وهم الذين اختاروا ما قرره أئمتهم بالنسبة لأصول الاستنباط وخالفوهم في الفروع وإن انتهوا إلى نتائج مشابهة في الجملة إلى ما وصل إليه أئمتهم وهم في الغالب ممن يكون لهم صحبة ملازمة ومن هؤلاء في المذهب الحنفي خالد بن يوسف السمتي وهلال والحسن بن زياد اللؤلؤي، وفي المذهب الشافعي المزني، وفي المذهب المالكي عبد الرحمن بن القاسم وابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب وغيرهم، ولم يخل عصر في القرون الأولى التي تلت عصر الأئمة من هذا الصنف الذي يتقيد بالمنهاج ولا يتقيد بالفروع كالطحاوي والكرخي وأبي بكر الأصم، فالكرخي مثلًا خالف أبا حنيفة في الأخذ بالكفاءة في الزواج على الصغار والطحاوي كان يتبع المنهج الحنفي وأحيانًا يختار من المذهب الشافعي (3) .

(1) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ص 170

(2)

المدخل الفقهي العام: 2 / 924

(3)

كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ط. دمشق ص 1380.

ص: 2494

ويلي هذه الطبقة طبقة المجتهدين في المذهب واجتهادهم يكون في استنباط أحكام المسائل التي لم يرد فيها عن إمام المذهب رأي فيها واجتهادهم لا يكون في المسائل المنصوص عليها في المذهب إلا في دائرة معينة وهي التي يكون استنباط السابقين فيها مبنيًّا على العرف، أو على ملاحظة أمور من أمور العصر لا وجه لها إلا عرف المتأخرين بحيث لو رأى السابقون ما يرى الحاضرون لرجعوا عما قالوا ولقالوا في هذه وأشباهه إنه اختلاف زمان لا اختلاف دليل وبرهان، وخلاصة القول: إن اجتهاد هؤلاء ينحصر في أمرين: أولهما: استخلاص القواعد التي كان يلتزمها الأئمة السابقون وجمع الضوابط الفقهية التي تتكون من علل الأقيسة التي استخرجها الأئمة. ثانيهما: استنباط الأحكام التي حررت الفقه المذهبي ووضعت أسس الترجيح والموازنة بين الآراء لتصحيح بعضها وتضعيف غيرها وهي التي ميزت الكيان الفقهي لكل مذهب، ويلي هذه الطبقة المجتهدون المرجحون الذين لا يستنبطون أحكام المسائل ولكن يرجحون بين الآراء المروية بوسائل الترجيح التي ضبطها لهم علماء الطبقة السابقة فيرجح هؤلاء بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل أو الصلاحية للتطبيق بموافقة أحوال العصر ونحو ذلك مما لا يعد استنباطًا جديدًا مستقلًا أو غير مستقل، وقد عد بعض الأصوليين هذه الطبقة والتي قبلها طبقة واحدة للفرق الدقيق بينهما، ولا يبعد أن نعدهما طبقة واحدة لأن الترجيح بين الآراء بمقتضى الأصول لا يقل وزنًا عن استنباط أحكام الفروع التي لم ترد فيها أحكام من الأئمة والنووي في مقدمة المجموع ذكرهما على أنهما طبقة واحدة وابن عابدين عدهما طبقتين (1) وجعل جملة الطبقات سبعة ذكرها في أول رسالته التي أسماها عقود رسم المفتي (2) .

وقد رأى الفقهاء أنه لا يصح وقف ما لا فائدة فيه أو مما لا منفعة منه فلا يصح وقف الكلب أو الخنزير والأسباع والبهائم وجوارح الطير التي لا تصلح للصيد وقد اشترط الحنفية أن يكون الموقوف مالًا متقومًا ومثله الوصية، فقد اشترطوا أن يكون متقومًا في عرف الشرع وأن يباح الانتفاع به شرعًا فلا تصح الوصية بنحو خمر وخنزير وكلب وسباع لا تصلح للصيد عند المالكية، وجازت الوصية عند الحنفية بالكلب المعلم والسباع التي تصلح للصيد لتقومها عندهم ولأنها مضمونة بالإتلاف ويجوز عندهم بيعها وهبتها وكذلك الشافعية والحنابلة تصح الوصية فيما نفعه مباح من غير المال ككلب صيد وكلب ماشية وكلب زرع وحرث ونحوها من السباع للصيد، لأن فيها نفعًا مباحًا وتقر اليد عليها (3) .

(1) رسالة رسم المفتي، لابن عابدين: 1 /11، وهي مجموعة في ثلاث وأربعين صحيفة من مجموعة رسائل ابن عابدين.

(2)

رسالة رسم المفتي، لابن عابدين: 1 /11، وهي مجموعة في ثلاث وأربعين صحيفة من مجموعة رسائل ابن عابدين. 1 /11و 12

(3)

نيل الأوطار، للشوكاني: 6 /62

ص: 2495

والمروي عن مالك رضي الله عنه أنه لا يرى اتخاذ الكلب لحراسة الدور ولما سئل مالك الصغير أعني عبد الله بن أبي زيد القيرواني عن شأن كلاب الحراسة أجاب بقوله لو أدرك مالك هذا الزمان لاتخذ أسدًا ضاريًا (1) ويؤخذ من ذلك تغير الأحكام التي لا نص فيها بتغير الأحوال والأزمان والناس فتدور الأحكام معها دورانها مع العلة وجودًا وعدمًا ولقد قال الإمام الحافظ ابن يوسف التميمي الصقلي لو أدرك الإمام وأصحابه مثل زماننا (وهو من أبناء القرن الخامس إذ توفي سنة 451هـ) هذا جعلوا الميراث لذوي الأرحام إذا انفردوا ولقالوا بالرد على ذوي السهام، وذوو الأرحام في اصطلاح الفرضيين هو كل قريب ليس صاحب فرض ولا عصبة كأولاد البنات وأولاد الأخوات وبنات الإخوة، والجد الرحمي وهو من يتصل إلى الميت بأم الجدة الرحمية، والخال والخالة ونحوهم من كل قريب ليس عصبة ولا صاحب فرض، واختلف الفقهاء في توريثهم على رأيين فأبو حنيفة وأحمد قالا بتوريثهم، وهو رأي عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم مستدلين بقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: الآية 75] ، فيشمل كل الأقرباء أكانوا ذوي فروض أم عصبات أم لا ولحديث البخاري ومسلم ((ابن أخت القوم منهم)) ولقوله ((من ترك مالا فلورثته وأنا وارثه أعقل منه (أي أدفع عنه الدية) وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه)) ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأعله البيهقي بالاضطراب (2) .

وذهب مالك والشافعي إلى عدم توريث ذوي الأرحام فإذا هلك هالك عن غير فرض ولا عصبة وله ذو رحم ردت التركة إلى بيت المال وهو رأي زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأخذ به الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن جرير الطبري واستدلوا بأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات ولم يذكر لذوي الأرحام شيئًا ولو كان لهم حق لبينه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . [سورة مريم: الآية 64] .

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى لكل ذي حق حقه)) [رواه الترمذي وغيره] . وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال: ((أخبرني جبريل أن لا شيء لهما)) رواه أبو داود في المراسيل وقيل في التوفيق بين هذا الحديث وما رواه المثبتون لذوي الرحم في الميراث أن نفي الميراث عن العمة والخالة كان قبل نزول آية الأنفال من قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: الآية 75] أو أن العمة والخالة ليس لهما فرض مقدر وأنهم لا يرثون مع العصبة ولا مع ذي فرض يرد عليه، فإن الرد على ذوي الفروض مقدم على توريث ذوي الأرحام ولكنهم يرثون مع من لا يرد عليه وهما الزوجان والرد هو دفع ما فضل لأنه زيادة في الأنصبة ونقص في السهام فيرد ما فضل عن فرض ذوي الفروض النسبية عليهم بقدر سهامهم ولا يرد على الزوجين وارد عند الفرضيين هو دفع ما فضل من أصحاب الفروض النسبية إليهم بقدر حقوقهم عند عدم العصبة وللعلماء في الرد رأيان فريق يرى عدم الرد وإنما يكون الباقي من التركة بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم ولا عاصب للهالك يكون الباقي لبيت المال وهو مذهب زيد بن ثابت وبه أخذ مالك والشافعي ودليلهم أن الله قد بين نصيب كل وارث بالنص فلا يجوز الزيادة عليه بغير دليل.

(1) حاشية المهدي الوزاني، ط حجرية: 20 /350

(2)

حاشية

ص: 2496

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا يستحق وارث أكثر من حقه)) ، ويرى جمهور من الصحابة والتابعين الرد على غير الزوجين وبه أخذ الحنفية والحنابلة، قال الغزالي والفتوى اليوم على الرد على غير الزوجين عند عدم المستحق لعدم بيت المال إذ الظلمة لا يصرفونه إلى مصرفه وهذا ما جعل ابن يونس يقول لو أدرك الإمام وأصحابه مثل زماننا هذا لجعلوا الميراث لذوي الأرحام إذا انفردوا ولقالوا بالرد على ذوي السهام (1)

لقد أجاد وأفاد ابن القيم الجوزية حين لاحظ أن تغير الفتوى واختلافها تتغير بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وذكر أن بسبب الجهل بهذه الحقيقة وقع غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يتنافى مع الشريعة التي هي في أعلى رتب المصالح موضحًا لذلك بتنزيل الشرط العرفي منزلة الشرط اللفظي كوجوب نقد البلد عند الإطلاق وكالسلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلا لا شتراط السلامة من العيوب عرفا منزلة اشتراطها لفظًا وكوجوب الوفاء للمسلم فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظًا بناء على الشرط العرفي وكدفع الثوب لمن يغسله أو يخيطه أو العجين لمن يخبزه أو اللحم لمن يطبخه أو الحب لمن يطحنه أو مشاعًا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك فإنه يجب له أجرة المثل وإن لم يشترط معه ذلك لفظًا عند جمهور العلماء، بل حتى عند المنكرين لتنزيل الشرط العرفي منزلة الشرط اللفظي وكل هذا لأن المؤمنين والمؤمنات وبعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا جاز لأحدهم ضم اللفظة ورد الآبق وحفظ الضالة وله أن يحسب ما أنفقه عليها وينزل إنفاقه منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه ولو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك ولضاعت مصالح الناس ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا وتعطلت حقوق كثيرة وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء (2) وهذا الذي لاحظه ابن القيم، قد أدركه كثير من الأئمة قبله فهذا مالك بن أنس يقول تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا وكلمة عمر بن عبد العزيز في ذلك مشهورة تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ولما كانت الأحكام بالنسبة للمصالح كتعلق المسببات بأسبابها والمعلولات بعلاتها تعين أن تتغير الأحكام عند تغيراتها ومعلوم أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا فبوجودها يوجد وبانعدامها ينتهي، قال ابن عابدين: إن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة. إن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه، ثم كسر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره، فقال محمد باعتباره وأفتى به المتأخرون ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن الضمان على المباشر دون المتسبب ولكن أفتوا بضمانه زجرًا لفساد الزمان ومنه تضمين الأجير المشترك وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف وعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة ومنعهم القاضي أن يقضي بعلمه وإفتاؤهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن وافاها المعجل لفساد الزمان وعدم سماع قوله أنه استثنى بعد الحلف بطلاقها إلا ببينة مع أنه خلاف ظاهر الرواية وعللوه بفساد الزمن وعدم تصديقها بعد الدخول مما بانها لم تقبض ما اشترط لها تعجيله من المهر مع أنها منكرة للقبض وقاعدة المذهب أن القول للمنكر لكنها في العادة لا تسلم نفسها قبل قبضه وكذا قالوا في قوله كل حل علي حرام يقع به الطلاق للعرف عند مشائخ بلخ ولا يقع إلا بالبينة عند محمد وقال: أما عرف بلادنا يريدون به تحريم المرأة فيحمل عليه.

(1) حاشية ابن الخياط على شرح الخرشي لفرئض خليل، ط عاطف بمصر ص 51

(2)

إعلان الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3/ 1

ص: 2497

نقله العلامة قاسم ونقل عن مختارات النوازل أن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف إلى أن قال بعد أن عدد فروعًا كثيرًا فهذه كلها قد تغيرت أحكامها لتغير الزمان إما للضرورة وإما للعرف وإما لقرائن الأحوال وكل ذلك غير خارج عن المذهب، لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها ولو حدث هذا التغير في زمانه لم ينص على خلافها، فللمفتي اتباع عرفه الحادث في الألفاظ العرفية وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمانه وتغير عرفه إلى عرف آخر اقتداء بهم بشرط أن يكون له من الرأي والنظر الصحيح والمعرفة بقواعد الشرع ما يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه وبين غيره وقد شرط المتقدمون في المفتي الاجتهاد وهو مفقود فلا أقل من أن يكون عارفًا المسائل بشروطها وقيودها ومن معرفة عرف زمانه وأحوال أهله والتخرج في ذلك على أستاذ ماهر، وفي الغنيمة ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف وهو صريح في أن المفتي لا يفتي بخلاف عرف أهل زمانه (1)

وفي الأشباه في البزازية من أن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة علق عليه ابن عابدين في رد المحتار في باب القسامة فيما لو ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة وشهد اثنان منهم عليه لم تقبل عنده وقالا: تقبل إلى آخر (2) . ونقل السيد الحموي عن العلامة المقدسي أنه قال: توقفت عن الفتوى بقول الإمام ومنعت من إشاعته لما يترتب عليه من الضرر العام، فإن من عرفه من المتمردين يتجاسر على قتل النفس في المحلات الخالية من غير أهلها معتمدًا على عدم قبول شهادتهم عليه، قال ابن عابدين: ينبغي الفتوى على قولهما لا سيما والأحكام تختلف باختلاف الأيام، وفي باب ما يوجب القضاء والكفارة من كتاب الصوم عند قول الهداية: ولو أكل لحمًا بين أسنانه لم يفطر وإن كان كثيرًا يفطر وقال زفر: يفطر في الوجهين، فإذا كان ما بين الأسنان دون الحمصة فلا يفطر لأنه تابع لريقه وكذلك مضغ مثل سمسمة من خارج فمه حتى تلاشت ولم يجد لها طعمًا في حلقه فلا يفطر لعدم ابتلاع شيء، أما المالكية فترى أن وصول أي شيء إلى المعدة سواء أكان مائعًا أم غيره من فم أو أنف أو أذن أو عين أو إذا كان وصوله عمدًا أو خطأً أو سهوًا أو غلبه فإنه يفطر (3) .

وعند الشافعية لا يفطر بابتلاع ما بقي من الطعام بين الأسنان من غير قصد إن عجز عن تمييزه ومجه لأنه معذور فيه غير مقصر فإن قدر على تمييزه ومجه وابتلعه ولو قليلًا دون الحمصة، فإنه يفطر (4) .

(1) شرح منظومة رسم المفتي للعلامة ابن عابدين. مجموع رسائل ابن عابدين: 1 /44و 45

(2)

الدر المختار: 5 /618، ط1

(3)

القوانين الفقهية، لابن جزي، ص 123. الشرح الكبير مع الدسوفي: 1 /523- 534

(4)

المهذب: 1 /183-185

ص: 2498

قال ابن عابدين والتحقيق أن المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس وقد عرف أن الكفارة تفتقر إلى كمال جناية فينظر إلى صاحب الواقعة إن كان ممن يعاف طبعه ذلك أخذًا بقول أبي يوسف وإن كان ممن لا أثر لذلك عنده أخذ بقول زفر ويعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف وأحوال الناس وما هو الأرفق بالناس وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه ولا يخلو الوجود من تمييز هذا حقيقة لا ظنًّا بنفسه ويرجع من لم يميز إلى من يميز لبراءة ذمته، قال ابن عابدين: فهذا كله صريح فيما قلنا من العمل بالعرف ما لم يخالف الشريعة كالمكسب والربا ونحو ذلك فلا بد للمفتي وللقاضي بل وللمجتهد من معرفة أحوال الناس وقد قالوا: ومن جهل بأهل زمانه فهو جاهل وقد قالوا: يفتى بقول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لكون جرّب الوقائع وعرف أحوال الناس وفي البحر كان محمد يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملاتهم وما يدبرونها فيما بينهم (1) .

ومما يوضح جليا اختلاف الحكم باختلاف الزمان لاختلاف الأحوال ما قرره الفقهاء الأوائل من عدم جواز أخذ الأجرة على الطاعات كقراءة القرآن والأذان والإمامة ونحوها من الطاعات فيؤذن الإنسان محتسبًا ولا يأخذ على الأذان والإقامة أجرًا باتفاق العلماء ولا يجوز أخذ الأجرة على ذلك عند الحنفية والحنابلة على ظاهر المذهب لأنه استئجار على الطاعة وقربة لفاعله والإنسان في تحصيل الطاعة عامل لنفسه فلا تجوز الإجارة عليه كالإمامة وغيرها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص ((واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على آذانه أجرًا)) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن وأجاز المالكية والشافعية في الأصح الاستئجار على الآذان لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الأجر عليه كسائر الأعمال.

(1) رسم المفتي لابن عابدين من مجموع رسائله، 1 /45و 46

ص: 2499

وأفتى متأخرو الحنفية وغيرهم بجواز أخذ الأجرة على القربات الدينية ضمانًا لتحصيلها بسبب انقطاع المكافآت المخصصة لأهل العلم من بيت المال كما أن الحنابلة قالوا: إن لم يوجد متطوع بالآذان والإقامة أعطى من يقوم بها من مال الفيء المعد للمصالح العامة وكذلك كرهوا أخذ أجرة على الغسل والتكفين والحمل والدفن وأجاز الحنفية أخذ الأجر على تلك الأمور، فالحمال والحفار كالعامل إن وجد غيره وإلا فإن لم يوجد غيره فلا يجوز أخذ الأجرة لتعينه عليه حيث صار واجبًا عينيًّا ولا يجوز أخذ الأجرة على الطاعة ولكن أجاز المتأخرون الأجرة على الطاعات للضرورة جاء في رسالة نشر العرف: اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص وهي الفصل الأولى وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه. بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام ولذا ترى مشائخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذا من قواعد مذهبه فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان كذلك مع أن هذا مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك، ومن ذلك قول الإمامين بعد الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمانه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان. ومن ذلك تحقق الإكراه من غير سلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإمام بناءً على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه، ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره فقال محمد رحمه الله باعتباره، وأفتى به المتأخرون لذلك، ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن لا ضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسدين، ومنها تضمين الأجير المشترك وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف وبعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة (1) .

(1) نشر العرف ببناء بعض الأحكام على العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /125- وما بعدها.

ص: 2500

ومن هذا القبيل أيضا ما قرره الفقهاء من عدم جواز استناد القاضي لعلمه في أحكامه بحيث يعتبر علمه بالقضية المتنازع فيها مستندًا لقضائه ويغني المدعي من إثبات البينة ويكون علمه مغنيًا عنها وكافيًا، وهذا التغير في الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى والفساد في القضاة فيما بعد، ولهذا أجمع المتأخرون بأنه لا يجوز له أن يستند إلى علمه في القضايا بل قضاؤه يجب أن يستند إلى وسائل الإثبات ولو كان مطلعًا على القضية عالمًا بجزئياتها، نعم للقاضي أن يستند إلى علمه من حيث عدالة الشهود وجرحهم فيحكم بشهادة من علم عدالته دون من يعلم جرحه وأما فيما عداه فقد شدد مالك استناده لعلمه وحكمه به ووجه استناده إلى علمه في العدل أو التجريح هو أنه لو لم يجز له ذلك إلا ببينة لاحتاج إلى تعديل البينة وتعديل معدلهم إلى ما لا نهاية له فاضطر إلى الحكم بعلمه في ذلك. قاله ابن يونس وحكاه عن ابن الماجشون، وقد وجهه بعضهم بشهرة حالة العدالة وحالة الجرح عند الناس فقل ما ينفرد القاضي بعلمهم ذلك دون غيره فترتفع المظنة عنه وتبعد التهمة عنه لاشتراك الناس معه في معرفة ما حكم به في حق المعدل أو المجرح من كلتا الحالتين، قاله الإمام المازري، وينبغي أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود ليحكم بشهادتهم لا بعمله ولا يجوز للقاضي أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء بأن أقر بين يديه طائعا (1) .

ودليل المالكية على الجواز ما أخرجه الستة وأحمد عن أم سلمة من قوله صلى الله عليه وسلم ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخية شيئًا فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من النار)) فدل الحديث على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي: ((شاهداك أو يمينك ليس لك منه إلا ذلك)) ، رواه الشيخان وأحمد عن الأشعث بن قيس.

وقضت الحنفية في قضاء القاضي بعلم نفسه بالمعاينة أو بسماع الإقرار أو بشهادة الأحوال فإن قضي بعلم حدث له في زمن القضاء وفي مكانه بالحقوق المدنية كالإقرار بمال الرجل، أو بالحقوق الشخصية كطلاق رجل لامرأته أو في بعض الجرائم كقصف وقتل إنسان جاز قضاؤه ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في الحدود الخالصة لوجه الله عز وجل وإلا أن في السرقة يقضي بالمال لا بالقطع لأنه يحتاط في الحدود مالا يحتاط في غيرها وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم نفسه.

(1) الاتفاق والإحكام في شرح تحفة الحكام لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي: 1 /29- 30

ص: 2501

ثانيا: أن يقضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء أو بعد أن قلده، ولكن قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه فهذا لا يجوز أن يستند إلى علمه عند أبي حنيفة أصلا وعند صاحبيه يجوز فيما سوى الحدود الخالصة لله عز وجل قياسًا على جواز قضائه فيما علمه زمن القضاء، ورد هذا القياس بالفرق بين الحالتين ذلك أن العلم المستفاد في زمن القضاء علم في وقت يكون القاضي فيه مكلفًا بالقضاء فأشبه البينة القائمة فيه، أما العلم الحاصل في غير زمن القضاء فلا يصلح لأنه ليس في معنى البينة فلم يجز القضاء به لأن البينة المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في ولايته، أما ما يعلمه قبل ولايته فهو بمنزلة ما يسمعه من الشهود قبل ولايته، وهو لا قيمة له فأبو حنيفة يرى أن ما كان من حقوق الله كالحدود الخالصة له، لا يحكم القاضي فيها بعلمه لن حقوقه سبحانه مبنية على المسامحة والمساهلة أما حقوق الناس مما علمه القاضي قبل ولايته لا يحكم به وما علمه في ولايته حكم به (1) .

والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية والمفتى به عدم جواز استناد القاضي في قضائه لعلمه مطلقًا في هذا الزمان لفساد قضاة الزمان (2)

أما الشافعية، فالأظهر عندهم أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثنائها في محل ولايته أو غيرها سواء أكان في الواقعة بينه أم لا إلا في حدود الله تعالى وعلى هذا فيجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في الأموال وفي القصاص وحد القذف على الأظهر لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان فقضاؤه بما يفيد القطع وهو عمله أولى، أما الحدود الخاصة لله تعالى كالزنا والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات فلا يقضي بعلمه فيها، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ولأنه يندب سترها لكن إن اعترف أحد بموجب الحد ومجلس الحكم قضى فيه بعلمه (3) لقوله صلى الله عليه وسلم:((واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) (4) وفي قصة العسيف (أى الأجير) الذي زنى بامرأة.

وعند الحنابلة ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها، قال ابن قدامة: وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن، وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك، وهو قول أبي يوسف وأبي ثور والقول الثاني للشافعي واختيار المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينا من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال لها:((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) وهو حكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن، فما تحققه وقطع به كان أولى ولاية بحكم تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسًا عليه والظاهر من مذهب الحنابلة أن القاضي لا يستند إلى علمه في حكمه على أحد المتخاصمين لما ورد في الحديث السابق من قوله:((ولعل بعضكم أن يكون ألحن من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه)) فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم ولقوله صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي: ((شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك)) ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما أنت شاهدي فقال إن شئتما شهدت ولم أحكم ولا أشهد ونحن وإن قلنا خلاف المذاهب الأربعة في استناد القاضي لعلمه في أحكامه، فقد نقلنا عن ابن عابدين اتفاق الفقهاء على عدم جواز استناد القاضي لعلمه في أحكامه معللًا ذلك بتغير الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى والفساد في القضاة فيما بعد، ولهذا أجمع المتأخرون على عدم جواز استناده لعلمه، فإن أراد أن يشهد بما في علمه فعليه أن يتخلى عن القضاء في القضية التي يعلمها (5) .

(1) المبسوط للسرخسي: 16 /93؛ البدائع: 7 /7؛ مختصر الطحاوي: ص 332

(2)

الدر المختار ورد المحتار: 4 /369

(3)

مغني المحتاج: 4 / 398

(4)

أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

(5)

المغني، لابن قدامة: 9 /18 و 19

ص: 2502

وكم من حكم كان مستنده على أحوال الناس وأخلاقهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتبدلت الأحوال بعد ذلك وتغيرت وفسدت الأخلاق خلال الحكم النبوي بحكم يتماشى وغرض الشارع في تحقيق جلب المصالح ودرء المفاسد وصيانة الحقوق وهذا مما سلكه الصحابة الكرام بعد عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك ما رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل هل يلتقطها من وجدها لتعريفها وردها على صاحبها حين يظهر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التقاطها، وقال لمن سأل عنها:((مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد المال وتأكل الشجر حتى يجدها ربها)) ، والحذاء الخف والسقاء الجوف، وسأله عن الشاة فقال خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، وقد رجح الحنابلة أن كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع وورود الماء لا يجوز التقاطه ولا التعرض له سواء كان لكبر حجمه كالإبل والخيل والبقر أو لطيرانه كالطيور كلها أو لسرعته كالظباء والصيود أو بغابة كالكلاب والفهود وجاء عن عمر رضي الله عنه من أخذ ضالة فهو ضال أي مخطئ، وبهذا قال الشافعي والأوزاعي وأبو عبيد وقال مالك والليث في ضالة الإبل من وجدها في القرى عرفها ومن وجدها في الصحراء لا يقربها ورواه المزني عن الشافعي وكان الزهري يقول من وجد بدنة فليعرفها، فإن لم يجد صاحبها فلينجزها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة وقال أبو حنيفة ولفظ يباح التقاطها لأنها لقطة أشبهت الغنم والبقر كالشاة عند مالك وهو ملحق بالإبل عند جماعة.

وقد ظل حكم ضالة الإبل وتركها وعدم التقاطها إلى آخر عهد عمر بن الخطاب فلما جاء عهد عثمان بن عفان أمر رضي الله عنه بالتقاطها وبيعها على خلاف ما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ضالة الإبل وقال عثمان: فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها قال الباجي في المنتقى: فلما كان في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ولم يؤمن عليهما لما كثر في المسلمين من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكثر تعديهم عليها أباحوا أخذها لمن التقطها ورفعها إليهم ولم يروا ردها إلى موضعها، وقد كان عمر بن الخطاب أمر ثابت بن الضحاك بتعريفها ثم أباح له ردها إلى موضعها.

ص: 2503

قال الباجي: وإنما اختلفت الأحكام في ذلك لاختلاف الأحوال، وقد قال مالك فيمن وجد بعير: فليأتِ به الإمام يبيعه يجعل ثمنه في بيت المال قال أشهب: إذا كان الإمام عدلا ومعنى ذلك أنه أمن عيها من التعدي فيها فيتركها في موضعها أفضل لأنه يؤمن عليها ضياعها من غير هذا الوجه، ويستغني عن الانفاق عليها والتمون لها وقصد صاحبها إلى ذلك الموضع وتتبع أثرها منه أيسر عليه من طلبها في الآفاق البعيدة، لأنه لا يدري من آواها قريب الدار وبعيدها، فإن خاف عليها متعديًا يتلف عينها؛ كأن أخذها ورفعها إلى الإمام ينظر فيها لصاحبها أفضل له وأمن عليه، والله أعلم وأحكم. وهذا معنى ما روي عن عمر بن عبد العزيز يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (1) فهذا وإن خالف أمر الرسول في الظاهر فهو موافق لمقصوده إذ لو بقي العمل على ما كان عليه في عهد الرسول لأدى ذلك إلى عكس مقصد الشارع وهو صيانة الأموال وحفظها من الهلاك والذوبان.

من هذا القبيل أيضًا نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة سننه، فقد ثبت عنه ((من كتب عني غير القرآن فليمحه)) واستمر الأمر بعدم كتابة الأحاديث بين الصحابة والتابعين يتناقلون السنة النبوية حفظًا وتلقينًا ودام ذلك إلى آخر القرن الأول من الهجرة وفي مطلع القرن الثاني انصرف العلماء إلى تدوين السنة النبوية لأنهم خافوا ضياعها بموت حفاظها وأدركوا أن سبب نهيه عليه السلام عن كتابة الأحاديث إنما هو خشية وقوع اللبس والاختلاط بين القرآن والسنة، فلما زال موجب هذا الاختلاط لم يبقَ مانع من كتابة الحديث، بل صار من الواجب تدوينه لحفظ السنة النبوية، ولقد نقلنا عن ابن عابدين أنه لا بد للحاكم من وفقه في أحكام الحوادث الكلية وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس حتى يميز بين الصادق والكاذب وبين المحق والمبطل وحتى يطابق بين هذا وذاك، كما أن المفتي لا بد له من معرفة عرف الناس وعاداتهم ومن معرفة الزمان وأهله ومعرفة ما إذا كان العرف عاما أو خاصًا حتى إن من جهل ذلك ولم يكن عالما بأحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومقتضيات ألفاظهم فهو جاهل (2) . ولهذا المعنى اشترط فقهاء المالكية أن يكون القاضي بلديا حيث الذي يعرف أحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومعاني من ألفاظهم في اصطلاحهم وعاداتهم قال الإمام محمد بن أحمد ميارة فيما يشترط في القضاء: تنبيه زاد ابن الحاجب في الشروط المستحبة كونه غنيًا لا دين عليه بلديًّا معروف النسب غير محدود، حليمًا مستشيرًا لا يبالي لومة لائم، سليمًا من بطانة السوء غير زائد في الدهاء.

(1) المنتقى. شرح موطأ الإمام مالك، لأبي الوليد الباجي 6 /139، 140

(2)

نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /128

ص: 2504

قال ابن عبد السلام والظاهر الاكتفاء بالغنى عن عدم الدين واستحب كونه بلديًّا ليعرف الناس والشهود، والمقبولين من الشهود وغيرهم (1) فمعرفة عوائد القوم وعاداتهم يعين القاضي على أن يوفق إلى طرق الصواب. وقد أجريت الصدقات والأوقاف من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه منها صدقة عمر الذي أشار بها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك صدقة أبي طلحة الأنصاري فإنها كانت بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك صدقة عثمان ببئر رومة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين)) فاشتراها عثمان رضي الله عنه وتصدق بها على المسلمين كذلك تصدق سعد بن عبادة بمخراف له عن أمه توفيت، فكانت هذه الصدقات أوقافًا ينتفع المسلمون بثمرتها على تفصيل شروطها فلا شبهة وإن مقاصد الشريعة إكثار هذه العقود، فلذا تعجب مالك رضي الله عنه من القاضي شريح في منفعة التحبيس وقال لما أخبر بمقالة شريح:(رحم الله شريحًا تكلم ببلاده ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم وهذه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حوائط وينبغى للمرء أن لا يتكلم إلا بما أحاط به خبرًا (2)، وفي شرح الزقاقية قيل لابن عبد السلام التونسي: إن هؤلاء القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم فأجاب: أنا أعرف العوائد وأمشيها (3) ولهذا قال الصنهاجي في مواهب الخلاف: ينبغى للقاضي أن يكون عارفًا بعوائد أهل البلد الذي ولي به ليجزي الناس على عوائدهم وأعرافهم المنزلة منزلة الشرط المدخول عليه صريحًا (4) ، ولا شك أن الحكمة في معرفة أحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم تعين كثيرًا القاضي إلى بلوغ الهدف والصواب والأحكام بين أهل الخصام خصوصًا فيما لا نص فيه على أن القاضي بمعرفته لعادات وتقاليد القوم يتضح له ويميز بين المدعى عليه فينكب عن الخطأ في تكليف أحد المتخاصمين بغير ما عينه الشارع له، فإن المدعى عليه من عضده أصل أو عرف وأنه إن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه (5) قال القرافي في الفرق الستين والمائة، وقال مالك في المدونة إذا اختلف الزوجان قضي للمرأة بما هو شأن النساء وللرجال بما هو شأن الرجال وما يصلح لهما قضي به للرجل لأن البيت بيته في مجرى العادة وهو تحت يده فيقدم لأجل اليد ووافق مالكًا أبو حنيفة والفقهاء السبعة رضي الله عنهم أجمعين، وقال الشافعي: لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة كسائر المدعين وقياسًا على الصباغ والعطار إذا تداعيا آلة العطر أو الصبغ فإنه لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة وإن شهدت العادة بأن الآلة للعطار وآلة الصبغ للصباغ فكذلك ههنا، قال ابن يونس: إذا فرعنا على مذهب مالك يحلف من قضى له، وقال سحنون ما عرف لأحدهما لا يحلف، وقال ابن القاسم: ما كان شأن الرجال وشأن النساء قسم بينهما بعد يمينهما لاشتراكهما في اليد وما ولي الرجل شراءه من متاع البيت وشهدت له البينة أخذه بعد يمينه ما اشتراه إلا له وكذلك المرأة، فإن اختلفا في البيت نفسه فهو للرجل لأنه ملكه في غالب العادة ولأن يده عليه، قال ابن يونس: الذي يختص بالرجل نحو العمامة فالقول قوله فيه بغير يمين إلا أن تدعي المرأة إرثه فيحلف، قال ابن حبيب: ولا يكفي أحدهما أن يقول هذا لي لأنه متاع البيت حتى يقول: هذا ملكي قال عبد الحق: وتهذيب الطالب لو تنازعا في رداء، فقال: هو لها إلا الكتاب بأن قال: اشتريته، فقال: اصبغ له بقدر كتانة ولها بقدر عملها لأنه لو ادعاه صدق (6)

(1) الإتقان والإحكام في شرح تحفة الأحكام، لميارة: 1 /13

(2)

مقاصد الشريعة الإسلامية، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور: ص 189، 190

(3)

شرح الزقاقية، لعمر الفاسي: ص 248

(4)

مواهب الخلاق على شرح التاودي، للامية الرقاق، للصنهاجي: 2 /243

(5)

الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، لشيخ الإسلام محمد العزيز جعيط: ص 57

(6)

الفروق للقرافي، الفرق بين المتداعين شيئا لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة وبين قاعدة المتداعين من الزوجين: 3/ 188، ط بولاق.

ص: 2505

والعرف إذا تغير تغير الحكم بتغيره في كل ما كان مرجعه للعرف، فقد قال القرافي: إذا جاءك رجل من غير إقليمك لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أيا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضي (1) ، وقد ذكر في الأحكام أن الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب مالك والشافعي وغيرهما المترتبة على العوائد والعرف اللذين كانا صالحين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام، إذا تغيرت تلك العوائد وصارت تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولًا فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في الكتب ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة، أو يقال: نحن مقلدون ومالنا شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة من المجتهدين، قال القرافي: فالجواب أن جري هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس ذلك تجديدًا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير اجتهاد، ألا ترى أنهم أجمعوا على أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معينًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عينًا من انتقلت العادة إليه وألغينا الأول لانتقال العادة عنه، وكذلك الإطلاق في الوصايا والأيمان وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد وكذلك الدعاوي إذا كان القول قول من ادعى شيئًا لأنه العادة ثم تغيرت العادة لم يبقَ القول قول مدعيه، بل انعكس الحال فيه ولا يشترط فيه تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم ولم تعتبر عادة البلد الذي كنا فيه وكذلك إذا قدم أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلا بعادة بلده.

تعارض العرف مع غيره من الأدلة:

لا يخلو الأمر من أن يعارض العرف نصًا من كتاب أو سنة أو أن يعارض دليلًا آخر من قياس واستحسان ومصلحة مرسلة والنص لا يخلو حالة من أن يكون خاصا أو عامًا، فإذا كان النص خاصًّا وكان العرف بخلافة فلا اعتداد لهذا العرف ولا اعتبار به، وقد كانت كثيرًا من العادات المتعارفة عند العرب قد أبطلها الشرع بورود النصوص بخلافها لذا أن من المتفق عليه أنه مهما كان العرف مخالفا للنص الوارد من الشرع عملنا بالنص وتركنا العرف المخالف. ذلك أن النص أقوى من العرف ولا يترك الأقوى بالأضعف، كما قال السرخسي في مبسوطه (2) ، وقد بسطنا فيه القول في ما تقدم ونقلنا كلام الإمام الشاطبي في ذلك موضحين أنه لو كنا نعتد بالعرف مع وجود النص من الكتاب والسنة لنقضنا الشريعة ولعطلنا العمل بها ولم يبق لها معنى كما قاله الشاطبي (3) .

(1) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص 68؛ والتبصرة، لابن فرحون: 2 /69

(2)

المبسوط: 12 /196

(3)

الموافقات للشاطبي: 2 /283

ص: 2506

فالعرف إذن لا يعمل به إلا في الحدود التي تركها الشرع للمكلفين في ميادين الأعمال والالتزامات دون الحالة التي تولى الشارع فيها بنفسه تحديد الأحكام فيها على سبيل الإلزام فلا اعتبار للعرف في مخالفته للنص، إلا أن النص الوارد إذا كان صدوره مبنيًا على العرف ومعللًا به، فإن هذا النص يكون قد لاحظ عرف الناس فيدور حنيئذ حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله (1) مثاله الحديث المروي عن عبادة بن الصامت: الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والبر بالبر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، والشعير بالشعير مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، رواه مسلم لقد اتفق العملاء على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة بالدخن لأنهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي جنس واحد، واتفق الفقهاء على أن علة الذهب والفضة واحدة وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما فقيل: إن العلة في الذهب والفضة كونه موزون جنس وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي فيجرى لا ربا في كل مكيل أو موزون من جنسه مطعومًا كان أو غير مطعوم كالحبوب والنورة والقطن والصوف والكتان والحناء والحديد والنحاس ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن فيجوز بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل لأن العلة المساواة والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس، لأن الكيل والوزن يسوى بينهما صورة والجنس يسوى بينهما معنى، فكانا علة ولأنا وجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة، فإنه جائز إذا تساووا في الكيل وقيل: إن العلة في الأثمان الثمنية وفيما عداها الطعمية فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها وهو قول الشافعي، فالعلة الطعم والجنس الشرط والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبًا فيختص بالذهب والفضة، ولما روى معمر بن عبد الله ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل)) رواه مسلم، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال فيقتضى التعليل بهما ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلافها في الموزونات لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسا (2) .

(1) المدخل الفقهي العام: 2 /888

(2)

المغني، لابن قدامة:4 / 1 وما بعدها

ص: 2507

وعند مالك العلة هي مجموع الاقتياد والادخار فهذا هو علة المنع في الربوي، وهذا هو القدر المشترك بين الأنواع الأربعة الأخيرة المناسب للتحريم، وقد نبه صلى الله عليه وسلم بذكرها ليبقى للعلماء مجال في الاجتهاد ويكون داعيا لبحثهم الذي هو من أعظم القرب فجاء في الحديث ((لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيد)) ولقد نبه صلى الله عليه وسلم بذكرها ونص على البر الذي هو قوت اليسر والشعير الذي هو قوت العسر لينبه بهما على الوسط كالأرز والدخن والذرة والسلت وذكر التمر لينبه به على المقتات المدخر الذي فيه ضرب من التفكه، كالزبيب والعسل والسكر وذكر الملح لينبه به على مصلح الأقوات، وإنما كان مجموع الاقتياد والادخار علة منع ربا التفاضل لأن ما اتصف به شرف مناسب أن لا يبدل كثيره بقليله الاقتياد والادخار علة منع ربا التفاضل لأن ما اتصف به شرف مناسب أن لا يبدل كثيرة بقليله صونًا للشرف عن الغبن وجاز التفاضل في الجنسين لمكان الحاجة في تحصيل المفقود وامتنع النساء في الطعام مطلقًا إظهارًا لشرفه على غيره وللمقتات منه شرف على غيره لعظم مصلحته فيزيد فيه شرط التماثل وهذا أيضًا سبب تحريم الربا في النقدين لأنهما رؤوس الأموال وقيم المتلفات فشرفا بذلك عن الغير وبهذا اتضح أن مسلك علة الربا المناسبة، وهي أن يكون في محل الحكم وصف يناسب ذلك الحكم وصف يناسب ذلك الحكم أي يتوقع من ترتيب الحكم عليه حصول مصلحة أو درء مفسدة فيكون اتحاد الجنس في ربا الفضل شرطًا في اعتبار العلة لا جزءا لها لعزوه عن المناسبة، ثم إن القدر المعهود في الشرع بكيل أو وزن المعتبر في الموزون وفي المكيل هو ما كان عليه عرف المسلمين في صدر الإسلام وذلك لما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) كما في جامع الأصول (1) .

وإن كان أبو يوسف رحمه الله تعالى يرى أن المقياس المعتبر في الأصناف الربوية هو المقياس العرفي الحاضر وكلامه جلي لأن المكيال والميزان مما يختلف باختلاف العرف وهو يتبدل بتدبل الزمان والمكان كما نص على ذلك الأستاذ الزرقاء (2) وربا الفضل يختص بالمقدرات المثيلة من مكيل أو موزون فقط، لا مزروع ولا معدود فليس في ذلك ربا، أما الأموال القيمية كأفراد الحيوانات والأراضي والدور والأشجار فلا يجرى فيها ربا الفضل لأنها ليست من المقدرات التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار معين فيجوز إعطاء الكثير منها في مقابلة القليل من جنسه فيجوز بيع غنمة بغنمتين لأن ربا الفضل زيادة أحد المتجانسين على الآخر في المقدار والكمية والقيمية ليست من المقدرات (3) .

(1) جامع الأصول: 1 /371

(2)

المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء: ص 514

(3)

الدر المختار: 4 /185

ص: 2508

وقد روى أبو داود والترمذي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدًا بعبدين)) ، قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح وبناء على ما نقلنا فما كان كان وزنيًّا كالذهب والفضة، فالمعتبر فيه الوزن وما كان كيليًّا كالحنطة والشعير والملح والتمر، فالمعتبر فيه الكيل وهذا الحكم يقوم على أساس وجوب التساوي في الكميات المبدلة في الجنس الواحد ولا خلاف بين العلماء في أن التساوي يعتبر شرعًا بالمقياس العرفي في كل صنف، فما كان وزنيًّا عرفًا كالزبيب والسمن يجب تساوي الكميات فيه بالوزن وما كان كيليًّا يجب فيه التساوى بالكيل وإذا تبدل العرف في مقياس شيء وأصبح كليليًا مثلًا بعدما كان وزنيًّا أو أصبح وزنيًّا بعدما كان كيليًّا ككثير من الأشياء التي نتعامل بها في هذا الزمان فيتبدل المقياس الربوي فيه تبعًا للعرف وقد ورد النص في الأصناف الستة فهل يقتصر على ما ورد به النص وهو ما ذهب إليه أبو يوسف وما ذكر في الحديث إنما ذكر فيها ما كان مقياسًا متعارفًا على عهد الرسول بحيث لو كان العرف فيها على مقياس آخر لورد النص معتبرًا به.

ومن النصوص التي اعتبرها بعضهم مبنية على العرف ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها)) . أخرجه مسلم وأحمد وأرباب السنن عن ابن عباس وعن أبي هريرة رضي الله عنه، كما في البخاري وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن)) ، قالوا: يا رسول الله: كيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) وقد ذهب الحنفية إلى أن الأمر للوجوب فيجب على أبي البكر البالغة استئذانها في التزويج، فإذا زوجها من غير إذنها كان الزواج موقوفًا على إذنها، أما البكر غير البالغة فلا إرادة معتبرة لها، فلا يجب استئذانها إجماعًا وإلى وجوب الاستئذان ذهب الأوزاعي والثوري وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم ويؤيد ما ذهبوا ليه ما رواه ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أن الأمر هنا أمر ندب وإرشاد وأنه يجوز للأب أن يزوجها بغير استئذان والذي صرف الأمر عندهم عن الوجوب هو أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس فرق في الحكم بين الثيب والبكر فجعل الثيب أحق بنفسها ما اقتضى نفي ذلك عن البكر فيكون أحق بها منها، وعلى كل فقد اعتبر سكوت البكر إذنًا في تزويجها من رجل معين وبمهر معين، فكان سكوتها توكيلا وهو مبني على العرف والمعروف فيها من الخجل عن إظهار رغبتها في الزواج عند استنفار وليها لها في العادة قاضية بأن السكوت علامة الرضا.

ص: 2509

فإذا ما تغيرت هذه العادة كما في هذا الزمان حيث أصبحت الفتاة لا تتحرج من إعلان رغبتها وأصبح لا فرق بين البكر وبين الثيب فهل عندئذ لا يكفي السكوت بل لا بد من صريح اللفظ وإبداء الرأي وقد مال إلى هذا بعض المجددين اعتبارًا لما عليه بنات اليوم وبالأخص اللاتي تخلقن بأخلاق الأجنبيات من الأوروبيات من أبناء المدن وعندي أن هذا ليس من باب تبدل العادات وإنما هو من فساد الأخلاق وانحلالها بدليل أن الأغلبية الساحقة من فتيات القرى والمداشر لم يتغيرن، وإنما هي فئة قليلة خرجت عن عادات بلادها وتقاليدها وانصهرت وتطبعت بأخلاق الأوروبيات وانحرافها، وإن أعظم مسؤول في هذا الانحلال هم الأولياء الذين لم يرعوا بناتهم ولم يوجهوهن توجيهًا إسلاميًّا يتماشى والفطرة البشرية، فالأسرة تتحمل القسط الأوفر من ذلك، ثم التوجيه المدرسي الذي لم يعر وزنًا للتربية الدينية الإسلامية وإلا فإن البكر في الأسر المحافظة الملتزمة مازالت محتشمة لا تجرؤ على معاكسة أبيها ومخالفة ما وافق هو عليه، لأنها تعلم علم اليقين أن الأب الصالح لا يختار لابنته إلا ما فيه صلاحها وسعادة مستقبلها. نعم من الآباء من لا خلاق لهم يجرون وراء المادة، فيدفعون بناتهن قربانًا لشهواتهم ونهمهم وحبهم للدرهم والدينار فجعلت غشاوة على قلوبهم حتى لا يدركوا إلا مصالحهم الخاصة وإن ذهبت بناتهم فداء، ولذا جعل الشرع الحق لمثل هؤلاء أن يعترضن على آبائهن عن سوء اختيارهم ولو أحسنت الآباء تربية الأبناء وقاموا بواجبهم نحوهم كما أمرت الشريعة لما انقلبت الأوضاع وفسدت الأخلاق وانحلت القيم، ولو فتحنا هذا الباب على مصراعيه من غير إمعان وتثبت لما يعتبر من تغير العادات وما لا يعتبر شرعًا لأدى ذلك إلى هدم الشريعة بالتأويل والتعليل لنصوصها وفي ذلك من الخطر على هذه الشريعة ما فيه وعلينا أن نتثبت فيما تدعو إليه الضرورة وتقتضيه تغير الأحوال بتغير الزمان وتغير المصالح والمفاسد أما العادات الجارية على حسب الهوى والتابعة للذات والشهوات فلو فتح هذا الباب لاستباح الناس كثيرًا من المحرمات واستحسنوا كثيرًا من الرذائل الموبقات، وذلك بدعوى الحداثة والتجدد، وقد جاء في حديث البخاري الذي أخرجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذارعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم)) ، قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى قال: ((فمن)) ، فأعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات في الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم وهذا واقع ملموس مشاهد كل يوم في غالب البلدان الإسلامية في ملوكها وعلمائها وقضاتها.

معارضة العرف للنص العام:

ذكرنا فيما تقدم معارضة العرف للنص الخاص وهنا سنبحث معارضته للنص العام وهذه المعارضة إما أن تكون مقارنة لورود النص أو متأخرة عنه، فإذا ورد النص مقارنا للعرف لو كان العرف سابقًا عن النص، فإن كان العرف لفظيًّا فقد اتفق الفقهاء على اعتباره ومعنى ذلك أن يحمل اللفظ الوارد على المعنى العرفي أي على المعنى المتبادر لأذهان الناس عملًا بقاعدة يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ما لم تقم قرينة توجب حمله على المعنى المجازي ذلك أن العرف اللفظي يصير المعنى المتعارف حقيقة عرفية ولا شك أن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية والنقل العرفي يجعل اللفظ حقيقة عرفية بالوضع وغلبة الاستعمال والحقيقة العرفية هي التي انتقلت عن مسامها اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول، قال فخر الدين الرازي في المحصول: وذلك إما بتخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها وضعت لغة لكل ما يدب كالإنسان فخصصها العرف العام بما له حافر وإما باشتهار المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة كإضافتهم الحرمة إلى الخمر، وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب أو بالاصطلاح الخاص، وهي الحقيقة العرفية الخاصة وهي ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كاصطلاح الفقهاء على القلب والنقض والجمع والفرق (1) وكاصطلاح النحاة على الرفع والنصب والجر والحقيقة الشرعية وهي اللفظ المستعمل المستفاد من الشارع وضعها كالصلاة للأفعال المخصوصة والزكاة للقدر المخرج والحرث والماشية والمال (2) .

(1) القلب نقله النظار من معناه اللغوي إلى ربط خلاف ما قاله المستبدل بعلته للإلحاق بأصله ونقلوا النقض من معناه اللغوي إلى إبداء الوصف المدعى علته بدون الحكم، ونقلوا الجمع من معناه اللغوي للجمع بين الفرع والأصل في حكم بعلة مشتركة ونقلوا الفرق من معناه اللغوي لجعل خصوصية الأصل علة الحكم وجعل خصوصية الفرع مانعًا، انظر حاشية بخيت بأسفل شرح المنهاج 2 /151

(2)

الإسنوي على المنهاج للبيضاوي بحاشية الشيخ بخيت: 2 /150 شرح القرافي على المحصول خط: 1 /337

ص: 2510

قال القرافي: وفي نفاس الأصول في شرح المحصول الوضع له ثلاثة معان: جعل اللفظ دليلًا على المعنى كتسمية الولد زيدًا ومنه تسمية اللغات ووضعها، ويقال: الوضع على غلبة الاستعمال للفظ في المعنى حتى يصير أشهر من غيره وهذا هو وضع الحقائق الثلاث الشرعية كالصلاة للفعل المخصوص والعرفية العامة كالدابة للحمار والعرفية الخاصة كالجوهر والعرض عند المتكلمين، ويقال: الوضع على مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي سمع منهم مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي يسمع منهم مرة واحدة التجوز لذلك النوع من المجاز، ولم يسموا مطلق الاستعمال وضعًا إلا في هذا الوضع (1) .

وقد ذكر القرافي في الفرق بين العرف القولي يقضي به على الألفاظ ويخصصها وبين العرف الفعلي لا يقضي به على الألفاظ ولا يخصصها وبين أن العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة وهو قسمان الأول: في المفردات نحو الدابة للحمار والغائط للنجور والراوية للمزادة ونحو ذلك، وثانيهما: في المركبات وهو أدقها على الفهم وأبعدها عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبه مع غيره وله مثل أحدها نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [سورة النساء: الآية 23] .

وكقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [سورة المائدة: الآية 3] .

فإن التحريم والتحليل إنما تحسن إضافتها لغة للأفعال، دون الأعيان فذات الميتة لا يمكن في العرف أن يقال هي حرام، فيما هي ذات بل فعل يتعلق بها وهو المناسب لها كالأكل للميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات والبنات ومن ذكر معهن ومن هذا الوادي قوله صلى الله عليه وسلم ((ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)) ، والأعراض والأموال لا تحرم، بل أفعال تضاف إليها فيكون التقدير ألا وإن سفك دمائكم وأكل أموالكم وثلب أعراضكم عليكم حرام وعلى هذا المنوال جميع ما يرد من الأحكام كان أصله أن يضاف إلى الأفعال، فإذا ركب مع الذوات في العرف وما بقي يستعمل في العرف إلا مع الذوات فصار هذا التركيب الخاص وهو تركيب الحكم مع الذوات موضوعًا في العرف للتعبير به عن تحريم الأفعال المضافة لتلك الذوات وليس كل الأفعال، بل فعل خاص مناسب لتلك الذوات. ثانيها أفعال ليست بأحكام كقولهم في العرف أكلت رأسًا وأكل رأسًا فلا يكادون ينطقون بلفظ الأكل كيف كان، بل لا تصرف إلا لرؤوس الأغنام دون جميع الرؤوس بخلاف رأيت رأسًا، فإنه يحتمل جميع الرؤوس ومن هذا القبيل ما جرى في مصر من مثل قتل زيد عمرًا فهو في اللغة موضوع لإذهاب الروح وهو في مصر ينصرف عرفًا للضرب خاصة، فيقولون: قتله الأمير بالمقارع قتلًا جيدًا، ولا يريدون إلا ضربه فهو من باب المنقولات العرفية وهي الطارئة على اللغة ومن هذا الباب قولهم فلان يعصر الخمر وهي لا تعصر، بل صار هذا التركيب موضوعًا لعصر العنب.

(1) نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي، خط:1 /340

ص: 2511

ومقتضى اللغة أن لا يصح هذا الكلام إلا بمضاف محذوف تقديره فلان يعصر عنب الخرم، لكن أهل العرف لا يقصدون هذا المضاف بل يعبرون بهذا التركيب عن عنصر العنب كما يعبرون بتحريم الميتة عن تحريم أكلها، فهذا ونحوه مجاز في التركيب بالنسبة للغة حقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص بالعرف والعادة، ومن هذا الباب طحن دقيقًا وقتل قتيلًا لأن المقتول لا يقتل والمطحون لا يطحن، إذ تحصيل الحاصل من المحال ولكنه كلام صحيح في العرف والعادة، وهؤلاء لا يعرجون على هذه المضافات ولا ببالهم يخطر هذه المقدرات، بل صار هذا اللفظ المركب موضوعا لقتل الحي وطحن القمح، وهذا هو ما يعبر عنه بالحقائق العرفية في المفردات والمركبات وبهذا يفرق بين المجاز في المفرد والمركب، وبين الحقيقة العرفية فيهما فكل لفظ مفرد انتقل في العرف لغير مسماه وصار يفهم منه غير مسماه بغير قرينة، فهو حقيقة عرفية وكل لفظ أسند لغير من هو له من غير تأويل فهو منقول عرفي من المركبات والنقل العرفي مقدم على موضوع اللغة لأنه ناسخ للغة والناسخ يقدم على المنسوخ وهذا معنى قولنا إن الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية.

أما العرف الفعلي فمعناه أن يوضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه كلفظ الثوب صادق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر، وأهل العرف إنما يستعملون من الثياب الثلاثة الأول دون الأخريين، فهذا عرف فعلي كذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر وغير ذلك غير أن أهل العرف إنما يستعملونه في الأخير من أغذيتهم دون الأولين فوقوع الفعل في نوع دون نوع لا يخل بوضع اللفظ للجنس كله فإن ترك مسمى لفظ ولم يباشر لا يخل بوضع اللفظ له فلفظ الياقوت وضع لحجر بخصوصه، فإذا لم تباشره فإن ذلك لا يخل بوضع لفظ الياقوت (1) .

وإذا أدركنا الفرق بين العرف اللفظي والعرف العملي، أدركنا تأثير العرف اللفظي على المعاني وكيف أنه مقدم في الاستعمال على الحقائق اللغوية وعليه فألفاظ البيع والشراء والعقود كالإجارة والمساقاة والمغارسة ونحوها والصلاة والصيام وغيرها من العادات وعدة المرأة في الطلاق أو الوفاة ونحوها، فهذه كلها تحمل على المعاني العرفية والشرعية عند ورود النص بها، وإن اختلفت عن معانيها الوضعية في أصل اللغة، أما العرف العملي إذا ورد النص مخالفًا له فقد اختلف فيه هل يخصص به النص العام أم لا؟ وقد قال الشيخ عبد الله الشنقيطي في كتاب نشر العقود على مراقي السعود أن نصوص الشريعة لا يخصصها من العوائد إلا ما كان مقارنًا لها في الوجود عند النطق بها، أما الطارئة بعدها فلا تخصصها وإليه الإشارة بقوله.

(1) الفروق، للقرافي الثامن والعشرين: 1 /217

ص: 2512

والعرف حيث قارن الخطاب (1) وهذا لا خلاف فيه بينهم في العرف اللفظي، أما العرف العملي فقد اختلف فيه الجماعة فقال بعضهم: لا يخصص عموم النصوص ولا يقيد مطلقاتها، وذهب جمهور المحققين إلى أن العرف العملي القائم عند ورود النص يخصص النص العام ويقيد المطلق خلافًا لما ذهب إليه القرافي من أن العرف العملي لا يصلح للتخصيص ولا للتقييد وقد تبعه في ذلك الونشريسي حيث ذكر أن العادة الفعلية لا تخصص العام (2) .

وقد علق ابن الشاط قول القرافي، وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع على أن العرف الفعلي لا يؤثر بخلاف العرف القولي، قال القرافي: ورأيت المازري في شرح البرهان حاول الإجماع في ذلك ونقل عن بعض الناس خلافًا في ذلك ونقل مثلًا عنه، وفي ذلك نظر فالظاهر حصول الإجماع فيه ولم أرَ أحدًا جزم بحصول الخلاف بل رأى كلامًا لبعض الناس أوجب شكًا وترددًا، وهو محتمل للتأويل فلا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل المشار إليها، ولقد وضح القرافي لما ذهب إليه من الفرق بين العرف القولي والعرف الفعلي بمسائل الأولى: إذا فرضنا أحدًا أعجميًّا يتكلم بالعجمة، وهو يعرف العربية، غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبًا ولا يأكل خبزًا وكان حلفه بألفاظ العربية التي لم تجرِ هودته باستعمالها وكانت عادته في غذائيه لا يأكل إلا خبز الشعير، ولا يلبس إلا ثياب القطن، فإنا نحنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله، سواء كان من عادته في فعله أم لا، وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت عادته استعمال اللغة العربية لكان طول أيامه يقول أكلت خبزًا وائتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا النطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ للغة، فلا يحنث بغير خبز الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في اللفظ اللغوي عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد قال ابن الشاط: لا نسلم له تحنيثه بل لقائل أن يقول اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن مقيد لمطلق لفظه ويكون حينئذٍ من قبيل بساط الحال فإن الأيمان إنما تعتبر بالنية، ثم ببساط الحال، فإذا عدما حينئذ يعتبر العرف، ثم اللغة أن عدم العرف وزاد القرافي في إقامة الحجة على أن العرف العملي لا يخصص ولا يقيد، وردها ابن الشاط بأن ذلك غير مسلم لقاعدة أن الاقتصار على بعض مسمى اللفظ في الاستعمال الفعلي من جنس البساط وذكر القرافي في المسألة الرابعة حمل اليمين على العرف ثم على النية، ثم على البساط قال ابن الشاط: وفيه نظر لأنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أو لا يترتب، فإن لم يترتب عليها حكم، فالمعتبر النية، ثم السبب أو البساط، ثم العرف، ثم اللغة، وإن ترتب عليها حكم المعتبر، فالمعتبر العرف ثم اللغة لا غير.

(1) نشر البنود على مراتب السعود: 2 /46

(2)

المنهج الفائق، والمنهل الرائق، والمغني اللائق بآداب الموثق، وأحكام الوثائق، ط. حجرة

ص: 2513

معارضة العرف الخاص للنص العام:

إذا كان هناك عرف خاص بجماعة دون جماعة أو بمكان دون مكان كعرف الصناع والتجار وبعض البلدان أو في بعض الصناعات، فالمعتمد أن هذا العرف لا يعتد به فلا يخصص النص الوارد ولو كان قائمًا عند ورود النص ذلك أنه إذا كان عرف بعض البلاد يقتضي التخصيص لذلك النص فعدمه لدى بقية الأماكن أو التجار والصناع لا يقتضيه ولا شك أن التخصيص لا يثبت بالشك.

هل يكون العرف العملي أي الفعلي مخصصا؟ اختلفت المالكية في ذلك فجمهور المحققين منهم ذهبوا إلى أن العرف العملي القائم وقت ورود النص يخصص النص العام ويقيد النص المطلق خلافًا لما ذهب إليه القرافي من أن العرف الفعلي العملي لا يصلح للتخصيص والتقييد، وقد نقلنا كلامه آنفًا (1) فلقد صرح القاضي أوب عبد الله المقري في قواعده بأن العادة كالشرط عند مالك تقيد المطلق وتخصص العام كما رد أبو عبد الله محمد بن غازي على القرافي فيما ذهب إليه موضحًا أن مسائل المدونة وغيرها دالة على تخصيص العام بالفعلي كما يخصصه العرف القولي كما نقل شمس الدين محمد بن عرفة الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير نقل عن ابن عبد السلام أن ظاهر مسائل الفقهاء اعتبار العرف مطلقًا قوليها كان أو فعليًّا، كما نقل الوانوغى عن أبي الوليد الباجي أنه صرح بأن العرف العملي يعتبر مخصصًا أيضا، قال الدسوقى، وهو رأي القلشاني: هذا كله فيما إذا كان العرف سابقًا أو مقارنًا للنص، أما العرف المتأخر الحادث بعد ورود النص فلا يعتد به ولا يعمل عليه ولا يصلح بحال أن يكون مخصصًا للنص الشرعي بالإجماع، ولا فرق بين أن يكون عرفًا عامًا أو عرفًا خاصًا قوليًّا أو فعليًا ذلك أن مفهوم النص قد حدد مراد الشارع وكان نافذ المفعول، فلو قلنا بتخصيص العرف له لكان ناسخًا لحكم النص ولا ينسخ النص بالعرف، إذ من شرط اعتبار العرف الذي تحمل عليه الألفاظ أن يكون موجودًا حال صدورها مخصصًا أو مقيدًا لا ناسخًا (2)

(1) الفرق الثامن والعشرين: 1 /217، وما بعدها

(2)

التنقيح: ص 194

ص: 2514

معارضة العرف للنص الاجتهادي:

إذا كان الحكم مستفادًا بطريق القياس أو الاستحسان أو الاستصحاب. أو المصالح المرسلة من كل الأدلة الفرعية غير الكتاب والسنة والإجماع فإن العرف إذا عارض ذلك الحكم المستنبط من المجتهد يعتبر ويعتد به ومعنى ذلك أننا نأخذ بذلك العرف ونترك الحكم المعارض له الذي كان منشؤه القياس والاستحسان ونحوهما إذ العرف يرجح عليه عند التعرض وهذا هو الرأي الأرجح لدى الفقهاء، فالحكم الذي منشؤه القياس، فالعرف أولى منه، ولو كان عرفًا حادثًا، ولقد اعتبر الفقهاء هذا من قبيل الاستحسان، ذلك أن الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى أو هو تخصيص قياس بأقوى منه أو هو العدول إلى خلاف النظير لدليل أقوى منه أو هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس كدخول الحمام من غير تعيين زمن المكث ومقدار الماء المسكوب والأجرة وهذا كله خلاف الدليل لأن الدليل هو الذي أدى إلى وجوب تعيين المنفعة والأجرة في الإجارات وتعيين المبيع والثمن في المبيعات (1) وبما ذكرنا ندرك كيف أن العرف يترجح على القياس وهو يستند إلى نص تشريعي في الجملة باعتباره الأصل المقيس عليه فيترجح على الاستحسان والمصلحة المرسلة التي لا تستند إلى نص من باب أولى، ويتضح ذلك بضرب الأمثلة؛ القياس يقتضي أن الحاكم يستمع لكل دعوة ترفع إليه، ثم يقضي بين المدعي والمدعى عليه حسب ما يثبت لديه من الأدلة لكن ترك هذا القياس فيما إذا ادعت الزوجة المدخول بها أن زوجها لم يدفع إليها شيئًا من معجل الصداق وطلبت القضاء عليه بمهرها المعجل قالوا: لا تسمع دعواها هذه بل يردها القاضي دون أن يسأل عنها الزوج، وقد عللوا ذلك بالعرف والعادة ذلك أن عادة الناس قد اطردت بأن البنت لا تزف إلى بيت الزوجية ما لم يدفع الزوج المعجل من الصداق أو كل الصداق، فتكون دعواها حينئذ مما يكذبها العادة والعرف وظاهر العرف، وظاهر الحال وهو دعواها هذه الدعوى بعد الدخول والمكوث المدة في بيت الزوجية فلا تسمع دعواها، وقد نقل الشهاب القرافي أن الزوجة إذا ادعت بعد الدخول بها عدم قبض صداقها، فالقول للزوج مع أن الأصل القياسي عدم القبض (2) .

وإذا تعارض العرف والأصل كان من شهد له العرف هو المدعى عليه والأصل هنا براءة الذمة لكن بعد تحقق عمارتها يكون الأصل استصحاب الحالة التي هي عمارتها حتى يتحقق الرافع لعمارتها وقد سقنا فيما تقدم جملة من الأمثلة مما تعارض به الأصل كتعارض براءة الذمة وعمارتها بعد شغلها وتعارض الصحة والمرض وتعارض الخطأ والعمد وتعارض الجهل والعلم وتعارض الغنى والفقر وتعارض الصحة والفساد أو تعارض الأصل والعرف (3) .

(1) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، ط: 2 /288

(2)

شهاب الدين القرافي، الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص: 27.

(3)

محمد العزيز جعيط الطريقة المرضية: ص 42، وما بعدها.

ص: 2515

فالأصل والقياس يقتضي أن لا يدفع الدين لغير صاحبه ولا ينفذ قبضه على الدائن ما لم يكن للقابض نيابة عن الدائن من ولاية أو وكالة ولكن الفقهاء تركوا القياس في البنت البكر البالغ إذا قبض أبوها مهرها من زوجها حين زفافها، واعتبروا هذا القبض نافذًا عليها ومبرئًا لذمة الزوج وذلك للعرف والعادة لأنه إذا تعارض الأصل مع العرف قدم العرف على الأصل والقياس ومن هذا القبيل دعوى المرأة على زوجها بعد الخلوة بها وبعد مفارقته لها أنه وطئها وأنكر هو الوطء فالزوجة قد شهد لها العرف والزوج قد شهد له الأصل إذ الأصل براءة الذمة ولكن رجح العرف على الأصل عند التعارض ولذا اعتبرت الزوجة مدعي عليها وهو المدعي وكان عليه البينة لأن من شهد له الأصل كان مدعيًا ما لم يعارضه العرف فيكون مدعي عليه (1) ولكنهم استثنوا مسألة واحدة قدموا فيها الأصل على العرف وهي ما إذا ادعى رجل صالح مشهور بالتقى ومخافة الله على رجل فاسق لا يتقي الله ادعى الصالح دينًا على الفاسق فأنكره، فالأصل يشهد للفاسق إذ الأصل براءة الذمة والعرف أن الرجل الذي يخشى الله ويتقيه لا يكذب ولا يدعي ظلما وبهتانًا على أحد. والشأن من الرجل الذي اشتهر بالصلاح والتقوى مخافة الله أن العرف يشهد له، ومع ذلك حكموا بأنه مدعى عليه البينة وقد نظم هذه الصورة الصنهاجي فقال:

والأصل والغالب إن تعارضا

فقد الغالب فهو المرتضى

إلا في دعوى صالح على سواه

بالدين فالعكس جميعهم يراه

ثم الحكم إذا كان مستندًا إلى العرف فإن الحكم يتغير بتغير العرف لأن العرف ينزل منزلة العلة التي يدور الحكم معها وجودا وعدما، ولقد ذكر القرافي أن الإفتاء بالأحكام التي مستندها العرف والعادة يتغير الحكم بتغير العادة وليس ذلك إنشاء اجتهاد جديد ناقض لاجتهاد المجتهدين بل هو تطبيق لقاعدة أجمع عليها علماء الشريعة وجروا في فتواهم على تحقيقها وتطبيقها (2)

تعارض العرف مع اللغة:

اختلف الأصوليون في تقديم العرف على اللغة أو اللغة على العرف وقد مال القرافي وجماعة إلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية واعتبر الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية، وقد نقلنا فيما تقدم كلامه في الفرق الثامن والعشرين، وقد صرح في الأحكام أنه ينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن ينقل إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه، وهذا هو معنى العادة في اللفظ وهو الحقيقة العرفية وهو المجاز الراجح في الأغلب وهو معنى قول الفقهاء: أن العرف يقدم على اللغة عند التعارض، ثم أوضح أنه يتعين أن يدور لفظ الفتيا فيها مع اشتهارها في العرف وجودًا وعدمًا ففي أي شيء اشتهرت حملت عليه بغير نية وما لم يشتهر لم تحمل عليه إلا بنية (3) وقد مثل القرافي في تنقيحه لتقديم الحقيقة العرفية على اللغوية بقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور (4) قال: إن حملناه على اللغوي وهو الدعاء لزم أن يتقبل الله دعاء بغير طهارة ولم يقل به أحد فيحمل على الصلاة في العرف وهي العبادة المخصوصة فيستقيم (5) .

(1) الصنهاجي، مواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الرقاق: 1 /108

(2)

الأحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام: ص 68.

(3)

الأحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام: ص 69.

(4)

رواه الجماعة إلا البخاري، عن ابن عمر

(5)

تنقيح الفصول باختصار المحصول ص 114

ص: 2516

وقد نقل الونشريسي، عن أبي الفضل قاسم العقباني وقد سئل عن مسألة وهي أن ابن رشد سُئِلَ عمن خالج امرأته على أن تتحمل بنفقة ابنه منها إلى الحلم، ثم راجعها بنكاح جديد هل تبقى عليها نفقه ابنها أم لا؟ وكيف لو طلقها ثانية هل تعود إلى نفقته أم لا؟ فأجاب إذا راجعها سقط عنها ما تحملت به ولا يعود عليها إن طلقها ثانية إلا أن تجدد له التحمل، قال بعض الشيوخ: هذه كمسألة المدونة إذا ملكها فلم تقض حتى طلقها ثلاثًا وواحدة ثم نكحها بعد زوج أو بعد عدتها من طلقة فلا قضاء لها لأن هذا ملك مستأنف، ثم قال هذا الشيخ: قلت والعلة الحقيقية أنها لما رضيت به ثانية فكأن الأول لم يكن بوجه فكذا هذه المسألة. قال: أشكل علي يا سيدي جواب ابن رشد سقوط النفقة عنها ومعاوضتها كانت صحيحة وترتبت النفقة في ذمتها ولا يسقط ما في الذمة إلا بالإبراء والإسقاط، وقد قالوا: إذا ماتت المرأة المتحملة بنفقه الولد في الخلع أخذ من تركتها وكذلك أشكل على التنظير المذكور، فالمراد من سيدي بيان ما يختار في المسألة وبيان وجه فقه ابن رشد ووجه التنظير المذكور بأتم بيان، فأجاب: الحمد لله اعلم – حفظك الله – أن كثيرًا من مسائل الفقه يجري الحكم فيها على مقصود أهل العرف وإن كانت الألفاظ تدل على خلاف ذلك ومسألة النفقة التي أشرت اليها وأجاب ابن رشد عنها فيها من هذا المعنى، وذلك أن القوام على المرأة وولدها حال كونها تحت الزوج هو الزوج لكن يسهل ذلك عليه، وهم في موضع واحد فإن وقع افتراق عسر على الزوج القيام بمئون متعددة قد علم هذا بشهادة العادة عند الفراق، فلذا ترى الرجل يرغب في صرف نفقة الولد إلى غيره وهذا المعنى يزول عند المراجعة بانضمام الزوجة وولدها إلى الزوج ولا ترى في العادة زوجة تكون مع زوجها، وهي تنفق له على ولده فلهذا نعلم أن مراجعته إياها أنه أسقط النفقة عنها ولا شك أنها لا تعود بعد الإسقاط وبمثل هذا العرف قضى الإمام فيمن التزمت في الخلع إجراء النفقة على الولد إلى بلوغ الحلم فمات الولد صغيرًا قال: ليس للأب ما بقي من المدة إلى الحلم وعلله بأنه أدرك الناس أنهم لا يظلمون ذلك فترك صريح الالتزام للعرف، والتنظير من الشيخ راجع للعرف أيضا فإن التمليك إذا كان توكيلًا فالشأن في الوكيل أن لا يعزل حتى يقضي ما وكل عليه أو يصرح بترك ذلك، لكن العرف عند بعض أهل العلم يقتضي الجواب في المجلس، ومن لم يجب عد تاركًا ولبعضهم حتى يوقف الحاكم المحكمة على الأخذ أو الرد لما عرض في المسألة أن العصمة لا تصح – وفيها إخبار – لغير الزوج (1) وما ذكره من أن كثيرًا من مسائل الفقه يجرى الحكم فيها على مقصود أهل العرف وإن كانت الألفاظ تدل على خلاف ذلك هو ما عبر عنه الشاطبي عندما أكد بأنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع الأميين وهم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه إلى غيره في فهم الشريعة، وإن لم يكن هناك عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في المعاني والألفاظ والتراكيب وأساليب الكلام (2) .

(1) الونشريسي المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوي علماء أفريقية، والأندلس، والمغرب: 4 / 30 – 31

(2)

الموافقات: 2 /80

ص: 2517

وخالف المقري في قواعده رأي الجمهور وقال بتقديم اللغة على العرف مدعيًا أن ذلك مشهور مذهب مالك حيث قال في القاعدة أربع وستين ومائة من قواعده إن العرف لا يقدم على اللغة على مشهور مذهب مالك (1) ، ولكن تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية هو مذهب الجمهور كما ذكرنا، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضا، ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي أن الأيمان، مبنية على العرف لا على الحقائق اللغوية، قال صرح الزيلعي وغيره بذلك وعليها فروع: منها لو حلف لا يأكل الخبز حنث بما يعتاده أهل بلده ففي القاهرة لا يحنث بخبز البر وفي طبرستان ينصرف إلى خبز الأرز، وفي زبيد إلى خبز الذرة والدخن، ولو أكل الحالف خلاف ما عنده من الخبز لم يحنث، ولا يحنث بأكل القطائف إلا بالنية ومنها الشواء والطبيخ على اللحم، فلا يحنث بالباذنجان والجزر المشوي ولا يحنث بالمزورة في البطيخ ولا بالأرز المطبوخ بالسمن بخلاف المطبوخ بالدهن ولا بقليه يابسه ومنها الرأس ما يباع في مصر، فلا يحنث إلا برأس الغنم، ومنها حلف لا يدخل بيتًا فدخل بيعة، أو كنيسة، أو بيت نار، أو الكعبة، لم يحنث (2) .

قال ابن عابدين: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة هكذا ذكر فخر الإسلام في شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص ونقل عن القنية: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف (3) هذا المذهب الحنفي، أما المذهب الشافعي فقد حكى الحافظ السيوطي اختلاف فقهاء الشافعية في نقل ترجيح القاضي الحسين الحقيقة العرفية، وخالفه أبو الحسن البغوي ومال إلى تقديم الدلالة العرفية على الحقيقة اللغوية، ثم نبه السيوطي إلى أن الخلاف في تقديم العرف أو اللغة إنما هو في العربي أما العجمي فيعتبر عرفه قطعًا إذ لا وضع يحمل عليه (4) .

(1) قواعد المقري: ص 63

(2)

الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 87 – 88

(3)

ابن عابدين رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف مجموعة الرسائل: 2 /115

(4)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 66.

ص: 2518

بهذا ندرك أن مذهب الشافعية كالمالكية والحنفية في تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ومثل ذلك المذهب الحنبلي فقد ذكر ابن قدامة أن الأسماء تنقسم إلى ستة أقسام، ماله مسمى واحد كالرجل والمرأة والإنسان، وهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف، الثاني ما له موضوع شرعي وموضوع لغوي كالوضوء والطهارة والصلاة وتنصرف اليمين فيه عند الإطلاق إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي، الثالث ما له موضوع لغوي حقيقي ومجازي لم يشتهر كالأسد والبحر فيمين الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز، الرابع الأسماء العرفية وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة في العرف، وهذا على ضروب: أحدها: ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية هي في العرف اسم المزادة، وفي الحقيقة اسم لما يستقي عليه من الحيوان، والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها، والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة وفي الحقيقة العذرة فناء الدار، ولذلك قال عليه السلام لقوم:((ما لكم لا تنظفون عذراتكم)) ، يريد أفنيتكم والغائط المكان، وأشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره.

الضرب الثاني: أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم وهذا يتنوع أنواعًا فمنه ما يشتهر التخصيص فيه كلفظ الدابة، وهو في الحقيقة اسم لكل ما يدب وفي العرف اسم للبغال والحمير والخيل، ولذلك لو وصى إنسان لرجل بدابة من دوابه كان له أحد هذه الثلاث، فالظاهر أن يمين الحالف تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الإطلاق كالذي قبله ويحتمل أن يتناول يمينه الحقيقة بناء على قول من قال في الحالف على ترك أكل اللحم أن يمينه تتناول السمك، ومن هذا النوع إذا حلف لا يشم الريحان فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي وهو في الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس ولا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي، وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه قاله القاضي، وقال أبو الخطاب: يحنث بشم ما يسمى حقيقة ريحانًا لأن الاسم يتناوله حقيقة ولا يحنث بشم الفاكهة وجهًا واحدًا لأنها لا تسمى ريحانًا حقيقة ولا عرفًا الضرب الثالث: أن يكون الاسم المحلوف عليه عامًا لكن أضعاف إليه فعلًا لم تجر العادة به إلا في بعضه أو اشتهر في البعض دون البعض، مثل أن يحلف أن لا يأكل رأسًا فإنه يحنث فأكل رأس كل حيوان من النعام والصيود والطيور والحيتان والجراد ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب: لا يحنث إلا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام دون غيرها إلا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث بأكلها، وقال أبو حنيفة: لا يحنث بأكل روؤس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة، وقال صاحباه: لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها ووجه الأول أن هذه رؤوس حقيقة وعرفًا مأكولة فحنث بأكلها، كما لو حلف لا يأكل لحمًا فأكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه، من ذلك إذا حلف لا يأكل بيضًا حنث بأكل بيض كل حيوان سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام، وبهذا قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي: لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور: لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق، وقال أبو الخطاب: لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة وهذا هو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء، وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض ولا يذكر إلا مضافًا إلى بائضه، ولا يحنث بأكل شيء يسمى بيضا غير الحيوان، ولا بأكل شيء يسمى رأسًا غير رؤوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة (1) ، ولابن قدامة فيما بني من الأيمان عى اعرف من حلق أن لا يبيع ثوبه بعشرة مثلًا فباعه بها أو بأقل منها حنث وذلك بدلالة العرف.

(1) المغني، لابن قدامة المقدسي على مختصر الخرقي: 8 / 812 إلى 816

ص: 2519

وقد يكون العرف في زمان ثم ينعدم، ويزول فمثلًا ورد في المدونة أن القائل لا مرأته: أنت حرام، أو خلية، أو برية، أو وهبتك لأهلك، يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها ولا تنفعه البينة في أنه أراد أقل من الثلاث، باعتبار الاستعمال في ذلك الزمان وأنها كنايات ظاهرة في الثلاث، فلا ينوي صاحبها ويقع الطلاق بناء على ما اشتهر من استعمال هذه الألفاظ في فك العصمة وإزالتها واشتهر كذلك في العدد الذي هو الثلاث، أما ما كان من الكنايات الخفية فإن الزوج ينوي في ذلك فمن قال لامرأته: هذه أختي ونوى أخته في الدين لم تحرم عليه بذلك ولا يعتبر مظاهرا لجريان اللفظ على لسانة اختيارًا، أما ما ظهر قصده بخلاف معناه اعتبر قصده، إذ الأمور بمقاصدها.

وهل الأيمان مبنية على العرف أو النية أو الصيغ اللفظية؟

تحرير هذا: أن الإيمان عند الحنفية مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات لأن غرض الحالف هو المعهود المتعارف عنده ويتقيد بغرضه، هذا هو الغالب عندهم. وقد ثبت أن أيمان عندهم على الألفاظ لا الأغراض وقد ألف ابن عابدين رسالة أسماها رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، ولقد بين فيها أن هذه القاعدة وقاعدة أن الأيمان مبنية على العرف، بين أن كلا من هاتين القاعدتين مقيدة بالأخرى فقولهم: الأيمان مبنية على العرف معناه العرف المستفاد من اللفظ لا الخارج عن اللفظ اللازم له وقولهم: الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض معناه الألفاظ العرفية، فإذا تعارض الوضع الأصلي للكلمة والوضع العرفي ترجح الوضع العرفي.

وقد أوضح تقييد كل من القاعدتين للأخرى، بأن ذلك ينتج صورًا أربعة لأنه إما أن يوجد حقيقة الفعل ويفوت الغرض، أو توجد صورة الفعل والغرض، أو يوجد الغرض فقط، ويفوت الفعل، أو لا يوجد شيء منهما والحنث إنما يتحقق في الوجه الأول فقط دون الثلاثة الباقية، مثال الأول الشراء بأحد عشر والمحلوف عليه بعشرة وغرض المشتري الحالف نقص الثمن عن الشعرة، فإذا اشترى بأحد عشر فقد اشترى بعشرة وزيادة ووجد الفعل المحلوف عليه وفات الغرض.

ص: 2520

وهذا هو شرط الحنث المطلق المترتب عليه حكمه، فلذا قالوا: إنه يحنث ولا يقال: إن الشراء بعشرة معناه الحقيقي عقد الشراء بعشرة وعقد بأحد عشر غير العقد بعشرة فلم يوجد الفعل المحلوف عليه لأنا نقول: إن الشراء بعشرة له معنى حقيقي وهو ما ذكرته ومعنى مجازي وهو التزام العشرة بإزاء الثوب المبيع والمراد المشتري وهو المعنى المجازي بقرينة حالية وهي أن الحامل له على اليمين من جهة المعنى هو التزام الثمن، وذلك الثمن هو العشرة التي سماها والعشرة تطلق على العشرة المنفردة، وهي هذا الحكم المنفصل الذي هو آخر مراتب الآحاد وأول مراتب العشرات وتطلق على المقرونة أي العشرة التي قرنت غيرها من الأعداء ولما كان الغرض من المشتري نقص الثمن عن العشرة وعدم التزامها بإزاء المبيع علم أن مراده مطلق العشرة أي الشاملة للمفردة والمقرونة، فإذا اشترى بالمنفردة فلا كلام في أنه قد وجد الفعل وفات الغرض فيحنث وكذا لو اشترى بالمقرونة لأن غايته أنه وجدت العشرة التي امتنع من التزامها في الثمن ووجد معها زيادة وهي الدرهم الحادي عشر مثلًا وإذا وجد شرط الحنث ووجد معه زيادة فتلك الزيادة لا تمنع الحنث كما لو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها ودخل دارًا أخرى فإنه يحنث وإن زاد على شرط الحنث مثال الوجه الثاني البيع بأحد عشر، فقد وجدت صورة الفعل المحلوف عليه وهو البيع بعشرة التي في ضمن الأحد عشر ووجد أيضا الغرض لأن غرض البائع الحالف الزيادة على العشرة، وقد وجدت فلا يحنث لأن شرط الحنث وجود الفعل مع فوت الغرض وهنا لم يفت الغرض، بل وجد على أن الفعل في الحقيقة لم يوجد أيضًا لأن مراد البائع في قوله لا بيعه بعشرة العشرة المفردة.

أما المقرونة بالزيادة، فإنه غير ممتنع عنها، بل هو طالب لها وهي غرضه فإذا باع بأحد عشر فقد وجد غرضه ولم يوجد الفعل المحلوف عليه حقيقة أي الذي أراد منع نفسه عنه، وإنما وجد صورة في ضمن الأحد عشر ولذا قيد الشرط بقوله: أما إذا وجد صورة الفعل وإلا فحقيقة الفعل لم توجد وكيف توجد حقيقة الفعل الذي هو شرط الحنث مع وجود الغرض الذي يحصل به البر وهما متناقضان، ومثال الوجه الثالث الشراء بتسعة في المسألة الثالثة من الأربعة المذكورة لأن المشتري الحالف مستنقص عن العشرة، فإذا اشترى بتسعة فقد وجد غرضه ولم يوجد الفعل المحلوف عليه أصلًا فيكون قد وجد شرط البر الكامل وفات شرط الحنث من كل وجه فلا حنث، مثال الوجه الرابع البيع بتسعة، فإذا حلف لا يبيع بعشر لم يوجد الفعل المحلوف عليه وهو العشرة ولا الغرض وهو الزيادة، بحيث فات الفعل لم يتحقق شرط الحنث الكامل وإن فات الغرض لأن فوت الغرض لا يوجب الحنث ما لم يوجد الفعل، لأن الحنث شرطه وجود الفعل المفوت للغرض كما مر بلا حنث (1) . هذا مذهب الحنفية، وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد إلا أن ينوي شيئًا فيعمل بنيته فلو حلف ألا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس حيتان فمن راعى العرف، قال: لا يحنث ومن راعى دلالة اللغة، قال: يحنث وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحمًا فأكل شحمًا مراعاة لدلالة اللفظ وقال آخرون: لا يحنث، والمذهب الشافعي يتبع مقتضى اللغة عند ظهورها وشمولها ويتبع العرف إذا اشتهر واطرد.

(1) ابن عابدين رسالة رفع الانتفاض ودفع الاعتراض على قولهم: الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، الرسائل: 1 /292

ص: 2521

أما مذهب مالك فالمعتبر في الأيمان التي لا يصدر فيها حكم قضائي على حالفها بموجبها النية، وكذلك النذور نية المستحلف في الدعاوى ونية الحالف في غيرها، فإن عدمت النية فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ وما قصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لا يراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي، وقيل: يراعى النية وبسوط الحال أي السبب الحامل على اليمين أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علماء المعاني، ولا ينفع الاستثناء في النذر وينفع في المشيئة في الأيمان، أما الأيمان التي يقضي بها على صاحبها ففي مجال الاستفتاء تراعى الضوابط على ما سبق من الترتيب وفي مجال القضاء لا يراعى إلا اللفظ في اليمين إلا ما يؤيد ما ادعاه من النية قرينة الحال أو اعرف. قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف ورد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف كقوله: والله لا دخلت مع فلان بيتًا فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة والمسجد يسمى بيتًا فيحنث على ذلك إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث (1) .

أما الحنابلة فمرجع الأيمان إلى نية الحالف، فإن نوى بيمينه ما احتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه لا فرق بين أن يكون ما نواه لظاهر اللفظ أم مخالفًا له لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (2) فإن لم ينوِ شيئًا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها وأثارها لدلالة ذلك على النية، فلو حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظًا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منه عليه بها اختصت يمينه بها، وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق بإيوائه معها في كل دار.

(1) الشاطبي، الاعتصام: 2 / 121، ط مصطفى محمد – القاهرة.

(2)

رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه ثلاثون صحابيًّا، الأربعين النووية: ص 16، وشرح مسلم: 13/ 53

ص: 2522

تعارض العرف مع الشهادة:

اختلف الفقهاء هل ينزل العرف منزلة شاهد واحد أو منزلة شاهدين إذا تعارضا بأن شهد العرف لشخص واحد، وشهد شاهد لشخص آخر فذهب الإمام البرزلي إلى أن العرف يعتبر كشاهد واحد فقط، وعلى هذا فمن شهد له العرف وجبت عليه اليمين لأن اليمين على المدعى عليه وهو من شهد له أصل أو عرف وما ذهب إليه البرزلي هو ما مال إليه جمهور الفقهاء وقيل: هو بمثابة الشاهدين وعندئذٍ لا تتوجه اليمين على من شهد له العرف (1)

وقد علق المهدي الوزاني على الخلاف في هذه المسالة، فقال: أما كون المتقرر من العادات بمنزلة شاهد واحد فقط لا شاهدين، فهو المعتمد، وقد رجح هذا الرأي الشيخ الزهوني، وفي العمليات نظم أبو زيد الفاسي هذا الخالف، فقال: والمتقرر من العادات كشاهد أو شاهدين، وذكر الوالد رحمه الله في الطريقة المرضية أنه اختلف في العادة هل هي كشاهدين فلا يمين معها أو كشاهد يحتاج معها إلى اليمين وبين أن المشهور توجيه اليمين إن كان للمدعى فيه نزاع غير من احتج بالعادة فتجب اليمين على المحتج بها، فإن لم يكن منازع فلا يمين نقل ذلك عن صاحب الدكانة الذي انتزعه من تعليل القرطبي وابن عرفه من عدم توجه اليمين على صاحب اللقطة لعدم منازع له فيها لكن ذكر الوالد أن ما ذكره عظوم غير مطرد ينتقض بمسألة ما إذا زوج ابنته البالغ وهو ساكت حتى إذا فرغ أنكر بحدثان ذلك، فإنه يستحلف أنه لم يرض، فإن نكل لزمه النكاح وكان عليه نصف الصداق، قال خليل: وحلف رشيد وأجنبي وامرأة أنكروا الرضا والأمر حضورًا ذكره ابن يونس وحكاه صاحب اللباب عن ابن القاسم. وقال أبو عبد الله: لا يلزمه شيء وعليه فاليمين استظهار فقط لعله يقرر وصوبه أبو عمران. وقد ذكر الونشريسي أن الخلاف في لزوم نكاح الناكل مبني على الخلاف في العادة هل هي كالشاهد أو كالشاهدين فإن قلنا كالشاهدين لزم النكاح بنكوله وعليه نصف الصداق، وإن قلنا كالشاهد لم يلزمه (2) .، وعلى الرغم من ذلك أن جمهور الفقهاء مالوا إلى اعتبار العرف كشاهد واحد.

(1) عمر الفاسي منهاج الزقائية: ص 210.

(2)

الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، لمحمد العزيز جعيط: ص 51

ص: 2523

منزلة العرف بين الأدلة:

لقد استخرج أصحاب مالك الأصول والقواعد التي بنى عليها مذهبه من فروعه الفقهية التي قررها ودونوا هذه الأصول، فقالوا: كان مالك يأخذ بظاهر القرآن وبظاهر السنة وبمفهوم المخالفة وبفحوى الخطاب وبمراعاة الخلاف وليست هذه أقوالًا له مأثورة عنه وإنما هي مستخرجة من الفروع فهي إذن مجهود العلماء الذين اتبعوا مذهبه فعملهم كعمل علماء الحديث بصحيح البخاري، إذ لم يبين الشروط التي اشترطها وإنما ذلك عمل من أتى بعده من المحدثين، وليس هذا إن هذه القواعد والأصول قد خفيت عنه أو لم يوجد في كلامه ما يفيدها، فقد يصرح بأخذه بعمل أهل المدينة وبين البواعث التي أدت به إلى الأخذ به، كما صرح بذلك في الموطأ وقد صرح أيضا بما لا مجال للشك فيه بأنه أخذ بالقياس حتى قال ابن العربي في القبس إن مالكا قصد في الموطأ تبين أصول الفقه وفروعه (ص 7) وبين أيضا أن مالكا بنى موطأه على تمهيد الأصول للفروع ونبه فيه إلى معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، فالإمام لو لم يصرح بهذه القواعد بصريح العبادة، فقد كانت هذه بمثابة الأسس التي قامت عليها أقوال من أتى بعده وعليها استندوا في التخريج والاستنباط وقد اختلف المالكية في عد هذه الأصول التي بني عليها الفقه المالكي بعدها الشيخ محمد صالح الهسكوري صاحب التقييد على الرسالة أنها ستة عشر أصلًا وهي: نص الكتاب، وظاهره وهو العموم ودليله وهو مفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، وتنبيه، وهو التنبيه على العلة، ومن السنة مثل ذلك، فهذه عشرة ثم الإجماع وعمل أهل المدينة وقول الصحابي والاستحسان وسد الذرائع، واختلف قوله في مراعاة الخلاف فمرة اعتبره ومرة ألغاه. قال أبو يحيى الغرناطي شارح التحفة وابن ناظمها في شأن مراعاة الخلاف ما نصه: مراعاة الخلاف لا يطردونه في جميع المواضع ثم مراعاة الخلاف إما أن تكون صحيحة وإما أن تكون غير صحيحة، فإن كانت صحيحة جارية على أصول الشريعة وجب اعتبارها على الإطلاق، وأما اعتبارها في بعض المسائل دون بعض، فذلك يفتقر إلى ضابط يعرف به الموضوع الذي يجب أو يجوز أن يراعى فيه الخلاف من الذي لا يراعى فيه، وقد أنهاها القرافي في تنقيح الفصول في الفصل الأول من الباب العشرين إلى تسعة عشر، قال: وذلك بالاستقراء وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والقياس، وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد والاستقراء وسد الذرائع والاستدلال والاستحسان والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الأربعة (1)

(1) تنقيح الفصول بهامش حاشية منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 2 /208

ص: 2524

واستقراء القرافي ناقص، بدليل أن بعض علماء الأصول زاد على التسعة عشر التي ذكرها إجماع المصرين البصرة والكوفة وإجماع الحرمين والعرف والتعامل والعمل بالظاهر والأظهر والأخذ بالاحتياط والقرعة ومذهب كبار التابعين والعمل بالأصل ومعقول النص وشهادة القلب وتحكيم الحال وعموم البلوى والعمل بالشبهين ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بأيسر ما قيل والأخذ بأكثر ما قيل وإجماع الصحابة وحدهم وقول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا وقول الصحابي إذا خالف القياس والرجوع إلى المنفعة والمضرة ذهابًا إلى أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع، والقول بالنصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وباعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام عند الطوفي وإجماع الأمم السالفة عند الإسفراييني والاقتران أي بين جملتين، فإنه يقتضي التسوية في الحكم بينهما عند المزني وأبي يوسف والاستدلال على انتفاء الشيء بانتفاء دليله عند الإسفراييني ومفهوم اللقب عند جماعة وحكم العقل عند المعتزلة والهاتف أي الصوت المعلوم صدقه والأوهام أي الإلقاء في القلب وشرع من قبلنا وإن كان مرجع الجميع إلى الأصلين الكتاب والسنة كما نقله الزركشي عن بعضهم.

وقد رد الشاطبي في موافقاته الأدلة الشرعية إلى ضربين ما يرجع إلى النقل المحض وما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعًا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة، وأما الثاني فالقياس والاستدلال ويلحق بكل منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف، فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا: إنها راجعة إلى أمر نظري وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية (1)

(1) الموافقات للشاطبي: 3/ 19، ط بولاق المسألة الخامسة من كتاب الأدلة الشرعية.

ص: 2525

ولقد صرح أبو بكر بن العربي في العارضة بأن العرف أحد القواعد العشر التي تركبت عليها أحكام المعاملات في المذهب المالكي وما ذهب إليه الشاطبي من التقسيم له وجه صحيح حيث عمل أهل المدينة وقول الصحابي وقد اعتمدها مالك، فذلك باعتبار أنهما من شعب السنة كما أن كلمة الرأي تشمل بعمومها المصالح المرسلة وسد الذريعة والعادات والاستحسان والاستصحاب لأن هذه من مشملات الرأي، وقد ذكر تاج الدين السبكي أن أصول مذهب مالك تزيد على الخمسمائة وهو في الواقع يشير إلى القواعد التي استخرجت من الفروع الفقهية في المذهب المالكي ولقد أنهاها القرافي في فروقه إلى خمسمائة وثمان وأربعين قاعدة وجمعها المقرئ في ترتيب الفروق في تسع وثلاثين ومائتين قاعدة وأنهاها في قواعده إلى مائتين وألف قاعدة، ولكن هذه القواعد في الحقيقة تفرعت عن تلك الأصول التي سبق ذكرها، ثم إن الإمام مالك رحمه الله لم ينص على هذه القواعد وإنما استنبطها أصحابه من فروعه الفقهية، وقد لاحظ الشيخ أبو زهرة في كتابه مالك أن مذهب الإمام أكثر المذاهب أصولًا حتى إن علماء الأصول من المالكية حاولوا الدفاع عن هذه الكثرة، قال أبو زهرة: وإن نوع الأصول التي يرد بها المذهب المالكي على غيره ومسلكه في الأصول التي اتفق فيها مع غيره يجعلانه أكثر مرونة وأقرب حيوية وأدنى إلى مصالح الناس وما يحسون وما يشعرون وبعبارة جامعة أقرب إلى الفطرة الإنسانية التي يشترك فيها الناس ولا يختلفون إلا قليلًا بحكم الإقليم والمنزع والعادات الموروثة (1)

(1) أبو زهرة، مالك: ص 37، ط2.

ص: 2526

أما توثيق هذه الأدلة في المذهب المالكي من حيث الاعتبار والحجية، فقد أوضحه القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المدارك فذكر ترتيبه على ما يوجبه العقل ويشهد له الشرع تقديم كتاب الله تعالى على ترتيب وضوح أدلته من نصوصه، ثم ظواهره ثم مفهوماته، ثم كذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترتيب متواترها ومشهورها وآحادها ثم ترتيب نصوصها وظواهرها ومفهومها على ما تقدم في الكتاب، ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة وبعد ذلك عند عدم الأصول والقياس عليهما والاستنباط منهما إذ كتاب الله مقطوع به وكذلك ما تواتر من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكذلك النص المقطوع به بموجب تقديم ذلك كله، ثم الظواهر، ثم المفهوم منها لدخول الاحتمال في معناها، ثم أخبار الآحاد يجب العمل بها والرجوع إليها عند عدم الكتاب والتواتر، وهي مقدمة على القياس لإجماع الصحابة على الفصلين وتركهم نظر أنفسهم متى بلغهم خبر ثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثالهم مقتضاه دون خلاف منهم في ذلك، ثم القياس أخيرًا إذ إنما يلجأ إليه عند عدم هذه الأصول في النازلة فيستنبط من دليلها ويعتبر الأشباه منها على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين وعلم من مذهبهم أجمعين وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة وتقرير مآخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع وجدت مالكًا رحمه الله ناهجًا في هذه الأصول مناهجها مرتبًا لها مراتبها ومدارجها، مقدما كتاب الله ومرتبًا له على الآثار، ثم مقدمًا لما على القياس والاعتبار تاركًا منها لما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحموله أو ما وجد الجمهور والجم الغفير من أهل المدينة قد علموا بغيره وخالفوه ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه سوء التأويل وقوله ما لا يقوله، بل ربما يصرح أنه من الأباطيل، ثم كان من وضوعه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوضات ما سلك به سبيل السلف الصالحين، وكان يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سن الماضين.

ثم سلك الشافعي سبيله وبسط مآخذه في الفقه وأصوله لكن خالفه في أشياء أداه إليها اجتهاده وثاقب فطنته ولم يخلصه من دركها عدم استقلاله بعلم الحديث والأثر وتزحزحه عن الانتهاء في معرفته، ثم ما جرى بينه وبين بعض المالكية بمصر وحمل عليه حتى تميز عنهم بعد أن كان معدودًا منهم وواحدًا من جملتهم، فبان بأصحابه وتلاميذه وصرح من حينئذٍ بالخلاف والرد على أكبر أساتذته.

ص: 2527

وأما أبو حنيفة، فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار بترك نصوص الأصول وتمسك بالمعقول وآثر الرأي والقياس والاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس بأبعد ما شاء وحد بعضهم استحسانه أنه الميل إلى القول بغير حجة، وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحديث والبدعة حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع في الدين ولهذا خالفه صاحباه محمد وأبو يوسف في نحو ثلث مذهبه إذ وجدوا السنن تخالفهم فيما تركه لما ذكرناه من قصد لتغليبه القياس وتقديمه أو لم تبلغه ولم يعرفه إذ لم يكن من مثقفي علومه وبه شنع المشنعون عليه وتهافت الجراء على ذم البرآء بالطعن إليه، ثم ما تمسك به من السنن فغير مجمع عليه وأحاديث ضعيفة متروكة، وبسبب هذا تحزبت طائفة أهل الحديث على أهل الرأى وأساءوا فيهم القول والرأي.

وأما أحمد وداود فإنهما سلكا اتباع الآثار ونكبا عن طريق الاعتبار لكن داود خالف ذلك فترك القياس جملة واحدة هو وأصحابه من القول بالظاهر ما خالف فيه أئمة الأمة فخانه التمسك بربع أدلة الشريعة.

وجعل أحمد الخبر الضعيف خيرًا من القياس وبديهية العقل تنكر هذا فلا خير في بناء على غير أساس وهذا اعتبار في التفضيل نبيل يدل المنصف على السالك منهم نهج السبيل هذا مأخذ الجميع في فقههم ونظرهم على ما في فهمهم (1) .

وكان مالك رحمه الله يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سنن الماضيين، هذه نتفة عما يتعلق بالأصول، أما ما يتعلق بالقواعد فقد قسمها المالكية إلى قسمين ما هي أصول لأمهات مسائل الخلاف وما هي أصول للمسائل، والقسم الأول هو مراد الإمام المقري في قواعده فقد ذكر أنه قصد إلى تمهيد ألف ومائتي قاعدة في الأصول القريبة لأمهات مسائل الخلاف وأضاف أنه يعني بالقاعدة كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة فهو لا يعني في قواعده القواعد الأصولية العامة ككون الكتاب والسنة والإجماع والقياس حجة أو كحجية المفهوم أو العموم وخبر الواحد أو ككون الأمر عند الإطلاق للوجوب والنهي للتحريم ولا قصد القواعد الفقهية الخاصة ككل ما لا يتغير لونه أو طعمه أو رائحته فهو طهور وكل حيتان البحر مباح في الأكل أو كل عبادة لا تصح إلا بنية، وإنما أراد ما توسط بين هذين مما هو أصل لأمهات المسائل فهو أخص من أصول العامة وأعم من الأحكام الجزئية الخاصة هذا هو غالب ما اشتمل عليه وإن كان قد تعرض لبعض قواعد أصولية وقواعد فقهية تكميلا للفائدة وما من مذهب من المذاهب إلا وله تأليف، وهذه القواعد كالأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي والأشباه والنظائر للسيوطي والقواعد لابن رجب الحنبلي، وكل مذهب من المذاهب له قواعد اختارها، واعتمد عليها في استنباط الأحكام، وقد حصر أبو عبد الله بن عمر الدبوسي السمرقندي الحنفي مذهب الحنفية في أربعة عشر قاعدة وأنهاها ابن نجيم إلى تسعة عشر قاعدة في الأشباه وجعل القاضي الحسين مبنى الفقه الشافعي على أربعة قواعد كما في فتح الباري (2) ، وأنهاها ابن رجب الحنبلي في قواعده إلى مائة وستين قاعدة وأردفها بفصل اشتمل على عشرين قاعدة ألحقها بالقواعد فيها اختلاف في المذهب الحنبلي ينبني على الاختلاف فيها فوائد متعددة (3) .

(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعركة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض: 1 / اليحصبي – وزارة الأوقاف بالمغرب

(2)

فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر: 5 /276

(3)

قواعد ابن رجب: ص 368

ص: 2528

وأصحاب هذه المذاهب وإن ألفوا وقعدوا القواعد لكن مذهب الإمام مالك أغزر من بقية المذاهب في تقعيد القواعد والأصول كما أشرنا إليه وإذا كان بعض أهل العلم قد حصر قواعد المذهب في ست عشرة قاعدة أو سبع عشرة، كما نقل ذلك الفقيه ابن راشد عن شيخه أبي محمد صالح أن مالكًا بني مذهبه على ستة عشر والسابع عشر اختلفوا فيه وهو مراعاة الخلاف (1) ، لكن المحققين من علماء المالكية قالوا إن ذلك لا يمكن ضبطه وحصره، ولقد ذكر الشيخ أبو زهرة في كتابة مالك، قال: وقد اختبره (أى مذهبه) العلماء في عصور مختلفة فاتسع لمشاكلهم واختبره علماء القانون في عصرنا الحاضر فكان مسعفًا لهم في كل ما يحتاجون إليه من علاج لكثرة مجتهديه وكثرة أصوله ونوع الأصول التي أكثر منها وأنه أكثر المذاهب أصولًا (2) هذه هي أصول المالكية والأدلة التي جعلوها مصادر لبناء الأحكام ولسائل أن يسأل عن منزلة العرف من بين الأدلة.

منزلة العرف بين الأدلة:

إن فقهاء الشريعة على اختلاف مذاهبهم متفقون على اعتبار العرف بصفة عامة دليلًا من الأدلة التي انبنت عليه كثير من الأحكام الفقهية إذا أعوزهم النص من الكتاب والسنة.

وبنوا على ذلك مجموعة من القواعد: (1) كقاعدة الثابت بالعرف كالثابت بالنص (2) وقاعدة العادة محكمة (3) وقاعدة العادة كالشرع (4) وقاعدة الممتنع عادة كالممتنع حقيقة (5) وقاعدة الحقيقة تترك بدلالة العرف والعادة (6) والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (7) وقاعدة استعمال الناس حجة يجب العمل بها (8) وقاعدة العبرة للغالب الشائع لا للنادر (9) وقاعدة العرف بين التجار كالمشروط بينهم (10) وقاعدة إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت (11) وقاعدة الثابت بالعرف ثابت بالدليل الشرعي (12) وقاعدة لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.

والمقصود بتغير الزمان تغير العادات والأحوال من زمن إلى زمان أو من مكان إلى مكان واستناد التغيير للزمان وللمكان مجاز لأن الزمن لا يتغير، وإنما الناس هم الذين يطرأ عليهم التغيير في أفكارهم وصفاتهم وعاداتهم وسلوكهم، مما يؤدى إلى وجود عرف عام أو خاص ويترتب عليه تبدل الأحكام المبنية على الأعراف والعادات من كل الأحكام الاجتهادية المستنبطة بالقياس أو المصلحة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية، أما الأحكام الأساسية التي مصدرها النصوص من الأوامر والنواهي فلا تتبدل ولا تتغير فوجوب الصلاة والزكاة والجهاد وأداء الأمانة والصدق والإخلاص والقول والعمل وإباحة البيع والشراء والميراث وأنصبائه ونحوها كحرمة الزنا وشرب الخمر وأكل الميتة وشهادة الزور والفرار من المعركة فهذه كلها أحكام مستقرة لا يؤثر فيها تغيير الزمان ولا المكان ولا الأشخاص، أما ما كان منشأ بنائه على العادات أو على صحة أو فساد الأخلاق، فهذا هو الذي يختلف فيه أنظار الأئمة والمجتهدين من زمن إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص، وقد قال مالك: تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا ذلك الأمر (3) .

(1) منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 1 /177

(2)

مالك لأبي زهرة: ص 376 ط 2.

(3)

شرح الزرقاني على الموطأ 4 /204

ص: 2529

وعن عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور، فالأحكام المعللة بعلة ظنية والأحكام الاجتهادية المأخوذة من الأدلة الظنية والمبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد والتي بنيت على العرف، فإنها تتغير بتغير العلة والمصلحة والعرف وذلك هو العدل والرحمة والمصلحة وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى النكاية وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة في شيء، لأن الشريعة كما يقول ابن القيم: عدل الله بين عباده ورحمته بخلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهي نوره الذي أبصر به المبصرون (1) .

وإن كثيرًا من أعمال الناس وألفاظهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم تقوم على ما اعتادوه وتعارفوه، ذلك أن القواعد الشرعية المعتمدة على النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات ولا المسائل المتجددة، وهي وإن كانت تتخذ أساسًا في نصها أو روحها للاجتهاد وبيان الأحكام، فإن العرف يساعد كثيرا في هذا الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم الواقع وتطبيق الحكم الشرعي عليها سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو في معاملاتهم وعقودهم حتى أصبح العرف الصحيح ذريعة إلى تبدل الأحكام وتغيرها باختلاف أعراف الناس في بيئتهم المختلفة وأماكنهم المتغايرة وهذا هو سبب تغير اجتهادات الإمام الشافعي في كثير من المسائل بين حكمه عليها حين كان في بلاد العراق وحكمه عليها حين انتقل إلى مصر حيث رأى تغير أعراف الناس وعاداتهم يعدل في اجتهاداته حتى صارت تعرف بالمذهب الجديد واجتهاداته بالعراق بالمذهب القديم وجميع الأئمة اعتبروا العرف الصحيح في الأحكام الشرعية ومالك كما قدمنا وأتباعه أقاموا للعرف وزنًا كبيرا وأخذوا به في كل ما لا نص فيه قطعي وتركوا القياس إذا خالف العرف، وقد قال القرطبي في باب الاستحسان: إن من ضروب الاستحسان ترك القياس لأجل العرف وجعلوه يخصص العام ويقيد المطلق، وقد صرح الزيلعي: أن العرف من أقوى الحجج في مشروعية المضاربة (2)

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية 3 / 3

(2)

تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 6 /29، ط الأميرية.

ص: 2530

كما ذكر الشافعية في كثير من الأحكام تعليل مشروعيتها بجريان العادة والعرف بين الناس، مثل اعتبار الحب في غالب قوت البلد ودخول الحمام من غير تعيين مدة المكث ومقدار الأجرة بجريان العرف والتسامح في مثل هذا (1) .

وقد نقل الشيخ أو زهرة نصوصًا كثيرة من المذهب المالكي موضحا أنها كانت شهادة باعتبار العرف أصلًا من أصول الاستنباط وأنه كثيرًا ما يتفق مع المصلحة وإن المصلحة أصل بلا نزاع في مذهب مالك على أن العرف يقتضي تأليف النفوس لما يكون من أحكام تكون على مقتضاه ومخالفته تؤدي إلى الحرج والمشقة وهما مرفوعان في الشريعة كقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .

والله من رحمته بعباده إنما يشرع ما يستسيغه الناس ويألفونه لا ما يكرهونه ويبغضونه إذ الشريعة ليست بنكاية كما قدمنا. ولأن العرف إذا لم يكن على رذيلة وهو العرف المحترم الصحيح يكون احترامه مقويًّا للوحدة دافعًا لاجتماع كلمة الأمة رابطًا بين الناس وإن مخالفته هدم لهذه المآثر وبناء على ما نقلنا ندرك أن مرتبة العرف تأتي مباشرة بعد مرتبة الكتاب والسنة حيث إنه يرجع إلى المصلحة وحيث هو راجع إلى المصلحة كان في مرتبتها إذ ليس بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا المصلحة، ولا شك أن الإجماع لم يراع فيه المجتهدون إلا المصلحة ومهما تحققت المصلحة سار الناس إليها ومهما استعصى الأمر على المجتهد وعدم النص من الكتاب والسنة ولاح له عرف صحيح إلا خذ به واعتمد عليه، لأن العمل به كفيل بتحقيق المصلحة، بوساطته يدرك المنفعة أو المفسدة فيقرر ما تقتضيه من مصلحة ويرفض ما فيه مفسدة، ولقد اعتبره العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مصدرًا فطريًّا حيث يقول: ونحن إذا وجدنا النظر في المقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرفها واختلالها ولعل ما أفضى إلى خرق عظيم فيها يعد في الشرع محظورًا ممنوعًا وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبًا وما كان دون ذلك في الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة وما لا يمسها مباح، ثم إذا تعارضت مقتضيات الفطرة، ولم يمكن الجمع بينهما في العمل يصار إلى ترجيح أولاها وأبقاها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم بالإنسان بعد الشرك، وكان الترهيب منهيًّا عنه، وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات، ولم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعًا يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد بخلاف الانتفاع بالحيوان، وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعًا ومن هنا تعلم أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة لأن شرط العادة التي يقضي بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية فهي تدخل تحت حكم الإباحة وقد علمت أنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها وحينئذٍ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس، وإما لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر (2) .

(1) المحلى: 4 / 71

(2)

مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: ص 58، 60، ط دار النشر

ص: 2531

وقد ظهر بما نقلنا أن العرف أصل ومصدر في الشريعة أصل لأن منه يأخذ الفقيه الحكم ويبنيه عليه فيكون أصلًا بهذا الاعتبار، وهو مصدر لأنه منه يأخذ الفقيه الحكم ويبينه عليه فيكون أصلا بهذا الاعتبار وهو مصدر لأنه منه يأخذ وهو بالنسبة للأصولي دليل لنه يرشده إلى الحكام نعم هو دليل ظني لا يرقى إلى الأدلة القطعية المأخوذة من الكتاب والسنة إذا كانت قضية الثبوت قطعية الدلالة فهو أقل منهما رتبة بهذا الاعتبار، هذه منزلة العرف بين الأدلة.

وكما أنبنى على العرف مجموعة من القواعد الفقهية، انبنى عليه أيضًا قواعد أصولية كالاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة، فإن بعض أنواع الاستحسان، كاستحسان الضرورة مبني على العرف، إذ القياس مثلًا يقتضي منع بين المعدوم وينبني عليه منع بين السلم والاستصناع ونحوها ولكنها جازت استحسانًا وهو مبني على العرف (1)، ولذلك قالت الحنفية في تعريف الاستحسان: دليل ينقدح في عقل المجتهد يقتضي ترجيح قياس خفي على قياس جلي أي مقتضى الإباحة في مقابلة ما يقتضيه القياس من المنع والحظر ولذلك اعتبره الحنفية دليلا شرعيًّا، وقالوا: نأخذ بالاستحسان ما استقام، يعنون أن الاستحسان قياسي خفيت علته بالنسبة إلى قياس ظاهر متبادر (2)

والعلة كثيرًا ما تكون تعامل الناس وعرفهم في هذا التعامل وحاجتهم إليه، ومثل الحنفية المالكية في الاستحسان، إذ هو إيثار مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته وقد عرفه الشاطبي في موافقاته، فقال: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي يقتضي النفع، قال ابن العربي في ترك الدليل العام: أسباب ترك الدليل أربعة: يترك الدليل للمصلحة، ويترك للتيسير ورفع الحرج، ويترك للإجماع، ويترك للعرف (3) . وهذا الأخير هو الاستحسان المبني على العرف ومن هنا جاء مثلًا تضمين الصناع في الأعيان بصنعتهم مع أن الأصل أن لا ضمان على مؤتمن ومن هنا أيضًا جاء عدم اعتبار الربا في القليل اليسير التافه كما هو كمبين في كتب الفقه ومما يؤثر عن الإمام مالك عن هذا الاستحسان أنه تسعة أعشار العلم (4) .

(1) انظر بدائع الصنائع، للكساني: 1 /113

(2)

أصول الفقه للخضري: 367.

(3)

الاعتصام، للشاطبي: 2 /320

(4)

الموافقات، للشاطبي: 4 /118

ص: 2532

وقد قال بمثل هذا الاستحسان كثير من العلماء حتى من ورد عنهم القول بإنكار الاستحسان، ولقد ذكر الشوكاني عن بعض الأصوليين أنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، فقالوا: إن كانت العادة هي الثابتة في عصر النبوة، فقد ثبت بالسنة وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة من غير إنكار فقد ثبت بالإجماع (1) ، وعلى هذا فهو حكم، قال على العادة والعرف.

كذلك الاستصحاب يعتمد في بعض أحكامه على العرف ومعناه استدامة ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًّا أي: بقاء ما كان نفيًا وإثباتًا حتى يقوم الدليل على تغيير حالته (2) وهو اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال كما هو عند القرافي (3) باعتبار ما كان عليه الأمر أو الحكم فيما مضى مستمرا إلى حال المتكلم يستمر العمل ما لم يصادم نصًا أو يقم دليل على عم اعتباره، والاستصحاب حجة عند المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية والظاهرية عند عدم الدليل، وقال به أيضًا الحنفية إذا كان للدفع لا للرفع ويعبرون عنه باستصحاب الحال سواء كان عرفًا أو وصفًا مثبتًا للحكم مثل استصحاب اليقين في الطهارة (4) .

ومن هنا بنوا قاعدة أن اليقين لا يزول بالشك وما ثبت باليقين لا يزول إلا باليقين والأصل بقاء ما كان على ما كان مما تفرع عن ذلك من الفروع الفقهية في الطهارات والعبادات والطلاق إلى غيرها من المسائل (5) .

وكذلك المصالح المرسلة وهي التي لم يشهد لها من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وترجع إلى حفظ مقصود الشارع مما علم كونه مقصودًا بالكتاب والسنة والإجماع والمصلحة هي ما به قوام الحياة من المنافع ودفع المضار، وهي تؤخذ بالقياس عند الشافعي وبالقياس والاستحسان عند أبي حنيفة، أما مالك رحمه الله فيرى أن المصلحة أصل بذاتها وأن أحكام الشرع ما جاءت إلا لتحقيق مصلحة أو درء مفسدة، ولكنها قد تعرف بالنص الخاص، وقد تطلب من النص العام أي أن مرجعها إلى مجموعة من النصوص كما هو في قوله عليه الصلاة والسلام:((لا ضرر ولا ضرار)) وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ومما تفرع عنها ضرب المتهم ليقر بالمسروق وزواج امرأة المفقود بعد أربعين سنة من انقطاع خبره لترجيح مصلحة الزوجة واعتداد المرأة المطلقة التي يمتد طهرها بثلاثة أشهر فوق مدة الحمل لئلا تتضرر بطول العدة (6) ومعلوم أن من أعظم ما يعين جهة النفع والضر العرف، فإن كانت جهة الضرر غالبة كانت مفسدة بالمعنى العرفي وإن كانت جهة النفع غالبة كانت مصلحة بالمعنى العرفي (7) ، والمصلحة المرسلة التي تبنى على اختلاف أوضاع الناس وأعرافهم وتقاليدهم وعاداتهم هي المصلحة المرسلة المبنية على العرف.

(1) إرشاد الفحول، للشوكاني: ص 241

(2)

إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم: 1 /264

(3)

تنقيح الفصول، للقرافي: ص 199

(4)

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني: ص 137

(5)

انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 57 – 63.

(6)

الموافقات للشاطبي: 2 /16 وما بعدها، تفسير المنار: 7 / 194

(7)

المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء: 1 /95، ط 9

ص: 2533

علاقة العرف وارتباطه بالقرائن:

القرائن جمع قرينة والمراد بها عند الفقهاء الإمارة الظاهرة تقارن الشيء الخفي، فتدل عليه، مأخوذة من المقارنة بمعنى الموافقة والمصاحبة وهي تتفاوت قوة وضعفًا، فقد ترتقي في القوة إلى درجة اليقين، وقد تضعف حتى تنزل دلالتها إلى درجة مجرد الاحتمال، ولقد عقد ابن فرحون في التبصرة بابًا في قضاء ما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات، واستدل على اعتبارها من الكتاب والسنة وعمل السلف (1) فمن الكتاب قوله تعالى:{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} دل على السيما، المراد بها حال يظهر على الشخص كمثل، إذا رأيناه ميتًا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء وكذا قوله تعالى {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} .

وقال عبد المنعم بن الفرس: روي أن إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقًا ولا أثر ناب، فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليمًا يأكل يوسف ولا يخرق قميصه قال القرطبي في تفسيره، قال علماؤنا لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لا بس القميص ويسلم القميص، وأجمعوا على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام استدل على كذبهم بصحة القميص، فاستدل الفقهاء بهذه الآية على أعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه، وقال تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [سورة يوسف: الآيات 26 – 29] .

قال ابن الفرس هذه الآية يحتج بها من العلماء من يرى الحكم بالأمارات والعلامات فيما لا تحصره البينات (2) .

(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون: 2 / 95، ط حلبي سنة 1302 هـ

(2)

تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 95، ط البهية مصر 1302 هـ

ص: 2534

هذا من القرآن وأما من السنة النبوية فمنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بموجب اللوث في القسامة وجوز للمعدين أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة، واللوث دليل على القتل، فإن قيل: أين اللوث أجيب؟ بأن الحديث فيه ذكر العداوة بينهم، وأنه قتل في بلدهم وليس فيها غير اليهود، قال المازري رحمه الله تعالى: وعندي أن الأظهر في الجواب أن القرائن تقوم مقام الشاهد، فقد يكون قد قام من القرائن ما دل على أن اليهود قتلوه ولكن جهلوا عين القاتل، ومثل هذا لا يبعد إثباته لوثًا، فلذلك جرى حكم القسامة فيه والله أعلم، ومنها ما ورد في الحديث الصحيح في قضية الأسرى من قريظة لما حكم فيهم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية، فكان بعضهم يدعي عدم البلوغ، فكان الصحابة يكشفون عن مؤتزريهم فيعلمون بذلك البالغ من غيره وهذا من الحكم بالأمارات ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وجهل وصفة لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة ومنها حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بالفاقة وجعلها دليلًا على ثبوت النسب وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات، ومنها أن ابني عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هل مسحتما سيفيكما؟)) ، قالا: لا، فقال صلى الله عليه وسلم ((أرياني سيفكيما)) فلما نظر فيهم قال لأحدهما:((هذا قتله وقضى له بسلبه)) ، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير بعقوبة الذي اتهمه بإخفاء كنز ابن أبي الحقيق، فلما ادعى أن النفقه والحروب أذهبته قال صلى الله عليه وسلم:((العهد قريب والمال كثير)) ومنها أنه صلى الله عليه وسلم فعل بالعرفيين ما فعل بناء على شاهد الحال ولم يطلب بينة بما فعلوا ولا وقف الأمر على إقرارهم (1) . .

وأما من فعل السلف فمنها حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابه معه متوافرون برجم المرأة إذا ظهر بها حمل ولا زوج لها، وقال بذلك مالك وأحمد بن حنبل اعتمادًا على القرينة الظاهرة، ومنها ما رواه ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله، قال: أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقًا، فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته)) (هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين)، فأقام العلامة مقام الشهادة. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:((الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها)) فجعل صماتها قرينة على الرضا وتجوز الشهادة عليها بأنها رضيت، وهذا من أقوى الأدلة على حكم القرائن، ومنها حكم عمر بن الخطاب وابن مسعود وعثمان رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف بوجوب الحد على من وجد فيه رائحة الخمر أو قاءها اعتمادًا على القرينة الظاهرة وهو مذهب مالك رضي الله عنه (2) .

(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 97، ط البهية مصر 1302 هـ

(2)

تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 97، ط البهية مصر 1302 هـ

ص: 2535

والقرائن تنقسم إلى قسمين قرينة عقلية وقرينة عرفية، فالقرينة العقلية هي التي تكون النسبة بينها وبين مدلولها ثابتة يستنتجها العقل دائمًا كوجود المسروق بيد المتهم بالسرقة أو ببينة والعرفية هي التي تكون النسبة بينها وبين مدلولها قائمة على عرف وعادة تتبعها دلالتها وجودًا وعدمًا وتتبدل بتبدلها كشراء المسلم شاة قبيل عيد الأضحى، فإنها قرينة عرفية على قصد الأضحية وكشراء الصائغ حليًّا، فإنه قرينة على أنه اشتراه للتجارة ولولا عادة التضحية عند الأول والتجارة عند الثاني لما كان ذلك قرينة (1) .

وتنقسم القرائن باعتبار آخر إلى قرائن شرعية أو قانونية والى قرائن قضائية، فالقرائن الشرعية هي التي يعتمدها الشارع أسبابًا في بعض الأحكام، أما القرائن القضائية فهي التي يتخذها القاضي دليلا في تخصيص الوقائع وإثباتها ويعود إليه تقدير دلالتها، والنوع الأول أي القرائن الشرعية أو القانونية هي في الأغلب من نوع القرائن العقلية، لأن الشارع يبني عليها حكمًا ثابتًا فيجب أن يقام على نسبة ثابتة بين الدلالة ومدلولها، كما في حكم التقادم وطلاق الفرار، أما القرائن القضائية فقد تكون عقلية وقد تكون عرفية لأن القضاء يستأنس بجميع الأدلة ولو وقتية (2) .

وفقهاء الإسلام اعتبروا القرائن والعلامات من الأدلة المثبتة التي يعتمد عليها في القضاء ولكنهم اختلفوا هل القرينة وحدها كافية تشهد لمدعيها وتحط عنه اليمين أو لا بد له من أداء اليمين، وهذا بناء على أن العرف هل يقوم مقام شاهد واحد أو شاهدين، وقد نقلنا الخلاف في ذلك نقلناه عن الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية للشيخ الوالد رحمه الله حين كلامه على بيان المدعي من المدعى عليه، وقد قال المازري في الجواهر: الأظهر أن القرينة تقوم مقام الشاهد، والحق أن هذه القرائن إما أن تكون قطعية وإما أن تكون ظنية، فإن كانت قطعية كانت كافية قائمة مقام البينة، كما إذا رأينا رجلًا مذبوحًا في منزل والدم يسيل منه وليس في الدار أحد ورأينا رجلًا قد خرج من الدار مضطربًا في حالة منكرة، علمنا أنه الذي قتله، وكان لوثًا يوجب القسامة، والقود للقرينة الظاهرة، وهي المسألة الأربعين من المسائل التي ذكرها ابن فرحون في بيان عمل فقهاء الطوائف الأربعة بالحكم بالقرائن والأمارات ومثل لذلك بخمسين مسألة (3) .

(1) انظر المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقاء: 2/ 919، ط الفباء دمشق 1967 م.

(2)

انظر المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقاء: 2/ 919، ط الفباء دمشق 1976 م. 2 /923

(3)

تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون: 2 /93- 101

ص: 2536

أما الحالة الثانية، فإن الفقهاء يعتمدونها دليلا أوليًّا يترجح بها قول المدعي مع يمينه إلى أن يثبت خلافها، وقد اتفق مالك وأبو حنيفة على اعتبار القرائن وخالف الشافعي في ذلك ظنًا منه أن في هذا مناقضة ومخالفة للحديث المشهور ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) (1)

ولقد أوضح محمد علي حسين أن لا مخالفة بين العمل بالقرائن وبين ما جاء في حديث ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) ذلك أن القاعدة أن المدعي من خلا قوله عن أصل أو عرف وأن المدعى عليه من عضده أصل أو عرف، فالمدعي الدين على غيره على خلاف الأصل، إذ الأصل براءة الذمة فالمطلوب من المنكر هو على وفق الأصل. والمدعى رد الوديعة وقد قبضها ببينه هو المدعي، لأن قوله على خلاف الظاهر والعرف بسبب أن الغالب أن من قبض ببينه أن لا يرد إلا بينه، والمدعي عدم القبض هو على وفق الظاهر والعرف يشهد له وهذه القاعدة تقتضي أن المرأة إذا ادعت قناعًا وشبهه مما هو يختص بالنساء كان قولها على وفق الظاهر، وقول الزوج على خلافه فكان مدعيًا وهي مدعيًا عليها، وقد نقلنا عن الطريقة المرضية للشيخ الوالد أن معرفة المدعي من المدعى عليه هو مناط التوتر ومحور النظر ومحل الاهتمام إذ بتمييز أحدهما عن الآخر يتنكب عن الخطأ في تكليف أحدهما بغير ما عينه الشرع له، وعليه فمخالفة الشافعي في الاعتماد على القرائن ودعوى أنها تعاكس ما ورد في الحديث من أن ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) لا يقوم حجة، بل وهي المعينة لمعرفة المدعي من المدعى عليه، كما ذكره الوالد رحمه الله في الطريقة المرضية وعلى أساس الاعتماد على القرائن العرفية، قرر الفقهاء حلولًا كثيرة في شتى الحوادث في اختلاف الزوجين في حال العصمة وبعد الفراق أو الموت وإجراء الحكم حسب القرائن والعادات وما يقتضيه العرف من اختصاص ذلك بالرجال أو النساء، أما ما كان مشتركًا يصلح لهما معًا كالدار يسكناها والماشية يتصرفان فيها، فيترجح قول الزوج لأنه صاحب اليد وهي قرينة على اعتبار الملك، فقال مالك: إذا اختلفا وهما زوجان أو عند الطلاق قضي للمرأة بما هو شأن النساء وللرجل بما هو شأن الرجل وما يصلح لهما قضي به للرجل لأن البيت بيته في العادة، فهو تحت يده فقدم لأجل اليد كما في التبصرة وكذا لو اختلف المتبايعان في قبض السلعة أو الثمن فالأصل بقاء الثمن بيد المبتاع وبقاء المبيع بيد البائع ولا ينتقل ذلك إلا ببينة أو عرف كالسلع التي جرت العادة أن المشتري يدفع ثمنها قبل أن يبين بها كاللحم والخضر ونحوها فيحكم في ذلك بالعرف والعادة ولو اختلف عطار ودباغ في العطر والجلد أو اختلف فقيه وحداد في نحو الجبة والكير كانت لهما عليه يد حكمية، أو تنازع رجل وامرأة رمحًا يتجاذبانه فالقول في هذا كله قول من شهد له العرف والعادة وقرائن الأحوال فالجبة للفقيه والكير للحداد والرمح للرجل وكل هذا مع اليمين (2) .

(1) أخرجه البخاري في الرهن والترمذي وابن ماجه في الأحكام.

(2)

تبصرة الحكام: 2 / 66

ص: 2537

وقد عقد ابن فرحون في تبصرته بابًا وهو السابع والخمسون في القضاء بالعرف والعادة، ونقل عن ابن يونس قال: إذا فرعنا على مذهب مالك فمن قضي له بشيء حلف عليه، قال الإمام سحنون: ما عرف بأحدهما لا يحلف عليه، قال ابن القاسم: فما ولي الرجل بشرائه من متاع النساء وشهدت به البينة أخذه بعد يمينه أنه ما اشتراه إلا له وكذلك المرأة ومن الشيوخ من نفى الخلاف عن ذلك، وقال: إذا ادعت المرأة شيئًا من متاع النساء وكذبها الرجل أو ادعى الرجل شيئا من متاع الرجال وكذبته المرأة فلا خلاف في تعلق اليمين في ذلك، وإنما الخلاف في وجوب اليمين إذا تنازع ورثة الزوجين أو تنازع ورثة أحدهما مع الآخر دون تحقيق الدعوى فيجري الخلاف على الخلاف في أيمان التهم وهذه طريقة ابن رشد والطريقة الأولى أسعد بنقل المتقدمين والذي قاله هذا الشيخ هو الذي تشهد له أصول المذهب، وقد ذكر في هذا الباب سبعة عشر فرعًا وتنبيهات ثلاث وقاعدة ومسائل تسع وكلها تحوم حول موضوع سلطان العرف والعادة حول القضاء والفتيا كما ذكر (1) .

وقد ذكر في الباب الخامس والعشرين بالقضاء بقول المدعي لرجحانه بالعوائد وقرائن الأحوال أو لاتصافه بالأمانة أو غير ذلك من وجوه الترجيح، وقد ذكر نبذة من مسائل هذا الباب فذكر منها قبول قول المرأة في الإصابة إذا خلا بها خلوة اهتداء ويحكم عليه بالصداق وإن كان منكرًا للوطء لأن الخلوة بها أول مرة يشهد العرف والعادة أن الرجل لا يفارق المرأة حتى يصل إليها وهل يلزمها يمين أم لا قولان، وفي خلوة الزيارة قولان، قيل: القول لها وهو الأشبه عند أبي زيد، وقيل: قول الزائر منهما وهو المشهور، وقيل: القول قول الثيب وينظر النساء للبكر.

المسألة الثانية: إذا أقر الوصي أنه قبض من الغرماء ما عليهم وضاع صدق وإن لم تقم بينة على الدفع لكونه قائما مقام الأب في الشفعة والأمانة.

المسالة الثالثة: إذا أقر الأب أنه قبض النقد من صداق ابنته من الزوج وادعى تلفه فالأب مصدق عند ابن القاسم وإن كان قبضه بغير معاينة البينة ويبرأ الزوج ويدخل بزوجته ويلزم الأب اليمين لحق الزوج في تجهيز زوجته به.

(1) تبصرة الحكام: 2 /64 – 74.

ص: 2538

المسألة الرابعة: إذا ادعى المعترض أنه وطئ زوجته، فالقول قوله مع يمينه، وقيل: بغير يمين، قاله مالك في الواضحة، وقيل: بنظر النساء البكر والأول هو المشهور.

المسألة الخامسة: يقبل قول الوصي فيما اتفق على اليتيم إذا أشبه قوله الصدق وقيل يقبل قوله فيما اتفق في عمارة ريعه وختانه إذا أشبه الصدق.

المسألة السادسة: يقبل قول الزوج أنه أنفق على زوجته إذا كان مقيمًا معها وادعت أنه لم ينفق عليها لشهادة العرف له.

المسألة الثامنة: يقبل قول المرأة أنها انقضت عدتها ولا يمين عليها إذا كان الزمن ممكنا وإن كان على خلاف عادتها.

المسألة التاسعة: إذا ادعت المرأة أن عدتها انقضت بسقط قبل قولها وإن كان ذلك بعد الطلاق بيوم ولا يمين عليها ولا يلتفت إلى تكذيب الجيران لها.

المسألة العاشرة: يقبل قول الأمة أن هذا الولد الذي معها ولدها فلا تجوز التفرقة بينهما في البيع ولا يعمل بقولها في الميراث فلو عتقا لم يتوارثا بدعواهما.

المسألة الحادية عشر: إذا خيف عرق المركب وطرح منه ما يرجى به سلامته فالقول قول المطروح متاعه فيما يشبهه وقال ابن القاسم هو مصدق مع يمينه في ثمن متاعه المطروح ما لم يأتِ بما يستنكرون: لا يمين عليه إلا أن يتهم فيحلف.

المسألة الثانية عشر: إذا ادعى المساقي أنه دفع لرب الحائط الجزء الذي ساقاه عليه وقال رب الحائط بعد فراغ المساقاة ولم يدفع العامل شيئًا فقال مالك: إن كان قد جدا الثمرة فلا شيء له وعلى العامل اليمين كان بقرب الجذاذ أو بعده. وكذا لو جذ بعضها رطبًا والباقي تمرًا فقال قبل جذاذ الثمرة لم يدفع لي شيئًا من الرطب ولا من ثمنه، فالعامل مصدق مع يمينه قال ابن يونس: لأن حقه في عين الثمرة لا في ذمة العامل لجريان العادة بدفع ذلك بغير إشهاد.

المسألة الثالثة عشر: من حاز شيئًا مدة لكون الحيازة فيها معتبرة والمدعي حاضرًا ساكت وليس له عذر في سكوته، ثم يقوم على الحائز ويدعي عليه فادعى الحائز الشراء كان القول قوله مع يمينه.

المسألة الرابعة عشر: وإذا ادعى المودع رد الوديعة فالقول قوله مع يمينه وهو مدع، وإنما ترجح قوله لأنه استأمنه والأمين مصدق.

ص: 2539

المسألة الخامسة عشر: وكذلك لو ادعى البائع أنه باع بالدراهم وقال المشتري، بل بالسلعة فالقول قول البائع لقوة قرينة صدقه لأن الدراهم هي الأثمان وبها يقع البيع.

المسألة السادسة عشر: إذا باع السمسار سلعة فوجد المشتري بها عيبًا فسأل السمسار عن رب السلعة، فقال: لا أعرفه خلف أنه ما يعرفه.

المسألة السابعة عشر: إذا وضعت الجارية المستبرأة عند المشتري واستأمنه عليها البائع فقال بعد شهرين أو ثلاثة: لم تحض أو ماتت، صدق في ذلك وكان القول قوله.

المسألة الثامنة عشر: من دفع إلى رجل يخيطه له بلا أجرة والرجل ليس من الصناع الذين نصبوا أنفسهم للناس بالأجر فادعى ضياع الثوب من عنده، فلا ضمان عليه وعليه اليمين أنه ضاع من غير تفريط.

المسألة التاسعة عشر: إذا ادعى المضروب ذهاب سمعه أو جميع بصره فالقول قوله بعد الاختبار بما يكن ويصدق مع يمينه، لأنه لا يمكن التوصل إلى صدقه إلا من قوله.

المسألة العشرون: من ادعى أنه أمن رجلًا من أهل الحرب فإنه يقبل قوله وإن لم يكن له بينة على تأمينه، هذا قول ابن القاسم، وقال سحنون: لا يقبل إلا بينة.

المسألة الواحدة والعشرون: إذا ادعت المرأة الغريبة الطارئة من بلد بعيد أنه لا زوج لها فالقول قولها ويزوجها الحاكم إذا لم يطمع على الوقوف على حقيقة دعواها.

المسألة الثانية والعشرون: إذا ادعى المأمور أنه تصرف كما أمره الموكل فقال الموكل: لم تتصرف بعد، فالقول قول المأمور لأنه أمين.

المسألة الثالثة والعشرون: لو قال المأمور بعت السلعة بعين وقال الآمر أمرتك أن تبيعها بعرض، فالمأمور مصدق لأن من باع بعين فالأصل يعضده لأنها القيم التي يتبايع الناس بها غالبًا.

المسألة الرابعة والعشرون: وكذلك لو أمره الموكل ببيع سلعة أو شرائها وادعى المأمور أنه دفع ذلك إلى الأمر، فالقول قول المأمور وكذلك القول قول الوكيل في ضياع الثمن.

المسألة الخامسة والعشرون: إذا استأجر المستأجر، وادعى رد ما استأجره من العروض فهو مصدق لأن يده أمينة قبض ذلك ببينة أو بغير بينة رواه أصبع، عن ابن القاسم.

المسألة السادسة والعشرون: إذا ادعى الغاصب أنه غصب الثوب خلقًا وقال ربه: بل غصبه جديدًا فالقول قول الغاصب مع يمينه وإذا حلف أدى قيمته خلقًا.

ص: 2540

الفصل الثاني: في تصديق المدعى عليه والروع إلى قوله، وذكر عدة مسائل، منها: إذا اختلف المبتاع والشفيع في مرور السنة وانقضائها بعد البيع ولا بينة فالشفيع مصدق مع يمينة، وهو مدعى عليه لأن الشفعة قد وجبت له، والمشتري مدعى لتاريخ يسقط ما ثبت له منها فلا يقبل قول البائع في ذلك.

المسألة الثانية: وكذا من اشترى أرضا فقبضها ثم قام عليه رجل يطلبها بالشفعة، فزعم المشترى أنه اشترى شيئا مقسومًا، وقال الشفيع: إنها لم تقسم، فالقول قوله لأنه مدعى عليه.

المسألة الثالثة: إذا وهب هبة مطلقة وادعى أنها للثواب، وقال الموهوب: لغير الثواب، حكم بالعرف مع اليمين فإن أشكل فالقول قول الواهب مع يمينه.

المسألة الرابعة: لو باع الوكيل السلعة وقال: بذلك أمرتني، وقال ربها: إنما أمرتك برهنها، فالقول قول رب السلعة فاتت أو لم تفت.

المسألة الخامسة: لو اشترى المأمور السلعة بعشرين فقال الآمر: ما أمرتك إلا بعشرة فالقول قوله مع يمينه ويغرم الوكيل العشرة لرب السلعة هذا هو المشهور.

المسألة السادسة: إذا اختلف الزوجان في عدد الصداق بعد البناء، فالقول قول الزوج مع يمينه، قال ابن القاسم: لأنها مكنته من نفسها فصارت مدعية عليه وهو مقر لها بدين، فالقول قوله مع يمينه، وإن نكَّل فالقول قولها مع يمينها هذا هو المشهور.

المسألة السابعة: إذا ادعت المرأة أن لزوجها جنونًا، وأنكره فالقول قوله وعليها البينة.

المسألة الثامنة: إذا ادعى المشتري الإقالة فأقر له البائع بذلك ورغم أنه أقاله على أن يرد عليه أقل من الثمن الذي دفع إليه فلا يقبل قوله إلا ببينة، وعلى المشتري اليمين أنه ما قاله إلا بمثل الثمن.

المسألة التاسعة: لو قال من بيده الدار أعرتني هذه الدار، وقال ربها: بل بعتكما، فالقول قول مدعي العارية مع يمينه.

المسألة العاشرة: إذا تداعى رجلان في عقد البيع هل كان ولم يكن فالقول قول المدعى عليه البيع أو الشراء ولا يمين على المدعى عليه إن كانت السلعة بيد صحابها.

المسألة الحادية عشر: إذا أشهد البائع بقبض الثمن، ثم قال: إنها فعلت ذلك ثقة للمبتاع لم يقبل منه المشتري مدعى عليه، فإن طلب يمين المبتاع على دفع الثمن لم يكن له ذلك، وقد ذكر ابن فرحون أنه استقصى مسائل هذا الباب وأفردها في تأليف اسماه ببروق الأنوار الموضحة لأنواع طرق الدعوى (1) .

(1) تبصرة الأحكام في أصول الأقضية ومناهج الإحكام، لابن فرحون: 1 /252 إلى 255

ص: 2541

وبما نقلنا نرى كيف أن الفقهاء اعتبروا سائر القرائن العرفية وجعلوها من المرجحات الأولية التي يعتمدها القضاء مع اليمين في بعضها ومع عدمها في بعضها حسب القوة الشبهة وضعفها بين المتخاصمين وبحسب اعتبار العرف هل يقوم مقام الشاهد أو مقام الشاهدين ولقد قال الإمام ابن العربي: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فيما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها.

شرط من يتولى القضاء بين الناس:

لقد نص الفقهاء على أن من شرط القاضي بل هو الشرط الأساسي العلم فلا يجوز تولية الجاهل بالأحكام الشرعية لأن القاضي بالشرع للأحكام بمقضتى الشرع موافقته ومن شأن من يكون كذلك أن يكون عالمًا لا جاهلًا حتى يدرك أسرار القضاء ولذلك اشترطوا فيه أن يكون جامعًا بين الفقه والحديث بل ذهب ابن الحاجب إلى اشتراط أن يكون مجتهدًا بحيث لا تجوز ولا تصح ولاية المقلد ولا تنفذ أحكامه (1) مع وجود المجتهد قال ابن الحاجب: فإن لم يوجد مجتهد فمقلد، وإذا كان بعض الفقهاء أجازوا ولاية المقلد فقد اشترطوا أن يختار من أعلم المقلدين، قال ابن عبد السلام: وينبغي أن يختار أعلم المقلدين وقد اعتبر القاضي ابن العربي، والقاضي عياض والإمام المازري العلم من الشروط الواجبة (2) .

ونقل ابن عبد البر أن الأئمة اشترطوا أن يكون القاضي عالمًا بالسنة والآثار وأحكام القرآن ووجوه الفقه واختلاف العلماء (3) وقد رد ابن رحال على ابن رشد فيما ذهب إليه من أن شرط العلم مستحب لا واجب بأن هذا قول شاذ بعيد عن الصواب إذ القاضي هو أحوج الناس إلى العلم (4) ولقد اشترط العلماء للأخذ بالعرف أن يكون عرفًا صحيحًا لا فاسدًا فإذا كان القاضي غير عالم بالأحكام الشرعية فكيف يستطيع أن يميز بين الصحيح والفاسد، ولذا كان العرف من حيث صلاحه للعمل به أو طرحه وفساده من مهمة الفقيه العالم بالأحكام المتمرس عليها، أما من جهلها فلا اعتداد بأحكامه ولا عبرة بعرفه لأن اتباع العادات والأعراف من غير دليل شرعي هو فساد في الدين وابتعاد عن شريعة رب العالمين إذ كثير من الأعراف ما كان مبنيا على الهوى، وإذا لم يكن القاضي من العلماء الأعلام القادرين على تمحيص الأعراف المقبولة من الأعراف المردودة كان غير صالح للقضاء على أن العرف يلجأ إليه عند عدم النص الصريح أو الضمني في القضية.

(1) شرح ميارة للتحفة: 1 /10

(2)

شرح ميارة للتحفة: 1 /10

(3)

الكافي، لابن عبد البر.

(4)

حاشية ابن رحال: 1/ 2، على هامش شرح ميارة، للتحفة

ص: 2542

أما مع وجود النص فلا عبرة بالعرف كما قدمنها وإلا لزم نسخ الشريعة بالعادة، ولا قائل بذلك فالمرجع حينئذٍ إنما هو لقواعد الشرع، وقد أوجب الفقهاء على متولي الإفتاء والقضاء في المسائل الجاري بها العرف أن ينظر فيها، فإن كانت مما تكلم فيها الفقهاء قبله بما يخالف العرف الجاري فيها في زمانه نظر في مستند الفقهاء في كلامهم، فإن كان مستندهم دليلًا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس حكم فيها وأفتى بما قرره الفقهاء قبله وألغى العرف؛ لأنه لا يعتد به عند مصادرة الدليل الشرعي، وإن كان معتمدهم في ذلك ما جرى به العرف عندهم قد تغيرت الأحوال وتبدلت العادات حكم بما عليه عرف ذلك البلد كما قدمنا ولا يعتبر ذلك من تبديل الأحكام ونسخها وإنما هو من ترتيب الحكم على العلة وجودًا وعدمًا والأعراف المعتبر هي التي توزن بميزان الشرع فما وافق فهو معتبر يؤخذ به كلما تحققت به المصلحة، أما ما كان مخالفًا للشرع فلا يعتبر ولا يؤخذ به بحال، هذا هو الرأي الذي تطمئن له النفوس وتقبله الشريعة.

أما ما ذهب إليه بعض علماء المغرب من الأخذ بما جرت عليه أعراف الناس بإطلاق كأعراف القبائل البربرية المغربية في عقود الأنكحة والمغالات في الأيمان وتشريك أقارب المتهم في تأدية القسم وأخذ الولي صداق البنت لنفسه ونحو ذلك، وقد اختلفت أنظار علماء المغرب في الأخذ بهذه الأعراف وافترقوا فرقًا ثلاثة، فمنهم: من حمل على هذه الأعراف واعتبرها مروقًا وخروجًا عن الدين يجب محاربتها والقضاء عليها ومنهم: من سايرها ورأى فيها تحقيق مصلحة القوم التي لا تتحق إلا بالأخذ بها فيحبذها وآثر العمل بها ودافع عنها، والفريق الثالث: وقف موقفًا وسطًا فأخذ بما يواق الشرع ولا ينقاصه، ورد وأنكر وحارب ما كان مخالفًا للشرع ومبادئه ومقاصده، وقد ذكر الدكتور عمر الجيدي في كتابه العرف والعمل في المذهب المالكي فبين أن المؤيدين لهذه الأعراف والأحكام والتنظيمات بالنسبة لأعراف سوس منهم الشيخ الحسن بن عثمان الجزولي، وابن غازي، وعمروبن أحمد بن زكرياء العقيلي، وقد أصدر هذا الأخير منشورًا يعد نموذجًا للأعراف التي في سوس ومثله الشيخ أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن عمرو بن طلحة التمنارتي، وعبد الله بن مبارك اللقاوي، ونقل عن أبي الحسن علي بن أحمد العمري في كتاب فتاوى الحاكم أن أول من أحدث الخلاف هذان العالمان السابقان وهما اللذان أمرا يكتبها في ألواح القبائل من هلالة وهشتوكة، وتابعهما أهل عصرهما وتلقوا ذلك بالقبول، وكذلك الفقيه عبد الله بن الحاج شعيب الهلالي له بحث في مسائل هذه الأنواع، ومثله الشيخ محمد البوعقيلي الهلالي، وهو الواضع للوح حصن زاوية سيدي يعقوب، وإن له كتابًا في الأعراف وكذلك أبو عيسى السكتاني الرجراجي صاحب النوازل، ومحمد بن سليمان الجزولي السملالي، ثم بيَّن أن مما أيدها من المحدثين المختار السنوسي الذي ذكر أن أهل سوسن أسسوا قواعد وحتموا اعتبارها وقوانين أيدوا بها أعمالها وإقرارها ورتبوا جنايات الأموال ومنها مثلًا، من تعرض لأحد ذهب لأسواقهم، أو مواسمهم أو حصونهم، أو تعرض لفقيه أو عالم أو طالب علم، ولو بسبب أو شتم، أو تعرض ليهودي في ملاحة أو في طريقه أو سرق، أو جنى جروحًا، أو سفك دمًا أو غير ذلك، وشددوا في ذلك وعينوا النفائس (أي أعضاء الجمعية في كل قبيلة) ، تجتمع في مدرستها عند وقوع تلك النوائب، وعلى هذا النمط بنيت أحوال السوس الأقصى كله من أوله إلى آخر، ثم نقل عن الأستاذ العثماني في كتابه ألواح جزولة قوله نظرة خاطفة على النظام القضائي العرفي في بعض القبائل البربرية توحي لنا، وكأننا أمام نظام قار لا يختلف في كثير من الأشياء عما ورد في الشرع يسايرها ولا ينقاضها بل يسير في اتجاهها ومقاصدها مع مراعاة ضروريات الحياة وتطورها، والسياسة الشرعية مبنية على المصالح المرسلة في المسائل التي تنبع فيها أعراف البلاد وعاداتهم وتقاليدهم.

ص: 2543

الفريق الثاني: العملاء المعارضون من نفس القبائل التي كان يطبق فيها هذا العرف وهذا الفريق يندِّد بأصحابها والقائمين عليها، ومن هؤلاء عبد الله الهشتوكي، فهو يصفها بالضلال المبين وعبد الرحمن التمنارتي، فقد قال في شأنها إنها من باب التحكم إلى الطاغوت الذي أمرنا الله أن نكفر به، والشيخ محمد بن ناصر الدرعي الذي لما سئل عنها أجاب في حق أصحابها بأنهم عصاة ومنهم الشيخ عبد الرحمن الجزولي فقد علق على قولة عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، قال: هذا يستدل به أشياخ السوء من القبائل فيما أحدثوا أن من سل سيفه فضرب به لزمه كذا، ومن وضع يده على سيفه ولم يسله يلزمه كذا ومن لطم يلزمه كذا ومن شتم يلزمه كذا وعدد مجموعة، ثم قال: وكل ذلك بدعة أماتوا بها السنة ثم نقل أن الموقف هو الذي وقفه محمد بن عمر حيث ذهب إلى أن الضوابط التي اتفقت عليها الشيوخ والضمان ضلال مبين معللا بأن أحكام الشرع هي التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم وإن ترك الأحكام الشرعية واستنباط ضوابط وقوانين جديدة كفر صراح، وهذا هو نفس الرأي الذي ذهب إليه قاضي سوس عيسى بن عبد الرحمن، الذي قال في شأن الألواح: أنها ألواح شيطانية، وإنهم بذلك ينبذون الكتاب والسنة، ويحكمون بغير ما أنزل الله متحاكمين إلى الطاغوت.

الفريق الثالث: من توسط من العلماء في هذه الأعراف فقبلوا منها ما كان موافقًا للشرع ومقاصده ورفضوا ما كان مخالفًا معاكسًا، ونقل أن ممن أخذ هذا الموقف الشيخ عبد الواحد بن أحمد مفتي مراكش في زمنه ومحمد بن عمر والشيخ أحمد بابا التنكتي الذي أجاب عن سؤال يتعلق بهذه الأعراف خلاصته أن أهل الجبال والبادية يجتمعون عن آخرهم ويكونون منهم أهل الحل والعقد يسمونهم (انفلاس) ويتفقون على أن كل من قطع طريقًا ببلدهم يستردون منه ما سلب ويغرمونه إياها ويعاقبونه على فعلته بعقوبة مالية ويهدمون منزله ويذبحون بقره ويأكلونها ردعًا له، فإن لم يكن بيده شيء أخذوا قيمة ذلك من أقاربه وتأديتها ويعتبرون أن ذلك هو الإنصاف وأنهم لو تركوه لانعدم انتظام أمورهم وانعدام استقرارهم، وقد أجاب بما خلاصته أن الموضع الذي لا سلطان فيه أن اجتمعت جماعة المسلمين فيه على إقامة أحكام الله على وجه ما شرعه الله فإن حكمهم يقوم مقام حكم القاضي والسلطان، حيث لا سلطان ولاقاضي وأما فعلهم الضوابط والأحكام على مقتضى المصالح، فإن كانت جارية على وجه الشرع فليس بجعل بل إنفاد لأحكام الشرع، وإن كانت على خلافه فأمر حرام لا يجوز قطعًا، وأما استردادهم من قاطع الطريق ما أخذ من الموال فإن كانوا ليردوها إلى أصحابها فأمر حسن وإن كان ليأكلها فقبيح، وأما عقوبتهم للجاني بهدم داره وإتلاف ماله فالواجب على الجاني إن قطع الطريق أن يحارب فحكمه إنفاذ حكم المحارب فيه ولا تهدم داره ولا تتلف أمواله لأنها عقوبة بالمال وهي غير جائزة في المذهب والله سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1)

(1) سورة المائدة: الآية 33.

ص: 2544

فقد اتفق العلماء على أن من قتل وأخذ المال وجب إقامة الحد عليه ولا يسقط العقاب بعفو ولي المقتول والمأخوذ منه المال خلافًا للقتل العادي (1) ثم اختلفوا في عقوبة قطع الطريق هل هذه العقوبات على التخيير أم هي مرتبة على قدر جناية المحارب فالحنفية والشافعية والحنابلة أن الحد على الترتيب وعلى قدر الجناية فإن أخاف الطريق دون أخذ للمال ولا قتل، فالحكم النفي والتعزيز، وإن أخذ المال فقط فقطع اليد والرجل من خلاف، وإن قتل ولم يأخذ المال فالقتل، وإن قتل وأخذ المال فالقتل والصلب، أما مالك فيرى أن الإمام مخير بين هذه العقوبات حسب ما يقتضيه الردع والمصلحة وسبب الخلاف يرجع إلى (أو) هل هي للتخيير أو هي للترتيب، وكل الوجوه فليس هناك من قال بهدم منزله وسلب أمواله وأكل بقره ونحو ذلك مما جرى به العرف في بعض القبائل المغربية، قال مؤلف الكتاب: ومازال سكان المغرب في الجنوب يستعملون النصاف يطبقونه على كل من ارتكب مخالفة أو خالف عهدًا وخاصة في مناطق بني ملال وغيرها من القبائل المجاورة قال الشيخ أحمد بابا: أما ما يتعلق بالإنصاف فهو ظلم وحرام وليس من أحكام الشرع بل هو ظلم وعدوان وطغيان ونعي على الذين يزعمون أن ذلك لرعي المصلحة مصرحًا بأن ذلك كذب وبهتان وإثم وخسران، وأن من اعتقد حلية ذلك ربما أفضى به إلى المروق من الدين ووصف تحليفهم المتهم خمسين يمينًا بأنه من تغيير الشرع، إذ ليس في الشرع تحليف بغير يمين واحدة إلا القسامة بخمسين وفي اللعان بأربعة مع التخميس باللعنة والغضب ورفض أن يكون في تركهم ذلك سبب للفوضى وعدم الأمن والاستقرار ووصفه بأنه كلام الجهال والغارقين في اتباع الهوى، وأوضح أن انتظام الكلمة واستقامة الأحوال إنما يكون باتباع الشرع في الأقوال والأفعال، ثم بين الدكتور عمر بن عبد الكريم الجبيدي أن الحق هذه الأعراف إن كانت من المسائل الضرورية لفقد تقرر لدى الفقهاء أن للضرورة أحكامًا فاتفاقهم على جماعة تعمل بضوابط تحقق المصلحة للناس تمنعهم من المحاربين والمتلصصين واسترداد ما أخذوه، فهذا لا يخالف الدين في شيء، وأما ما كان غير ذلك كمؤاخذة غير الجاني وتحليفه خمسين يمينًا يؤديها هو وأقاربه فهذا من قبيل المروق من الدين (2)، قلت وهو حق لأن الله يقول:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر: الآية 18] ، ولأن كل نفس بما كسبت رهينة ثم ما تقتضيه الضرورة يشهد له في الشرع الرخص الواقعة في الشريعة فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في جلب المصالح ودرء المفاسد على الخصوص وهذا من باب الاستحسان الذي قال فيه الإمام هو تسعة أعشار العلم والذي قد نشأ من أصل عظيم متين العرى وهو النظر في مآلات الأفعال الذي هو مجال للمجتهد صعب المورد وإن كان عذب المذاق محمود الغب يدل عليه أن التكاليف الشرعية شرعت لمصالح العباد، وهي إما أخروية فترجع إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم، وإما دنيوية، والأعمال عند التأمل مقدمات لنتائج المصالح لأنها أسباب لمسببات مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو لنظر في مآلات الأفعال الذي افتر عنه قاعدة الاستحسان وسد الذرائع وغيرها ومعلوم أن مقاصد الشريعة في الخلق التي يرجع تكاليفها إلى حفظها التي هي الضرورية والحاجية والتحسينية ومعناها الأخذ بمحاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسة التي تأنفها الأحكام الراجحة والتي يجمعها قسم مكارم الأخلاق ولاعتناء الشارع بهذه الثلاث جعل لها متممات ومكملات هي مثار التشديدات والترخيصات وما ذلك إلا لترد الأمة المصالح وتتجافى حمى المفاسد، وهذا هو السر الذي يرنو إليه التشريع فإن القصد منه إقامة مصالح الدين والدنيا على وجه لا يختل لها به نظام ولذا كان وضع الشريعة على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا وزادت عناية الله بهذه الشريعة الغراء فعصمها عن التغيير والتبديل كما أنبأ بذلك تصريحًا وتلويحًا فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: الآية 9]، وقال:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} .

(1) بداية المجتهد: 2 /155، وحاشية الدسوقى: 4 /350، المهذب: 2 /284، المغني لابن قدامة: 8 /290

(2)

العرف والعمل في المذهب المالكي، لعمر بن عبد الكريم الجبيدي: ص 253 - 295

ص: 2545

والأعراف بربرية كانت أو غيرها فالميزان في الأخذ بها أو ردها إنما هو ميزان الشرع فما وافق منها اعتبرناه وما خالف رددناه والمصلحة لا تتحقق بالأحكام الجائرة المخالفة لمقاصد الشريعة وأي مصلحة في حرمان المرأة من ميراثها وأي مصلحة في تنزيل العقاب بغير من جنى، وأي مصلحة في إفساد المال؟ ولذا فكل ما يمس كلية من كليات الشريعة التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال فهو مردود لأنه محض فجور وفسوق ولا ينتج عنه إلا الخراب والدمار.

العلاقة بين العرف والعادة:

إذا كان مرجع العرف إلى فعل من الأفعال التي تميل إليه النفس ويتكرر فعله حتى يصبح عادة فإذا انتشرت هذه العادة أو العادات بين الناس وقلد بعضهم بعضا فيها أصبح ذلك الفعل عرفًا وبهذا ندرك أن العادة غير العرف وقد ذهب بعضهم إلى أنهما سواء ولقد فرق بعضهم بينهما. فقال: العادة ما كرر الإنسان فعله، فيما يختص بنفسه والعرف ما كرر الناس فعله وألفوه على ممر الأجيال، ولهذا نجد بعض علماء الأصول يعرف العادة بأنها الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية أي من قبيل الطبع والمعاودة في التعاطي حتى قيل: العادة طبيعة ثانية بينما المتكرر من علاقة عقلية يصبح من قبيل التلازم وكتكرار حدوث الأثر كلما حدث المؤثر هكذا في التقرير والتحبير (1) .

(1) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، شرح التحرير، لابن الهمام: 2 /769

ص: 2546

وفي رسالة نشر العرف لابن عابدين أن العادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكرارها ومعاودتها مرة أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلفات بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المصداق وإنما اختلفا من حيث المفهوم (1)، وقد ينشأ العرف عن غير العادة وهناك من العلماء من يرى أن العادة أعم من العرف على اعتبار أنها جنس أعم يندرج تحتها أنواع منها العرف وذلك لأن العادة تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي وعن العادات الفردية وعن العادات التي تعود عليها الجمهور والتي يعبر عنها بالعرف ولذلك قال بين العرف والعادة العموم والخصوص فكل عرف عادة وليست كل عادة عرفًا وإلى هذا المعنى ذهب الشاطبي في موافقاته فقال: العوائد أيضًا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود، أحدهما: العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال كالأكل والشرب والرفح والحزم واليقظة والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر، والثاني العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيآت اللباس والمسكن واللين في الشدة والشدة فيه والبطء والسرعة في الأمور والأناة والاستعجال وما كان نحو ذلك فأما الأول: فيقضي به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية للقطع بأن مجاري سنة الله في خلقه على هذا السبيل لا تختلف عمومًا كما تقدم فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر عمومًا به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقًا كانت العادة وجودية أو شرعية وأما الثاني: فلا يصح أن يقضي به على ما تقدم ألبتة حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذ ذاك يكون قضاء ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة وكذلك في المستقبل ويستوي في ذلك أيضًا الوجودية والشرعية، وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وإنما قامت مصالحها في الخلق حسبما بين ذلك الاستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة، وأما الضرب الثاني فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم (2) .

وذهب جماعة من العلماء إلى أنهما قسم واحد كالغزالي والجرجاني من المتقدمين وعبد الوهاب ومحمد المختار القاضي وعلي حيدر والشيخ محمد الخضر حسين من الإيثنونيين المتأخرين إذ يقول عبد الوهاب خلاف: العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ويسمى العادة (3) ويقول الدكتور القاضي: العرف والعادة مترادفان (4) .

ويقول علي حيدر شارح مجلة الأحكام: العرف بمعنى العادة (5) ونحن نميل إلى التفرقة بين العادة والعرف من حيث أن العادة تطلق على ما اعتاده الفرد أو بعض العباد في شؤون خاصة فإذا ما اعتاد فرد أن يستيقظ في وقت معين وأن يتناول فطور الصباح ويشرب القهوة أو يتناول فطور منتصف النهار أو يخرج للنادي، مرة فمرة فإن ذلك يصبح له عادة والجماعة التي تحتفل بعيد معين أو تقيم احتفالًا بمناسبة جز الغنم فإنها تعتبر عادة نعم، قد تتحول هذه العادة إلى عرف بالتكرار في بلد من البلدان فتصبح عرفا خاصا وقد يعم البلاد أو مجموعة أقطار فيصبح عرفا عاما ولكن لا تتحول العادة إذا بقيت عند فرد إلى عرف عام ما لم تنتقل إلى الجماعة والعادة ليس لها قوة الإلزام لأنه لا يتوفر لها التقدير المعنوي بخلاف العرف (6) .

(1) رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لابن عابدين: 2 /114

(2)

الموفقات، للشاطبي: 2 /220، ط. صبيح مصر

(3)

أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف: ص 9 – 10

(4)

الرأي في الفقة الإسلامي: ص 235

(5)

شرح مجلة الأحكام: 1 / 40، ط بيروت – كتاب الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ محمد الخضر حسين التونسي نشر علي رضا التونس، ط بيروت: ص 33

(6)

انظر أصول القانون، لحسن كيرة: ص 322، والوجيز في المدخل للقانون لشمس الدين الوكيل: ص 188

ص: 2547

آراء الفقهاء وحكمهم في العرف:

أجمع الفقهاء على الأخذ بالعرف الذي أشار إليه النص أو بنى عليه كالذي ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألته امرأة أبي سفيان عن تقتير أبي سفيان فقال لها: ((خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، قال الحافظ ابن حجر: أن الشافعية إنما منعوا العمل بالعرف إذا عارضه نص شرعي أو لم يرشد إليه نص شرعي فكأنهم اشترطوا في الأخذ به أن يرشد إليه نص شرعى أو لا يعارضه، أما الفقه المالكي والحنفي فيأخذ بالعرف بل يعتبر أصلًا من الأصول الفقهية، كما قدمنا وذلك فيما لا نص قطعي فيه وكذلك الحنابلة تأخذ به إذا لم يتعارض مع نص من نصوص الشريعة فالأئمة الأربعة قائلة بهذا النوع من العرف (1) أما الشيعة فترى الأخذ بالعرف لكنهم لا يعتبرونه أصلًا بذاته في مقابل الأًول يقول السيد محمد تقي الدين الحكيم: أما ما يتصل بالمجال الأول (يعني ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه كالاستصناع وعقد الفضولي) ، فواضح رجوعه إلى السنة بإقرار لأن المدار في حجتيه هو إقرار الشارع له لبداهة أن العرف لا يكسبها قطها يجعل الحكم على وفقه فلا بد من رجوعه إلى حجة قطعية وليست هي إلا إقرار الشارع أو إمضاءه له والإمضاء إنما قال على أحكام عرفية خاصة لا على أصل العرف، فالشارع أمضى الاستصناع أو عقد الفضولي مثلا وهما حكمان عرفيان، ولم يمضِ جميع ما لدى العرف من أحكام، بل لم يمضِ أصل العرف كما يتوهم ليكون أصلًا في مقابل السنة لعدم الدليل على هذه التوسعة (2) .

النوع الثاني: يرى المالكية والحنفية الأخذ بالعرف الذي لم يثبت نهي عنه ولا إرشاد إليه ولا إيماء بالعمل به بنص ويعتبرون العرف أصلا مستقلًا يخصص العام ويقيد المطلق ويقدم على القياس (3)

النوع الثالث: رد العرف الفاسد وهو ما نص الشارع على إبطاله وتحرميه (4) وقد نقل الشيخ محمد الخضر حسين أن الشيخ الصالح سيدي إبراهيم الرياحي ذكر في بعض فتاويه أن العرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام (5) ولقد اهتم المالكية والأحناف اهتمامًا كبيرًا بالعرف إذ هو يتفق كثيرًا مع المصلحة، والمصلحة أصل من الأصول عند المالكية؛ ولأن العرف يأتلف مع النفوس، فإذا كانت الأحكام على مقتضاه تلقاه الناس بالقبول وكانت مخالفته تؤدي إلى الحرج والمشقة والله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (6) .

والتشريع يوافق الفطرة ولا يخالفها فإذا كان العرف صحيحًا كان متفقًا مع الفطرة والله تعالى يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (7) .

(1) انظر كتاب مالك، لأبي زهرة: ص 448

(2)

الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الدين حكيم: ص 423.

(3)

انظر كتاب مالك للشيخ أبن زهرة: ص 449.

(4)

انظر كتاب مالك للشيخ أبن زهرة: ص 449.

(5)

الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ محمد الخضر حسين: ص 36

(6)

سورة الحج: الآية 78

(7)

سورة الروم: الآية 30

ص: 2548

والفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق والتي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدًا وعقلًا فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة الفعلية وهو المسمى علم الاستدلال بفساد الوضع وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابته في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية (1) .

وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتاب النجاة فقال: ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيًّا ولم يعتقد مذهبًا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسية، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات ثم يعرض على مذهبه شيئًا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة ووصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جارٍ على مقتضى الفطرة الفعلية وأما تشريعاته وتفاريعه فهي إما أمور فطرية أيضًا أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به وإما أن يكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته وقوانين المعاملات فيه راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة والوجدان في الإنسان القلبي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتبارات ولا يدخل فيه الأوهام والتخيلات لأنها ليست مما فطر العقل عليها. ولكن مما عرض للفطرة عروضًا كثيرًا حتى لازمت أصحاب الفطرة في غالب الأحوال فاشتبهت الفطريات وإنما كان عروضها للفطرة بسوء استعمال العقل وبسوء فهم الأسباب، ولذلك تجد العقلاء متفقين في الحقائق والاعتبارات ولا نجدهم متفقين في الوهميات والتخيلات، بل تجد سلطان هذين الأخيرين أشد مقدار شدة ضعف العقول، وتجد أهل العقول الراجحة في سلامة منهما، ويتفرع من هذا أن الشريعة الإسلامية داعية أهلها إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها، فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة في الخلقة والتعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة والحضارة الحقة من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة لأنها نشأت من تلاقح العقول وتفاوضها والمخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير وفي الفطرة حسب ظهور ما تولد من الخلقة، وإذا أجلنا النظر والمقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها ولعل ما أفضى إلى فرق عظيم فيما يعد في الشرع محذورًا وممنوعًا وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبا وما كان دون ذلك من الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة (2) وما لا يمسها مباح ثم إذا تعارضت مقتضيات الفكرة ولم يمكن الجمع بينها في العمل يصار إلى ترجيح أولاها وإيفائها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم الذنوب بعد الشرك وكان الترهيب منهيًّا عنه وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات ولم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعًا يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد بخلاف الانتفاع بالحيوان وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعًا، ومن هنا نعلم أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة لأن شرط العادة التي يقضي بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية فهي تدخل تحت حكم الإباحة وقد علمنا أنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها وحينئذٍ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس وإما لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر (3) .

(1) التحرير والتنوير: 1 و 2 /90

(2)

مقاصد الشريعة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص 56 – 60.

(3)

مقاصد الشريعة، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: 56 – 60

ص: 2549

العمل والأسباب الداعية للأخذ به:

من المعلوم أن المدينة المنورة قد احتضنت نبي الرحمة وهادي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيها ظهرت الشريعة المحمدية وتكونت الدولة الإسلامية، وبها اجتمع الأنصار والمهاجرون الذين تلقوا هذه الشريعة وثبتوها ونقولها إلى التابعين وهم بدورهم نقولها إلى تابعي التابعين الذين كان من بينهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس إمام الفقه والحديث والذي اشتهر بوقوفه موقفًا وسطًا بين النقل والرأي، فكان لا يهمل الرأي ولكنه يأخذ به فيما لم يرد فيه نص ثابت من حديث أو أثر وكان يتتبع آثار الرسول وآثار صحابته والتابعين وقد اعتبر عمل أهل المدينة وجعله أصلًا في بناء الفروع عليه وذلك للأسباب الآتية:

1-

قرب أهل المدينة من واقع الوحي ومحافظتهم على ما سمعوه وما علموه وشاهدوه.

2-

اعتقاده أن ما كان عليه أهل المدينة قد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.

3-

أن الرسول لبث ثلاث عشرة سنة في المدينة يوحى إليه ويبني قواعد الأمة ويدير شؤونها دينًا ودنيا، عبادة ومعاملة فاعتبر مالك دينه كما اعتبر عمله.

4-

متابعة الصحابة لما جاء هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكوته وعمله.

5-

اعتباره المدينة مركزًا لاجتماع كبار الصحابة وما اجتمع لهم من علم وعمل وسلوك بنبيهم صلى الله عليه وسلم.

6-

الطريقة التي سلكها أبو بكر زمن خلافته من جمعه للصحابة فيما يعرض من المسائل وأخذه بفتاويهم واعتماده عليهم في العلم والعمل.

7-

سلوك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان نفس مسلك أبي بكر واقتداؤهما بالخليفة الأول.

8-

انتهاج التابعين نفس المنهج والسير على منوال الصحابة ناظرين إلى الدين بمنظار سبقهم.

ص: 2550

فالنص محفوظ في صدورهم والعمل شائع بين ظهرانيهم يشترك في ذلك صغيرهم وكبيرهم ويتناقله الأبناء عن الآباء كل هذه الأمور جعلت مالكًا يلاحظها ويعتد بها ويتخذها مطية للتشريع إذا لم يجد نصًّا يسير عليه أو وحده ولكنه لم يطمئن إليه حيث يرى أن تقديم الجم الغفير أولى أن يتبع وأن يقدم على خبر الآحاد إذ لا تصل روايته في القوة إلى ما أطبق عليه المجتمع المدنى بأسره فكان إذا اختلفت الآراء أو اختلفت الآثار وتعارضت النصوص اعتمد على ما كان عليه أهل المدينة.

وقد استدل مالك على تقديمه عمل أهل المدينة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما سار عليه الصحابة والتابعون من بعده كما فصل ذلك القاضي عياض (1) وكما استدل أصحابه على عمل أهل المدينة بأدلة من السنة والأثر والعقل فمن السنة شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وأهلها وما ورد فيها من الفضائل ودعاؤه لها ومن ذلك ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشهدتها إلا كنت له شفيعًا - أو شهيدًا - يوم القيامة)) (2) وما رواه جابر بن عبد الله وأبو هريرة: ((إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)) وروى بروايات مختلفة اللفظ متفقة المعنى وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) .

وقد نقل القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك مجموعة من الأحاديث تثبت فضل المدينة وأهلها عن مجموعة من الصحابة كزيد بن ثابت وسفيان بن زهير وأبي هريرة ومحمد بن مسلمة وأبي سعيد المقبري وعائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لينحازن الإسلام إلى المدينة كما يجوز السيل الدمن)) وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يأزر الإيمان إلى المدينة كما تأزر الحية إلى حجرها)) ، وقد فسر قاضي المدينة أبو مصعب الزهري هذا الحديث فقال: والله ما يأزر إلا إلى أهلها الذين يقومون به ويشرعون شرائعه ويعرفون تأويله ويقومون بأحكامه وما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأرض والدور وما ذلك إلا مدحًا لأهلها وتنبيهًا إلى أن ذلك باقٍ فيهم زائل عن غيرهم حين يرفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالا فيسألون فيقولون بغير علم فيضلون ويضلون وفسر الإمام مالك قوله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ بعودته إلى المدينة كما بدأ منها وقد أطال القاضي عياض في كتابه المدارك بما لا مزيد عليه.

(1) المدارك للقاضي عياض: 1 /49

(2)

تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، لجلال الدين السيوطي، حلبي: 1 /83

ص: 2551

أما دليل المالكية من الأثر فقد روى مالك عن أنس أن المدينة محفوفة بالشهداء وعلى أنقابها ملائكة يحرسونها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وهي دار الهجرة والسنة وبها خيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله اختارها له وجعل بها قبره، وبها روضة من رياض الجنة، قال القاضي عياض: وهذا الكلام لا يقوله مالك من نفسه إذ لا يدرك بالقياس، وقد سأل جعفر بن محمد مالكًا عن اختياره السكنى بالمدينة وتركه الريف والخصب فقال: وكيف لا أختاره وما بالمدينة طريق إلا سلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من رب العالمين في أقل من ساعة وسأل أبو مصعب الزهري مالكًا عن لين قلوب أهل المدينة وقساوة قلوب أهل مكة، فقال لأن أهل مكة أخرجوا نبيهم وأهل المدينة آووه، وعن زيد بن ثابت إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه ويكتب إلى أهل المدينة يسألهم عما مضى لعله يعلم بما عندهم، وعن أبي بكر بن عمر وابن حزم: إذا وجدت أهل هذا البلد (يعني المدينة) أجمعوا على شيء فلا تشُكَنَّ أنه الحق وعن الشافعي إذا وجدت معتمدًا من أهل المدينة على شيء فليس فيها حيلة من صحتها، ومنها ما في رسالة مالك إلى الليث بن سعد فمما جاء فيها: إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويبين لهم فيتبعونه حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده من اتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل ويتبعون تلك السنن فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به لم أرَ لأحد خلافه الذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها (1)

أما دليل المالكية من العقل فقد استدلوا، بأن العادة قاضية بعد اجتماع مثل هذه الكثرة من الموجودين في مهبط الوحي الواقفين على وجوه الأدلة والترجيح إلا عن راجح، وأن المدينة دار الهجرة وموضع قبره ومهبط وحيه ومستقر الإسلام ومجتمع الصحابة فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها، وأن أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال النبي من غيرهم فيبعد أن يخرج الحق عنهم، وأن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم فكان عملهم حجة على غيرهم، وقد رأى كثير من أهل العلم أن ما ورد من الأحاديث والآثار الواردة في فضل أهل المدينة لا تقوم دليلًا ولا تنهض حجة على قيام العمل والاستدلال به في الأحكام كما أنها لا تصح سندًا ودليلًا يرجع إليه واعتبروا عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار سواء سواء، وقد ردُّوا على كل دليل من الأدلة المتقدمة بخصوصه، وكل هذا مذكور في كتب الأصول التي ذكرت الأدلة وردودها.

(1) المدارك: 1 /42، إعلام الموقعين: 3 /72.

ص: 2552

أما بالنسبة للأدلة المأثورة فقد ردوها بأن اشتمال المدينة على صفات موجب للفضل لا يدل على انتفاء الفضيلة من غيرها ولا على صحة الاحتجاج بإجماع أهلها، لأن المعتبر في التشريع إنما هو العلم بالأحكام المستفادة من الاجتهاد وليس لفضل البقعة وطهارتها مدخل في ذلك، ونحن إذا نظرنا إلى الردود التي ذكروها نجدها تنصب على الإجماع وليس عمل أهل المدينة إجماعًا واعتماد مالك رحمه الله العمل نفسه لا الإجماع الذي هو المصدر الثالث في مصادر التشريع إذ هو بعد الكتاب والسنة، فقد روى عنه ابن أخته إسماعيل بن أويس، قال: ما رأيت الأمر عندنا فهو ما عمل به الناس عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم وكذلك ما قلت فيه ببلدنا وما قال فيه بعض أهل العلم فهو شيء استحسنته ونظرت على مذهب من لاقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبا منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم وإن لم أسمع ذلك بعينه، فنسبت الرأي إلى بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لاقيته، فبذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره (1)

ويظهر ما نقلنا أن مالكًا لم يقصد من عمل أهل المدينة الإجماع، وعمل أهل المدينة يؤيده اتباع السلف لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه فبالمدينة كانت آخر حياته وآخر أعماله ودعوى أن أصحاب رسول الله انتشروا في الأقطار وأن المدينة لم تجمع جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها فهذا مردود بما صرح به الإمام إذ قال مستفسرًا نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة كذا في نحو كذا وكذا ألفا من الصحابة مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرقوا في البلدان فأيهم أحرى أن يتبع ويؤخذ بقوله؟ من مات عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذي ذكرت أو من مات عندهم واحد أو اثنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2) .

على أن عمل أهل المدينة قد قال به من سبق مالكًا فهذا عمر بن الخطاب يقول أحرج بالله عز وجل على رجل روى حديثًا العمل على خلافه. وعن مالك: قد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث وتبلغهم من غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره.

وكان أبو بكر بن حزم إذا قضى قضاء قد جاء فيها الحديث مخالفًا للقضاء يعانيه أخوه عبد الله ويقول: ألم يأتِ في هذا الحديث كذا فيقول بلى فيقول له أخوه فمالك لا تقضي به فيقول: فأين الناس منه؟ يعني بذلك ما أجمع عليه من العمل بالمدينة يريد أن العمل به أقوى من الحديث.

(1) المدارك: 2 /64، والديباج المذهب: ص 25، ط السعادة، والمعيار، للونشريسي: 10 /32.

(2)

المدارك: 2 /64، والديباج المذهب: ص 25، ط السعادة، والمعيار، للونشريسي: 1 /32

ص: 2553

ولقد قسم المالكية عمل أهل المدينة إلى قسمين ما كان طريقه النقل والحكاية وهو ما نقله الكافة عن الكافة عمل به عملًا لا يخفي متواترًا من زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتصلا به وهو إما نقل شرع من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل كالصاع والمد وكونه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منهم مال الزكاة وكالأذان والإقامة والأوقاف والأحباس ونحوها فهذا النقل لهذه الأشياء مما علم ضرورة من أحواله وسيرته أو كان من إقراره لأصحابه لما يشاهده منهم ولم يثبت إنكاره، أو كتركه أخذ الزكاة من الخضراوات مع اطلاعه عليها ووجودها عندهم بكثرة، فهذا النوع حجة يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر الواحد والقياس لأن هذا النقل محقق موجب للعلم القطعي فلا يترك بالنصوص الظنية وهذا ما رجع إليه أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة بعد مناظرته لمالك وربما هذا الذي قال فيه ابن العربي مهما اختلف الناس في إجماع أهل المدينة من طريق النظر فليس يقدر أحد على اعتراض ما يجتمعون على نقله من طريق الأثر (1) وهذا النوع هو الذي قال فيه القاضي عياض إن هذا النوع لم يخالفه من أهل المدينة إلا من لم يبلغه النقل (2) وحكى عنه القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي أن ليس فيه خلاف بين المالكية والذي وافق عليه كثير من أصحاب الشافعي وقد رد القاضي عياض على المخالفين لهذا النوع بأنه من قبيل الفساد وأنه لا يمكن مقارنته بعمل غيرهم إذ هذا النقل من العمل لا يوجد إلا عند أهل المدينة (3) .

القسم الثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال وهذا النوع قد اختلف فيه أهل المذهب فجمهورهم ذهب إلى أنه ليس بحجة ولا يرجح على غيره، بل فيهم من بنى أن مالكًا قال به ولا هو من مذهبه، وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة ولكن فيه قوة الترجيح يرجح على اجتهاد غيرهم، وذهب آخرون إلى أن هذا النوع هو حجة أيضًا وحكوه عن مالك وأخذ به كثير من المغاربة والمشارقة ورأوه مقدمًا على خبر الواحد والقياس، والأول أرجح عند محققي المالكية، أما القاضي عياض فقد قسم عمل أهل المدينة مع خبر الآحاد فقال: إن كان مطابقا لها فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل أو ترجحها إن كان من طريق الاجتهاد. ولا خلاف في هذا فأما إذا كان مطابقًا لخبر ومعارضا لخبر آخر كان عمل أهل المدينة مرجحًا لخبرهم وهو أقوى ما يترجح به الأخبار إذا تعارضت وهذا هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني ومن تابعة من المحققين من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم صرح بذلك الغزالي (4)

(1) القبس، لابن العربي مخطوط: ص 204

(2)

المدارك: 1 /49

(3)

المدارك: 1 /49

(4)

المستفصى، للغزالي: 1 /214، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا

ص: 2554

وإن كان مخالفا للأخبار جملة فإن كان إجماعهم عن طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عند المالكية وعند المحققين من غيرهم، قال عياض: وما كان يتصور فيه خلاف، وعلى تقدير وجوده لا يلتفت إليه إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون – أما إن كان إجماعهم عن اجتهاد قدم الخبر عليه عند الجمهور، وفيه خلاف بين المالكية – أما إذا لم يكن هناك عمل يخالفه النص أو يوافقه فحينئذٍ يجب الرجوع إلى خبر الواحد وقبوله سواء أكان هذا الخبر قد نقله المالكية أو غيرهم إذا صح ولم يعارض، فإن عورض بخبر آخر نقله غير أهل المدينة كان ما نقله أهل المدينة مرجحًا عند كثير من المحققين للمزية مشاهدتهم قرائن الأحوال وتصدرهم لنقل آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما وهم الكثرة والجم الغفير عن الجم الغفير.

هذا تفصيل ما جاء القاضي عياض ونفى أن يكون مالك قال غيره ورد على ما وزعمه الغزالي من أن مالكًا قال: لا يعتبر إلا إجماع أهل المدينة دون غيرهم، كما رد على من زعم أن مالك يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة وهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأبو بكر ابن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار، كما رد على من ذهب إلى أن المالكية لا يقبلون من الأخبار إلا ما صاحبه عمل أهل المدينة ووصف ذلك بالجهل والكذب وأنهم لم يفرقوا بين رد الخبر الذي في مقابل عملهم وبين ما لا يقبل منه إلا ما وافقه عملهم والذي ادعى ذلك هو ابن حزم، حيث قال: ذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل وموضوع عمل أهل المدينة قد استعرضه الدكتور أحمد محمد نور سيف في كتابه عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين فبين أنواع العمل ومراتب هذه الأنواع ومصادر هذا العمل وحجية كل مصدر منها ونقل مراتب العمل عند أبي الفضل عياض وعند ابن تيمية وحجية كل مرتبة وعند ابن القيم وحجية كل مرتبة وأجرى مقارنة بين مناهج هؤلاء في مصدر العمل ومراتبه وحجيته ثم لخص مراتب العمل إلى أولًا: العمل النقلي وهو الشرع المبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم حجة عند مالك وعند الجمهور ويستقل بمعارضة السنن، ثانيًا: العمل الاستدلالي وهو قسمان، العمل القديم بالمدينة وهو نوعان، عمل من جهة الاستدلال لم يعتضد بشيء ولكنه لا يعارض السنة وهو حجة عند مالك وعند الجمهور كما حكى ذلك ابن تيميمة عن الشافعي وأحمد ورد فإن الترجيح لا يكون إلا في المرويات لا في الاجتهاد بلا ترجيح، الثانى: عمل من جهة الاستدلال لكنه اعتضد بسنن سواء عارض سننًا أخرى أم لم يعارض وهذا حجة عند مالك وعند الجمهور كما حكى ذلك ابن تيمية.

ص: 2555

القسم الثانى: العمل المتأخر بالمدينة وهنا يتجه الخلاف أولا إلى التسليم به كمصدر من مصادر العمل ولم يذكره عياض في مصادر العمل، بل ظهر كلامه بنفيه أما ابن تيمية وابن القيم فيريان أن هناك عملا متأخرا وأنه ليس بحجة، وخلاصة القول أن عمل أهل المدينة طوال القرن الأول إلى عهد مالك بن أنس كان العمل مستمرًا في التابعين الآخذين عن الصحابة، فإن أبا الدرداء يجعل قوة العمل في الثلث الأول من القرن الأول، ثم ينهج نفس المنهج عمر بن عبد العزيز في آخر القرن في إبان ازدهار حلقة مالك وهذا معنى القضاء المستمر والعمل المطبق بقوة الدولة في القرن الأول والثاني ثم نجد مالكًا يتابع النظر نفسه طوال القرن الثاني، ثم إنه ليبتدع هذا المنهج ابتداعًا، بل سلك في ذلك مسلكًا قد سبقه إليه غيره من الصحابة والتابعين وأهل العلم وإنما اشتهر به مالك، لأنه ابتلي بكثرة الإفتاء وقد وجد في بعض ما أفتى به ما يخالف الخبر الذي رواه هو فنسب ذلك إليه وإن كان متبعًا ولم يكن مبتدعًا، ولقد أيد الأخذ بالعمل جمهرة من العلماء قديما وحديثًا، ورأوا أن مالكًا فتح بهذا المصدر بابًا جديدًا من أبواب الاستدلال واستنباط الأحكام فقد ذكر ابن تيمية أن سائر الأمصار كانوا مناقدين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم كأهل الشام ومصر وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار، فإن أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة يوضح ذلك أن العلم إما رواية وإما رأي وأن أهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيًا وأما حديثهم فأصح الأحاديث وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة إذ كانوا يتوفرون على أسانيد متصلة وضبط الألفاظ، وأما الفقه والرأي فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين مثل ما كان عليه الشأن في غيرها من الأمصار لقد كان المنصور والمهدي والرشيد من خلفاء دولة العباسيين يرجحون علماء الحجاز على علماء أهل العراق، كذلك بنو أمية يرجحون علماء أهل الحجاز على أهل الشام وما ذلك إلا لأن مالكًا كما يقول ابن تيمية: أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه وكان له من المكانة عند أهل الإسلام ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، ولذلك قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابًا بعد كتاب الله من موطأ مالك وقال أحمد بن حنبل: إن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل حجة باتفاق المسلمين كما قال مالك لأبي يوسف لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم وذكروا له أن إسنادهم على أسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: والله لا يكذبون، قال مالك فإني حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق فقال أبو يوسف رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت وهذه هي المرتبة الأولى، والمرتبة الثانية العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان، فهذا حجة عند مالك.

ص: 2556

والمنصوص عن الشافعي، وعند أحمد ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين وجعل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع مذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعملها ولأصحاب أحمد وجهان، فالقاضي أبو يعلى وابن عقيل لا يرجح، والثاني قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به وهذا هو المنصوص عليه من كلامه ومن كلامه إذا رأى أهل المدينة حديثًا وعملوا به فهو الغاية وكان يفتى على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرًا كثيرًا، وكان يدل المستفتي على مذهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة، قال ابن تيمية: فهذه مذاهب جمهور الآئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة. أما المرتبة الرابعة: وهو العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي أحمد وأبي حنيفة وغيرهم وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره، قال ابن تيمية: ولم أرَ في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجتمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يثير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر، قال ابن تيمية: وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تتفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة يكون حجة قوية، وتارة مرجحًا للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، وقد أطنب ابن تيمية في بيان ذلك أي أطنان (1)

ولما نقلنا نرى البخاري يستفتح الباب بحديث مالك وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، أما ابن القيم فيذهب إلى أن عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار وإن من كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإن الحجة في اتباع السنة وإنه لا تترك سنة لعمل على خلافها وإن السنة هي المعيار على العمل ولا عكس وإن العصمة لا تثبت لمصر من الأمصار وأن لا تأثير للجهات والجدران والمساكن وإنما التأثير لأهلها وسكانها وإن الصحابة شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وظفروا من العلم بما لا يظفر به غيرهم ممن بعدهم فهم المقدمون على من سواهم كما أنهم مقدمون في الفضل والدين وعملهم هو العمل الذي لا يخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة وتفرقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صار إلى الكوفة والبصرة والشام مثل علي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وعبادة وأبي الدرداء وعمرو بن العاص ومعاوية ويقول: فكيف يكون قول هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا لم يخرجوا وخالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا وإذا خرجوا وفارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ثم يقسم عمل أهل المدينة إلى أقسام ثلاث:(1) - أن لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم (2) - خالف فيه أهل المدينة وغيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه، (3) - قسم فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم، ثم جعل الأول حجة يجب اتباعه والثاني والثالث لا دليل عليه (2)

ثمَّ بعد ذلك يقع فيما وقع فيه الغزالي إذ هو لا يلتزم هذا التقسيم في الطرق الحكيمة ويرى أن ما عليه أهل المدينة هو أصح وأصوب وأن قولهم هو الحق الذي يدين الله به ولا يعتقد سواه (3) وأنه من أشد المذاهب وأصحها. (4)

ولقد تعرضت كتب الأصول إلى مسألة عمل أهل المدينة وحجيته ومذاهب العلماء في ذلك، فالشافعي في كتابه الأم انتقده شديد الانتقاد ورأى أن الإجماع المعتبر إنما هو إجماع الأمة لا إجماع أهل بلد هو المدينة أو غيرها ومجمل رأيه ينصب على كون المالكية رووا الحديث ولم يعملوا به ويرى أن ذلك من باب التناقض وإلا فكيف يروون الحديث ولا يعملون به، وقد صح عندهم فيقول: قد خالفتم في القراءة في الصلاة كل ما رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم ابن عمر، ثم عثمان ولم ترووا شيئًا يخالف ما خالفتم عن أحد من الناس علمته فأين العمل؟! خالفتم من جهتين: جهة التثقيل وجهة التخفيف، وقد خالفتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما رويتم عن الأئمة بالمدينة بلا رواية رويتموها عن أحد منهم، هذا مما يبين ضعف مذهبكم إذ رويتم هذا ثم خالفتموه، ولم يكن عندكم فيه حجة، فقد خالفتم الأئمة والعمل وإنه لا خلاف أشد خلافًا لأهل المدينة منكم، ثم خلافكم ما رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فرض طاعته وما رويتم من الأئمة الذين لا يجدون مثلهم فلو قال لكم قائل: أنتم أشد معاندة لأهل المدينة، وجد السبيل إلى أن يقول ذلك لكم على لسانكم لا تقدرون على دفعه عنكم ثم الحجة عليكم في خلافكم أعظم منها على غيركم لأنكم ادعيتم القيام بعملكم واتباعكم دون غيركم، ثم خالفتموهم بأكثر مما خالفه به من لم يدع من اتباعهم ما ادعيتم فلئن كان هذا خفي عليكم في أنفسكم إن فيكم لغفلة ما يجوز لكم معها أن تفتوا خلقًا والله المستعان وأراكم قد تكلفتم الفتيا وتطاولتم على غيركم ممن هو أقصد وأحسن مذهبًا منكم (5)

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 10 / 303 –340

(2)

إعلام الموقعين: 2 /240، 241

(3)

الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص 23

(4)

الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص 104

(5)

الأم، للإمام الشافعى: 7/188- 193.

ص: 2557

وخلاصة القول أن الشافعي يرد عمل أهل المدينة لأمرين اثنين أولهما أن الأمر المجتمع عليه عنده ليس هو إجماع أهل المدينة، بل هو إجماع علماء الأمة في كل قطر وكل بلد، ثانيهما أن المسائل التي ادعى فيها الإجماع كان من أهل المدينة من هو مخالف فيها فضلًا عن مخالفة عامة البلدان الأخرى ولم يفرق الشافعي رحمه الله بين ما أجمع عليه أهل المدينة فيما كان منشؤه النقل والحكاية وما كان منشؤه الاجتهاد والرأي، ولذلك قال بعدم حجيته مطلقًا وهو بذلك خالف شيخه مالكا وشدد التكبير على أصحابه، ثم هو بعد هذا الموقف يقرر أن علماء المدينة إذا اجتمعوا على أمر كان ذلك الأمر موضع اتفاق العلماء في كل البلدان وهو من جهة أخرى ينظر إلى آراء أهل المدينة نظرة تقدير وإكبار وكان يوصي بالأخذ بأقوالهم، فقد جاء في مناقبه. روى البيهقي بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى، قال: ناظرت الشافعي رضي الله عنه في شيء، فقال: والله ما أقول لك إلا نصحًا إذا وجدت أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق وكل ما جاءك ولم تجد له بالمدينة أصلًا وإن ضعف فلا تعبأ به ولا تلتفت إليه، فنحن نرى أن الشافعي يرى أن الأخذ برأي أهل المدينة هو الحق وأن كل قول ولو كان قويًّا ولم يكن له أصل بالمدينة لا يعبأ به، بل إنه يرى أنه إذا اجتمع أهل المدينة على أمر فلا بد أن يكون موضع اجتماع العلماء وكل بلد ومن أقواله: إن عمل أهل المدينة أحب إلى من القياس نقله عن القاضي عياض (1) ولما في كلام الشافعي من التضارب بالقول بعمل أهل المدينة أو برفضه، قال ابن العربي: وددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة، فكل مسألة له فيها أشكال (2) ولما في كلام الشافعي من التضارب بالقول بعمل أهل المدينة أو برفضه، قال ابن العربي: وددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة، فكل مسألة له فيها أشكال (3) ، ومن كبار الحنفية الإمام السرخسي فقد ذكر في أصوله أنه يرفض الأخذ بما جرى به عمل أهل المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصرح بأن هذا العمل إن كان من أهلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا ينازع فيه أحد وإن كان المراد أهلها بإطلاق فيكل عصر، فهذا باطل لا يقول به أحد، بل إنه ليس في بقعة من البقاع اليوم في دار الإسلام قوم هم أقل علمًا وأظهر جهلًا وأبعد عن أسباب الخير من الذين هم بالمدينة، فكيف يستجاز القول بأنه لا إجماع في أحكام الدين إلا إجماعهم (4) .

كذلك تعرض الغزالي في المستصفى لمسألة عمل أهل المدينة وانتقده، فقال: مسألة، قال مالك: الحجة في إجماع أهل المدينة فقط، وقال قوم: المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، والمصرين الكوفة والبصرة وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه البقع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد.

(1) المدارك، للقاضي عياض: 1 /58

(2)

أحكام القرآن، لابن العربي: 8/ 2

(3)

أحكام القرآن، لابن العربي: 8 /2

(4)

أصول السرخسي: 1 /341

ص: 2558

ثم انتقد مذهب مالك، فقال: فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم، بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها، بل مازالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار فلا وجه لكلام مالك إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لأنهم الأكثرون، والعبرة بقول الأكثرين ،وقد أفسدناه أو يقول اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع، فإن الوحي الناسخ نزل فيهم فلا تشد عنهم مدارك الشريعة وهذا تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة لكن يخرج منها قبل نقله، فالحجة في الإجماع ولا إجماع وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير واستقصيناها في كتاب تهذيب الأصول (1) وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهلها وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكانهم المدينة ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم، ثم إن الغزالى في نفس الكتاب يقول: أن الخير إاذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رواه مالك حجة وإجماعًا أن لم يصح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم، ثم إن ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى يختلف عما قاله في المنخول، فقد ذكر في المنخول أن الإجماع الذي قصده مالك هو عمل الفقهاء السبعة، قال: صار مالك رضي الله عنه إلى أن الإجماع يحصل بقول الفقهاء السبعة وهم فقهاء المدينة ولا تبالي بخلاف غيرهم وقدم مذهبهم على النص (2) .

وكلام الغزالي ككلام الإمام الشافعي مضطرب فبعد أن أثبت أن لا وجه لكلام الإمام مالك عاد فأثبت أن الخبر إذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى. أما سيف الدين الآمدي فقد ذكر في الأحكام أن الأكثرين اتفقوا على أن إجماع أهل المدينة وحده لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافًا لمالك، فقال: هو حجة، ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيره ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته، ومنهم من قال: أراد به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمختار مذهب الأكثرين ذلك أن الأدلة على كون الإجماع حجة متناولا لأهل المدينة والخارج من أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم حجة (3) .

ولقد كان أشد الناس انتقادًا لعمل أهل المدينة ابن حزم، حيث ذكر أن عمل أهل المدينة قبل مولد الإمام مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان، ثم عمال بني العباس، وقد ذكر ابن حزم تعدي العمال بالمدينة وفشو الشكوى في أيام الصحابة رضوان الله عليهم وأن لهذه الأسباب وغيرها يبطل قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة (4) ، وهو يرى أن اعتبار أهل المدينة حجة على غاية الفساد وإن من احتج به، وقال به اعتمد على أحاديث منها ما هي مكذوبة ومنها ما هو حسن وإن كل ما احتجوا به فيه نظر ولا حجة فيه وجعل مكة أفضل البلاد ولم يكن ذلك موجبا لاتباع أهلها ولا أن إجماعهم إجماع دون غيرهم ولا أنه حجة على غيرهم (5) .

(1) المستصفي، للإمام الغزالي: 1 /187، ط المبطعة الأميرية: 1322هـ

(2)

المنخول من تعليقات الأصول، لحجة الإسلام الغزالي تحقيق محمد حسن: ص 314

(3)

الأحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآدمي. 1 / 349

(4)

الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 2 /854

(5)

الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 1 /552

ص: 2559

ولقد تحامل ابن حزم على من يرى أن أهل المدينة كانوا أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عيه وسلم من سواهم واتهمهم بالكذب والباطل. وإن الحق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العالمون بأحكامه لا فرق بين من كان في المدينة أو في غيرها، واعتبر أن ادعاء أن أهل المدينة هم الذين شهدوا آخر حكمه عليه السلام وعلموا ما نسخ منها مما لم ينسخ اعتبر ذلك بأنه تمويه فاحش وكذلك ظاهر وأن الكل في ذلك سواء لا فرق بين المقيم بها والخارج منها، ثم يتعجب من التمويه بعمل أهل المدينة، ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذونه بسواه، ثم يدعي أنهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة عمل وابن عمر وعائشة وعثمان وسعيد بن المسيب وغيرهم، وأنهم تركوا عمل أهل المدينة في كثير من المسائل، ثم بعد ذلك تخلص إلى أن هذا لا يجوز تقليدًا لخطأ مالك في ذلك ويقول: لا سبيل إلى أن يوجد عمل أهل المدينة إذ لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة، وفيها مع ذلك الخلاف، ولقد تتبع الأحاديث التي رواها المالكية ولم يعملوا بها وقدموا العمل عليها مع أنه رواها الإمام مالك في الموطأ فمن ذلك أنهم رووا أن آخر عمله صلى الله عليه وسلم كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه، فقالوا: الصوم أفضل وكان آخر عمله صلى الله عليه وسلم أم بالناس جالسًا وهم أصحاء وراءه إما جلوس عند الظاهرية أو قيام عند غيرهم مع أنهم قالوا ببطلان الصلاة في ذلك، وكذلك ما ورى من أنه عليه السلام إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا بإبطال ذلك حتى يتدلك ورووا أنه كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا وقع فقالوا: ليس عليه العمل كما رووا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّ الناس فأتم أم القرآن، قال:((آمين)) ، فقالوا: ليس عليه العمل إلى غير ذلك من الروايات التي رووها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعملوا بها وبهذا يبطل على رأيه من اتباع عمل أهل المدينة، ويثبت بذلك أنهم أترك الناس لعمل نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده وزاد فعدد على المالكية مخالفتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وذكر أنهم رووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه عشر قضايا خالفوه في ثمانية منها (1) ، رووا عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالبقرة في ركعتين ووراءه الأنصار والمهاجرون من أهل المدينة، فقالوا: ليس عليه العمل فخالفوا بذلك عمل الخليفة الأول، ورووا عن عمر أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه من أهل المدينة المهاجرون والأنصار، فقالوا: ليس عليه العمل.

(1) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 1/222

ص: 2560

كما رووا عنه أنه سجد في الحج سجدتين وقالوا: ليس عليه العمل ورووا عنه أنه لا حركة في سوقنا، فقالوا: لا بالحركة في السوق ورووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة، ثم ينصرف وما للجدران ظل، فقالوا: ليس عليه العمل كما رووا عنه أنه كان يغطي وجهه وهو محرم، فقالوا: ليس عليه العمل ولا يغطي المحرم وجهه وهكذا يروى مخالفتهم لعائشة وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة دون استثناء كما خالفوا سائر فقهاء المدينة كسعيد بن المسيب وسلمان بن يسار وبمثل هذه المخالفات يسقط ابن حزم احتجاج المالكية بعمل أهل المدينة ويقول: فليس هناك عمل إلا النصوص ولا حجة في عمل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وابن حزم فيما ذهب إليه قد تبنى ما قاله الإمام الشافعي في الأم سواء أكان فيما احتج به أو الأسلوب الذي اتخذه في إسقاط حجج من قال بعمل أهل المدينة.

وخلاصة القول أن أسباب رد العمل لأهل المدينة يرجع إلى أمرين اثنين، أولاهما: ما حدث في المدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافٍ في نظرهم في رد عمل أهل المدينة وعدم الأخذ به كدليل من الأدلة الشرعية. الأمر الثاني: لأسباب الرد الأحاديث التي رواها مالك في الموطأ وهو لا يروي إلا الصحيح وهو إمام الحديث، ثم بعد ذلك لا يعمل بها فبالنسبة للأمر الأول يذكرون أن الأقوال تغيرت عما كان عليه زمن الصحابة والخلفاء الراشدين، وقد حدث من الفساد حتى في عصرهم ما أدخل كثيرًا من التبديل والتغيير حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الإمام الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم (2) .

وروي عن أم الدرداء، قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان، فقلت: ما أغضبك، قال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعًا (3) وفي أشرف الطالب في أسنى المطالب لأحمد بن قنفذ قال أنس: يعني الصحابي الجليل خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن رجلًا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا، قال: ووضع يده على هذه ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذا النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعة ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتفي آثارهم ويتبين سبيلهم ليعوض أجرًا عظيمًا.

(1) المحلى: 1 /55

(2)

الاعتصام بتحقيق محمد رشيد رضا: 1 / 26

(3)

مسند الإمام أحمد: 6 /443

ص: 2561

وهذه النقول وإن أثبتت التغير الذي حصل بالمدينة عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده وما حدث من فساد وما دخلها من تغيير وتبديل، فإنها ليست فيها حجة على إبطال عمل أهل المدينة بطلاق لأن الاختلاف فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية لم يقع كثيرًا إلا في المسائل الاجتهادية كاختلاف اجتهاد بعض الخلفاء، واختلاف الخلفاء الراشدين هو من قبيل السنة لقوله عليه الصلاة والسلام:((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عيها بالنواجذ)) ثم إن مالكًا رحمه الله لا يعتمد العمل إذا كان مخالفًا للمروي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقول كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر، وهو أيضًا القائل: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا ما في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة من ذلك فاتركوه (1) إلا أن الإمام رضي الله عنه يرى أن عمل أهل المدينة في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها يرجح الخلاف ويوجب اختيار القول بعملهم على غيره من المذاهب، على أن الإمام كان إمامًا في الحديث يعرف دواعى التجريح والترجيح وما كان من البدع المستحدثة مما هو من السنة المتبعة، وقد شهد في علمه وصلاحه ومعرفته بالسنة الجم الغفير مما لا يبقى معه شك أن يقول بعمل ويحتج به وهو بدعة من البدع معاكس لما جاءت به السنة وهو من أشد الناس عملا بالسنة ورفضًا للبدعة، أما ما ورد من الأحاديث المروية في الموطأ وغيره، ولم يأخذ بها مالك فلم يكن ذلك عن هوى وإنما كان عن معرفة وعلم ولا يكون إلا عن مستند صحيح ظهر له فهو الخبير بالصحيح من الحديث والسقيم، وهو حجة في هذا الباب وعالم أهل الحجاز ولم يبلغ أحد في زمانه مرتبته في العلم بالحديث والسنة والرجال، فكان من أشد الناس انتقادا لهم فلا يبلغ من الأحاديث إلا ما كان صحيحًا ولا ينقل إلا عن ثقة وفي المدارك للقاضي عياض من الأدلة على ذلك ما يشفي الغليل وكان من قول مالك رحمه الله ما رواه الناس مثل ما روينا فنحن وهم سواء ما خالفناهم فيه فنحن أعلم به منهم (2) .

قال ابن عبد البر ليس لأحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه يباشر مثله أو إجماع أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده ولو فعل ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إمامًا ولزمه إثم الفسق، قال هذا في الرد على الليث بن سعد فيما ادعاه من أن مالكًا خالف السنة في سبعين مسألة قال فيها برأيه (3) ، فنحن نرى الحافظ ابن عبد البر يستبعد صدور المخالفة من مالك للحديث الذي يرويه ثم يعمل بخلافه دون أن يكون له سند يعتمد عليه ويعول عليه من نسخ أو ترجيح.

(1) ترتيب المدارك: 1 /45

(2)

ترتيب المدارك: 1 /45

(3)

جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، للحافظ ابن عبد البر: 2 /1002، ط المنيرية بمصر

ص: 2562

على أن الإمام مالك لم يقل أصلًا بأن عمل أهل المدينة هو إجماع بمعنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث من مصادر التشريع إذ تعابيره في الموطأ لا تخرج عن قوله: (هذا الأمر الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا، أو الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا، أو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، أو ما أعرف شيئًا مما أدركت عليه الناس أو السنة عندنا، أو وليس على هذا العمل عندنا، أو الأمر الذي سمعت من أهل العلم، أو السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أو السنة التي عندنا والتي لا شك فيها، أو قوله وليس العمل على هذا) هذه هي الصيغ التي استعملها مالك في موطئه قاصدًا بها عمل أهل المدينة، وكل هذه الصيغ العشر لا تفيد معنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة، ولقد تكررت هذه الصيغ في الموطأ مائتين وثلاثة وثلاثين مرة ولا يفهم من جميعها إلا العمل، أي عمل الناس الذي كان أهل المدينة سائرين عليه في عصره وقبل عصره فهو حينئذٍ بهذه العبارات يصف عمل بلده وما اعتاده قومه وتعارف لديهم وساروا عليه ومالك رحمه الله يعلم علم اليقين أنه ليس كل من كان من أهل المدينة هو من العلماء المجتهدين من أهل الحل والعقد ولو كان المراد الإجماع، لما عد المالكية الإجماع مصدرا ثالثًا، ثم جعلوا عمل أهل المدينة مصدرًا قائمًا بنفسه إلى جانب الإجماع، وإلا لكان ذلك من ذكر الشيء الواحد مرتين نص على ذلك القرافي في تنقيحه والمقري في قواعده القاعدة 117 والقاعدة 459 والقاعدة 635، وكذلك الونشريسي في المعيار (1) ، فما ذكره مالك في عمل أهل المدينة هو بمثابة العرف الذي يوجد في أي مكان، ولذلك قال ابن خلدون: ولو ذكرت المسألة (يعني عمل أهل المدينة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل قول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب) لكان أليق (2)

ويرد ابن خلدون على الذين فهموا أن مراده في ذلك الإجماع، فيقول: وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة، والفرق بين الإجماع وبين عمل أهل المدينة أن الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد على أمر من الأمور بحيث لا يجوز مخالفته بحال من الأحوال بقطع النظر عن أن يكون عن دليل فعلي أو عقلي، أما إجماع أهل المدينة فهو اتفاقهم في فعل أو ترك مستندين فيه إلى مشاهدة من قبلهم فمالك يقول بهذا الاتفاق وما عليه أهل المدينة في عهده إذا تحقق في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها، فهذا العمل الذي عليه أهل المدينة يرفع الخلاف ويرجح ما هم عليه من غيرهم من المذاهب على أن مالكًا هو أكثر الناس تحرجا من البدع والشبهات وتمسكًا بما عليه الصحابة والتابعون، وإنما يرجح عمل أهل المدينة على غيرهم لأن أهلها أقرب إلى صفاء التشريع ونقاوته، وهم أبعد الناس عن أن يكونوا على ضلالة من أمرهم وهم أقرب عهد بالرسول وأصحابه وأتباعهم، وهذا شبيه بما كان عليه أبو يوسف صاحب أبي حنيفة حين كان يقدم العرف على الحديث ويقول: إن الحديث ليس إلا تأكيدًا أو إقرارًا للعرف الذي كان فيعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لو وجد عليه الصلاة والسلام هذا العرف قد تغير تغيرًا موافقًا لأصل الدين لأقره، ومثل هذا فعل الشافعي، فقد أخذ بكثير من عمل أهل مكة وكذلك ينقل عن أبي حنيفة في حكمه بعمل أهل العراق، نقل ذلك الشيخ الحجوي في كتابه الفكر السامي (3) وإذا كان هؤلاء الأئمة اعتبروا عرف هذه البلدان فعمل أهل المدينة أولى بالاعتبار، ثم إن العمل الذي كان بالمدينة شائعا على عهد مالك رضي الله عنه منه ما كان معمولا به على الدوام وهو الذي قال فيه ابن رشد في مقدماته وما استمر عليه العمل بالمدينة واتصل به فهو عنده أي مالك مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم وبها توفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتوافرون فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علموا النسخ فيه (4) .

(1) المعيار للونشريسي: 2 /272

(2)

مقدمة ابن خلدون: ص 445

(3)

الفكر السامي، للشيخ الحجوي: 2 /167

(4)

المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد ابن رشد ط بيروت 2 /565

ص: 2563

وهذا النوع يجري مجرى العرف العام وفيه أيضًا ما هو معمول به ولكنه قليل وهو يجري مجرى العرف الخاص وما كان عامًا مستمرًا فهو الذي يأخذ به مالك ويقدمه على خبر الآحاد ومعلى القياس، وهذا الفعل الذي جرى عليه أهل المدينة لا يكون إلا لأمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه الصحابة فيه والتابعون من بعدهم أو يكون واقعًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم عليه واستمر الناس عليه زمن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم وهذا لا شك في صحة الاستدلال به والأخذ به والاعتماد عليه إذ لا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، ولا شك أن ما داوم الناس عليه هو أولى من الأخذ بقول واحد، وهذا ما فعله مالك حيث قدم العمل على أخبار الآحاد حيث راعى العمل المستمر ورآه أقوى من أخبار الآحاد لأن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن والعمل المستمر الذي جرى من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة والتابعين الذين أدركهم مالك وراقب أعمالهم، ففي هذا من القوة ما ليس في قول الصحابي، ولذلك قدمه مالك على الأخبار الآحادية والقياس، يقول الشاطبي: ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدَّمًا على الأحاديث إذ كان، إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والآخر ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث لأن عمل أهل المدينة أثبت في الاتباع وأولى أن يرجع إليه وقد كان مالك يقول إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء، فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم وكان إذا بلغه حديث لم يكن يرى الناس يعملون به، يقول: أحب الأحاديث إلي ما أجتمع الناس عليه، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه، وإنما هو حديث من أحاديث الناس، ولهذا المعنى قال الشاطبي: لما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر كما اعتبر الاقتداء بالأفعال أقوى من الاقتداء بالأقوال (1) .

(1) الموافقات، للشاطبي: 2 /10، 71

ص: 2564

وفي كلام الشاطبي رد على ما ذهب إليه ابن رشد من أن الفعل لا يفيد التواتر إلا إذا اقترن بالقول ورد عليه أيضًا في قوله: إفادة الأفعال للتواتر عسير، بل لعله ممنوع (1) قال الشاطبي: وكل ما جاءك مخالفًا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه وهذا يرد ما صرح به الآمدي وغيره من اعتبار عمل أهل المدينة كعمل غيرهم لأن عملهم معزز بالمشاهدة والاتباع، ففي المدينة انتهاء الوحي وفيها انتهت الرسالة واستقرت، فكان أهلها أعلم بما كان عليه الرسول وصحبه ومن تبعهم إلى عصر مالك بن أنس ودعوى مخالفة مالك للحديث، فقد أبطلناه بأن مالكًا إذا ثبت الحديث عنه وصح لا يتركه بحال، وإن ثبت، ولكن بطريق الآحاد قدم عيه عمل أهل المدينة لأنه لا يعقل أن يعمل بقول الفرد الواحد ويترك الجم الغفير على أن ما اعتاده الناس لا يصرفون عنه إلا بدليل صريح قاطع، فإن لم يوجد، فإن الناس يتركون على ما هم عليه ما دام لم يخالف فعلهم دليلا شرعيًّا، وهذه قاعدة يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في بلد أهلها هم أعرف الناس بالسنة النبوية ومقاصد الشريعة وأكثر الناس اقتفاء واقتداء لخطى رسول الله صلى عليه وسلم وأشد الناس اتباعًا وأبعدهم من الابتداع.

وإذا أوضحنا مقصد مالك في الأخذ بعمل أهل المدينة وأدركنا الغاية التي أرادها من أن عمل أهل المدينة هو العرف والعادة التي تسلسل العمل بها عبر الأجيال وتابع الناس عليها اتباعًا وتقليدًا لا اجتهادا حتى ينتهي إلى عصر الصحابة وزمنه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إجماعا لأن الجماع لا يكون تبعيًا كما يقول ابن خلدون، وحيث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر بعض الأعراف وأبقى عليها، ولم يمنع منها إلا ما صادم الشرع أو تعارض مع مبادئه وأصوله وأن كل المذاهب الرئيسية قد حكمت العرف واعتبرته في كثير من القضايا، ولم يقف ضد هذا المنزع إلا من لا يعتد برأية، وقد تقدم أن بينا أن مراعاة عادات الناس وأعرافها التي لا فساد فيها هي ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركها عالم من العلماء المحققين، بل يجب الأخذ بها وأنه ليس لأحد أن يمنعهم من الأخذ بها إلا بنص يحرمها ويمنعها، وحيث لا نص فلا بد من مراعاة أعرافهم وعاداتهم إذ مخالفتهم تؤدي بهم إلى الحج والمشقة والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .

(1) بداية المجتهد لابن رشد: 1 /126

(2)

سورة الحج: الآية 71

ص: 2565

وإذ قيل يعتبر العمل والعرف مع وجود النص المخالف قلنا: إن النص إما أن يكون قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة فلا يقول أحد بخلافه لا مالك ولا غيره، وإن كان ظني الدلالة فقد نص العلماء على أن العرف العام يقدم على الدليل الظني كما أنهم نصوا على أن العرف العام يقيد المطلق ويخصص العام ويبين المجمل، وهذا هو دور العمل بإطلاق، وإذا كان هذا هو دور العرف، وهذا اعتباره في كل مكان، وفي كل زمان فعمل أهل المدينة أجدر بالاعتبار والاحترام لما قدمنا، ثم إن الإمام مالك رضي الله عنه كان على غاية من الانسجام مع البيئة التي عاش فيها وتأثر بها إذ لم يكن مقتصرًا على الحديث وأغلق باب الرأي والنظر في كل ما احتاج إليه متماشيا مع المنهج الاجتهادي الذي ربطه بمناهج الشريعة ومقاصدها ومن هنا كان رحمه الله حريصًا على الحرص على أن يربط النص الشرعي بالحياة العملية التي كانت قائمة بالمدينة فيقدر ما كان وقافًا عند النصوص في العبادات بقدر ما كان يراعي المصالح في المعاملات، وبذلك كان منسجما أخذًا بعين الاعتبار العمل القائم في المدينة معتبرًا أنه الصورة العملية التطبيقية للشريعة الإسلامية.

ولكن هنا لقائل أن يقول إذا اعتبرنا أن عمل أهل المدينة من قبيل العرف، كما قرره ابن خلدون أو هو بمثابته، فلم عد المالكية في الأصول التي انبنى عليها مذهبهم العرف مستقلا عن عمل أهل المدينة؟ فالجواب: أنا قدمنا الفرق في الخلاف بين الجماعة هي أن العرف والعمل هما لفظان مترادفان وهو ما ذهب إليه جماعة ومنهم من فرق بينهما بأن العمل إنما هو ممن يقتدي به من العلماء، أما العرف فهو فعل العامة مرة بعد مرة ولا يظهر كبير فرق بين ما جرى به العمل وبين العرف لأن ما تعارفه الناس بمعنى تعودوا عليه وعملوا به، ولذا نرى الكثير من العلماء من لا يفرق بينهما ويجعلهما شيئًا واحدًا وكثيرًا ما يكون العمل تابعا للعرف، قاله الشيخ الحجوي في الفكر السامي (1) ومثل بأدوات المنزل مبينًا أن منها ما يكون للزوجة حسب العوائد والأعراف ومنها ما يكون للزوج وأن كل بلد يحكم له بعرفه، وفي تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس أن غالب عمل فاس مبني على الأحكام العرفية كما يذكر أن عمل فاس غالبًا يتبع القول الموافق لأعراف الناس، والحق أن جريان العمل بالشيء ليس هو جريان العرف به إذ مراد العلماء بقولهم به العمل وعمل به، أن القول حكمت به الأئمة واستمر حكمهم به وجريان العرف بالشيء هو عمل العامة من غير استناد لحكم من قول أو فعل (2) .

(1) الفكر السامي للحجوي الثعالبي: 4 /229، ط دائرة المعارف المغرب

(2)

حاشية المهدي على شرح التاودي: 1 /432، ط حجرية.

ص: 2566

وفرق بين عمل أهل المدينة وما جرى به العمل في الأقطار، فإن ما جرى به عمل أهل المدينة هو مستند لا محالة إلى النص أو فعل أو تقرير فهو اتباع الآثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولذلك كان غير العرف وغير ما جرى به العمل بالأقطار المختلفة وإذا لم يقبل عمل أهل المدينة عند جميع المذاهب وهو مستند إلى الدليل في الجملة، فماذا يكون موقف من تشبث بالعمل المطلق أو الخاص فيما جرى في بقية الأقطار، ولهذا ذهب كثير من العلماء المتأخرين إلى عدم الاعتداد بما جرى به العمل في بلد من البلدان سواء قيل إن أصله راجع إلى الاقتداء فيه بقاض معين قد كانت له قدرة الترجيح والاستنباط أو هو راجع إلى عرف خاص إذ هو في الحالة الأولى يكون الترجيح قائمًا على شخص لا على دليل والحجة لا تقوم على الأشخاص وإنما تقوم على الدليل، وأما الحالة الثانية وهو ما كان منشؤه العرف الخاص في بلد من البلدان، فإنه لا يصح أن يَعُمَّ العرف الخاص ببلد من البلدان كل البلدان اللهمَّ إلا إذا كان عرفًا عامًّا استوجبته المصلحة. على أن العرف العام هو نفسه قد لا يلزم إذ هو يتغير بتغير المصلحة ويتجدد بتجددها فلا يمكن أن يستمر العمل المرتبط به بعد انتهاء مصلحته على أن العرف العام من شأنه أن يكون معروفًا لدى الجميع يستوي فيه العوام والعلماء على السواء وليس العمل كذلك إذ العمل من خصائص العلماء العارفين بأسرار الشريعة الكاشفين لأحكامها على أن العمل في الأقطار كثيرًا ما يختلف فمثلا جرى العمل في فاس بعدم الاكتفاء بعجلين في الترشيد والتسفيه نص على جريان العمل به غير واحد كابن فتوح والمتيطي وابن سلمون وغيرهم في حين أنه جرى العمل في تونس بالاكتفاء بقبول عدين في حالة التسفيه والترشيد لكن الزيادة أفضل وهو قول أصبغ (1)

وفي الشفعة في ما لا يقبل القسمة قولان لمالك، وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون، والقول بعدم الشفعة هو المشهور وبه القضاء وأفتى فقهاء قرطبة به، وقد رفع شفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن، وقال حكم علي بغير قول مالك فوضع بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاروهم، فقالوا: مالك يرى في الحمام الشفعة فقضى منذر بذلك وحكم له بها، وهكذا جرى العمل في الحمام والعيون والآبار والشجرة الواحدة وشبه ذلك جري العمل بقرطبة بالشفعة في ذلك والعمل عندنا في تونس على مذهب ابن القاسم لا شفعة فيما لم ينقسم، وكذلك الشفعة في الكراء كدار بين رجلين أكرى أحدهما نصيبه منها هل لشريكه أن يشفع ذلك من يد المكتري لأن الكراء بيع منفعة أو ليس له ذلك فيه قولان جرى القضاء بكل منهما فبالمغرب جرى القضاء بالشفعة وفي تونس جرى العمل بعدمها وكذلك جرى العمل بفاس بجواز الإفتاء للحكام، وهو قول ابن عبد الحكم فيجوز للقاضي الإفتاء في مسائل الخصام إذ هي المختلف فيها ومقابل الجواز فيها المنع والكراهة، وقد جرى العمل بمنع القاضي من الإفتاء في مسائل الخصام في تونس أما مسائل العبادات فبجواز الإفتاء فيها متفق عليه.

(1) فتح الجليل في شرح التكميل والمعتد، لأبي عبد الله محمد السجلسماسي:194.

ص: 2567

ومن هنا ندرك أن العمل نفسه قد يتعدد تبعًا لاختلاف القضاة والمفتين واختلاف الجهات وعندئذٍ يحتاج إلى المقارنة والترجيح فيما بين هذا العمل وذلك وما هذا الاختلاف والعمل إلا لأن الفقهاء لم يضبطوا اتجاه العمل بمبدأ عام ومقياس ملزم للجميع يجب اعتباره، ولو نظرنا إلى ما جرى به العمل نرى منه ما كان وفق القول المشهور في المذهب ومنه ما جرى على القول الضعيف، ومنه ما جرى على خلاف النصوص ومنه ما جرى على ما لا نص فيه، ومنه ما جرى على شبه دليل ومنه ما جرى على وفق دليل المخالف، فمثال ما وافق القول المشهور العقوبة بالمال، فقد جرى العمل فيها بعدم الجواز وهو المشهور والقول الشاذ جوازه وبه أفتى جماعة من الفقهاء بالتعزير بأخذ المال لا يجوز في الراجح عند الأئمة لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه (1) ، وقد أثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع خاصة من مذهب مالك في المشهور عنه ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أمره بكسر ما لا قطع فيه من الثمر والكثر وأخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى، ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر ونحوه كثير، ومن قال إن العقوبة المالية منسوخة وأطلق ذلك فقد غلط في نقل مذاهب الأئمة (2) .

وقد قسم ابن تيمية العقوبة المالية إلى ثلاثة أقسام، إتلاف وتغيير وتمليك، فالأول إتلاف المنكرات من الأعيان والصفات تبعا لها كإتلاف الأصنام بتكسيرها وتحريقها وتحطيم آلات الملاهي عن أكثر الفقهاء وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما عملًا بفعل عمر حيث حرق حانوت الخمار، ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع وبه أفتى طائفة من الفقهاء، الثاني التغيير كتغيير الشيء مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم كتفكيك آلات الملاهي وتغيير الصورة المصورة، وأما التمليك بمثل ما روى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من التمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الحبرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وكذلك قضاء عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها على كاتمها، وقد أجاز المالكية العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين وإذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا، فإنه يكسر على المسلم ويتصدق بالثمن تأديبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه (3) .

(1) البدائع 7/ 63، فتح القدير: 4 /212، حاشية ابن عابدين: 3 /195، المهذب: ص 288، المغني: 8 /244، الاعتصام للشاطبي تحقيق رشيد رضا: 2 /105

(2)

راجع الحسبة في الإسلام لابن تيمية: ص 49 وما بعدها، إعلام الموقعين: 2 /98

(3)

الاعتصام للشاطبي: 2 /106

ص: 2568

ومثال ما خالف المشهور جريًا على القول الضعيف، وهذا النوع هو الغالب بيع المضغوط وبيع الثنيا وهو البيع بشرط وعند المالكية الاستثناء في البيع نحو أن يبيع الرجل شيئا ويستثنى بعضه فإن كان الذي استثناه معلومًا كأن يستثني شجرة معينة أو منزلًا من المنازل أو موضوعًا معلومًا من الأرض صح الاتفاق على البيع، وإن كان مجهولًا نحو أن يستثني شيئًا غير معلوم لم يصح البيع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الثنيا في البيع إلا أن تعلم، فإن أسقط هذا الشرط عن المشتري جاز البيع (1) ومما خالف المشهور جريا على القول الضعيف صرف اليمين إلى الطلاق وتأبيد التحريم للهارب وتضمين الرعات وشهادة الابن مع أبيه والعمل بالخلطة والتحبيس على البنين دون البنات والخلع بالإنفاق على الولد بعد مدة الرضاع.

ومثال ما خالف العمل النصوص الصريحة ترك اللعان وهو مصرح به في القرآن والسنة والاعتداد بالأشهر للحائض بدل الإقراء وترك مراعاة القافة في تحديد النسب.

ومثال ما جرى العمل فيما لم يرد فيه نص كل المسائل المستحدثة كمسألة الخماس وغيرها من القضايا التي لم يرد فيها نص لا بالحلية ولا بالحرمة فيوجد له حكم بطريق القياس أو لأجل الضرورة أو تحقيق مصلحة أو درء مفسدة حتى يستطيع التشريع ملاحقة التطور.

ومثال ما جرى به العرف في قضية لم يرد فيها دليل صريح ولكن فيها شبهة؛ دليل مسألة الصفقة وأجرة الدلال، ومثال ما جرى به العمل على وفق دليل خارج المذهب شهادة اللفيف حيث هي توافق مذهب الأحناف الذي يعتبر الناس كلهم عدولًا وكذلك ترك القافة لأن الحنفية لا يقولون بها.

الدواعي والأسباب المؤدية إلى اختلاف الأعراف والعادات:

إن دواعي تغيير الأعراف كثيرة وأهم أسبابها هي: تغير الأوضاع وفساد الأخلاق وحدوث أنظمة وترتيبات جديدة تبعث على تغيير العادات،ولنوضح ذلك بمثال، فإنه بالمثال يتضح المقال، بمثال وجود الظروف التي تقتضي تغير الحكم الاجتهادي أو تأخير تنفيذه أو إسقاط أثره عن صاحبها، فمن ذلك ما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو رواه عن بسر بن أرطأة، قال ابن العربي في شرحه لصحيح الترمذي: اختلف الناس في هذا الحديث على قولين، أحدهما: في رده لضعفه وحكموا بعموم القطع على كل سارق حيث كان البلاء والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي لا يرون أن يقام الحد في الغزو وبحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه، كذلك قال الأوزاعي قال ابن العربي: إنه لا يقطع يد من سرق في الغزو لأنه شريك بسهمه فيه وكذلك إن زنى لا يحد، وقال عبد الله في الذي سرق من الغنيمة ما يزيد عن ربع دينار على نصيبه قطع قاله الأوزاعي، قال ابن العربي: وهذا ما لا أعلم له أصلا في الشريعة، والحدود تقام على أهلها كان فيها ما كان ومثال هذه التقية لا تراعى في الآحاد، وإنما تراعى في العموم لما تبقى فيها من العصبية وتراقي الحال كما يقال في أحد التأويلات أن عليا إنما أخر القصاص عن قتلة عثمان طالبًا لوقت فيه الحال حتى يتمكن منهم دون عصبية. (2)

(1) رواه النسائي والترمذي وصححه عن جابر، نيل الأوطار: 5 / 151

(2)

صحيح الترمذي بشرح ابن العربي: 6 /231، 232.

ص: 2569

وقد اعتبر جماعة الظرف وهو خشية أن يترتب على إقامة الحد ما هو أشد وأبغض إلى الله من تعطيله وتأخيره وهو لحوق صاحبه بالأعداء حمية وغضبًا، كما قال عمر وأبو الدرداء: ونص عليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما فلا تقام الحدود في أرض العدو وقد أتى بسر بن أرطأة برجل من الغزاة وقد سرق مجنة، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقطع الأيدي في الغزو)) لقطعت يدك وقد روى سعيد بن منصور أن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين أحدًا وهو غاز يقطع الدرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار (1) . وقد ثبت أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه منع أن يقام الحد على الوليد بن عقبة وهو أمير في الغزو، وقال: أتحدون أميركم وقد دونوتم عدوكم فتطمعوا فيكم وإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لم يقم الحد على أبي محجن وقد شرب الخمر يوم القادسية قال ابن القيم: وليس في هذا ما يخالف نصًّا ولا قياسًا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا ويدخل في هذا الباب ما فعله عمر رضي الله عنه حيث لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة وحين أسقط الحد عمن سرق في عام المجاعة (2) .

أما فساد الزمان فالمقصود به فساد أهله وانحطاط أخلاقهم وانعدام الورع وضعف التقوى مما يؤدي إلى تغير الأحكام تبعًا لتغير الناس وفسادهم ومنعًا للفساد وسد الذرائع، وقد أصبح في استشارة عرفا يقتضي تغيير الحكم لأجله وقد حدث في عهد الصحابة وفي عهد من بعدهم. فمن ذلك ما رواه البخاري عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه، فقال:((عرفها سنة ثم احفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء أحد يخبرك فيها وإلا فاستنفقها)) ، قال: يارسول الله: فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب)) ، قال: ضالة الإبل فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر)) .

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3 /6

(2)

إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3 /7- 9.

ص: 2570

وفي رواية أخرى عنه: ((دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها)) (1) وقد روى مالك، عن ابن شهب أن ضوال الإبل كانت في زمن عمر إبلًا مرسلة تتناتج ولا يمسها أحد حتى جاء زمن عثمان بن عفان فأمر بمعرفتها وتعريفها، ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطى ثمنها وهذا على خلاف ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فعل ذلك عثمان إلا لفساد الناس وجرأتهم على تناول ضوال الإبل والاعتداء عليها، وقد فهم عثمان رضي الله عنه الغاية التي من أجلها أمر رسول الله بترك ضوال الإبل، وهو حفظها لصاحبها، فلما فسد حافظ رضي الله عنه على المقصد والمراد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان في الظاهر مخالفًا لكنه في الواقع موافق.

(1) الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد في مسنده، ومالك في الموطأ، والوكاء الخيط الذي يشد به الوعاء والقصاص الوعاء الذي تكون فيه اللقطة من جلد وغيره.

ص: 2571

ومما تغير الحكم فيه لتغير الزمان ما قضى به أبو حنيفة من تنفيذ من تصرفات المدين كالمصرف بالهبة والوقف وسائر وجوه التبرع ولو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلها باعتبار أن الديون تتعلق بذمة المدين لا بأعيان أمواله التي تبقى حرة فينفذ فيها تصرفه، وهذا ما يقتضيه القياس والقواعد، ولكن لما فسد الناس وخربت ذممهم وكثر طمعهم وقل ورعهم، وصاروا يعمدون إلى تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها أو هبتها لمن يثقون به من أقربائهم وأصدقائهم أفتى المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنفي والحنبلي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلا فيما يزيد عن مقدار الديون التي عليه وبذلك وافقوا مذهب مالك والشافعي وقد اتفقت المذاهب بأن لا حجر قبل الحكم بتفليسه فإذا حكم بذلك وحجر عليه لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله فإن تصرف بيع أو هبة أو وقف أو أصدق امرأة مالا له أن نحو ذلك لم يصح، وبهذا قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر: يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ وإلا بطل، قال ابن قدامة: ولنا أنه محجور عليه بحكم الحاكم فلم يصح تصرف كالسفينة ولأن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله لا بذمته (1)

ومن هذا القبيل أيضًا أن الغاصب يضمن عين المغصوب إذا هلكت أو أصابها عيب ولا يضمن قيمة المنافع عند الحنفية لأن المنافع ليست متقومة في ذاتها وإنما تقوم بورود العقد عليها كعقد الإجارة وحيث لا عقد في العصب فلا ضمان لأنها لا مماثلة بينها وبين عين الغصب لبقاء الأعيان وذهاب المنفعة، وذهب الأئمة الثلاث إلى أن الغاصب يضمن أجرة المثل عن المال المغصوب وقد أفتى المتأخرون من فقهاء الحنفية بمثل ما أفتى به الأئمة الثلاث وذهبوا في ذلك فريقين: فريق يرى تضمن الغاصب أجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان مال وقف أو مال يتيم أو كان مالًا معدا للاستغلال أي الاستثمار، وهو وإن كان على خلاف القياس وذلك لفساد الناس وجرأتهم على الغصب (2) وفريق يرى أن تضمين منافع المغصوب مطلقًا في جميع الأموال لا في خصوص الوقف ومال اليتيم والمال المعد للاستغلال وذلك لازدياد الفساد وفقدان الوازع الديني (3) ، على أن المنافع عند غير الحنفية أموال متقومة كالأعيان ذلك أن الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال عز الدين بن عبد السلام (4)، والشافعية والحنابلة قالوا: تضمن منافع الأموال التي يستأجر المال من أجلها بالغصب أو التعدي سواء استوفى الغاصب المنافع أو تركها حتى ذهبت أي إنها تضمن بالتفويت أو بالفوات في يد عادية أي ضامنة معتدية (5)، أما المالكية فقالوا: تضمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط ولا تضمن في حالة الترك أي تضمن بالتفويت دون الفوات، وهذا إذا غصب ذات الشيء أما إذا غصب المنفعة فقط كأن يغلق الدار ويحبس الدابة فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها.

ومما تغير الحكم لفساد الناس طلاق الثلاث في كلمة واحدة، فقد كان طلقة واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، فلما رأى عمر فساد الناس وإكثارهم من الحلف بالطلاق وتتابعوا في ذلك واقعة لمن تلفظ به ثلاثًا في مرة واحدة رواه البخاري، وفي سنن أبي داود، عن طاوس أن رجلًا يقال له أبو الصهباء طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، قال ابن القيم: والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخفف عليه أن هو هذا السنة وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاعه دفعة واحة كاللعان فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات أني لمن الصادقين اعتبرت مرة واحدة (6) ، وقد أخذت بعض البلدان الإسلامية اليوم بالرأي الأول في قوانين الأحوال الشخصية فلا توضع محاكمهم الطلاق الثلاث لمن تلفظ به وتوقعه واحدة وما ذلك إلا لكثرة الحلف بالطلاق وانتشار الفساد وتغير العرف.

ومما تغير الحكم فيه قضاء القاضي بعلمه فقد اتفق الحنفية على جواز أن يقضي القاضي بعلمه في واقعة شهدها بنفسه وإن ذلك يغني عن مطالبة الخصوم بالإثبات، قال ابن عابدين: القاضي يقضي بعلمه في حقوق العباد إذا علمها في بلده المخصص للقضاء فيه على قول الصاحبين والمختار اليوم أنه لا يقضي بعلمه للتهمة، وذلك استنادًا إلى ما فعله عمر رضي الله عنه، وذلك لفساد القضاة وغلبة الرشاوي وعدم اختيار القضاة بحسب الكفاءة والعفة والنزاهة، وإنما صار يوضع في هذا المنصب بحسب الشهرة والمحسوبية واستثنوا قضاءه بعلمه في أمور التعزير والطلاق والغصب فله أن يحول بين الرجل ومطلقته وأن يضع المال المغصوب عند أمين إلى حين الإثبات (7) .

(1) المغني، لابن قدامة: 4 /439.

(2)

رد المحتار على الدر المختار: 5 /142، ط الأميرية.

(3)

قواعد الأحكام لابن عبد السلام: 1 /152، وما بعدها

(4)

انظر المدخل الفقهي، للزرقاء: 2 /914

(5)

التفويت استيفاء المنفعة، كمطالعة الكتاب وركوب الدابة ولبس الثوب، والفوات هو ترك المنافع تضيع سدى وبدون استيفاء كإغلاق الدار دون إسكان أحد فيها، مغني المحتاج: 2 /286

(6)

إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1 /33

(7)

حاشية ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار: 4 /391

ص: 2572

ومما تأثرت الأحكام فيه لتغير الناس وأحوالهم ما لجأ الناس إليه اليوم نتيجة لتطور أساليب الحياة ووسائلها، من ذلك تسجيل قطع الأراضي لأصحابها بذكر أرقام القطع وأحواضها ورسم الخريطة وتحديد الحدود بالرسم العقاري الهندسي بحيث ينضبط معه الملك ضبطًا لا يخشى معه ضياع أي جزء منه ولا تلاشي حق من حقوقه، إن لتسجيل العقار فوائد كثيرة منها: أنه إذا سجل بدفتر خانة الأملاك العقارية يؤمن عليه من العوارض كالضياع ونحوه، ثانيًا بالتسجيل تتخلص ملكية العقار لمن سجل باسمه وينقطع عنه كل نزاع قديم أو ممكن الوقوع، ثالثا: تنضبط مساحة العقار ضبطا يؤمن معه الاستيلاء على أي جزء منه بسبب تحرير تحديده ومساحته وعمل المثال الهندسي الذي يقع التسجيل على طبقه، رابعًا: يؤمنه عليه من كل واضع يده بأي وجه ولا يخشى معه دعوى ما دام التسجيل باسم المالك الحقيقي، خامسًا: يضبط مساحته يعلم العاجرون مقادير ما لا يباشرونه من أملاكهم التي يستبيحها كل من يعلم حقيقتها. سادسا: حفظ جميع الحقوق المرتبة على العقار المسجل من رهن وإنزال ونحوها لمستحقيها عند عدم علمهم بانتقال الحق لهم. سابعًا: صيانة الملك المسجل للصبي والأرملة إذا مات أو فقد مورثهما، ولم يعلما بملكه، ثامنًا: حصول الثقة للمشترين والمرتهنين وغيرهم بتحقق التملك من غير تدليس. تاسعًا: تحقق أن الملك ليس مثقلًا بغير ما تضمنه الصك وبذلك يأمن أصحاب المثال في البيع والرهن وغيرهما. عاشرًا: سهولة التعامل بالملك المسجل للمالك بحيث إن حامل نسخة تسجيل ملكه يتصرف بسهولة على الوجه المأمون. الحادي عشر: توسعة طريق المعاملة بتكرر الرهون مع اختلاف الدائنين ما دامت قيمة الملك قابلة لذلك وربما ارتفع ثمن الملك المسجل عن غيره، إذ التجار والفلاحون وغيرهم يرغبون في الملك المسجل ويؤثرونه على ما ليس بمسجل لما ذكرنا ويكتفي في نقل الملكية بتغيير أسماء المالكين للقطع بالأرقام وتوقيع أصحاب الشأن والشهود خلافًا لما كان عليه الناس من قبل تحديد الحدود شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا بذكر أسماء المالكين والإشهاد على ذلك وذكر كمال عقل البائع والمشتري إلى آخر السلسلة المعروفة في العقود القديمة وعدالة الشهود وأهلية المتبايعين.

ومن هذا القبيل أن الأصل في النكاح أن ينعقد بالإيجاب والقبول ويتم بشهادة الشهود وفشوة من غير حاجة إلى تسجيل لكن لما فسد الناس وضعف الإيمان وخرجت الذمم وصار الزوج يترك الزوجة والأولاد، ولا يخشى الله فيهم أوجبت المحاكم تسجيل عقد النكاح في سجلات 0البلدية ويعطي الزوجان في ذلك وثيقة رسمية بحيث بدونها لا يعترف النكاح قانونيًّا وما هذا التغيير إلا لتغير أساليب الحياة وتغير أعراف الناس.

ص: 2573

ومن هذا اكتفاء أبي حنيفة في عدالة الشهود بالعدالة الظاهرة فيما عدا الحدود والقصاص ولم ير وجوب تزكيتهم عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عدول بعضهم على بعض)) فلما رغب الفساد على الناس وقل الخير وفشا الكذب والبهتان وتجرأ الناس على شهادة الزور قال الإمامان محمد وأبو يوسف بضرورة تزكية جميع الشهود ولا يكتفي بالعدالة الظاهرة، والحق أن الخلاف بينهما خلال عصر وأوان وتغير زمان والفتوى اليوم على مذهب الإمامين ويتضح من هذه الأمثلة التي ضربنا أن الأحكام المبنية على الأعراف يمكن أن تتغير بتغير الأعراف، قال القرافي في الفروق: تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه (1) وقال أيضا: وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على السطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك من غير أهل إقليميك يستفيتك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين وسلف الماضين، ثم إن التطور العالمي في الميادين المختلفة كالتقنية العلمية والتنمية الاقتصادية وكذلك العلاقات بين الشعوب والدول ووجود المصانع الكبرى والشركات المتعددة واتساع التجارة وقيام الغرف التجارية والعلاقات المستجدة بين أصحاب العمل والعمال، كل ذلك اقتضى وضع قوانين مختلفة وتنظيمات إدارية متعددة أوجدت أوضاعًا وأشكالًا من العلاقات غيرت عادات كثيرة وأوجدت نوعًا من الأعراف العامة التي أثرت في الناس وغيرت كثيرًا من الأحكام فمن ذلك إلزام الناس جميعا بجواز السفر بحيث لا يستطيع أحد السفر إلى خارج بلاده وحدودها بدونه، ومن هذا إلزام الناس الرجال والنساء في ذلك سواء ببطاقة تعريفه وإلزام أصحاب السيارات بالبطاقة الرمادية التي تحمل رقم السيارة ونوعها ومالكها وإلزام كل سائق سيارة برخصة السياقة، ومن هذا أيضا ما صدر في هذه السنوات الأخيرة من وجوب التأمين ضد الغير أو تأمينًا شاملًا، وقد اقتضى هذا من العلماء أن يبحثوا في موضوع التأمين وهل يجوز أو لا يجوز والأصل فيه عدم الجواز لأنه أشبه ما يكون بالمغامرة والرهان، وهو ممنوع وقد جوزه بعض العلماء قياسا على عقد الموالاة أو الحراسة أو بيع الوفاء عند الحنفية اعتمادًا على العرف ونفي هؤلاء أن يكون فيه غرر أو جهالة مفضية إلى نزاع (2)

(1) الفروق للقرافي: 1 /176

(2)

انظر كتاب التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، للأستاذ محمد الدسوقي نشرة المجلس الإسلامي الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة 1967 في كتاب التأمين في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الجمال – والتأمين، للأستاذ مصطفى الزرقاء، والتأمين البري، للبشير زهرة، دار بو سلامة للطباعة والنشر تونس

ص: 2574

والتأمين حديث النشأة ظهر في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا في صورة التأمين البحري وهو نوعان تأمين تعاوني وتأمين بقسط ثابت، أما التأمين التعاوني فهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكًا معينًا لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معين، وهو قليل التطبيق في الحياة العملية وأول من عمل به السودان على ما نعلم وتبعتها في ذلك الكويت واستصدرت قانونها المدني وبدأ العمل به في 25 فبراير سنة 1981 م، وجاء الباب الرابع منه في الكفالة والتأمين، والفصل الثاني منه وفيه ثمانٍ وثلاثين مادة تشمل حقيقة التأمين وإبرام عقده والتزامات المؤمن له والتزامات المؤمن في انتقال الحقوق والالتزامات الناشئة عن عقد التأمين وانقضاءها أما التأمين بقسط ثابت فهو أن يلتزم المؤمن له بدفع قسط محدد إلى المؤمن وهو شركة التأمين المكونة من أفراد مساهمين يتعهد بمقتضاها دفع أداء معين عند تحقق خطر معين وهذا النوع هو السائد في العالم الآن ويدفع العوض، أما إلى مستفيد معين أو إلى شخص المؤمن أو إلى ورثته فهو عقد معاوضة ملزم للطرفين والفرق بين النوعين أن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمن لهم ولا يسعى أعضاؤه إلى تحقيق ربح، وإنما يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء، أما التأمين بالقسط الثابت فيتولاه الشركة المساهمة وتهدف إلى تحقيق الربح على حساب المشتركين المؤمن لهم وكون المؤمن له قد لا يأخذ شيئًا في غالب الأحيان لا يخرج التأمين عن كونه عقد معاوضة لأن من طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد العاقدين على العوض أحيانًا، ولا شك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام، لنه لا يدخل في عقود التبرعات فهو إذن من قبيل التعاون على البر لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين أيا كان نوع الضرر ويدخل في ذلك الحوادث على الأشياء بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان أو ضد المسئولية من حوادث الطرقات أو حوادث العمل ويشمل حتى التأمين على الحياة عند بعضهم ويجوز أيضا للمؤمن له التأمين الإلزامي كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير كما تجوز التأمينات الاجتماعية ضد العجز والشيخوخة والمرض والتقاعد لأن كلها غايتها إعانة من تحل به مصيبة من هذه المصائب، ولا يقال كيف يكون إلزاميًّا لأنا نقول: كل من التزم شيئا من البر والمعروف لزمه.

ص: 2575

أما التأمين بقسط ثابت، فقد أفتى ابن عابدين بحق التأمين البحري لضمان ما قد يهلك من البضائع المستوردة بطريق النقل البحري بالمراكب، فلا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من مال المؤمن للأسباب التالية:(1) أن هذا العقد هو التزام ما لا يلزم حيث انعدم السبب الشرعي للضمان إذ السبب الشرعي واحد من أربعة (1)(1) العدوان من قتل وهدم وإحراق ونحوها (2) تسبب الإتلاف كحفر بئر بدون ترخيص في الطريق العام (3) وضع اليد غير المؤمنة كالغصب والسرقة وبقاء البيع في يد البائع (4) والكفالة وليس المؤمن متعديا ولا متسببا في الإتلاف ولا واضع يد على المؤمن عليه وليس في التأمين مكفول معين وليس التأمين من باب تضمين الودائع، إذا كان يأخذ أجرًا على الوديعة لأن المال ليس في يد المؤمن بل في يد صاحبة وليس هو أيضا من قبيل تضمين التغرير لأن الغار لا بد أن يكون عالمًا بالخطر وأن يكون المغرور جاهلا به غير عالم، كما لا يصح اعتبار التأمين من شركة المضاربة لسببين أولها: أن الأقساط التي يدفعها المؤمن له تدخل في ملك شركة التأمين وهي مطلقة اليد تتصرف كيف شاءت وهي لا يرجع للمؤمن منها شيء أن لم يتعرض لحادث، ثانيهما: أن شرط حجة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل وأن يكون شائعًا بنسبة كربع أو ثلث ونحو ذلك.

كما أنه لا يصح اعتبار التأمين من قبيل الضمان أو الكفالة لأنه ليس واحدا من أسباب الضمان أربعة المتقدمة الذكر وعلى تقدير وجود المكفول كما في التأمين من حوادث الطرقات في السيارات فإن المكفول مجهول ولا تصح الكفالة في مجهول والخلاصة أن عقد التأمين المقسط هو من عقود الغرر أي من العقود الاحتمالية المترددة بين وجود العقود عليه وعدمه وفي الحديث ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)) ، والغرر عنصر لازم لعقد التأمين وهو غرر كثير وليس باليسير إذ من أركانه الخطر وهو حادث محتمل غير متوقف على إرادة العاقدين.

ولا يباح الغرر الكثير إلا عند الجهد والمشقة الفائقة والاضطرار، وهي الحالة التي يصل المرء فيها إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع لقرب من الهلاك ولكنه لا يهلك كما ذكر ذلك السيوطي (2) وقد تكون الحاجة عامة، وقد تكون خاصة، فالعامة ما تشتمل جميع الناس والحاجة الخاصة ما تكون خاصة بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة أو مهنة، ومعنى كون الحاجة متعينة أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض سوى ذلك العقد الذي فيه الضرر ولو سلمنا بوجود حاجة عامة للتأمين في هذا الزمان فإن الحاجة إليه غير متعينة إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح وهي شركات التأمين فهذا يمنع في الإسلام لوجود طريق يبلغ إليه فإن لم توجد شركات الضمان التعاونية، فقد أفتى بعضهم بجواز التأمين الاضطراري الذي هو ثلث التأمين وهو ما كان لدفع ضرر الغير والذي أوجبته كثير من الحكومات الإسلامية حيث يرخص للسيارة تسير في الطريق من غير تأمين الثلث وبعض العلماء مانع في ذلك لأنه عقد معاوضة على مجهول وكله غرر، والغرر ممنوع.

(1) رد المختار على الدار المختار: 3 / 273

(2)

الاشباه والنظائر، للسيوطي: ص 77، القاعدة الرابعة

ص: 2576

ومن هذا القبيل أيضا شركات المساهمة فقد منعها بعضهم وقال بتحريمها لأنها مناقضة لعقد الوكالة أو لأنه ليست عقدا أصلًا بين شخصين أو أكثر أو لأنها لا يوجد فيها الجهد البدني من المشتركين، ولكن بعض العلماء المحدثين أباحوها نتيجة التطور التجاري ولأنها تقوم في الواقع على التراضي وهو الأصل في العقود ومن جهة أخرى فقد توفرت شروط الشركات الإسلامية فيها ولقيامها على الربح وعلى الخسارة.

ولقد حدثت أعراف كثيرة نتيجة اختلاف وسائل الحياة ووجود المصانع الكبرى واكتشاف الآلات الحديثة وما وجد من وسائل الإعلام من مجلات وجرائد وإذاعة وتلفزة وربط العالم بما نشأ من أقمار صناعية وتنوع وسائل المعيشة من اختراع آلات كهربائية واتساع المدن واجتماع السكان في عمارات كبيرة وتشابك المصالح كل هذا أنشأ تقاليد جديدة في الحياة وأعرافًا وعادات اقتضتها المصالح المرسلة من ذلك مثلًا إنشاء مؤسسات اجتماعية لحضانة أطفال الأمهات اللواتي يعملن في المصانع والإدارات وإنشاء دور الرضيع ودور الأيتام والعجزة والمتخلفين ذهنيًّا والمعاقين، وقد أصبحت الحاجة ماسة إلى ذلك لتفرق العائلات واستقلال الزوجين عن السكنى مع الحماوين، وقد أصبحت الحاجة ماسة إلى العمل بها بحيث لا يمكن الانفكاك عنها ولو فتح الباب على مصراعيه لغلب على الناس استباحة ما لم يأذن الله ولعم الفساد كل البلاد.

ومن الأمثلة على استعمال المصالح المرسلة المبنية على العرف والتي عمل بها الفقهاء وذلك للحاجة الماسة الاستماع إلى شهادة التسامح في إثبات النسب والوفاة والدخول بالزوجات والوقف والولايات وغيرها، فكل هذا اكتفي فيه بشهادة السماع مع أن الأصل في الشهادة المعاينة بالذات للمشهود له أو عليه لا بالسماع، ومن هذا أيضا قبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال كالجرائم التي تقع بالحمامات وكشهادة القابلة على الولادة وتعيين الولد على النزاع (1)

القوانين العرفية ومدى ما يمكن الأخذ بها في أحكام القضاء:

إن العرف يجري في المعاملات والعبادات وفي مسائل ليست متمحضة للعبادات ولا للمعاملات وغالبه في النوع الأول ومما مثل به للعبادات قراءة الأحزاب جماعة والذكر في المساجد والقراءة على القبور والأضرحة وإعادة الصلاة جماعة في مسجد له إمام راتب وتثبث الأذان لصلاة الجمعة وتعيين ليلة القدر في السابع والعشرين من شهر رمضان ورفع اليدين في الدعاء، والمسح على الوجه بالكفين بعد الدعاء، ومن النوع الثالث مما لم تتمحض مسائله لا للعبادات ولا للمعاملات، زخرفة المساجد والأضرحة.

(1) رد المحتار على الدر المختار: 4 / 375

ص: 2577

وغالب الأعراف في المعاملات إذ هي أوفق لجريان العمل والقضاء فيها بما يقتضيه العرف ويكون في الأحوال الشخصية والعقود المالية والشؤون العقارية، فمن الأول الاعتداد بالأشهر للمطلقة طلاقا رجعيًّا، أو طلاقا بائنًا وهي مدخولا بها فقد جرى العرف بأنها لا تحل للأزواج إلا بعد مضي ثلاثة أشهر من يوم طلاقها إذا ادعت انقضاء أقرائها فيها ولا تصدق في أقل من هذه المدة، ففي العمليات العامة قال سيدي علي الزقاق في عدة النساء التي جرى بها العمل بفاس وهي ذات قرؤ في اعتداد بأشهر، ومراده أنها تنتظر تمام الأشهر الثلاثة إن كملت الأقراء قبلها احتياطيًّا لا لأنها تعتد بالأشهر حقيقة تاركة الأقراء وقال سيدي محمد بن سعيد الزمور في شرحه على ابن الحاجب الذي سماه معتمد الناجب بعد نحو ما سبق، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: عادة النساء عندنا حيضة واحدة في الشهر، وقد قلت الأديان في الذكران فكيف النسوان فلا أرى أن تمكن المرأة المطلقة من التزويج إلا بعد ثلاثة أشهر من يوم الطلاق ولا تسأل عن الطلاق كان في أول الطهر أو في آخره.. اهـ.

وقال ابن ناجي عند قول المدونة: وإذا قال للمعتدة قد راجعتك فإجابته، قد انقضت عدتي فإن مضت مدة في مثلها تنقض صدقت بغير يمين، وإلا لم تصدق إن ادعت انقضاءها في مدة لا تنقضي فيها غالبا ولا نادرًا، لم تصدق اتفاقًا وإن ادعت ما تنقضي فيها غالبًا صدقت واختلف في النادر وفي مقدار ما تحل به على اثني عشر قولًا منها:

أولًا: لا يقبل قولها في أقل من تسعين يومًا وليس منصوصا للمتقدمين ولكن جرى به العمل عند شيوخنا بتونس، ثم ذكر قول ابن العربي (1) .

والأصل أن ذوات الحيض تعتد بالأقراء بصريح القرآن، قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2)

فإذا رأت المرأة الحيضة الثالثة فقد خرجت من عدتها، والمشهور أنها تصدق فيما يشبه إلا أن العمل جرى بعدم تصديقها في أقل من ثلاثة أشهر (3) .

(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد للسجلسماسي، ط 1 تونس: 1 /83

(2)

سورة البقرة: الآية 228.

(3)

انظر شرح التاودي للامية الزقاق

ص: 2578

ثانيا: جرى العمل بأن الغني يشور ابنته بقدر ما أعطاه الزوج من الصداق ويضيف الأب نفس المبلغ الذي دفعه الزوج بحيث لو أعطى خميس شاورها بمائة كان ولي الزوجة أبا أو وصيًّا، فلربما بمثل المبلغ والأصل عدم إلزام المرأة وأبيها جهازًا لأن الصداق إنما كان عوضًا عن البضع ولو كان عوضًا عن الجهاز وهو مجهول لكان فاسدًا فالبضع هو الأصل وما سواه تابع وفي العلميات العامة وعند فاس ذو الغنى يشور بمثل نقد ابنته ويجبر، إن وقع الدخول أما إن طلب الزوج ذا قبل فلا يجبر الأب، وقيل للزوج تجهز إليك بالنقد أو طلق، ولا شيء عليك، قال ابن غازي في شفاء الغليل ومن فتوى شيخ شيوخنا أبو محمد عبد الله العبدوسي الذي جرى به العمل في أغنياء الحاضرة إجبار الأب أن يجهز ابنته بمثل نقدها، وهذا إنما هو إذا فاتت بالدخول، وإما أن طلب الزوج هذا قبل الابتناء فلا يجبر الأب، ويقال للزوج: إما أن ترضى بأن يجهزها لك بنقدها خاصة وإلا فطلق ولا شيء عليك وبهذا القضاء والعمل. اهـ قال ابن غازي: وبه مضى الحكم في ابنة أحمد اللمتوني محتسب فاس في عصرنا هذا (1)

وهذا لا ينفي استحباب تجهيز الأب والوصي بشيء من مال الزوجة زيادة على نقدها، لأن ذلك من صالحها ومما يرغب الناس فيه لكن لا على طريق الإلزام.

ثالثا: الخلع بالإنفاق على الولد بعد أمد إرضاع، قال خليل: وجاز شرط نفقة ولدها مدة رضاعها، ومذهب المدونة سقوط ما زاد على الحولين وهذا هو المشهور، ولكن جرى العمل بقول المغيرة المخزومي والإمام أشهب وابن الماجشون وغيرهم، وبه قال سحنون وابن حبيب واللخمي وابن يونس بأن من خالع زوجته على إنفاق ولده بعد الحولين جاء في العمليات العامة وما تحملت به من نفقة أي فوق الرضاع يلزم المطلقة.

وإن بذاك أعسرت فينفق وبالسداد يرجع المطلق، وقد نبه على هذا العمل ابن سهل وابن فتوح والمتيطي وابن مغيث والفشتالي ومن لا يحصى، فإن أعدمت الأم في خلال المدة، فإن النفقة تعود على الأب، فإن أيسرت الأم فهل يتبعها أم لا؟ المشهور من المذهب أنه يتبعها بما أنفق على السداد لا على ما أنفق من ضيق أو سعة، قاله مالك وابن القاسم وبه القضاء، وحكى أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يتبعها بشيء وذكر هذا القاضي الفشتالي وابن سلمون ونقله عنه الحطاب في تحرير الكلام (2)

(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد للسجلسماسي:1 /31 -32

(2)

شرح العمل الفاسي للسجلسماسي: 1 /69

ص: 2579

رابعا: ومنها النظر للعورة فالأصل فيه المنع إلا لضرورة كعيوب الفرج، والمشهور أن المرأة تصدق في داء فرجها وفي بكارتها فيما لو ادعى الزوج أن بفرجها عيبًا أو أنه وجدها ثيبًا، وهذا قول جمهور المالكية، وخالف في ذلك سحنون وأفتى بجواز النظر معللًا ذلك بقلة أمانة النساء وبقوله: جرى العمل عند متأخري الفقهاء فللقاضي أن يمكن من يوثق بخبرتهن من القوابل أن تنظر إلى المرأة للضرورة الداعية ولا تصدق الزوجة في نفيها لما يدعيه الزوج لأنها متهمة بالدفع عن نفسها، ومثل ذلك الزوج وللمتأخرين في ذلك فتاوى متعددة متضاربة، وفي العمليات: وجاز للنسوة للفرج النظر من النساء إن دعا له ضرر، وهذا كله في الزمن الماضي، أما اليوم فقد ارتفع الإشكال بالطبيب حيث أصبح كل من الزوجين يعرض على الطبيب في كل ما يتعلق بالعيوب والأمراض.

ومنها صرف اليمين إلى الطلاق في الحلف باللازمة أو الحرام إذ صار هذا اللفظ حقيقة عرفية على الطلاق وأوجب الفقهاء فيه طلقة رجعية ولولا العرف لما لزمه شيء أو للزمه كل شيء ففي تحفة الحكام: وكل من يمينه باللازمة له الثلاث في الأصح لازمة، وقيل: بل واحدة رجعية مع جهله وعقده للنية. وقيل: بل بائنة وقيل: بل جميع الأيمان وما به عمل. وقد روى ميارة عن ابن زرب أنه أفتى بطلقة بائنة ورده ابن سهل بأن الواحدة البائنة لا تكون إلا في الحكم وقيل: إن نوى عمومًا أو خصوصا لزمه ما نواه وإن نوى مسمى عرفًا عالمًا أن منه الطلاق وهو أكثر الواقع في زماننا فطلقة واحدة وإن نوى مطلق اليمين جاهلا مسماها عرفا احتمل السقوط وكفارة يمين، وقال ابن بشير: إن قصد التعميم بثلاث وإلا فواحدة، قال القرافي في هذا اليمين: إن الفقهاء لا حظوا فيها ما غلب الحلف به في العرف وما جعل يمينًا في العادة فألزموه إياه لأنه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي. ونقل ابن عبد السلام عن بعض المفتين أنه إذا جاء من لا يعرف مدلول هذه الكلمة قال: لا شيء عليه، قال بعضهم: وهذه الطريقة أنسب وإن نوى شيئا لزمه ما نوى وإلا لزمه طلقة والكلام في المسألة طويل وملخصه أن المشهور في المذهب هو ما في المختصر والقول بالواحدة الرجعية قال به كثير (1) ، وفي تبصرة ابن فرحون إن جرى عرف في هذه اليمين يتبادر إلى الذهن من غير قرينة عمل عليها، وإلا فما قواه أو دل عليه بساط، وإلا فلا شيء عليه، قال الحسن بن رحال: وهو كلام حسن غاية وقد تحير فيها الولوع النهاية.

(1) شرح ميارة على التحفة: 1 /243 وما بعدها

ص: 2580

سادسا: هدايا الخطبة، لقد اختلفت المذاهب في الهدايا التي يقدمها الخطيب لمخطوبته إذا كان ما هداه قائما في يدها ولم يوجد مانع من استرجاعه كالخاتم والساعة ونحوها، فإنه يرتجعها وإذا كانت مما تستهلك فلا ترجع، والجعفرية قالوا باستردادها مطلقا ولو هلكت فيسترد قيمتها، وكذلك الشافعية يرون حق الرجوع في الهدية مطلقا سواء أكان العادل عن الخطبة الخاطب أو المخطوبة، أما المالكية فلهم في ذلك تفصيل مرجعه إلى العرف وهو منع الخاطب من استرداد ما أهداه إلى مخطوبته إن كان العدول منه، أما إذا كان العدول عن الخطبة من جانبها فله حق استرداد ما قدمه مما هو قائم بعينه واسترداد قيمته أو مثله إن هلك ما لم يكن مما يستهلك كالحلويات ونحوها، ويرجع ذلك كله إلى العرف والى عادات الناس وما لم يكن هناك شرط، وذلك لقاعدة أن المعروف عرفا كالمشروط شرطًا فإذا كان هناك عرف عام أو خاص في هذه الهدايا حكم العرف فيها، ولقد أقامت قوانين الأحوال الشخصية أحكامها في ذلك على ما جرى به للعمل في المذهب المالكي في كثير من الأمصار.

ومنها الكفاءة في الزواج روى الدارقطني أن عمر بن الخطاب قال: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء، ولا شك أن اعتبار الكفاءة مكمل للمقصود من الزواج إذ به تنتظم مصالح الزوجين وتأسيس القربات، وقد ذهب جماعة إلى عدم اشتراط الكفاءة في الزواج إلا في الدين منهم الإمام الكرخي من الحنفية والحسن البصري وابن حزم ومستندهم حديث: الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إنما الفضل بالتقوى، كما يشهد لذلك أيضا قوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: الآية 13] .

ورد ذلك بأن التساوي راجعة إلى الحقوق والواجبات، أما في غيرها مما تقام على أعراف الناس وعاداتهم فلا شك أن الناس يتفاوتون فيها ويتفاضلون في الرزق والثروة والوظائف وغيرها، وقد قال تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [سورة النحل: الآية 71] .

وكذلك يتفاضلون في العلم، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وما زال الناس يتفاوتون في منازلهم الاجتماعية ومراكزهم الأدبية وهو مقتضى الفطرة الإنسانية وشريعة الله لا تصادم الفطرة والأعراف والعادات التي لا تخالف أصول الدين ومبادئه، ومذهب الجمهور أن الكفاءة شرط في لزوم الزواج لا شرط صحة فيه لمجموعة من الأدلة: منها حديث الترمذي والحاكم ثلاثة لا تؤخر، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفوءًا. ثانيًا: ما رواه الدارقطني والبيهقي عن جابر بن عبد الله: لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء، وحديث الدارقطني عن عائشة وعمر: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء (1)

(1) نقل هذه الأحاديث الشوكاني في كتابة نيل الأوطار: 6 / 127

ص: 2581

قال الشافعي: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة، وقد خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يكن زوجها كفؤا لها بعد أن تحررت، وكان زوجها عبدًا، قال الكمال بن الهمام: هذه الأحاديث الضعيفة من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا فتصبح حجة بالتظافر والشواهد وترتفع إلى مرتبة الحسن لحصول الظن بصحة المعنى وثبوته عنه صلى الله عليه وسلم وفي هذا كفاية (1) ومن المعقول وهو أن انتظام المصالح بين الزوجين لا يكون عادة إلا إذا كان هناك تكافؤ بينهما، لأن الشريفة تأبى العيش مع الخسيس فلا بد من اعتبار الكفاءة من جانب الرجل لا من جانب المرأة، لأن الزوج لا يتأثر بعدم كفاءتها عادة وللعادة والعرف سلطان أقوى وتأثير أكبر على الزوجة، فإذا لم يكن الزوج كفؤًا لها قل أن تستمر الرابطة الزوجية وتتفكك عرى المودة بينهما، ثم إن أولياءها يأنفون من مصاهرة من لا يناسبهم في دينهم وجاههم ونسبهم وحسبهم ويعيرون به فتختل روابط المصاهرة وتضعف فلا تتحقق أهداف الزواج الاجتماعية ولا الثمرات والغايات المقصودة منه، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة وهو المعمول به في أغلب البلاد الإسلامية، وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة والراجح عند الحنابلة والمعتمد عند المالكية والأظهر عند الشافعية على أن الكفاءة شرط لزوم الزواج وليست شرطًا في صحة النجاح فللأولياء حق الاعتراض وطلب فسخه فلا يسقط بالإسقاط ومرجع الكفاءة إلى ما تعارفه الناس من الصفات معظمة أو محقرة كالحرف الشريفة وغير الشريفة والنسب الشريف من غيره ولا سيما عند من يتباهون بالأنساب كالعرب والفرس، فالكفاءة في الدين والمال والنسب والحرفة والسلامة من العيوب وكلها يحتاج في طلب سببه إلى العرف والكفاءة عند الحنفية شرط لزوم في الجملة على ما في الدر المختار، لكن المفتى به عند المتأخرين أنها شرط لصحة الزواج في بعض الحالات وهي شرط لنفاذه في بعض الحالات وشرط لزوم في حالة أخرى وتكون شرط صحة بالنسبة للبالغة العاقلة إذا زوجت نفسها من غير كفء أو بغبن فاحش وكان لها ولي غاضب لم يرض بهذا الزواج قبل العقد. الحالة الثانية: أن يزوج غير الأصل أو غير الفرع من عديم الأهلية أو ناقصها فالزواج فاسد لأن ولاية غير الأصل والفرع منوط بالمصلحة ولا مصلحة بغير الكفء الحالة الثالثة: إذا زوج الأب أو الابن أي الأصل أو الفرع بسوء الاختيار عديم الأهلية أو ناقصها من غير كفء، أو بغبن فاحش لم يصح النكاح اتفاقًا.

(1) فتح القدير: 2 / 417 وما بعدها.

ص: 2582

العرف والمال:

المال شرعًا هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد أو هو اسم لما يباح الانتفاع به حقيقية وشرعًا (1) والمنافع تدخل في المذهب الشافعي والمالكي في تعريف المال بحيث ما لا يمكن حيازته لا يعتبر مالا ولو أمكن الانتفاع به كالهواء وضوء الشمس وحرارتها، وأما ما يمكن حيازته فيعد مالا كالحيوان في الفلاة، والسمك في الماء، والطير في الهواء.

والعرف هو الذي يحدد ما هو مال شرعًا وما ليس بمال واختلاف الفقهاء في ما هو مال مما ليس بمال مرجعه إلى الاجتهاد الذي تبناه العرف وهو عند الحنفية لا يكون المال إلا إذا كان مادة وقد وقع حوزه بدليل تعريفهم له بما يمكن ادخاره لوقت الحاجة وعليه فمنافع الأعيان كسكنى الدار وركوب الدابة أو السيارة أو الطيارة ولبس الثياب لا يعد مالا لعدم إمكان إحرازها ومثله أيضًا الحقوق كحق الحضانة وحق الولاية وحق التأليف وحق الاختراع وغيرها لا يعد مالا عند الحنفية وبقية المذاهب الثلاث تعتبر المنافع أموالًا إذ ليس من الواجب في المال إمكان إحرازه بنفسه، بل يكتفي بإمكان حيازته بحيازة أصله ولا شك أن المنافع تحاز مخالفًا ومصادرها إذ من استأجر بيتًا للسكنى وحازه ذاتًا يمنع غيره من الانتفاع به ما دام في حيازته وكرائه، كذلك من استأجر سيارة وقد حازها فهي له ما دامت في حيازته وليس لغيره الانتفاع بها.

وخلاصة القول أن المال عند الجمهور غير الحنفية هو كل ما له قيمة يلزم متلفه بضمانه، والحنفية تفرق بين المال والملك فالحقوق والمنافع أملاكا وليست بمال، وعند الجمهور هي مال لأنها هي المقصودة من العيان، ولولاها لما رغب الناس فيها ونتيجة هذا الخلاف أن الإجارة مثلا تنتهي بموت المستأجر عند الحنفية ولا تنتهي عند غيرهم حتى تنتهي مدتها، وكذلك الحقوق فإنها لا تورث عند الحنفية وتورث عند غيرهم، واعتبار المنافع أموالا أوجه وأظهر مما ذهب إليه الحنفية لأنه هو الذي يجارى عرف الناس ونظرتهم للمال.

(1) بدائع الصنائع للكيساني: 6 / 294

ص: 2583

ثم المال منه ما هو متقوم وهو ما كان في حيازة، وجاز الانتفاع به في حال الاختيار، ومنه ما هو غير متقوم وهو بخلافه كالمال المباح الذي لا مالك له بخصوصه كالسمك في البحر، والذهب في المنجم، والطير في الهواء، والنفط تحت الأرض، فهو مال غير متقوم في نظر الشرع لعدم الحيازة، ومثل الخمر والخنزير والميتة، فإنه لا يجوز الانتفاع به في نظر الشرع ولا يلجأ إليه إلا عند الاضطرار والفرق بينهما أن المتقوم يضمن بالتلف عند التعدي عليه، لأن له قيمته ويصلح أن يكون محلا للمعاوضة ويصح أن يوهب أو يوصي به أو يوقف ويصلح أن يكون محلا للمعاوضة ويصح أن يوهب أو يوصي به أو يوقف ويصح أن يكون ثمنا ومثمنًّا وكل هذه الأمور كان تحديدها على العرف في غالب الأحكام باستثناء ما جاءت النصوص على أنه مال مباح أو أنه لا يجوز الانتفاع به، فالفراشات والحشرات والأفاعي والهوام كانت من المال التافه الغير المقوم، وقد أصبحت اليوم لها قيمة لما يستخرج منها من الأدوية ونحوها، والعرف يتغير بتغير الزمان، فما كان تافها في زمان قد يتغير العرف ويصبح مالا معتبرًا في زمان وكثيرًا من الأشياء ما لم يكن مالا مقومًّا في غابر الأزمان، وقد أصبح اليوم مالا مقومًا ترتكز عليه ثروة البلاد فالسمك في المياه الإقليمية، والطيور التي تعيش في أجوائها، والحيوانات في أراضيها وغابتها والنفط في أعماق أرضها ومناجم الفوسفات والبوتاس والأملاح والذهب والفضة ومنتوجاتها الفلاحية، وهذه كلها مما هو ملك خاص أو عام أصبحت هذه ذات قيمة ضخمة، ولهذا تعد مالا متقومًا بحيث لو اعتدى أحد عليها أو نهب منها أو أتلف شيئا من ذلك غرمه وعزر علي تعديه وهذا الحكم يسري على تحديد القيمي والمثلي في الأموال فالقيمي ما تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به أو لا تتفاوت، ولكن لا نظير له في الأسواق وتشمل الحيوانات والبناءات والأشجار وعروض التجارة المختلفة الجنس والعدديات المتفاوتات وما انقطع من الأسواق فلم يعد له مثيل، أما المثلي فما لا تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به وله نظير في الأسواق ويشمل المكيلات والموزونات كالحبوب والألبان والمعدودات المتقاربة كالبيض وعروض التجارة المتحدة الجنس كالثلاجات والسيارات من صنف واحد (1) وتحديد كل ذلك ومرجعه إلى العرف القائم والواقع الموجود ولو اختلف العرف فيه لاختلف ما يندرج تحته المثلي أو القيمي.

حقوق الارتفاق:

الحق عرفه الأستاذ الزرقاء بأنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفًا والحقوق في الإسلام هي منح ألهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية ومنشأ الحق هو الله لا حاكم غيره ولا مشرع سواه والحق مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الآخرين وهو يسلتزم واجبين: واجب عام على الناس جميعًا وهو احترام حق الشخص وعدم التعدي عليه والتعرض له.

وواجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه من غير أن يضر بالآخرين.

وينقسم الحق إلى ثلاثة أقسام: الأول: حق ملك الشيء وحق الانتفاع كالإجارة والوقف والإعارة والوصية وحق الارتفاق وهو ملك ناقص لأن صاحبه لا يملك التصرف المطلق وكثير من حقوق الانتفاع وحق الارتفاق أخذ العرف بعين الاعتبار في استنباط الأحكام الشريعة المتعلقة بها فإباحة الإجارة، وصحة الوقف في المنقولات، وكثير من أحكامها وحق الشرب والمجرى والمسيل والمرور وغيرها بنيت معظم أحكامهما على العرف وحق الارتفاق هو حق مقرر على عقار المنفعة عقار آخر مملوك للغير وهو حق دائم يبقى ما بقي العقار دون نظر إلى المالك ويدخل في ذلك حق الشرب وحق المجرى وحق المسيل وحق المرور وحق الجوار وحق العلو فحق الشرب هو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر أو نوبة الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض ويلحق به حق الشفعة وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي، والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع:(1) ماء الأنهاء العامة، فلكل واحد الحق في الانتفاع به لنفسه ودوابه وأراضيه بشرط عدم الإضرار بالغير لقوله عليه السلام:((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)) وحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) وماء الجداول والأنهار الخاصة المملوكة لشخص، فلكل إنسان حق الشفعة منه لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أرضه إلا بإذن مالكه، (3) ماء العيون والآبار والحياض المملوكة لشخص وفيها حق الشفعة دون حق الشرب، فإن منعهم صاحبه أجبر على تمكينهم من الشفعة، (4) الماء المحرز في أوان خاصة كالجرار والصهاريج لا يثبت لأحد حق الانتفاع به بأي وجه من الوجوه إلا برضا صاحبه ولا يستحقه إلا المضطر الذي يخشى على نفسه وعليه دفع قيمته لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير (2) .

(1) انظر حاشية ابن عابدين: 4 /155

(2)

البدائع: 6 / 188 وما بعدها؛ تكملة فتح القدير: 8 /144، القوانين الفقهية، لابن جزي: ص 344؛ نهاية المحتاج: 4 /255؛ المغني لابن قدامة: 5 /531

ص: 2584

والعرف في كل هذا هو الذي يوضح هذه الحقوق ويحددها ويرتب عليها ضمان التلف ثالثًا: حق المجرى ويراد به حق إجراء الماء من أرض إلى أرض أخرى لسقيها فليس لصاحب الأرض منع مرور الماء من هذا المجرى أو نقله لمكان آخر إلا برضا صاحب الحق وتعتمد أحكام حق المجرى على العرف في بيان الضرر الذي يصيب صاحب الأرض بسبب نزع جانبي المجرى وبيان مقدار التلف إذا أصيب به الزرع أو الأرض بسبب هذا النزح ويستتبع حق المجرى حق مرور الانتفاع لإصلاحه وكريه وإزالة ما يعوق سير الماء فيه، فالعرف في كل ذلك هو الذي يحدد مقدار المرور والحدود التي يمر منها، وقد جرى العرف على منع صاحب المجرى من الزراعة على ما فيه لصالحه وحق السيل وهو مجرى على سطح الأرض أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة على الحاجة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع مياه كمصاريف الأراضي السقوية أو مياه الأمطار أو المياه المستعملة في المنازل والفرق بين المسيل والمجرى أن المجرى لقلب المياه الصالحة للأرض والمسيل لصرف المياه غير الصالحة عن الأراضي أو الدور والحكم فيها واحد وليس لأحد منعه، وقد كنا ضربنا مثالًا لذلك وقع بتونس. وحق المرور وهو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه أكان عاما أم كان خاصًّا مملوكًا للغير والأول حق لكل الناس والثاني خاص حق لأهل أصحاب المكان من المرور فيه وفتح الأبواب والنوافذ عليه حسب ما يقتضيه العرف والعادة، وحق الجوار وهو نوعان علوي وجانبي وللأول حق التعلي على صاحب الأسفل، أي حق القرار على الطبقة السفلى وهو حق ثابت لازم لصاحب العلو ولا يزول بهدم العقار كله أو انهدام الأسفل وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد وليس لأحدهما أن يتصرف بما يضر بصاحبه وإذا انهدم الأسفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر قضاء، فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات إذا فعل ذلك بإذن من الحاكم أو إذن صاحب الأسفل، فإن فعل بغير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه لا بما أنفق وكل ما يتعلق بحل النوافذ والأبواب وأنواع التصرف مرجعه إلى العرف وما يعده العرف ضررًا مما لا يعد عرفا من الضرر، وحق الجار ينشأ من ملاحقة الحدود في الأرض والدار والطريق ونحوها، وقد جاء في القرآن المر بالإحسان إلى الجار، قال تعالى {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (1)

(1) سورة النساء الآية 36.

ص: 2585

وفى الحديث: ((ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) وقال أيضًا ((لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه)) ، وقال:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) فللجار على جارة حقوق أخلاقية كثيرة كأمانته ونصرته في الحق وإقراضه وعيادته إذا مرض وإعارته الماعون، وله حقوق تتعلق بجوار الحدود فلا يضر به ضررًا فاحشًا كبناء جدار يحجب الضوء عنه ويمنع عنه الهواء أو يسد عليه النوافذ أو يحدث مصنعًا مزعجًا بآلاته وسط المنازل أو يهدم السور الذي بينهما. وقد ذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد إلى عدم تقيد المالك في انتفاعه بملكه لأجل مصلحة جاره لأن مقتضى الملك التام أن ينتفع المالك بملكه على الوجه الذي يريده وخالفهم مالك رحمه الله ومعه متأخرو الحنفية، فمنعوا الجار أن يتصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره ضررا فاحشا، والمعتمد في ذلك حديث:((لا ضرر ولا ضرار)) ولأن ما تعارف عليه الناس هو عدم تجاوز الملك المعتاد في التصرف وتحديد الضرر الفاحش من غير الفاحش مبناه عرف الناس، وإنا لندرك مما مر أن هذه الحقوق كلها تعتمد في الكثير من أحكامها على العرف أكان خاصًّا أو عامًا، قوليًّا أو فعليًّا، كما ندرك أن الشريعة الغراء اعتنت بمعتاد الناس فيما لا يخالف مقاصد الشريعة ويحقق المصالح ويدرأ المفاسد ويجلب التيسير ويرفع الحرج.

العقود التي بني الجواز عليها فيها على العرف: كثير من العقود شرعت على خلاف القياس وذلك دفعا للحرج وتسهيلا على الناس في معاشهم ومعاملاتهم، وقد سماها بعضهم ببيوع الاستحسان وهي العقود التي أبيحت للضرورة لتعارف الناس بها في معاملاتهم السلم والاستصناع وبيع الوفاء وعقد الإجارة والمزارعة والمساقاة، فبيع السلم الذي يتضمن تعجيل أحد الثمنين وتأجيل الآخر وهو عقد على خلاف القياس إذ هو بيع ما ليس عنده، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم لما وجد الناس يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث فقال:((من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) ، وقد بني الجواز على ما تعارفه الناس وأحكام السلم التي استنبطها المجتهدون بني كثير منها على العرف، وقد اختلف في ألفاظه وفي شروطه وفي ضوابط ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز مما يطول الكلام عليه.

ص: 2586

وكذلك الاستصناع وهو عقد على المبيع في الذمة مطلوب عمله وهو عقد على معدم وعلى ما ليس عند الإنسان، فالقياس منعه ولكن الحاجة دعت إليه وقد تعارفه الناس وجرى عليه التعامل فنزل ما يستصنع منزلة الموجود لحاجة الناس إليه وهو في الواقع فيه معنى عقدي السلم والإجارة لأن السلم عقد على مبيع في الذمة وعلى استئجار للصناع وشراطهم العمل وما اشتمل على عقدين جائزين كان جائزًا، نص على ذلك الكاساني في بدائع الصنائع وما جرى به العرف في الاستصناع جاز وما لم يجرِ العرف فيه لم يجز، ويصح الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة على أساس عقد السلم وعرف الناس ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن شروطه تسليم جميع الثمن في مجلس العقد ومن شروطه بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته لأنه مبيع ولا بد من أن يكون معلومًا والعلم يحصل بذلك، وأن يكون مما جرى فيه التعامل بين الناس كالأواني والأمتعة والأحذية والفرق بين الاستصناع والسلم أن الاستصناع وإن كان كالسلم في كونه بيع المعدوم للحاجة والتعامل بين الناس فإن هناك فرقًا منها أن المبيع في السلم دين تحملته الذمة من مكيل أو موزون أو معدود متقارب، أما البيع في الاستصناع فهو عين لا دين كاستصناع حذاء أو خياطة ثوب، ثانيا: عقد السلم لازم وعقد الاستصناع غير لازم، ثالثًا: من شرط السلم الأجل وليس كذلك الاستصناع عند أبي حنيفة، رابعا: يشترط في السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد ولا يشترط قبضه في الاستصناع.

وبيع الوفاء ويختص بالعقار دون المنقول وهو من باب بيع وشرط وهو بيع المحتاج إلى النقود على أنه متى وفَّى بالعين استعاد العقار، ولقد تردد هذا العقد بين البيع والرهن وهو ممنوع عند المالكية لأنه من بيع الشيء المنهي عنه، ورأت الشافعية أن يصح العقد والشرط إن كان فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والكفالة ويبطل البيع إن كان الشرط منافيًا مقتضى العقد مثل أن لا يبيع المبيع ولا يهبه، وهذا لما ذهب إليه المالكية وذهبت الحنابلة إلى أنه لا يبطل البيع بشرط واحد فيه منفعة لأحد المتعاقدين ويبطل بشرطين لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((ولا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك)) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وبناء على هذا أجمع العلماء على أنه لا يجوز اشتراط مع أحد المتعاقدين إذا عزم مشترط عليه فإن أسقط الشرط جاز البيع عند المالكية وامتنع عند الجمهور. وأجاز الحنفية بيع الوفاء قالوا: نلجأ إلى هذا النوع من البيع هروبًا من الربا واضطرارهم إلى الاستدانة وإحجام أصحاب الأموال عن الاقتراض الحسن فتعاملوا بذلك على نفع الدائن عن طريق لا ربا فيه، قال النسفي اتفق مشائخ زماننا (يعني فقهاء سمرقند في القرنين الخامس والسادس) ، على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف فجعلوه بيعًا جائرًا مفيدا بعض أحكامه وهو الانتفاع به، دون البعض، وهو البيع لحاجة الناس إليه وتعاملهم به فكل قاعدة قد تترك بالتعامل. وفي شرح الأشباه أن ما ثبت به عرف عام لا خاص فيكون هذا العرف مخصصًا لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، قال ابن عابدين في الدر المختار: إنه بيع يفيد الانتفاع به وعليه الفتوى، وقال جامع الفصولين: بيع الوفاء رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من تمره، وأتلف من شجره واختار الزيلعي أن بيع الوفاء هو عقد قائم بنفسه له أحكام خاصة به للعرف وحاجة الناس (1) .

(1) رد المحتار على الدار المختار: 4 / 257، جامع الفصولين والزيلعي على الكنز: 5 / 138

ص: 2587

وقد قال ابن نجيم: إن بيع الوفاء صحيح لحاجة صحيح لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا فأهل بلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكرام وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة ولا يمكن في الأشجار، فاضضروا إلى بيعها وفاء وما ضاف على الناس أمر إلا واتسع حكمه وخلاصة القول؛ الحنفية أباحوا بيع الوفاء استنادًا إلى العرف العام الذي يقع به تخصيص النصوص الظنية ويقيد المطلقات.

عقود الانتفاع:

ومنها الإجارة وهي في الأصل لا تصح لأنها تمليك منفعة معدومة في العقد على المعدم منهي عنه، ولكن الشارع أجازها استحسانًا مبنيًّا على العرف لحاجة الناس إليها وقد تعارفوا العمل بها وقد أجيزت بالكتاب بقوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) .

وبالسنة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) ، وقال صلى الله عليه وسلم:((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) ، رواهما البخاري، وانعقد الإجماع على جوازها، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يؤاجرون ويستأجرون وعرفهم قائم على ذلك فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشترطوا فيها شروطًا وهي أن تكون المنفعة معلومة وكذلك الأجرة علمًا مزيلًا للجهالة الفاحشة قطعًا للمنازعة وأن تكون المنعة مما جرى العرف بمثلها فإذا كانت دابة مثلا لم يجز له أن يضر بها كأن يسير بها سيرًا حثيثًا عنيفًا، وإذا كانت دارًا لم يجز أن يباشر فيها أعمالًا توهن بناءها والمرجع في ذلك كله للعرف في الاستعمال لقاعدة المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.

ومنها المزراعة وهي عقد على الزرع ببعض الخارج بين المالك والمزارع وكذلك المساقاة وهما عقدان لم يجزها أبو حنيفة وأجاز الشافعية المساقاة والمزارعة تبعًا للمساقاة وأجازهما مالك بشروط منها: المساواة بين المالك والعامل في الربح وأجازهما الحنابلة والصاحبان لأبي حنيفة وعلى هذا ينفسخ العقد بموت صاحب الأرض أو العامل المزارع أو المساقي سواء قبل العمل والزراعة أو بعدها وسواء أكان الزرع أو الثمر قد آن حصاده وجنيه أم لا، ولكن إذا مات صاحب الأرض قبل نضج الزرع تترك الأرض بيد المزارع إلى الحصاد مراعاة لمصلحة الطرفين وإذا مات العامل فلورثته المضي في العمل إلى الحصاد، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على نصف ما يخرج من تمر وزرع وأدنى درجات فعله عليه الصلاة والسلام الجواز وهي شريعة متوارثة لتعامل السلف والخلف على ذلك من غير إنكار أما أبو حنيفة فيرى فسادها ويستدل بما رواه رافع بن خديج، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا نهانا إذا كان لأحدنا أرض أن نعطيها ببعض الخارج ثلثه أو نصفه، وقال عليه السلام:((من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه)) والفتوى على قول صاحبيه لحاجة الناس ولكن السلف تعاملوا بهما فصارت شريعة متوارثة وقضية متعارفة وفي الهداية بعد أن رد على من يجيز المزارعة، قال: والفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأئمة بها والقياس يترك بالتعامل بها في الاستصناع (2) .

(1) سورة الطلاق: الآية 6.

(2)

الهداية للمرغياني: 8/ 40، اللباب شرح الكتاب، للقدوري: ص 206

ص: 2588

وقد بني الحكم الشرعي فيها على فعله صلى الله عليه وسلم فيخير واعتمد على تعامل الناس فيها وتعارفهم على ذلك فكانت إجازتهما بمقتضى النص الملاحظ فيه العف، ونجد في كثير من الأحكام المتعلقة بهما بأركانهما وشرائط صحتهما أو أنواع الفاسد منهما مبنية على العرف والتعامل، فمن ذلك ما نص عليه من أن كل ما كان من عمل المساقاة مما يحتاج إليه الشجر من السقي وإصلاح النهر والحفظ والتلقيح للنخل فعلى العامل لأنها من توابع المعقود عليه فيتناولها العقد، وكل ما كان من النفقة على الشجر والكرم والأرض من السماد وتقليب الأرض ونصب العرائش ونحو ذلك، فعلى صاحبها لأن العقد لم يتناوله ومبني ما يتناوله العقد لما ذكر وأنه من توابع العقد، كل ذلك مرجعه إلى ما جرى به العرف.

ومما كان مرجعه إلى العرف خيار الرؤية وخيار العيب فإن كثيرًا من الخيارات المقررة في الإسلام تعتمد على ما تعارفه الناس لا سيما التجار منهم كخيار الرؤية وخيار الشرط، وخيار العيب وخيار النقد، وخيار التعيين وخيار الكمية، وخيار كشف الحال، وحقيقة خيار الرؤية يثبت لمن اشترى شيئا ولم يره أن يفسخ العقد إذا رآه أو أن يمضيه وخيار الشرط أن يشرط الخيار لأحد المتعاقدين أو كليهما بفسخ العقد أو إمضائه إلى مدة معلومة وخيار العيب، وهو الخيار للمشتري أن يفسخ العقد أو يمضيه إذا ظهر في المبيع عيب قديم وخيار النقد هو ما إذا اتفقا على أن يؤدي المشتري الثمن في وقت كذا وإن لم يؤده فلا عقد بينهما صحَّ البيع وجاز فسخ العقد إذا لم يؤد الثمن، وخيار التعيين وهو حق المشتري في أن يأخذ أيًّا شاء من القيميات التي بين البائع أثمانها كلا على حدة وللبائع أن يبيعه ما يشاء أيضا وخيار الكمية كما لو اشترى شيئا بما في جيبه. أو محفظته من النقود دون بيان مقدارها، فإن للبائع الخيار عندما يعرف مقدارها وخيار كشف الحال ما في البيع بمكيال أو بوزن حجر لا يعرف مقداره بالوحدات الميزانية المعروفة، فإن للمشتري الخيار متى علم مقدار سعة المكيال أو وزن الحجر ويظهر هذا واضحًا في مشروعية خيار الشرط فقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) وإنما جاز استحسانًا ودليل جوازه أن حبان بن منفذ بن عمرو الأنصاري كان يغبن في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا بعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام)) ، والجواز إنما لاستحسان الضرورة ومبناه على العرف والحاجة، وقد اختلف في مدة خيار الشرط فأبو حنيفة تمسك بما ورد في النص لأن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد الذي هو البت واللزوم، وإنما جاز مخالفته للقياس لما جاء في هذا الحديث فيقتصر على المدة المذكورة فيه وتنتفي الزيادة عليها، وقال الصاحبان بجواز الزيادة إذا سمى أحد المتعاقدين مدة معلومة، ولو لشهرين وأكثر لأن الخيار إنما شرع للتروي ليندفع الغبن، وقد تمس الحاجة إلى أكثر من ثلاثة أيام كالتأجيل في الثمن فإنه أيضًا جائز على خلاف القياس قصرت المدة أو طالت وبقبولها، قال أحمد بن حنبل واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:((المسلمون عند شروطهم)) ، وقال مالك: إذا كان المبيع لا يبقى أكثر من يوم كبعض الأطعمة لا يزيد الخيار عن يوم وإن كان المبيع ثمينًا بحيث يعرف المشتري إن كانت المصلحة في أخذه أو تركه إلا في أكثر من ثلاثة أيام جاز أن يشترط أكثر لأنه شرع للحاجة وليس من يشتري دارًا، كمن يشتري الخضروات، وقال الشافعي بما قال به أبو حنيفة وأرجح الآراء عندي هو مذهب مالك لأنه هو الذي يتماشى مع ما تعارفه الناس، وتحمل النصوص المحددة بثلاثة أيام في قضية حبان على أن حاجته كانت ثلاثة أيام وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أجاز خيار الشرط إلى شهرين.

ص: 2589

وكذلك خيال العيب تحديدًا يعد عيبًا، وما لا يعد عيبًا يعتمد على ما تعارفه الناس وأهل الاختصاص من التجار، وذلك أن مقتضى البيع يقتضي السلامة من العيوب وهو وصف مطلوب مقصود من المشتري ومرغوب عادة ومعلوم أن المطلوب عادة كالمشروط نصًّا وفي تفسير العيب الذي يوجب الخيار مما لا يوجبه اعتمد في ذلك على العرف بحيث إذا كان عرفًا يوجب نقصان الثمن في عادة التجار نقصًا فاحشًا يؤثر في الثمن فهو عيب وإن كان يسيرًا بحيث لا يؤثر في الثمن لا يعتبر عيبًا موجبًا، ولقد تقصى الفقهاء الأمثلة الكثيرة على ذلك معتمدين على العرف بين الناس وقد بسط القول فيها السرخسي في مبسوطه والكاساني في البدائع وكذلك كتب بقية المذاهب والقاعدة في ذلك كما قال صاحب الهداية: كل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب لأن الضرر بنقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله (1) ، ولقد أكد الإمام أحمد بن حنبل على اعتبار العرف في بيان العيب حتى ذهب إلى أن ما يعده العرف عيبًا يعد عنده عيبًا يستوجب الخيار وإن لم تنقص به قيمة المبيع (2) ، ويستوي في ذلك العرف العام والخاص في تطبيق أحكام الخيارات في الشرط أو العيب أو غيرهما وفي خيار الرؤية يكتفي برؤية ما يفيد العلم بالمقصود عرفًا لتعذر رؤية الكل فإذا تشابهت الدور النموذجية أو عرف الدار يكتفي برؤية أحدها عرفًا أما إذا اختلفت فله أن يقف على كل بيت بخصوصه وكذلك يكتفي برؤية نموذج من معرفة أوصاف المبيع المستورد وكذلك في رؤية بعض ما لا تتفاوت أحاده كالكيلي والوزني والعدد المتقارب، ومن هذا أيضًا البيع على البرنامج والحاصل أن ما يفيد العلم بالمقصود مفوض إلى العرف.

ومما يرجع للعرف الوصية بالمنافع وهي تمليك المنفعة تمليكًا مضافًا إلى ما بعد الموت بطريق التبرع ويثبت للموصى له حق الانتفاع بالعين الموصى بمنفعتها بعد وفاة الموصي كأن يوصي بغلة بستان أو بحق سكنى، فهذه هي الوصية بالمنافع وأحكامها إنما تقام على العرف، فالعرف هو الذي يحدد الثمرة بالإطلاق على الموجود، وكذلك الغلة يحددها العرف بالإطلاق على ما يتجدد كل سنة ففي الثمرة لا تجدد وفي الوصية بالغلة يتجدد سنويًّا وفي الوصية بسكن الدار يحدد العرف جواز سكناها بنفسه أو معه عائلته وجواز إسكانها غيره بغير عوض لأن الإنسان له أن يملك مثل ما ملك لا أكثر، أما بعوض فلم يجز الشرع ذلك اعتمادًا على العرف وهو الفرق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، والعرف هو الذي يعين ما يجب على المنتفع من العناية بحفظ العين المنتفع بها وصيانتها من التلف والإنفاق عليها ودفع الرسوم عنها والضرائب وإن كانت شجرًا، فالعرف هو الذي يعين بما تتحقق العناية بها من سقاية وتقليم وكرب أرض، وهكذا بحسب ما جرى به العرف بين الناس وكان عليه التعامل.

(1) الهداية:3 /27

(2)

المغني، لابن قدامة: 4 /143.

ص: 2590

ومما يرجع إلى العرف في العقوبات التعزير وهو التأديب على الذنوب التي لم تشرع فيها الحدود لقد تركت الشريعة الإسلامية أكثر الجرائم فلم تقدر لها عقوبات محددة بل تركت أمرها إلى أولي الأمر نظرًا لاختلاف الجرائم شدة وخفة بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، وقد جاء في تعزير النساء ونشوزهن عن أزواجهن قوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (1) .

فقد أمر الله بهجر الزوجة الناشز وضربها إذا لم ينفع معها الهجر ضربًا غير مؤذ وهذا الضرب والهجر مرجعه إلى العرف، وقد تكون التعازير نتيجة لاجتهادات الفقهاء والقضاة عند التضييق العملي، فقد ورد أن عليًّا جلا ونفى من البصرة إلى الكوفة أو منها إلى البصرة، وأن عمر نفى إلى البصرة وأن أبا حنيفة يرى قتل اللوطي، ويرى بعضهم حرقه بالنار ويرى بعضهم أن يلقى من أعلى مكان في المدينة (2)، وهذه الاجتهادات وتطبيقات القضاة تعتمد على ما تعارفه الناس وعلى أحوالهم وعاداتهم وبيئاتهم ومعلوم أن موجبات التعزيز أمران:(1) المعاصي بترك الواجبات كالامتناع من الصلاة أو الفطر في رمضان أو الامتناع من أداء الزكاة أو بممارسة الفعل المحرم كالزور والغش وإتيان المرأة في حيضها أو التعامل بالربا أو اللعب بالقمار أو إزعاج الناس وإقلاق راحتهم بإلقاء القاذورات في طريقهم وإحداث أصوات مزعجة وقت راحتهم ودرء المفسدة وجلب المصلحة كتأديب الصبيان للتعدي على حقوق الناس وإجلاء أهل القاتل عن موطن إقامتهم عند حدوث جريمة قتل كل هذه الواجبات توضح جليًّا وتبين أن التعزيز موكول إلى العرف وأحوال الناس واختلافهم بحسب الزمان والمكان والبيئات.

(1) سورة النساء: الآية 34.

(2)

سبل السلام، للصنعاني:4 /54.

ص: 2591

ولقد انبتت عقوبات قررها الولاة والقضاة لذنوب مستحدثة وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وهذه كلها معتمدها العرف ومراعاة أحوال الجاني والمجني عليه ونوع الذنب المرتكب ومن هذا القبيل العزل من الوظيفة ومصادرة الأموال وهدم المواخير وإزالة آثار الجريمة وقتل الجاسوس وأخذ شطر مال مانع الزكاة عند بعضهم وسحب ترخيص جواز السياقة من سائقها لمخالفته لقوانين الطرقات وحجز رخصة الدكان من المحتكر وفرض الإقامة الجبرية والاعتقال في البيوت وأمثال هذه العقوبات ونحوها كلها اقتضتها تغير أحوال الناس واختلاف أعرافهم، ولهذا يجب أن تراعى في فرض العقوبات التعزيزية، وكلها مرجعها إلى ما يقتضيه العرف والعادة، وقد قال القرافي في فروقه: فرب تعزير في عصر يكون إكرامًا في عصر آخر ورب تعزير في بلد يكون إكرامًا في بلد آخر كقطع الطيلسان بمصر تعزير وفي الشام إكرام وكشف الرأس عند الأندلسي ليس هوانًا وبالعراق ومصر هوان (1) .

ومما يرجع فيه إلى العرف الدية وهي ما يعطى عوضًا عن النفس قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2) .

وفي الحديث: ((وإن في النفس مائة من الإبل)) ، وانعقد الإجماع على وجوبها لصون النفس وخفض دمها من الهدر وهي تكون من الإبل مائة ومن الذهب ألف دينار ومن الفضة اثنا عشر ألف درهم أو عشرة آلاف درهم عند أبي حنيفة، وقد اختلف الفقهاء في جنس الدية هل يجب أن تكون من الإبل وحدها ولا تصح من غيرها أو كما تكون من الإبل تكون من الذهب والفضة بدلًا عن الإبل وتقدر الدية بحسب ثمن الإبل في زمن دفع الدية أو أن الذهب والفضة كالإبل أصول في جنس الدية وجميعها بدل القصاص وتظهر ثمرة الخلاف عند تسليم الدية فعلى القول الأول يصح تسليم أي شيء من الأجناس الثلاثة وليس لولي الدم أن يمتنع من ذلك، ويرى الشافعي أن له ذلك إذا أصر على تسليم الدية من الإبل، ومالك رحمه الله يرى أن الدية تؤدي من الإبل والذهب والفضة ويرى أن كل قوم يؤدون من غالب ما عندهم كما ورد في الموطأ ولا يقبل ممن عندهم الذهب إلا الذهب، وكل ذلك منشؤه عرف الناس وعاداتهم وأحوالهم في استعمال المال وعلى ما لأبي الوليد الباجي في المنتقى قال: وعندي أنه يجب أن ينظر إلى غالب استعمال الناس في البلاد فأي بلد غلب على أموال أهلها الذهب فهم أهل ذهب وأي بلد غلب على أموالهم الورق فهم أهل ورق وربما انتقلت الأموال فيجب أن تنتقل الأحكام، وقد أشار مالك إلى ذلك في قوله فمكة والمدينة اليوم أهل ذهب (3) .

(1) الفروق للقرافي، الفرق 246، بين قاعدة الحدود وقاعدة التعزير وذكر عن ذلك وجوهًا عشرة.

(2)

سورة النساء: الآية 92.

(3)

المنتقى، لأبي الوليد الباجي: 7 /68-69.

ص: 2592

وعلى ما نقلناه ندرك أن الدية إنما تكون مما تعارفه الناس وجرت به عاداتهم فالقرى تدفع الدية فيها بالإبل وفي غيرها بالذهب والفضة، ولا شك أن اليوم إنما تدفع بالعملة المستعملة في كل بلد وهو ما يقتضيه العرف والعادة والله أعلم.

ومما انبنى على العرف رد الشهادة للتهمة التي اقتضتها العادة ومن هذا الباب رد شهادة أحد الزوجين للآخر ورد شهادة الأجير لمستأجره، وقد اختلف الفقهاء في شهادة أحد الزوجين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك، والأوزاعي، والليث: لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر، وقال الثوري: تجوز، وبه قال الشافعي ونظير شهادة أحد الزوجين شهادة الوالد للود والود للوالد، وذلك من وجوه أحدها تبسط كل واحد من الزوجين في مال صاحبه في العادة فما يثبته الزوج لزوجته بمثابة ما يثبته لنفسه كما لا فرق في مال الابن وكذلك شهادة الأجير غير جائزة استحسانًا وإن كان عدلًا.

هذا في الأجير الخاص، أما المشترك فتجوز، وقال مالك: لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزًا في العدالة وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له، وقال الثوري: شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجر إلى نفسه. وكذلك شهادة الخائن والخائنة وشهادة ذي العمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها على غيرهم والقانع هو التابع، وقد قرروا في ذلك قاعدة، فقالوا: كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدًا مثل شهادة الفاسق إذا ردت لفسقه، ولا شك أن التهمة تظهرها وتبرزها العادة والعرف، ولذلك قال تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة: الآية 282] .

ومنها أيضًا الشهادة العرفية وهي شهادة عدد كثير من الناس لا تتوفر فيهم شروط العدالة المقررة بحيث يحصل العلم بها على وجه التواتر وتسمى شهادة اللفيف وهي على نوعين شهادة جماعة غير عدول على سبيل التواتر المفيد للعلم، وهذا خارج عن الشهادة العرفية، وقد وجد لدى الفقهاء المتقدمين، الثانية ما لا يحصل بخبرهم علم وهو الذي جرى به عمل المتأخرين وضلوا عليه لتعذر وجود العدول في كل وقت وفي كل نازلة فتضيع كثير من الحقوق واكتفوا برتبة هي دون الأولى للضرورة الداعية إلى ذلك حتى لا تهمل الحقوق، وجاء في العمليات العامة والعمل اليوم لأهل فاس على شهادة لفيف الناس.

ص: 2593

كذلك تابعوا على استفصال البينات القاضي الفشتالي، قال القاضي المكناسي في الشهادات من كتاب المجالس: إن العمل الآن جرى بالحكم بشهادة غير العدول وقال في أول الكتاب ما نصه: والعمل الآن بإعادة الشهود شهادتهم عند القاضي بمحضر عدلين يسمعان منهم سواء كان المشهود عليه حين الأداء حاضرًا أو غائبا وهو المعبر عنه بالاستفصال، وقد أحدث العمل به القاضي الفشتالي المتوفى في عشرة الثمانين بعد التسعمائة، وأما قبل ذلك فلم يجر به العمل، وما جرى به العمل في استفسار الشهود مراعاة لمصلحة تحقق الشهادة لما فشا من قبح حال وحيلة. فإن مر نصف عام من الأداء ترك هذا الاستفهام لأن مضي هذه المدة مظنة نسيان الشهادة (1) ومستند العمل في هذه المسألة على الضرورة، ومنها شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح والقتل وكشاهدة النساء في المآتم والأعراس إذا لم يوجد غيرهم، وقد قال ابن أبي زيد أما إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجورًا للشهادة عليهم ويلزم حلفه في القضاء لئلا تضيع المصالح، قال القرافي: ولا أظن أحدًا يخالف في هذا ولو أهدرت هذه الشهادة في الموضع الذي لا عدول فيه لما جاز للناس بيع ولا شراء ولا تم لهم عقد نكاح ولا غيرها من الأشياء التي تتوقف على الشهادة، وقد ذكر الشاطبي أن العدالة المعتبرة في كل زمان بأهله وإن اختلفوا في وجه الاتصاف بها، فإنما نقطع بأن عدالة الصحابة لا تساويها عدالة التابعين، وعدالة التابعين لا تساويها عدالة من يليهم وعدول كل زمان بحسبه، ولو لم نعتبر ذلك لم تكن إقامة ولاية تشترط فيها العدالة ولو فرض زمان انعدم منه العدول جملة ولم يكن بد من إقامة الأشبه فهو العدل في ذلك الزمان إذ ليس يجاز على قواعد الشرع تعطيل المراتب الدينية جملة لإفضاء ذلك إلى مفاسد عامة يتسع خرقها على الراقع ولا يلم شعثها، وهذا الأصل مستمد من قاعدة المصالح المرسلة (2) وشهادة اللفيف كان لا يعمل بها إلا في الأموال وكان المشهود له يحلف مع اللفيف، وبمرور الزمان لم يعد المشهود له مطالبا بأداء هذا اليمين، ثم استقر رأي الفقهاء فيما بعد إلى إسناد الأمر للقاضي يقبل هذه الشهادة بحسب ما يراه من الأحوال والظروف ولم يعد مقتصرًا على الأموال فحسب، بل أعملت شهادة اللفيف في النكاح والطلاق والرضاع والتسفيه والترشيد وغير ذلك، قال السجلماسي: وقد كان العمل باللفيف يختلف باختلاف الأماكن، ومما كان مرجعه للعرف الحكم لولي القتيل دون شاهد مع اليمين وذلك لاستغنائها بقرائن الأحوال، فإذا أثبت القتل بالبينة أو بالإقرار كان قرينة تشهد بصدق دعواه إن كان يملك مثل ما ادعاه عليهم من دراهم وغيرها من الأمتعة وهذا ما استحسنه مطرف وابن كنانة وأشهب وبه قال ابن حبيب وعليه العمل. وفي التبصرة: ويقبل قول المدعي لرجحانه بالعوائد وقرائن الأحوال أو لاتصافه بالأمانة أو غير ذلك من وجوه الترجيح والقرينة هنا كون المدعى عليهم من أهل العداء والظلم وقتلهم صاحب المال، وقد قال الفقهاء إن من عرف بالظلم والتعدي يتقلب الحكم ضده وهو مذهب يحيى بن يحيى ومستندهم في ذلك قوله تعالى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3)

(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المختصر بالعمليات الفاسية: 453 – 456

(2)

تبصرة ابن فرحون: 1 /339

(3)

سورة الشورى: الآية 42.

ص: 2594

ومما جرى على العرف والعادة مسألة الخلطة بالأصل أن البينة على المدعي واليمين على ما أنكر إذا ثبت بين المدعي والمدعى عليه خطلة، وقد خالف فقهاء الأندلس والمغاربة مذهب مالك والمشهور من المذهب أن المدعى عليه إذا أنكر لا يمين عليه حتى تثبت الخلطة بين وبيه المدعي صرح بذلك ابن أبي زيد القيرواني، فقال: ولا يمين حتى تثبت الخلطة أو الظنة (1) ، ولكن العمل جرى بقول ابن نافع القائل لا أدري ما الخلطة ولا أراها ولا أقول بها، وأرى الأيمان واجبة للمسلمين عامة بعضهم على بعض لحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال ابن رشد: مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة وبقول ابن نافع قال الأندلسيون واستمر عليه العمل بأفريقية، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما.

وذكر ابن عبد البر أن الأندلسيين لم يفصلوا بين الناس في توجيه اليمين، فقال: المعمول عندنا أن من عرف بمعاملة الناس مثل التجار فاليمين عليه لمن ادعى معاملته، ومن كان بخلافه مثل المرأة المستورة المحتجبة والرجل المستور المنقبض عن مداخلة المدعي وملابسته فلا يجب عليه اليمين إلا بالخلطة (2) وقد صوب التسولي رأي ابن عبد البر، فقال: إن هذا هو الصواب في هذا الزمان القليل الخير، ولقد شاهدنا غالب سفلة الناس يدعي بدعاوي على العموم بالخير والعدل مع بعده عنه وعدم مخالطة أمثاله وملابستهم وليس غرضه إلا الازدراء به وحط مرتبته حتى صار الدهلة يلقنون السفلة ذلك وربما ادعوا عليه بالتهمة بما فيه معرة كالسرقة والغصب ونحوهما لسماعهم أن يمين التهمة تتوجه مطلقًا على المشهور المعمول به فينبغي لمن راقب الله أن لا يمكنهم من تحليفه بما يدعى عليه من المعاملة في الغرض المذكور (3) .

(1) شرح الزقاقية لعمر الفاسي: 2 /299

(2)

حاشية الوزاني على شرح التاودي، للامية الزقاق: ص 230

(3)

حاشية التسولي على شرح التاودي للامية الزقاق: 2 24، وشرح السجلسماسي: ص 490

ص: 2595

وقد ذكر الوالد رحمه الله في البحث الرابع من الباب الثاني في مستند الحكم التي هي يمين أو إقرار وإبراء أو إسقاط أو التزام أو شهادة، فذكر في هذا البحث أقسام الأيمان الأربعة: يمين التهمة، ويمين القضاء ويمين الإنكار، ويمين متممة للنصاب، فذكر أن يمين التهمة تكون في الدعوى التي لا تتحقق على المدعى عليه، وتتوجه على المتهم وغيره على ما جرى به العمل بتونس على ما قاله ابن ناجي ونقله عظوم في البرنامج ونظمه صاحب العمل المطلق، فقال وبتوجه يمين التهمة، جرى القضاء من أهل أفريقية، أي مطلقًا وأنها لا تنقلب بقلب أو نكول من بها طلب، ثم نقل عن شارح العمليات قوله: وانظر هل ما ذكر من عمل أفريقية كان عامًّا عندهم حتى في التهمة التي في دعواها معرة أو خاصا بغيرها، ثم التهمة التي تلحق في دعواها معرة كالاتهام بالسرقة والغصب لا تلحق من لا تليق به ممن شهد فيه بالخير وإن التهمة في غير ذلك تلحق اليمين فيها جميع الناس برهم وفاجرهم على القول بإيجاب يمين التهمة، وهو المشهور في المذهب وبه القضاء وعليه العمل، ثم نقل عن عظوم في برنامجه في مبحث الصداق وتوجهها مشروط بشرطين: الأول ما قاله ابن ناجي أن التهمة إنما تتقرر بلفظ يقتضيها كقوله: أشك فيك أو أتهمك لقوله فيها: أخاف، الثاني ما قاله الشيخ أبو عبد الله المقري الجماعة بفاس صاحب القواعد في المسألة الثانية من القاعدة السابعة من قواعد الدعاوي والشهادات أن العدواة بين المتداعيين تمنع توجه يمين أحدهما في دعوى الآخر عليه، لنه يقصد إضراره بتوجيه اليمين عليه ونصه: إذا دفع الدعوى بعداوة المشهور أنه لا يحلف لأن الدعوة مقتضاها الإضرار بالتحليف، وقيل يحلف بطاهر الخبز ونحوه في تاسعة أعلام الرفاق للشيخ الجد رحمه الله، ثم ذكر الشيخ الوالد أن المتهم لا يحلف بما ضاع أو سرق حتى يحلف المدعي يمين الضياع أو السرقة، لقد ضاع الشيء الفلاني المدعى ضياعه وحينئذٍ يحلف المدعى عليه، هذا إذا أنكر المتهم أن يكون قد ضاع له شيء وإنما يريد أن يحرجه باليمين وبهذا كان يحكم أبو بكر بن زرب ويقول: إنها من دقيق المسائل، وقد نقله ابن فرحون في التبصرة في الباب الثامن والعشرين، وإذا نكل المتهم عن اليمين غرم بمجرد نكوله ولا يطلب المدعي بالحلف على ما ادعى هذا قول ابن الحكم وابن حبيب وهو الذي جرى به العمل، ونقل أبو عمر بن المكوى عن مالك: أن يمين التهمة لا ترد، فإن أبى المتهم ونكل عنها حبس أبدًا حتى يحلف، ذكره الونشريسي في أول نوازل الدعاوى من المعيار ولكون النكول عن يمين التعمة موجبا للغرم لم تتوجه يمين التهمة على الصغير ولا السفيه، أما الأول: فلرفع القلم عنه، وأما الثاني: فإنه لو أقر لم يلزمه ما أقر به لأنه محجور عليه في المال انظر حاشية مهدي على الزقاقية قبيل قولها كمن غاب والأقوال أربعة (1) والعلاقة بين ما جرى به العمل وبين العرف علاقة وثيقة بحيث لا يكاد يظهر فرق ملموس بينهما، إذ العمل ما هو إلا عرف في شكله المتطور وإن الفقهاء كثيرًا ما يذكرون العرف مصاحبًا للعمل ومرادفًا له.

(1) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، للشيخ محمد العزيز جعيط: ص 86- 88

ص: 2596

العرف الدولي:

لم يقتصر العرف في الاعتماد عليه وفي كونه مرجعًا يرجع إليه في الأحكام بين الأفراد والأشخاص، بل لعب دورًا كثيرًا من المجتمعات والدول، فقد كان العرف الدولي مصدرا أساسيًا من مصادر القانون الذي أثار إشكالات عديدة وقضايا كثيرة لم يكن لها أصل مدون في القانون ولا إجراءات مسطورة متبعة، وإنما كان المرجع في هذه القضايا السلوك المتبع والمنهج المطرد في مدة مديدة من الزمن أضفت على هذا السلوك اعتقادًا راسخًا جازمًا وفكرة قاطعة جعلت هذا السلوك قاعدة قانونية لعب هذا العرف في ظهور القانون الدولي دورًا كبيرا حتى أن المؤسسات الدولية المعروفة اليوم كانت في أول عهدها وبداية إنشائها مبادئ عرفية جرى عليها سلوك المعاملة بين الدول كقانون المعاهدات وقانون التجار والعلاقات الدبلوماسية، ثم لما تكاثر عدد الدول بعد المنخرطة أثر الحرب العالمية الثانية وتنوع انتماؤها الحضاري، واختلف منهجها السياسي أصبحت هذه الأعراف الدولية محل جدل وأخذ ورد ونقد خصوصًا من طرف الدول الاشتراكية ودول العالم الثالث، فظهرت المعاهدات وأمضيت الاتفاقات وتقلص دور الأعراف بهذه المعاهدات الممضاة والمحاورات والاتفاقات المدونات، لكن رغم كل هذا فما زال العرف يشكل أصلًا أساسيًّا من أصول القانون الدولي المعاصر، ولقد نصت المادة الثانية والثلاثين من اللائحة الأساسية لمحكمة العدل الدولي على العرف كأساس من الأسس الأصلية والاعتماد عليه يشهد لذلك عدم التفاضل بين العرف والمعاهدة من حيث اندراج القواعد القانونية إذ هما يشكلان مصدرين متساويين لا تفاضل بينهما بحيث يمكن لكل منهما أن ينسخ صاحبه، فيمكن للعرف أن ينسخ أصلًا مدونا ومعاهدة ممضاة بين دولتين، كما يمكن للمعاهدة أن تنسخ عرفا جرى بين الأمم.

وللعرف الدولي نزعتان مختلفتان جعل سلطة العرف إلزامية حسب إرادة الدول فهو إذن ملزم لأن الدول قررت ذلك بموجب اتفاق ضمني بينهما حول إلزاميته، لكن متى شاءت إحدى الدول أن تتحرر من هذا الالتزام كان لها ذلك حسبما تقتضيه نظرية الإرادة.

النزعة الثانية نزعة موضوعية ترجع إلزامية العرف إلى ذات القاعدة، فالعرف إذن قاعدة موضوعية لا تتوقف على إرادة الدول إذ هو ناشئ عن ضرورة الحياة المدنية منبعث من الحياة الاجتماعية وهي ضرورة منطقية.

ص: 2597

وتتكون هذه القاعدة العرفية من عنصرين عنصر مادي وآخر معنوي فالعنصر المادي هو سلوك طريق واتباع منهج على نمط معين وتكرر ذلك بطريقة يجعل أهل الاختصاص في القانون الدولي يعتدون بهذا السلوك ويعتمدون على هذه الطريقة المتبعة المتكررة الملتزمة المتواصلة فيجعلونها قاعدة ملزمة، ولا ينحصر ذلك السلوك في عدد معين من التكرار أو في مدة مديدة من الزمن، فقد استقر فقه القضاء الدولي وخصوصا قضاء محكمة العدل الدولي على عدم اشتراط مرور مدة معينة أثر بروز هذا السلوك أو تلك الطريقة ليصبح عرفًا ملزمًا، بل إن المحكمة أقرت أن مرور مدة ولو قصيرة على مرور سلوك ما لا يشكل حاجزًا في اعتباره عرفا ملزما، نعم شرط اعتباره أن تتبعه الدول في هذه المدة ولا يحيد عنه خصوصًا الدول المعنية أكثر من غيرها، فلو اتبعت الدول السياحية في ميدان قانون البحار منهجا من المناهج ولازمته، ولم تتخلف عنه وتابعته بصفة منتظمة وطريقة متبعة متواترة أصبح عرفًا ملزمًا إذ نتج عن هذه المتابعة المنظمة قاعدة عرفية تعتمد عليها المحكمة وتبني على مقتضاها أحكامها، ولو لم يبلغ ذلك العمل المنظم إلى إجماع الدول عليه، هذا هو العنصر المادي أما العنصر المعنوي فهو الذي يرتقي بهذا المنهج والطريق المنتظم المتكرر إلى درجة العرف الملزم، وهذا الشعور الراسخ والاعتقاد الجازم، بأن هذا المسلك السائر والمنهج المتبع صار قاعدة شرعية ملزمة ينبني على مخالفة دولة من الدول له جزاء قانوني وبهذا الشعور يظهر الفرق بين ما كان عادة دولية وما كان عرفا دوليًّا فالعادة تشكل مجرد سلوك اجتماعي والعرف الدولي يشكل قاعدة شرعية إلزامية بين الدول، فمراسم استقبال رؤساء الدول أثناء الزيارات الرسمية كعزف النشيد الوطني للدولتين وتحية الشخصيات من طرف الجيش الوطني واستقباله للشخصيات الرسمية له وحضورهم بالمطار لاستقباله والسلام عليه، هذا مما جرت به العادة بين الدول، ولكن لا يترتب على مخالفته عقاب ولا عتاب ولو تقدمت إحدى الدول بقضية في ذلك لما قبل دعواها في حين أن مبدأ حرية الملاحة في المنطقة الدولية الذي صار عرفًا دوليًّا ينشأ عن مخالفته وعدم احترامه جزاء على ذلك ومطالبة بجبر الضرر والقانون الدولي وإن أخذ طريق التطور وقننت قواعده وأصوله، فما زال العرف يحتل الدور الرئيسي ويشكل المصدر القانوني الدولي الحديث، وقد شهد هذا العرف في بعض المجالات تطورًا مشهودًا، مثل قانون الفضاء وغيره.

***

ص: 2598

خاتمة

إن من ألقى نظرة خاطفة على التشريع الإسلامي يلمس صلاحيته لكل زمان ومكان بما فيه من مرونة تكسبه تطورًا ونماء مدى الزمان من بداية عصر الرسالة والعصور اللاحقة له من عصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وإننا لنلاحظ البون الشاسع بين ما كان عليه التشريع في العصر الأول والحالات اتي استقر عليها بعد ذلك وما ذلك إلا لاختلاف الحياة التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابه معه والحياة التي عاشها المسلمون من بعد، وقد امتدت رقعة الإسلام وشملها حكمه وامتد إليها سلطانه، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم في شبه الجزيرة العربية، وكان المسلمون في ذلك الزمان قلة ولم تختلف عاداتهم وأعرفهم وتقاليدهم إلا ما كان من اختلاف يسير بين مكة والمدينة وقد لاحظه التشريع فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل بيئة ما يناسبها من الأحكام، فلم يكن أهل مكة يتعاملون بعقد السلم في حين أن أهل المدينة كما رواه الشيخان يتعاملون به، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المعاملة مراعيًّا في ذلك عرفهم وعاداتهم وينتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وتفتح بلاد الروم وفارس ومصر وأفريقية وتظهر عادات وتقاليد جديدة وقوانين متنوعة قد كان لها أثر وأي أثر في اختلاف الرأي واختلاف التفكير والنظر، وقد طرأت حوادث ونوازل لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحتاج إلى تشريعات وأحكام وكان الحكام والمفتون مدعوين إلى استنباط أحكامها وإبراز تشريعاتها بما يوافق عادات الناس وأعرافهم التي تختلف باختلاف الأقليم والجهات بما يوافق مقاصد الشريعة ولا ينقاض أصولها وقواعدها، ذلك أن الشريعة الإسلامية كاملة عامة لكل أمور الدين والدنيا من عبادة ومعاملة وقد أصلت كل الأصول وقررت كل المقاصد وأوضحت كل المبادئ وتركت التفاصيل والجزئيات للقائمين على تنفيذ هذه الشريعة ويستلهمون من روحها ويستنبطون من قواعدها وأصولها ما ليس في نصوصها، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى ولهذه الحقيقة حين قال صلى الله عليه وسلم للصحابة:((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) وفي قوله هذا إذن في الاجتهاد فيما يتصل بشئون الحياة والمعاملات التي تتجدد وتتكاثر وتتغير بحسب الزمان والمكان والتقدم والحضارة، لذا نرى الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم لم يقفوا من القضايا التي نزلت والأحداث التي حلت موقف العاجز المضطرب، بل اجتهدوا رأيهم وأعملوا فكرهم وأعطوا حكم كل قضية نزلت وحكم كل مسألة حلت من الحوادث والنوازل التي طرأت انطلاقًا من النصوص والقواعد والمقاصد.

ص: 2599

وهذا هو المنهج الذي اتخذه فقهاء الإسلام من بعد، فهم ينظرون إلى النصوص بعقل مفتح ويتبعون عمل الصحابة أولا، وما أصله المجتهدون ثانيًا، وبذلك برهنوا على أن هذه الشريعة المحمدية بما تحتوي عليه من مبادئ وأصول وقواعد وحكم قابلة للتطبيق في كل عصر وفي كل مصر مستوعبة لكل ما يجدها ضامة لكل ما يحدث بما اشتملت عليه من مراعاة المصالح ودرء المفاسد فكانت بذلك صالحة لعلاج كل مشاكل الزمان وما يحل من الحوادث في كل آن بحيث لا يحتاج العالم الإسلامي إلى تحكيم القوانين الأجنبية وما سطرته وقررته القوانين الغربية، ولا شك أن من بين القواعد العامة التي انبت عليها الأحكام في القديم والحديث العرف الذي يتفق مع ملابسات الناس ومقتضيات الزمان ويمد الفقهاء والعلماء بالأحكام المناسبة لعصرهم والملائمة لمقاصد الناس وتصرفاتهم حسب ما تقتضيه الشريعة، وإن ما ذكرنا عن العرف هو دراسة توضح مدلوله وتبين قواعده وأصوله شاملة أن شاء الله لأنواعه وشروطه ومدى طموحيته في استنباط الأحكام والاعتداد به وحجيته والعلاقة بينه وبين غيره من المصادر ومنزلته بينها بالنظر إلى الاستنباط والتطبيق ومعارضته للنصوص وموافقته لها وفي سبيل هذه الحقيقة بينا حقيقة العرف لغة واصطلاحًا بطريقة توضح العلاقة بينه وبين العادة وبين ما جرى به العمل، وقد أشرنا إلى الأدلة الشرعية التي تثبت حجيته من الكتاب والسنة وفعل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وأخذ كل الأئمة به والاعتماد عليه وحتى إذا ما كان هناك خلاف بين الأئمة، فليس في أصل اعتباره وإنما هو في مدى اعتباره توسعًا وتضييقًا، وقد بينا سلطان العرف في العهود القديمة وارتكاز القوانين عليه من عهد الرومان، ثم أوضحنا بناء القوانين الفرنسية عليه وما طرأ في ذلك من تغير، وأوضحنا نظر الشرع إليه من لدن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في كل عصر ومصر وهو مازال معتبرا إلى الآن إذ هو منار للباحثين واستخراج الأحكام واستنباطها من أصولها وقواعدها، وقد قسمناه إلى عام وخاص باعتبار شموله ونصوصه وإلى ما كان يرجع إلى العرف القولي والعرف الفعلي العملي وإلى ما يوافق النصوص وإلى ما يعارضها وإلى ما يخالفها، وإلى ما يصلح أن يكون مخصصا للعام، ومقيدا للمطلق وإلى ما يجب إلغاؤه وما يجب اعتباره باعتبار ما يكون مناقضًا لما جاءت به الشريعة الإسلامية من أصول ومبادئ وما لا يكون مناقضا لذلك وكون الأول فاسدا يجب إلغاؤه، وكون الثاني صحيحا يجب اعتماده واعتباره، ثم فرقنا بين العرف وبين العادة وأوضحنا ذلك بما يكون للعرف من قوة الإلزام والنفوذ والاعتبار وأنه لا يكون بهذه المثابة إلا إذا توفرت فيه شروط بها يكون اعتباره وهي اطراده وغلبته وعدم مخالفته للنصوص والمقاصد وأثبتنا مظاهر عمومه في الحياة من حيث الدين والأخلاق والتجارة والمعاملات وأن الإسلام أقر ما هو صالح وعدل ما هو قابل للتعديل وأبطل ما كان فاسدًا، ثم أوضحنا أن العرف كالعلة في بناء الأحكام عليه وأن الحكم يدور معه وجودا وعدما حيث إن العادات تتغير وتتبدل وإن الأحكام تتغير بتغيرها وأوضحنا أن مرجع العرف إلى المصلحة وحيث كان راجعًا إليها كان في مرتبتها وليس بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا المصلحة ودرء المفسدة ولما تعرضنا لعلاقة العرف بالعمل تعرضنا بإسهاب إلى التعريف بعمل أهل المدينة ودليل حجيته ونظرة الفقهاء إليه ونبهنا إلى ما قصد إليه مالك من عمل أهل المدينة وقسمنا هذا العمل إلى درجات مختلفة.

ص: 2600

ونقلنا في ذلك كلام المحققين لعمل المدينة، كما نبهنا إلى أن عمل أهل المدينة قد أخذ به قبل مالك الصحابة والتابعون وتابعوهم وأوضحنا الفرق بين عمل أهل المدينة وبين ما جرى به العمل في الأمصار وأن بينهما عمومًا وخصوصًا، ثم أشرنا إلى أن العلاقة بين العرف والعمل وثيقة جدا بحيث لا يكاد يظهر أي فرق وأن العمل ما هو إلا عرف في شكل متطور وأن العرف هو السبب في قيامه لذا كثيرًا ما يذكر الفقهاء العرف مصاحبًا للعمل ومرادفًا له، وقد أشرنا للعلاقة بين المصالح المرسلة والاستحسان والأعراف وما شرعه أولي الأمر من أحكام من خلال ما جرى به العمل على الرغم من المآخذ التي أخذت على هذا اللون من التشريع وأشرنا إلى أثر تغير الأحكام بتغير الزمان والدوافع والأسباب المؤدية إلى تغير الأعراف، كما أشرنا إلى القواعد الشرعية في العرف، ثم ختمنا الموضوع بأبحاث من الفقه وأصوله بنيت على العرف وترك فيها القياس استحسانا وذلك للتعامل المتعارف بين الناس وحاجتهم إلى هذا التعامل تحقيقًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة وأشرنا إلى أن العرف هو الذي يحدد ما يعد مالا وما لا يعد وما يكون مقوما وغير مقوم وأشرنا إلى حقوق الارتفاق وبينا أن مرجعها إلى العرف وأشرنا إلى بعض الأحكام للأحوال الشخصية وتأثير العرف فيها وإلى كثير من العقود المالية وبنائها على العرف وإن كانت مخالفة للقياس كبيع السلم والاستصناع وبيع الوفاء وغيرها وكالإجارة والمزارعة والمساقاة واعتبار العرف في الخيار والوصية والتقرير واختلاف الدية باختلاف الأعراف، وكذلك اعتباره في الشهادات والقضاء ونحو ذلك، وأوضحنا أن تحكيم العرف في كثير من القضايا أمر ضروري مفتقر إليه لا بين الأفراد والجماعات بل بين الدول والجهات، لذا ختمنا الموضوع بكلمة عن العرف الدولي وما استقر عليه قضاء محكمة العدل الدولي المنتصبة بلاهاي، ولعل في بيان ما وضحت وما مثلت أكون قد شاركت قدر الاستطاعة في تجلية نظرية العرف وتوضيح آثارها في التشريع الإسلامي ومدى تأثير الأعراف في تطور المجتمعات وأحكامها وقوانينها الإدارية وغيرها، وإنا لنأمل من الحكومات الإسلامية أن تعود إلى رشدها وسالف عهدها وأن تحكم شرع الله وتحتكم إليه وتستغني عن قوانين الغرب التي لا تراعي ما أحل الله وما حرم، فإن في التشريع الإسلامي ما فيه غنى عن كل القوانين إذ هو قانون الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، نسأل الله التوفيق، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة.

ص: 2601

المراجع

[أ]

1-

أحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي بتعليق عبد الغني عبد الخالق، طبعة دار نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى 1945م.

2-

أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، تحقيق علي البجاوي، طبعة حلبي.

3-

الإحكام في أصول الأحكام، للحفاظ أبي محمد علي بن حزم، طبعة القاهرة.

4-

أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي، طبعة المطبعة البهية مصر 1343 هـ.

5-

إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام، لابن دقيق العيد، طبعة دار الشعب، الطبعة الأولى.

6-

الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، الطبعة الأولى مطبعة محمد علي صبيح بميدان الأزهر بمصر 1347 هـ.

7-

الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي، طبعة المكتبة الثقافية بيروت 1973

8-

الإتقان في الأحكام شرح تحفة الحكام، لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي وبهامشه حاشية ابن رحال، طبعة محمد أفندي مصر 1315هـ

9-

الأحكام في تمييز الفتاوى عن الحكام، لشهاب الدين القرافي – طبعة الأنوار 1938م.

10-

إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري، لأحمد بن محمد القسطلاني، طبعة دار صادر مصر عن طبعة بولاق.

11-

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني، طبعة الطباعة المنيرية مصر.

12-

الأشباه والنظائر، للسيوطي، طبعة البابي الحلبي بمصر.

13-

الأشباه والنظائر، لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، تحقيق وتعليق عبد العزيز محمد الوكيل مؤسسة حلب مصر 1968 م.

14-

الأم، للإمام الشافعي، الطبعة أولى المطبعة الأميرية 1326 هـ.

ص: 2602

15-

الإمام الأوزاعي ومنهجه كما يبدو في فقه، لعبد الرزاق قاسم الصفار، طبعة بغداد (رسالة ما جستير) .

16-

أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت 1973.

17-

أصول الفقه، لمحمد شلبي، الطبعة الأولى دار النهضة العربية 1974 م.

18-

الإشراف، للقاضي عبد الوهاب، طبعة تونس.

19-

علم أصول الفقه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، طبعة القاهرة.

20-

أصول الفقه، للخضري طبعة مصر.

21-

الأصول العامة للفقه المقارن، لمحمد تقي الدين الحكيم، طبعة أولى دار الأندلس.

22-

أصول القانون حسن كيره، طبعة القاهرة.

23-

إدراك الشروق على أنواء الفروق، لسراج الدين أبي القاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط بهامش الفروق، طبعة بولاق تونس 1304 هـ.

24-

اختلاف أصول المذاهب، للقاضي النعمان بن محمد تحقيق مصطفى غالب دار الأندلس بيروت 1393هـ - 1973 م.

[ب]

25-

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، ولما أتمه عرضه على صاحب التحفة فاستحسنه وزوجه ابنته، فقيل شرح تحفته وتزوج ابنته.

26-

بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد ابن رشد الحفيد، طبعة الاستقامة بمصر 1938م.

27-

البهجة في شرح التحفة، لأبي علي التسولي، طبعة المكتبة التجارية الكبرى.

[ت]

28-

ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض اليحصبي، طبعة وزارة الأوقاف بالمغرب.

29-

تاج العروس، للمرتضى الزبيدي، طبعة المطبعة الخيرية بمصر 1306هـ.

30-

تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، مطبعة المنار مصر.

31-

تفسير التحرير والتنوير، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، طبعة دار النشر تونس.

32-

تاج الإكليل لشرح مختصر خليل بهامش مواهب الجليل، لمحمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الشهير بالمواق، مطبعة السعادة مصر 1328 هـ

33-

التعريفات، لأبي الحسن علي بن محمد الجرجاني، طبعة الدار التونسية للنشر 1971م.

34-

التشريع الجنائي الإسلامي، لعبد القادر عودة، طبعة النعمان النجف 1975م.

35-

تبصرة القضاة والإخوان في وضع اليد وما يشهد له من البرهان، لحسن العدوي.

36-

تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، للقاضي برهان الدين بن فرحون، طبعة الحبلي على هامش فتاوى عليش 1378 هـ.

ص: 2603

37-

التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، لمحمد الدسوقي.

38-

التأمين في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الحمال.

39-

التأمين لمصطفى الزرقاء.

40-

التأمين البري، للبشير زهرة، طبعة دار بو سلامة تونس.

41-

تنقيح الفصول، للقرافي.

42-

التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، طبعة تونس.

43-

تحفة الأكياس في شرح عمل فاس، طبعة حجرية 1335هـ.

44-

التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، شرح التحرير، لابن الهمام.

45-

تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك، لجلال الدين السيوطي، طبعة حلب.

46-

تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، طبعة الأميرية مصر.

47-

تمييز الطيب من الخبيب فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث، لعبد الرحمن ابن الديب الشيباني، طبعة محمد صبيح 1347 هـ.

48-

تاريخ قضاة الأندلس، لأبي الحسن النبهاني المالقي، طبعة المكتب التجاري بيروت.

49-

تكملة فتح القدير.

[ج]

50-

الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد القرطبي، طبعة دار الكتب المصرية 1966 م.

51-

جامع البيان في تأويل آي القرآن، لأبي جعفر بن جرير الطبري، طبعة الميهمية بمصر.

52-

جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته، لابن عبد البر، طبعة المنيرية مصر.

[ح]

53-

حاشية الحنفي على الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير.

54-

حاشية ابن الخياط على شرح الخرشي، لفرائض خليل، طبعة عاطف بمصر.

55-

حاشية البناني على المحلى على جمع الجوامع، طبعة دار إحياء الكتب العربية، للحلبي.

56-

حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي بن سودة على تحفة ابن عاصم، طبعة حجرية 1310هـ.

57-

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لشمس الدين محمد بن عرفه الدسوقي على شرح الدردير لمختصر خليل، طبعة الحلبي.

58-

حاشية التسولي على شرح التاودي للامية الزقاق، طبعة حجرية.

59-

حاشية الطالب ابن الحاج على شرح ميارة، للمشرد المعين، طبعة بولاق 1316 هـ.

60-

حاشية ابن رحال على هامش شرح ميارة للتحفة، طبعة الشرفية مصر 1316هـ

ص: 2604

61-

الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لبرهان الدين بن فرحون، طبعة السعادة بمصر 1329 هـ.

62-

الدر المختار في شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان للإمام الحصكفي.

63-

دور الأحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر ترجمة فهمي الحسيني، منشورات مكتبة النهضة بيروت وبغداد.

64-

الدكانة، لمحمد عظوم نسخة قلمية لم يطبع بعد.

[ر]

65-

رسالة نجم الدين الطوجي، المصلحة المرسلة.

66-

رسالة رسم المفتي، لابن عابدين مجموعة رسائل ابن عابدين.

67-

الروض الأنف، لابن القاسم عبد الرحمن الخشمعي السهيلي، طبعة الجمالية مصر.

68-

رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، لابن عابدين مجموعة الرسائل.

69-

رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، طبعة المطبعة الأميرية بالقاهرة بمصر.

70-

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين محمود الألوسي، طبعة الطباعة الميرية بمصر.

71-

رفع الالتباس عن شركة الخماس، لابن رحال مخطوط.

72-

الرأي في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد محمد مختار القاضي، طبعة مطبعة بغداد.

[ز]

73-

زبدة التحصيل والتنقيح في مسألة التحسين والتقبيح، للشيخ محمد جعيط مذكورة في حاشيته على التنقيح.

74-

زاد المعاد في هدي خير العباد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام ابن القيم الجوزية، طبعة المطبعة المصرية.

[س]

75-

سنن أبي داود، طبعة المكتبة التجارية مصر.

76-

سنن النسائي بشرح جلال الدين السيوطي وحاشية النووي، المطبعة المصرية بالأزهر.

77-

سنن الدارمي، مطبعة الاعتدال بدمشق 1349 هـ

78-

سنن ابن ماجه، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه 1374هـ - 1953 م.

ص: 2605

79-

سنن المهتدين، للمواق، طبعة حجرية.

80-

سبل السلام للإمام إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني شرح بلوغ المرام من جميع أدلة الأحكام، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي، المكتبة التجارية الكبرى مصر.

81-

سلم الأصول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، طبعة مصر.

82-

سلم الأصول لعلم الأصول، لعمر عبد الله، طبعة أولى دار المعارف 1956م.

[ش]

83-

شرح تنقيح الفصول في الأصول، للقرافي بهامش التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح، مطبعة النهضة تونس.

84-

شرح التنقيح، للقرافي بهامش منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح مطبعة النهضة تونس 1340 هـ - 1921م.

85-

شرح العمل الفاسي، لابن عبد الله السجلسماسي، طبعة حجرية.

86-

شرح الزقاقية، لعمر الفاسي، طبعة حجرية.

87-

شرح ميارة على التحفة طبعة المطبعة الشرفية 1316 هـ

88-

شرح الزرقاني على الموطأ المكتبة التجارية بمصر 1377 هـ - 1959م.

89-

شرح المنجور لقواعد الزقاق، طبعة حجرية 1305هـ.

90-

شرح الطالب في أسنى المطالب، لأحمد بن قنفذ.

91-

شرح التاودي بحاشية المهدس، طبعة حجرية.

92-

شرح الزرقاني على خليل.

93-

الشرح الكبير، للدردير بحاشية الدسوقي.

94-

شرح العضد على مختصر ابن الحاجب.

95-

شرح الإسنوي على المنهاج، للبيضاوي بحاشية الشيخ بخيت.

96-

شرح الزيلعي على الكنز.

97-

شرح حدود ابن عرفة، للرصاع، طبعة تونس 1350 هـ.

98-

شرح مجلة الإحكام، لعلي حيدر، طبعة بيروت.

99-

الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، لمحمد الخضر حسين، طبعة بيروت.

[ص]

100-

صحيح البخاري بشرح عمدة القاري، لبدر الدين أبي محمود بن أحمد العيني، طبعة الطباعة المنيرية.

101-

صحيح مسلم بشرح النووي، طبعة أولى المطبعة المصرية بالأزهر 1347 هـ - 1929 م.

ص: 2606

102 – صحيح مسلم بشرح إكمال المعلم، لمحمد بن خلفة القشتالي الآبي وشرح السنوسي الطبعة الأولى مطبعة السعادة مصر 1327 هـ.

103-

صحيح الترمذي بشرح الإمام ابن العربي المالكي المطبعة المصرية بالأزهر سنة 1350 هـ - 1931 م.

[ط]

104-

الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية، لشيخ الإسلام محمد العزيز جعيط، طبعة الإدارة تونس.

105-

الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية، طبعة مصر المؤسسة العربية للطباعة والنشر القاهرة 1380 هـ - 1961 م.

[ع]

106-

عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني.

107-

علم أصول الفقه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، طبعة مصر القاهرة.

108-

العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنة، طبعة مطبعة الأزهر القاهرة 1949 م.

109-

العمليات العامة، لأبي عبد الله محمد السجلسماسي، طبعة أولى مطبعة الدولة التونسية 1290 هـ.

110-

العرف والعمل في المذهب المالكي للدكتور عمر بن عبد الكريم الحيدى، طبع بمطبعة إحياء التراث الإسلامى 1404هـ - 1984 م.

111-

عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين، للدكتور أحمد محمد، طبعة دار الاعتصام، طبعة أولى 1347 هـ 1977م.

[ف]

112-

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني اليماني الصنعاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي مصر 1349 هـ.

113-

فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، طبعة حلبي 1378 هـ 1959م.

114-

الفروق، للقرافي، طبعة دار إحياء الكتب العربية القاهرة.

115-

فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي.

116-

فلسفة التشريع في الإسلام، لصبحي محمصاني، طبعة دار العلم للملايين بيروت 1975 م طبعة رابعة.

117-

الفكر السامي، للعلامة الحجوي الثعالبي، طبعة إدارة المعارف بالرياض 1340 هـ كمل بفاس 1945م.

118-

فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام مع تكملة نتائج الأفكار في كشف الرموز، والأسرار، لقاضي زاده على الهداية شرح بداية المبتدئ، للمرغياني وبهامشه شرح العناية على الهداية، طبعة المكتبة الحمادية الكبرى بمصر 1356 هـ.

ص: 2607

119-

الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، طبعة دار الفكر 1404 هـ - 1984 م.

[ق]

120-

قواعد المقري، لأبي عبد الله المقري التلمساني مخطوط.

121-

القواعد، لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، والفقه الإسلامي، طبع مطبعة صدق الخيرة مصر طبعة أولى.

122-

قواعد الحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، طبعة المكتبة الحسينية مصر طبعة أولى.

123-

القبس، لابن العربي مخطوط.

124-

القوانين الفقهية، لابن جزي، طبعة منشورات الدار العربية للكتاب ليبيا تونس.

[ك]

125-

الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، طبعة مكتبة الرياض الحديثة الرياض.

126-

كتاب مالك، للشيخ محمد أبو زهرة طبعة مصر.

127-

كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، طبعة دمشق.

[ل]

128-

لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين بن محمد بن منظور، طبعة دار الطباعة والنشر بيروت 1347 هـ 1955 م.

129-

لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلاء الدين البغدادي المعروف بالخازن، طبعة المطبعة الخيرية مصر.

130-

لامية الزقاق منظومة.

131-

لقط الدرر فيما به العمل من مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، لمحمد السنوسي اشتمل على 4222 بيتًا في النوازل التونسية وضبط ما جرى به العمل في محكمتها الشرعية، طبعة المطبعة الدولية التونسية 1297 هـ.

[م]

132-

المبسوط، لشمس الدين السرخسي، مطبعة السعادة بمصر.

ص: 2608

133-

الملل والنحل، لأبي الفتح محمد الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة الحلبي 1381 هـ 1961.

134 – مقاصد الشريعة الإسلامية، لشيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور، طبعة الشركة التونسية للنشر 1366هـ - 1978 م.

135-

مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، لعلال الفاسي، طبعة مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء.

136-

مجالس العرفان ومواهب الرحمن، لمحمد العزيز جعيط الدار التونسية للنشر1972 م.

137-

المدخل الفقهي العام، لمصطفى أحمد الزرقا، طبعة ألف باء دمشق 1967.

138-

المدخل للعلوم القانونية، لتوفيق فرج، طبعة مصر.

139-

الموافقات، للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي، طبعة تونس 1302 هـ.

140 – المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوي أهل أفريقية والمغرب، طبعة 1315.هـ

141-

المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي، طبعة مطبعة السعادة مصر 1331 هـ.

142 – الموطأ، للإمام مالك بن أنس، طبعة مطبعة البابي الحلبي 1339 هـ.

143 – مجموع الفتاوي، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع عبد الرحيم بن محمد بن قاسم، طبعة مكتبة المعارف الرباط.

144-

مسند الإمام أحمد بن حنبل، المطبعة الميمية.

145 – المقدمات المنهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد ابن رشد، طبعة دار صادر بيروت.

146-

مقدمة ابن خلدون من كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، طبعة أولى مصر.

147-

المغني، لابن قدامة المقدسي على مختصر الخرقي، طبعة دار المنار 1367 هـ.

148 – المدونة الكبرى، للإمام مالك برواية سحنون عن ابن القاسم، طبعة دار صادر بيروت.

149-

مفتاح الأصول في علم الأصول للشريف التلمساني، طبعة تونس.

150-

المنهج الفائق والمنهل الرائق والمغني اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق، طبعة حجرية 1228 هـ.

151 – المستصفى من علم الأصول، لحجة الإسلام الغزالي وبهامشه فواتح الرحموت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري شرح مسلم الثبوت، لابن عبد الشكور، الطبعة الأولى المطبعة الأميرية بمصر 1322 هـ.

152-

المنخول من تعليقات الأصول، لحجة الإسلام الغزالي، تحقيق محمد حسن هيتو من غير تعيين مكان وبدون تاريخ مصر.

153-

مواهب الجليل على شرح خليل، لمحمد الرعيني المعروف بالحطاب وبهامشه تاج الإكليل، للعبدري الشهير بالمواق، طبعة السعادة مصر.

ص: 2609

154-

منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح، للشيخ محمد جعيط.

155-

مبادئ الثقافة الإسلامية، لفاروق النبهان، طبعة دار البحوث العلمية الكويت 1374 هـ - 1974 م.

156-

مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري، لمحمد السنوسي، طبعة المطبعة الرسمية تونس.

157-

المحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، طبعة دار الطباعة المنيرية مصر.

158-

المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي، طبعة مصر.

[ن]

159 – نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، لمحمد علي الشوكاني، طبعة الطباعة المنيرية مصر 1344 هـ.

160-

نهاية المحتاج لشرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي، مطبعة حلبي مصر 1386 هـ 1967 م.

161-

نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي مخطوط.

162-

نظرية العرف، لعبد العزيز الخياط، طبع ونشر مكتبة الأقصى عمان 1397 هـ - 1977 م.

163-

نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لمحمد بن عابدين مجموع رسائل ابن عابدين جزئين في مجلد.

164-

نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله الشنقيطي العلوي، طباعة المغرب.

165-

نوازل الشريف العلوي، طبعة مطبعة حجرية 1315 هـ.

[و]

166-

الوجيز، لحجة الإسلام الغزالي، طبعة مطبعة حوش قدم بالغورية 1313هـ

167 – الوجيز في المدخل للقانون، لشمس الدين الوكيل، طبعة القاهرة.

168 – الوسيط، لعبد الرزاق السنهوري، طبعة مصر.

ص: 2610