الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تذبذب قيمة النقود الورقية
وأثره على الحقوق والالتزامات
على ضوء قواعد الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور على محيى الدين القره داغى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومن والاه
وبعد:
تصاحب العملات الورقية منذ ظهورها اضطرابات عديدة، وتهزها التقلبات الكثيرة والتذبذب من قيمتها الشرائية ولقد نالت قسطا كبيرا من التدهور والانهيار في بعض الأحايين، بل تكاد تفقد بعضها معياريتها للسلع، ومخزونيتها للقيم مما ترتبت على ذلك آثار خطيرة على مستوى الحقوق والالتزامات، وهضم كبير لحقوق الناس، ولا سيما لأولئك الذين أعطوا مبالغ معينة لفترة زمنية طويلة، فيعاد إليه المبلغ فكأنه قد اقتطع منه نصفه، أو ثلثاه نتيجة للتضخم الذي تعانى منه معظم الدول، فلو تصورنا أن أحدا اقرض آخر مبلغ مائة ألف ليرة لبنانية في سنة 1970، والمدين الآن يريد أن يوفي بدينه، ترى كم يرجع؟ هل يرجع المبلغ المذكور بالليرة اللبنانية؟ فلو قلنا نعم لوقع على الدائن ظلم كبير حيث كان المبلغ الذي دفعه في وقته يساوى حوالي خمسين ألف دولار والآن يساوى حوالي ثلاثمائة دولار، فكان المبلغ في وقته يشتري به بيتا ومطبعة والآن لا يكفي لتكاليف دعوة بضعة أشخاص وعلى عكس ذلك لو أخذ شخص الآن مائة ألف ليرة لبنانية التي تساوى حوالي ثلاثمائة دولار ثم بعد عشر سنوات يريد أن يرجعها وقد صعدت قيمة الليرة صعودا كبيرا ترى كم يرجع؟ والمسألة لا تخص الليرة اللبنانية، بل هي عامة في أكثر النقود مثل الليرة التركية، والسورية، بل حتى الجنية المصري والدينار العراقي، والجنيه السوداني وغيرها..
فالمسالة لم تعد تطاق لما يترتب عليها من نتائج خطيرة، ولذلك قمت بإثارتها على مستوى كلية الشريعة بجامعة قطر في ندوة علمية في 15/10/1987 وأثنى أغلب الحاضرين بمن فيهم فضيلة الأستاذ الدكتور / يوسف القرضاوي، والأستاذ الدكتور جمال الدين عطية - على النتائج التي توصلت إليها (1) والتي نلخصها هنا حتى نعرضها على المهتمين بالفقه والاقتصاد الإسلامي لإثرائها بالمناقشة والنقد والتحليل.
(1) ينشر البحث بالكامل في مجلة المسلم المعاصر في العدد القادم بإذن الله تعالى العدد (50) وما بعده
سنتكلم في الخلاصة عن تعريف النقود بإيجاز، وعن نبذة تاريخية لها ثم عن بعض أحكام النقود المعدنية من الذهب والفضة وعن الفلوس ثم إن هذا الموضوع في الواقع يرتبط بقاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي ولذلك نرى من الضروري أن نتحرى هذا الجانب ونوضح المعايير التي تتحكم فيها لنرى هل تدخل نقودنا الورقية في المثليات، وهي هي مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام؟
وقبل أن ندخل في الموضوع أحب أن أشير إلى عدة مبادئ أساسية يجب على كل باحث مراعاتها وهي:
1-
أن ما ورد فيه النص من الكتاب والسنة الخالي من المعارض لا يجوز الاجتهاد بخلافه وإن كان ذلك لا يمنع من جواز الاجتهاد فيه.
من هنا فالنقود الورقية حديثة العهد لا مطمع في وجود نص فيها، ولا قول للفقهاء السابقين ومن هنا تخضع للقواعد العامة التي تتحكم فيها العدالة وما يحقق المصلحة لجميع الأطراف.
2-
رعاية المقاصد والمبادئ الأساسية والقواعد العامة الكلية للشريعة مقدمة على رعاية الجزئيات والفروع ولا سيما إذا كانت اجتهادية، ومن هذه المبادئ التي تتحكم في موضوعنا مبدأ العدل وعدم الظلم الذي جاء لأجله الإسلام:{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (والأصل في العقود جميعها هو العدل فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم)(1) فإذا كان القرآن الكريم قد قرر بخصوص المرابين {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} فكيف يرضى أن يظلم الدائن ويقتطع حقه في وقت يدعو فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الإحسان إليه ويقرر ((إن خياركم أحسنكم قضاء)) (2) .
ومن هذه المبادئ قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ومبدأ رعاية المصلحة ودرء المفسدة ورعاية أن الاجتهادات الدينية على المصلحة تتغير بتغير مبناها كما أوضح ذلك ابن القيم في كتابه القيم (أعلام الموقعين) .
(1) مجموع الفتاوى 1/510
(2)
حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه مع الفتح 5/65-95 ومسلم في صحيحه 3/314وغيره 0
التعريف بالنقد:
عرف فقهاؤنا الكرام النقد من خلال ذكر وظائفه الأساسية فقالوا: (إنها أثمان المبيعات وقيم المتلفات والديات ووسيط بين السلع وحاكم عليها وإنه من ملكه فكأنما ملك كل شيئ وهو التوسل من خلاله إلى سائر الأشياء وإن نسبته إلى سائر الأموال نسبة واحدة وإنه بمثابة المرآة التي يرى من خلالها الأشياء)(1) وقد شرح ذلك الإمام الغزالي شرحا وافيا (2) كما تناوله شيخ الإسلام فقال:
(فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا يقصد الانتفاع بعينها)(3) .
وقد عرفه علماء الاقتصاد الحديث بما يقرب مما ذكرناه فقالوا: (هو ما يستخدم وسيطًا للتبادل ومقياسا للقيم ومخزونا للثروة ومعيارا للمدفوعات الآجلة من الديون) .
ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أن هذه الوظائف الأربع مجتمعة ليست بمثابة الأركان التي لو تخلفت واحدة منها في نقد ما لفقد نقديته ولذلك نرى كثيرا من أنواع النقود في الاقتصاد الحديث مثل النقود السلعية والنقود المصرفية بل والنقود البلاستيكية مع أنها لا تتوفر فيها جميع العناصر السابقة يطلق عليها اسم النقود.
(1) انظر بداية المجتهد: 2/130 وإحياء علوم الدين:4/88 وإعلام الموقعين: 2/156
(2)
راجع إحياء علوم الدين:4/88-89
(3)
مجموع الفتاوى: 29/471-472
نبذة تاريخية عن النقود:
لم يكن الإنسان في مجتمعه البدائي بحاجة كبيرة إلى وسيط للتداول إذا كان يكتفي ذاتيا بما وفر الله له من خيرات الأرض ثم لما تكونت المجتمعات احتاج إلى المقايضة ثم إلى استخدام النقود ولما جاء الإسلام كان النقد السائد هو الدنانير الذهبية والدراهم الفضية اللتين كانتا سائدتين في الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية ثم قام عمر رضي الله عنه بضرب دراهم على نفس الكسروية وكتب على بعضها " الحمد لله " وعلى بعضها " لا اله إلا الله " وكذلك قام عثمان بضرب دراهم ثم معاوية وابن الزبير لما استقر الأمر لعبد الملك وضع السكة الإسلامية وأمر الناس أن يضربوا عليها نقودهم وقد استقر الأمر على أن وزن الدينار هو مثقال من الذهب أي 40.25 غرامات والدرهم كل عشر منه يساوى سبعة مثاقيل ثم ظلت الخلافة الإسلامية تحافظ على النقود ولا تفرط فيها إلا في حالات يعم فيها الاضطراب وبتتبعنا لأحوال الحضارة الإسلامية نجد أنها لم تشهد أزمات تضخم حادة مثل ما حدث في عالمنا المعاصر نتيجة التزامها بالنقود الذهبية أو الفضية ولكنها قد شهدت بعض اضطرابات نتيجة سيادة الفلوس والغش في المعاملات كما ذكر ذلك العلامة المقريزي والحافظ المناوي وغيرهما (1)
(1) كتاب النقود للمقريزي ط استانه والنقود والمكاييل والموازين للحافظ المناوي ط دار الحرية بغداد والأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 174 والمقدمة لابن خلدون ط عبد السلام بن شقرون ص 29 والحضارة الإسلامية لآدم متر ط دار الكتاب العربي ببيروت: 2/320
ظهور النقود النقدية:
ساعد على ظهورها (1) عدم الاستقرار والاضطراب اللذان سادا أوروبا مما حدا بالأغنياء أن يودعوا نقودهم الذهبية عند التجار الصيارفة الأمناء القادرين على حفظ الأموال في خزائنهم الحديدية الذين كانوا يعطون بدورهم سندات إيصال فتكونت على أثر ذلك فئة من التجار الصيارفة اعتنوا بالصيرفة فقط وحفظ الأمانات واخذ الفوائد عليها واصبحوا وسطاء في تبادل النقود بحيث إذا أراد رجال الأعمال الذين يتعاملون معهم إبرام عملية تبادل معينة أو تسديد ما عليه من ديون إلى الغير كان عليه أن يقدم إلى الصراف الذي يتعامل معه ما يحمله من إيصالات، ويسترجع منه سبائكه ثم يرسلها إلى دار سك النقود حيث يتم تحويلها إلى عملات ذهبية يستخدمها التاجر في عمليات الثراء وتسديد الديون (2) .
ثم خطت الصيرفة خطوة أخرى نحو التيسير في التبادل وذلك بإعطاء المزيد من الثقة إلى الإيصال، بحيث إذا وقع على ظهره صاحبه وأعطاه لآخر أصبح خاصا بحامله ومن هنا أعطى بدل السبيكة الذهبية نفسها، ويجري به النقود ويتداول مع بقاء السبيكة عند الصراف. تلك هي بداية المخاض لورقة البنكنوت التي مهدت الطريق لولادة الأوراق النقدية، وهيأت الرأي العام لتقبلها، أدرك التجار فوائدها في تسهيل عمليات الدفع، فتطورت إلى إصدار فئات محدودة مثل عشرة جنيهات وخمسين جنيهًا ومائة جنيه
…
ثم انتقلت هذه الفكرة إلى الحكومات وتبنتها وأعطتها الثقة وأفادت منها حيث احتفظت هي بالسبائك، وأصدرت في مقابلها الأوراق النقدية المطلوبة، وبذلك درجت الحكومات على طبع أوراق النقد بشرط توفر غطاء كاف من السبائك ثم أختفي الصيارفة من الصورة وحل نظام الشيكات المصرفية محل إيصالات الصيارفة تكونت البنوك الحديثة وقامت بإصدار النقود الورقية بكل أشكالها المتعددة، ثم خفف العطاء ليصل إلى 50 % فقط، ووجدت عدة أنظمة منها ما يعتمد على نظام النقد الواحد أو على غيره إلى أن تكون في عام 1945 م صندوق النقد الدولي وأصبحت معظم الأنظمة النقدية الحديثة تعتمد على النقد الورقية والمصرفية كوسيلة للدفع، وذلك بسبب المشاكل الاقتصادية وعدم قدرة الدول على توفير الغطاء الكافي ومن هنا فإن حجم المعروض من النقد لا يتوقف بتاتا على إمكانية الحصول على المعادن النقدية وإنما يتوقف على قرارات السلطات النقدية من البنك المركزي ووزارة المالية ومع ذلك فإن هناك بلا شك عوامل كثيرة لها تأثيرها الفعال على النقود الورقية وعلى رأسها نوعية الاقتصاد القائم درجة نموه وما حققه من تقدم أو ما يعانيه من تخلف اقتصادي اجتماعي وسياسي وما يصيب الدولة من مشاكل وحروب وغيرها (3) .
(1) وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته ط المطبعة الخيرية الأولى: ص 196 أن أهل الصين كانوا يستعملون النقود الورقية
(2)
د. أحمد عبده / المصدر السابق ص 340
(3)
المصادر السابقة وراجع أ. د مصطفى رشدي شيحه: النقود والبنوك ط الدار الجامعية ص 31 ود. عبد النعيم مبارك: النقود والصيرفة ط الدار الجامعية ص 19
قاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي وعلاقتها بالنقد:
وضع فقهاؤنا الكرام قاعدة عامة تتحكم في مسائل كثيرة وتضبط بها جزئيات لا تكاد تحصر في أبواب الحج والقرض والبيوع، والغصب، والضمانات، والجنايات، وغيرها
…
حيث ترد المثليات بالمثل دون ملاحظة القيمة، في حين يرد ما هو قيمي بالقيمة - كقاعدة عامة -.
والموضوع الذي نحن بصدد بحثه له علاقة وثيقة بهذه القاعدة، وذلك لأننا إذا استطعنا أن نوضح المعايير الدقيقة للقيمي والمثلي نستطيع حينئذ من خلالها الوصول إلى الحكم على نقودنا الورقية بالمثلية أو القيمية.
فالمثلى نسبة إلى المثل، وهو لغة الشبه، والقيمي نسبة إلى القيمة وهي لغة ثمن الشيء بالتقويم (1) وقد ورد لفظ " مثل " ومشتقاته اكثر من مائة وخمسين مرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى:{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (2) أي من حيث الخلقة والماهية والجنس، والنوع ولكنه ثار خلاف بين المفسرين في تفسير " مثل " في قوله تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (3) حيث فسره بعضهم بشبهه في الخلقة الظاهرة ويكون مثله في المعنى (4) في حين فسره آخرون وعلى رأسهم الحنفية بالقيمة وجعلوها هي المعيار في عملية التقويم ودافع أبو بكر الجصاص عن هذا المعنى دفاعا كبيرا وأورد أدلة كثيرة لدعمه ودحض حجة المخالف.
(1) لسان العرب والقاموس مادة " مثل "
(2)
سورة إبراهيم: الآية 11
(3)
سورة المائدة الآية 95
(4)
أحكام القرآن لابن العربي:2/670
وفي اصطلاح الفقهاء اختلفت وجهات نظرهم في المثلية والقيمية حسب المراد بها في الأبواب المختلفة، ففي باب الحج تعتبر البقرة مثلا للناقة، وكذلك النعامة مثلا للناقة والبقرة، حيث إذا قتلها المحرم تجب إحداها مع أن الحيوانات جميعها ليست من المثليات في باب القرض عند من يقول باستقراضها (الجمهور) ونرى أن المثلية لا تتحقق في باب البيع حتى في جنس واحد ونوع واحد من الحيوانات إلا مع التماثل في الذكورة، أو الأنوثة، ويسمونه فوات الوصف المرغوب فيه، أو الجنس المرغوب (1) وغير ذلك من التفصيلات (2) ولكن أكثر الاتجاهات تسير نحو تعريف المثلى بما هو مقدر بكيل أو وزن فعلى ضوء ذلك فالمكيلات والموزونات هما المثليات وغيرهما قيميات في حين أضاف بعضهم إليهما المعدودات التي لا تفاوتَ بيِّنًا بين أفرادها (3) .
ولو أستعرضنا ما ذكره فقهاؤنا الكرام في هذه الأبواب المختلفة لوصلنا إلى أن المعيار الذي اختاروه هو ما يحقق العدالة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه عن عوض المثل: " وهو أمر لا بد منه في العدل الذي به تتم المصلحة الدنيا والآخرة فهو ركن من أركان الشريعة ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله وهو نفس العدل وهو معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل (4) ...." ولذلك نرى فقهاؤنا يحكمون على شيء بأنه يرد بالقيمة مع أنه على ضوء القاعدة العامة من المثليات مثل الذهب الذي دخلته الصنعة حيث يصبح من القيميات والماء الذي أتلفه شخص في وقت عَزة حيث يلاحظ فيه القيمة وغيرها كثير جدا (5) .
(1) يراجع مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة 2/ 802
(2)
يراجع المبسوط 13/ 12-13 وفتح القدير: 5/ 206 ومواهب الجليل:4/466 والوسيط بتحقيقنا: 3/ 803 والمغنى لابن قدامة: 7/ 135 وغيرها حيث فصلنا ذلك في البحث الذي سينشر في مجلة المسلم المعاصر إن شاء الله.
(3)
يراجع فتح القدير 11/269
(4)
مجموع الفتاوى: 29/ 520
(5)
الأشباه للسيوطي: ص 382
هل نقودنا الورقية مثل الدراهم الفضية والدنانير الذهبية في كل الأحكام؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه عند بحث أحكام النقود ولاشك أن الجواب عنه بالسلب أو بالإيجاب أو بالتفصيل يكون هو الأساس في أي حل يراد.
فقد ذهب العلماء الذين عاصروا مولد النقود الورقية إلى أنها ليست مثل النقود المعدنية على الإطلاق ولذلك قال بعضهم بعدم وجوب الزكاة فيها ثم حينما اتضح الأمر بعض الشيء أفتى الكثيرون بوجوب الزكاة فيها (1) . ولو دققنا النظر في هذا الخلاف لوجدنا خلاف عصر وأوان لا خلاف حجة وبرهان، لذلك لم يعد للتكييف السابق باعتبارها سندات ديوان أي مبرر بعد ما صارت أثمانا بالعرف ونالت ثقة الناس، ولكنها مع ذلك لا يمكن القول بأن النقود الورقية أصبحت مثل النقود الذهبية في جميع الأحكام وذلك لأن كثيرا من الفقهاء لم يعطوا جميع أحكامها للنقود المغشوشة على الرغم من رواجها وكذلك لم يعاملوا الفلوس معاملة الذهب والفضة حتى وإن راجت (2) .
وكذلك الأمر في نقودنا الورقية حيث تختلف النقود الذهبية والفضية فيما يأتي:
1-
أن الدنانير والدراهم نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتهما في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح.
2-
أهما لا ينسأ مع نقديتهما باعتبار أن الزيادة في وزنهما زيادة في قيمتهما وقد أثار إلى ذلك الحديث الصحيح " وزنا بوزن " ولا يلاحظ ذلك في النقود الورقية.
3-
أنهما لو ألغيت نقديتهما بقيت مثيلتهما وقيمتهما في حين أن العملات الورقية لو ألغيت لما بقيت فيها أي فائدة.
4-
لا خلاف بين علمائنا المعاصرين في أن نقودنا الورقية تقوم بالذهب أو الفضة أو غيرهما لمعرفة نصاب الزكاة فيها ، في حين أن نصاب الدراهم والدنانير ثابت ولا يحتاج منه إلى تقدير بآخر بل يقوم بهما غيرهما (3) .
5-
أن المعاصرين جميعا متفقون على أن نقد كل بلد جنس بذاته ولذلك يجري فيه التفاضل فيها لو بيع بنقد بلد آخر وما ذلك إلا لرعاية القيمة في حين أن الدراهم والدنانير لا يلاحظ فيهما البنك الذي أصدرها.
6-
أن النقود الورقية كانت مغطاة في أساسها بالذهب ولا يزال الاقتصاد الخاص بالدولة التي تصدرها له علاقة بقوتها وضعفها ولا يؤخذ هذا في الدراهم والدنانير.
7-
حينما ألغى الفقهاء رعاية القيمة في المثليات مثل الذهب والفضة والحنطة والشعير نظروا إلى أنها تحقق الغرض المقصود سواء رخص سعرها أم غلا، أما النقود الورقية فقيمتها في قوتها الشرائية.
8-
أن الاقتصاديين يكادون يتفقون على أن مشكلة التضخم التي يعانى منها ولدت في أحضان النقود الورقية ولم يحصل مثلها عند سيادة النقود المعدنية النفيسة.
(1) يراجع في تفصيل ذلك فتح العلي المالك للشيخ عليش:1/ 164-165 والفتح الرباني مع شرحه للساعاتي: 8/ 25 والفقه على المذاهب الأربعة:1 /15وفقه الزكاة للشيخ الدكتور القرضاوي 1/ 271
(2)
يراجع الهداية مع شرح فتح القدير وشرح العناية: 7/ 152-153 وحاشية ابن عابدين 5/ 266
(3)
راجع فقه الزكاة: 1/269
الترجيح:
ولذلك فالراجح هو القول بنقدية هذه الأوراق المالية وبالتالي وجوب الزكاة فيها باعتبار قيمتها وكونها صالحة للثمنية والحقوق والالتزامات وعدم جواز الربا فيها لا نقدا ولا نسيئة، ولكن مع ملاحظة أنها لا تؤدي جميع الوظائف المطلوبة وبالتالي ملاحظة قيمتها عندما تحدث فجوة كبيرة بين قيمة النقد في وقت القبض وقيمته عند التسليم وهذا في نظري هو الرأي الذي يحقق العدل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ((قيمة عدل لا وكس ولا شطط)) (1) وهذا هو الواقع الذي تعيشه نقودنا الورقية حيث يعترف كثير من الاقتصاديين بأنها لا تؤدى اليوم جميع وظائفها (2) .
وفي رأيي أن نظام النقود اليوم نظام خاص لا يمكن إجراء جميع الأحكام الخاصة بالنقود المعدنية – الذهب والفضة وحتى الفلوس عليها فهو نظام خاص جديد لا بد أن نتعامل معه على ضوء واقعه ونشأته وتطوره وعطائه وما جرى عليه ولذلك فما المانع من أن نقره كوسيط للتبادل التجاري ولكنه مع ذلك يلاحظ فيه قيمته ونربطه أما بالذهب أو بسلة السلع بعد أن فقد النقد الورقي كثيرا من وظائفه حتى في الدول الغربية حيث لم يعد مثل السابق مقياسا للقيم حتى في الغرب الذي نشأ فيه ولا مخزونا للثروة حيث تخزن في الغالب بالذهب أو بالعقار أو بنحوها فقيمة نقودنا الحالية في قدرتها الشرائية فإذا فقدتها أو اهتزت فما الفائدة في شكلها أو ما كتب عليها؟ فهي لا تؤكل ولا تلبس ولا يتحلى بها وإنما ليشتري بها السلع ولذلك فالتساوي والتماثل والتفاضل والتعامل والزكاة باعتبار قيمتها ولذلك فما دام سعر الريال الواحد - مثلا - في وقت واحد لدولة واحدة لا يتصور فيه الزيادة فلا يحتاج إلى رعاية القيمة وكذلك الأمر في وقتين لم تتغير فيهما قيمته بشكل يؤدي إلى الغبن الفاحش فعلا لا تصورا وتخمينا وحتى تكون أبعاد هذا الذي اخترناه واضحة المعالم، فلابد أن نذكر التأصيل الفقهي له والمعيار الذي نعتمد عليه عند التقويم ومتى نلجأ إليه؟ وزمن التقويم ومكانه.
(1) رواه مسلم في صحيحه: 2/1145
(2)
يراجع د حمدي عبد العظيم: السياسات العالية والنقدية في الميزان ص342 د. محمد يحيى عويس مبادئ في علم الاقتصاد ص 281.
التأصيل الفقهي:
لا شك أن مسالة النقود الورقية لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والفقهاء والمجتهدين وإنما ظهرت - كما سبق - في حدود القرنين الأخيرين ومن هنا فلا نطمع أن نحصل على نص خاص يعالج هذه المسالة بخصوصها ولكن لما كان الإسلام دينا خالدا شاملا لكل الأزمنه والأمكنة فإنه تضمن من المبادئ والقواعد العامة ما يمكن استنباط حكم كل قضية مهما كانت جديدة على ضوئها اذن فالقضية تحل من خلال المبادئ والمقاصد العامة للشريعة وبالإضافة إلى ذلك فإننا نرى بعض مسائل جزئية دقيقة أثارها فقهاؤنا الكرام تصلح لأن تكون أرضا صالحة للانطلاق منها إلى حل مسألتنا هذه ومن هنا فنحن نذكر بإيجاز بعض القواعد العامة والمبادئ الكلية ، وبعض المسائل الجزئية ذات العلاقة بموضوعنا:
أولاً: المبادئ العامة القاضية بشكل قاطع بتحقيق العدالة ورفع الظلم حيث أنزل الله تعالى الكتب والشرائع لتحقيق ذلك.... قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) .
ولذلك يرشد القرآن الكريم إلى أن المرابي حينما يتوب يأخذ رأس ماله لا يظلم ولا يظلم إذن فكيف يسمح بأن ترجع إلى الدائن نقوده بعد أن فقدت جزءا كبيرا من قيمتها ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((خير الناس أحسنهم قضاء)) (2)
ومن المبادئ العامة الكلية قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) (3) . حيث جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من القطعيات التي تزاحمت عليها أدلة الشرع من الكتاب والسنة (4) .
(1) سورة الحديد الآية 25
(2)
رواه البخاري في صحيحه مع فتح الباري 5/ 56
(3)
رواه أحمد في مسنده 5/327 والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى المستدرك 2/57
(4)
الموافقات 3/9-10
ومن هذا المنطق فلا يمكن أن تكون الجزئيات مخالفة للقواعد العامة ولا القطعيات مناقضة للأصول العامة المقررة فعلى ضوء ذلك فلا يمكن أن نقول في نقودنا الورقية قولا يخالف هذه المبادئ يؤدي إلى الظلم والضرر بأصحاب الحقوق في وجهة نظرنا أن القول برد المثل في نقودنا الورقية يؤدي في كثير من الأحوال إلى الظلم بأصحاب الحقوق فمن دفع قبل خمسة عشر عاما مبلغ 100 ألف ليرة مثلا ثم لو رجعها المدين إلى الدائن بالمثل لأصاب الدائن خسارة كبيرة وضرر كبير لا يمكن أن يتفق مع هذه المبادئ السابقة.
* ثانيا: بعض المسائل الفقهية التي ذكرها فقهاؤنا السابقون بخصوص الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة حيث ذهب الفقهاء إلى رعاية القيمة على أساس الذهب الخالص ورواجها في السوق وملاحظة الرخص أو الغلاء حيث ذهب أبو يوسف ومحمد في بعض الحالات وبعض فقهاء المالكية وبعض الحنابلة إلى رعاية القيمة يقول ابن عابدين (قال في الولواجية: رجل اشترى ثوبا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلا فسد البيع لأنه هلك الثمن وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد ولانه لم يهلك وليس له إلا ذلك وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها
…
) ثم قال (يجب رد مثله) هذا كله قول أبي حنيفة
ووقال أبو يوسف: تجب قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل وقال محمد يجب آخر ما انقطع من أيدى الناس قال القاضى الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة انتهي – قال التمرتاشي اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس وكان كل منها نافعا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد حكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائما مثله إن كان هالكا وكان مثليا وإلا فقيمته وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا وهذا عند الإمام الأعظم وقالا لا يبطل البيع، لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد، لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئا بالرطبة، ثم انقطع وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة: الفتوى على قول أبي يوسف
…
(1) وذكر ابن عابدين أن الظاهر من كلامهم هو أن هذا الخلاف في الفلوس، والدراهم التي غلب غشها، غير أن بعض الحنفية عمموه في المغشوشة وغيرها (2) ثم ذكر ابن عابدين مسألة وقعت في عصره رجح القول فيها بناء على العدالة، لا على الشكل والتقليد فقال:(أعلم أنه تردد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائحة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا كما لو اشترى بمائة ريال أفرنجي، أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعا والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعا أو قرضا بناء على ما قدمناه وأما الثاني فقد حصل بسبب ضرر ظاهر للبائعين فإن ما ورد الأمر برفضه متفاوت..) ثم قال: (وقد كنت تكلمت مع شيخي فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر، وإنما يفتي بالصلح..) ثم بين بأن القضية تدور مع علتها قائلا: (فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما يشاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع عما أراد المشتري يظهر تعنته أما في هذه الصورة فلا، لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره....)
فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار للأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها.
فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا، لا الأقل، ولا الأكثر، كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري (3) .
وهذا ما نحن نؤكد عليه هنا أنه ما دامت النقود الورقية غير منصوص عليها فلابد إذن من رعاية ما يحقق العدالة، ويرفع الحيف والضرر والضرار دون النظر إلى الشكل.
(1) رسالة النقود: 2/60- 61، والهداية وفتح القدير: 7/155
(2)
رسالة النقود: 2/62
(3)
النقود: 2 /66
وقد أعطى العلامة الكاساني أهمية خاصة للقيمة حتى جعلها معيارا وأصلا فقال: (ألا ترى أنه لا يعرف الجيد، والوسط والرديء إلا باعتبار القيمة، فكانت القيمة هي المعرِّفة بهذه الصفات فكانت أصلا في الوجوب، فكانت أصلا في التسليم
…
) (1) .
وفي المذهب المالكي نجد أن القاضي ابن عتاب، وابن دحون وغيرهما يقولون برعاية القيمة في بعض المسائل، حيث ورد في المعيار المعرب: (سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟ أجاب
…
وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطعوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة ومن الذهب
…
، وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول إنما أعطاها على العوض فله العوض..) (2) .
وقيد الرهوني رد المثل بالمثل إذا لم يكن تغير السعر كبيرا، فقال:(وينبغي أن يفيد ذلك بما إذا لم يكثر جدا حتى يصير القابض بها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئا منتفعا به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به)(3) .
وقد راعى المالكية – كقاعدة عامة – القيمة في كثير من المسائل وأولها عناية فائقة حيث ذهبوا إلى أن عشرين دينارا من الذهب تجب فيها الزكاة حتى ولو كان فيها نقص من حيث الوزن ما دامت مثل الكاملة في الرواج، وعلل ذلك العلامة الدسوقي بقوله:(لا يخفى أن القيمة تابعة للجودة والرداءة فالالتفات لأحدهما التفات إلى الآخر)(4) خلافا للشافعية في رعاية الوزن (5) .
(1) بدائع الصنائع: 3/1442
(2)
المعيار المعرب: 6 / 461 – 462
(3)
نقلا عن د. شوقي أحمد دنيا في بحثه القيم عن النقود والأثمان في مجلة المسلم المعاصر العدد (41)
(4)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/455.
(5)
الروضة: 2/257، والمجموع: 6 / 1974.
والقاعدة العامة لدى الشافعية وغيرهم أن المثلي إذا عدم، أو عز فلم يحصل إلا بزيادة لا يجب تحصيله كما صححه النووي، بل يرجع إلى القيمة (1) .
والحنابلة يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس، أو الدراهم المكسرة، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحد وأصحابه هو عدم اعتبارها، وقد بين ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين فقال معللا لوجود القيمة في حالة الكساد ودون حالة تغير القيمة:(إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها، وأبطل ماليتها فأشبه كسرها، أو تلف أجزائها، وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا أو قليلا، لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت، أو غلت)(2) .
ولو دققنا النظر في التعليل الذي ذكره ابن قدامه لوجدناه قائما على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الاعتماد على أن الكساد عيب ولكن الرخص الفاحش ليس بعيب ولو رجعنا إلى تعريف ابن قدامة نفسه للعيوب لدخل فيه الرخص الفاحش، حيث عرفها بأنها: النقائص الموجبة لنقص المالية، ثم ذكر عدة تطبيقات محللا فيها، (ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته) .
فعلى ضوء ذلك كان الأجدى رعاية القيمة أيضا في النقود الاصطلاحية لأن القيمة عنصر أساسي.
* الأمر الثاني: الاعتماد على القياس على الحنطة إذا رخصت وهذا في نظرنا قياس مع الفارق، وذلك لأن قيمة الحنطة في ذاتها لو رخصت لما اختلف الأمر من حيث قيمتها الغذائية، وكذلك النقود الذهبية والفضية حيث لو رخصت لما أثرت في كونها سلعة لها قيمة ذاتية، أما النقود الورقية فقيمتها في قدرتها الشرائية فلو اهتزت اهتزازا كبيرا فلابد من مراعاتها.
(1) راجع المصدرين السابقين، وقطع المجادلة عند تغير المعاملة للسيوطي مخطوطة التونسي، ورقة (1) ، وذكر وجها للشافعية يقضي بأن الفلوس والدراهم المغشوشة من المتقومات فعلى هذا يكون الرد فيها بالقيمة.
(2)
المغني لابن قدامة: 4 / 460
* الأمر الثالث: القياس على كسر النقد، أو تلف بعض أجزائه، وهذا القياس لصالحنا حيث إن التضخم الذي أصاب معظم النقود فسره الباحثون الاقتصاديون بقطع العملة إلى نصفين أو أكثر، يبقى جزء منها في جيب الدولة، وجزؤها الآخر عند المستهلك، وذلك لأن الدولة تصدر من النقود الورقية أكثر مما لديها من وسائل نمو الاقتصاد والثروة.
فعلى ضوء ذلك فالرخص الفاحش في النقود الورقية هو بمثابة الكسر وتلف بعض أجزاء النقود المعدنية، لأن العبرة بالقيمة والقدرة الشرائية وهي قد اهتزت.
هذا وقد نقل صاحب الدرر السنية عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: (بأن اختلاف الأسعار مانع من التماثل، وقاس مسألة تغير النقود على كسادها، بناء على أن كون الكساد عيبا يكمن في كونه نقصا في القيمة، لأنه ليس عيبا في ذات النقد من حيث النقص في عينه، حيث إن القدر لم يتغير، وإنما هو باعتبار أن الكساد يترتب عليه نقصان في القيمة لا غير)، ثم عقب صاحب الدرر على ذلك بقوله:(إن كثيرا من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي الدين – أي ابن تيمية – في الحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص الأسعار فكلام الشيخ صريح في أنه رد القيمة أيضا ووهو الأقوى)(1) .
وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام في عصره للنوازل الواقعية فيه جدير بالقبول، وحري بالترجيح في المسألة التي نحن بصدد بحثها، فعلى ضوء هذا الرأي، والآراء التي سبقته لأبي يوسف، وبعض علماء المالكية نكون قد وجدنا أرضية ثابتة، ومنطلقا جيدا للرأي الذي نرجحه وهو رعاية القيمة في نقودنا الورقية عند التغير الفاحش.
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية / ط. دار الافتاء بالرياض: 5/110
* ثالثا: رجوع الفقهاء في كثير من الأمور المثلية إلى القيمة حينما لا يحقق المثل العدالة، كما في حالة اقتراض الماء عند ندرته وفي حالة الحلي المصنوع من الذهب ولكن داخلته الصنعة وغير ذلك مما ذكرناه عند كلامنا على المثلي والقيمي.
* رابعا: وحتى نختم هذا بختام المسك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار إلى أهمية القيمة، حيث قال:((من أعتق عبدا بين اثنين فإن كان موسراً قوم عليه، ثم يعتق)) وفي رواية صحيحة أخرى: ((من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) وفي رواية لمسلم: ((من ماله قيمه عدل لا وكس ولا شطط)) (1)
يقول العلامة ابن القيم: (ومعلوم أن المماثلة مطلوبة حسب الإمكان، ثم نقل عن جمهور العلماء قولهم: الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن معتق الشخص إذا كان موسرا بقيمته، ولم يضمنه نصيب شريكه بمثله فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون)(2) .
ثم إن قضية المثلي والقيمي ليست هي أيضا من المنصوص عليها بحيث لا يجوز مخالفتها، يقول الشوكاني:(إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلي، وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله، والقيمي بقيمته هو أيضا مجرد رأي عملوا عليه، وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه يضمن المثلي بقيمته) .
(1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب العتق: 5/150 – 151. ومسلم: 2/1140، وسنن أبي داود – مع العون -: 10/472، والترمذي – مع تحفة الأحوذي -: 4/281. والنسائي: 7/281. وابن ماجه: 4/844.
(2)
شرح سنن أبي داود لابن القيم: 12/727 – 274.
على أي معيار نعتمد في التقويم:
سبق أن ذكرنا أننا لا نلجأ إلى القيمة عند وجود الغبن الفاحش، وفي حالة رجوعنا إلى القيمة لا بد أن نضع موازين دقيقة ومعايير معقولة للتقويم حتى يتبين لنا الفرق بين قيمتي العملة الورقية في الورقتين: وقت القبض، ووقت إرادة الرد، ولنا لمعرفة ذلك معياران:
المعيار الأول: الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد كمن كان يشتري به من هذه السلع الأساسية، ثم نأتي عند الرد أو الوفاء بالالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق، وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبر في كثير من الدول الغربية يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم ولا سيما في الرواتب والأجور.
ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان – وهو أعلى ما في الوجود – الإبل، مع وجود النقدين – الدراهم والدنانير – في عصره.
ولا يقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب. وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذكر العلماء أن الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب، أو الفضة أصلا في الدية، ومن هنا زادهما حسب قيمة الإبل، فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو وبن شعيب عن أبيه عن جده قال ((كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم
…
وكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: (ألا إن الإبل قد غلت) قال: ففرضها، على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا)) (1) . قال الخطابي:(وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى لعزة الإبل عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثمانى مائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثنا عشر ألفا)(2) .
(1) سنن أبي داود مع العون – كتاب الديات: 12/284، ورواه مالك بلاغا في الموطأ: 2/530
(2)
عون المعبود: 12/285
والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقرارا تاما، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم:((أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا)) (1) كما روى الدارمى: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار)) (2) وروى النسائي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها واذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بين 400 إلى 800 دينار أو عدلها من الورق)) (3) وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر قال ابن جريح عن عطاء وغيره وعن جابر: (أخذته بأربعة دنانير) ، وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دارهم (4) .
كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلها معيارا يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقود – كما ذكرنا – ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلا حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضا: فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: (وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص، ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية مثل الإبل، والغنم والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت حيث أن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد)(5) .
(1) سنن ابن داود مع العون كتاب الديات: 12/290. والترمذي – مع التحفة – كتاب الديات: 4/646 قال الشوكاني في النيل: 8/271: (وكثرة طرقه تشهد لصحته)
(2)
سنسن الدرامي، كتاب الديات: 2/113. وراجع النيل: 8/271
(3)
سنن النسائى، كتاب القسامة: 8 / 43
(4)
صحيح البخاري – مع الفتح كتاب الشروط /: 5/314.
(5)
فقه الزكاة: 1/265 – 269
المعيار الثاني: الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب، فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد، أو ارتفاعه يلاحظ في الرد وفي جميع الحقوق والالتزمات – قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلا لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويشترى به مائتا غرام من الذهب فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب، وذلك لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتا واستقرارا، وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة (1) ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية: الاقتصار في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية - على معيار الذهب فقط لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (2) ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم أن الذهب لم يقوم بغيره، في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة، يقول السيوطي:(الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض بالنسبة إليه نص عليه الشافعي في الأم، وقال: لا أعرف موضعا تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة) .
ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة، ففيها، وإلا فيرجع الأمر فيها إلى القضاء أو إلى التحكيم وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبينات والقضاء.
(1) فقه الزكاة: 1/262، حيث ذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة هو ما قاله الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف وحسن رحمهم الله
(2)
مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمرهم الثاني سنة 1965 م القرار: 2 ص 2- 4
الجمع بين المعيارين:
ويمكن لقاضي الموضوع، أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.
متى نلجأ إلى التقويم:
لا شك أننا لا نلجأ إلى التقويم في كل الأحوال، ولا عند وجود التراضي بين الأطراف وإنما نلجأ إليه عند وجود الغبن الفاحش الذي يلحق بأحد العاقدين سواء كان في عقد القرض، أم البيع بالأجل، أم المهر، أو غير ذلك من العقود التي تتعلق بالذمة ويكون محلها نقدا آجلا ثم تتغير قيمته من خلال الفترتين – فترة الانشاء وفترة الرد والوفاء تغيرا فاحشا، ويشهد لذلك ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من اعتبار الغبن الفاحش حتى في البيوع التي مبناها على المساومة (1) كما ذكر بعض العلماء مثل الرهوني أن التغير الكثير لا بد من ملاحظته حتى في المثليات فيجعلها من القيميات، وكذلك قال الرافعي وغيره في مسائل كثيرة – كما سبق.
(1) الأشباه والنظائر: ص 389.
معيار التغير الفاحش:
قبل أن نذكر هذا المعيار نرى فقهاءنا الكرام قد وضعوا عدة معايير لمقدار الغبن الفاحش الذي يعطي الخيار في الفسخ عندما يقع في البيع ونحوه.
يقول القاضي ابن العربي، والقرطبي وغيرهما:(استدل علماؤنا بقوله تعالى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (1) على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة في الدنيا، لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة
…
وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث واختاره البغداديون
…
، وأن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع
…
، إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير لا يمكن الاحتراز عنه لأحد، فمضى في البيوع
…
) .
ثم إن العلماء قد ثار الخلاف بينهم في تحديد الغبن الفاحش، فمنهم من حدده بما زاد على قيمة الشيء بالثلث، وبعضهم بنصف العشر، وبعضهم بالسدس، وذهب جمهورهم إلى معيار مرن قائم على ما يعده عرف التجار غبنا، وهذا الأخير هو الذي رجحناه (2) ونرجحه هنا أيضا في باب تقويم النقود الورقية، فما يعده التجار في عرفهم غبنا فهو غبن هنا أيضا، وإذا اختلفوا فالقاضي يحكم بما يرتاح إليه حسب الأدلة والظروف والملابسات التي تحيط بالقضية بعينها.
(1) التغابن: 29.
(2)
يراجع: رسالتنا الدكتوراه بكلية الشريعة بالأزهر: مبدأ الرضا في العقود، ط دار البشائر الإسلامية: 1/735.
زمن التقويم ومكانه:
إذا كنا قد رجحنا اعتبار القيمة في النقود الورقية حينما يكون هناك فرق شاسع بين القوة الشرائية لها عند إنشاء العقد وثبوتها في ذمة المدين، وبين إرادة ردها، فأي وقت نعتبر؟ هل نعتبر قيمة النقد يوم إنشاء العقد؟ وهل نعتبر مكان العقد؟ أم مكان الرد؟
والذي نرجحه هو رعاية القيمة يوم إنشاء العقد وقبض المعقود عليه ومكانه، أي تقوم النقود الورقية يومئذ كم كانت تساوي من الذهب، أو كم يشتري بها من السلع الأساسية، ثم على أساسها يرجع الدين، أو يوفي بما التزم به من مهر، أو ثمن المبيع الآجل أو غير ذلك، فلو دفع رجل قبل عشر سنوات (أي في 1977) لآخر مائة جنيه أو باع له أرضا بها، أو كان مهر زوجته مثل هذا المبلغ فالآن يقوم المبلغ المذكور على أساس عام (1977) كم يشتري به من الذهب، أو من السلع على ضوء أحد المعيارين السابقين، أو متوسط ما يشترى به من الذهب والسلع الأساسية، فلو كان هذا المبلغ المذكور في وقته كان يشترى به بقرة مثلا، فجيب عليه أن يرد مبلغا يشترى به بقرة، أو كان يشترى به عشرون غراما من الذهب عيار (21) فيجب عليه أن يرد ما يشترى به هذا القدر – وهكذا – إلا إذا تراضيا بالمعروف.
ويشهد لذلك أن جمهورا من العلماء ذهب إلى اعتبار القيمة في الفلوس، والنقود المغشوشة، حتى النقود الخالصة عند كسادها أو انقطاعها ذهبوا إلى أن المعتبر هو يوم إنشاء العقد والقبض، ومكانه، قال المرغيناني: (إذا اشترى سلعة وترك الناس التعامل بها
…
قال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها، ثم علل أبو يوسف ذلك بأن الضمان إنما تم بالبيع، وهو سببه فلابد إذن من اعتباره) (1) وقد رجح الكثيرون من الأحناف رأي أبي يوسف، قال المرغيناني:(وقول أبي يوسف أيسر) فعلق عليه ابن الهمام، والبابرتي فقالا:(لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها بخلاف ضبط الانقطاع، فإنه عسر فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك)(2) قال ابن عابدين: (وفي المنتقى إذا غلت الفلوس قبل القبض، أو رخصت
…
، قال أبو يوسف عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض
…
، وعليه الفتوى، هكذا في الذخيرة والخلاصة.. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء) (3)
(1) الهداية مع فتح القدير: 7/154.
(2)
فتح القدير، مع شرح العناية على الهداية: 7 /158 – 159
(3)
رسالة النقود: 2/60 – 61
وكذلك الأمر عند القائلين بالقيمة عند المالكية مثل ابن عتاب وابن دحون حيث أفتيا برعاية القيمة – في مسألة إلغاء السكة – يوم القرض (1) .
بل إن كثيرا من العلماء ذهبوا إلى اعتبار القيمة يوم العقد، ونشأة سبب الضمان في مسائل كثيرة، فقد ذكر لنا ابن نجيم منها: المقبوض على رسوم الشراء
…
فالاعتبار لقيمته يوم القبض، أو التلف ومنها المغصوب القيمي إذا هلك، فالمعتبر قيمته يوم غصبه اتفاقا، كذلك المغصوب المثلي إذا انقطع عند أبي يوسف، ومنها المقبوض بعقد فاسد تعتبر قيمته يوم القبض، لأنه به دخل في ضمانه، ومنها العبد المجني عليه تعتبر قيمته يوم الجناية، ومنها: ما لو أخذ من الأرز والعدس ونحوهما وقد كان دفع إليه دينارا مثلا لينفق عليه ثم اختصما بعد ذلك في قيمة المأخوذ
…
قال في التيمية: تعتبر قيمة يوم الأخذ
…
(2)
وقد صرح المالكية أن رد القيميات يكون برد قيمتها يوم العقد، قال خليل:(إن اختلف المتبايعان في جنس الثمن، أو مثمن، أو نوعه حلفا، وفسخ مطلقا ورد قيمتها في الفوات) قال الدردير: (وتعتبر القيمة يوم البيع، لا يوم الحكم، ولا يوم الفوات، وهذا إن كان مقوما
…
) وعلل الصاوي ذلك بقوله: (لأنه أول زمن تسلط المشتري على المبيع..) وذكروا أمثلة أخرى بهذا الخصوص (3)
وذكر السيوطي أمثلة كثيرة جدا روعيت فيها القيمة يوم القبض، منها مسألة ماء التيمم في موضع عز فيه الماء حيث تراعى قيمته في ذلك الموضع في تلك الحالة على الصحيح عند جمهور الأصحاب، كذلك الطعام والشراب حالة المخمصة، ومنها مسألة المبيع إذا تخالفا، وفسخ وكان تالفا يرجع إلى قيمته يوم القبض على رأي، لأنه مورد الفسخ، ويوم القبض، على رأي آخر، لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة، أو نقصان فهو ملكه، ومنها المستعار إذا تلف تعتبر قيمته يوم القبض على وجه، وكذلك المقبوض على جهة السوم، إذا تلف
…
(4)
(1) المعيار المعرب: 6 /461 – 462
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 362 – 364.
(3)
حاشية العلامة الصاوي على شرح الدردير على مختصر خليل: 2/528- 536.
(4)
الأشتباه والنظائر للسيوطي: ص 368 – 377.
قال النووي في مسألة رد القيمة في القرض بالقيمة: (يرد القيمة يوم القبض إن قلنا يملك به
…
) (1) وقال السيوطي: (وإذا قلنا: أنه يرد في المعدوم القيمة، فالمعتبر قيمة يوم القبض إن قلنا يملك به، وكذا إن قلنا يملك به، وكذا إن قلنا يملك بالتصرف في وجه)(2) .
وقد نص الإمام أحمد في الدراهم المكسورة بعد كسادها على أنه يقومها: كم تساوي يوم أخذها (3) قال صاحب المطالب: (ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض) . (4) وقال ابن قدامة (تجب القيمة حين القرض، لأنها حينئذ ثبتت في ذمته)(5) .
وقد نص إمام الحرمين والغزالي وغيرهما من فقهاء المذهب الشافعي على أن العبرة في حالة تغير النقد هو النقد الذي كان سائدا يوم العقد، ولا نظر لنقد يوم الحلول، وكذلك الثمن المؤجل إذا حل (6) وقال مالك:(لا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهما، ثم يأخذ منه بربع، أو ثلث، أو بكسر معلوم: سلعة فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم، وقال الرجل: آخذ منك بسعر كل يوم فهذا لا يحل لأنه ضرر يقل مرة، ويكثر مرة ولم يفترقا على بيع معلوم)(7) وهذا الكلام يدل على اعتبار سعر معلوم عند بداية التصرف.
وبعد هذا العرض والتأصيل يظهر لنا رجحان ما ذهبنا إليه وهو اعتبار القيمة يوم العقد والقبض، وهو أدنى إلى تحقيق العدالة وأقرب إلى القسط، وأيسر، وذلك لأن المقرض، أو البائع قد خرج المال من عهدته في ذلك الوقت، ودخل في ذمة المدين والمشتري، وحينئذ يكون له الحق في أن يشتري به شيئا آخر، ولذلك قال أحد الفلاحين المصريين بفطرته:(دفعت لك ثمن جاموسة فرجع إلى ما أشتري به مثلها، ويكفي أنك استفدت به كل هذا الوقت) قال ذلك عندما جاء.. إليه شخص من أقاربه وطلب منه دينا، فباع الفلاح جاموسته بمبلغ ودفعه إليه بالكامل، ثم بعد عشر سنوات جاء الرجل ورد عليه المبلغ الذي ما كان يشتري به الآن ربع جاموسة فأنطقته فطرته السليمة هذا القول (8) .
(1) الروضة: 4/37.
(2)
الأشباه والنظائر: ص 371
(3)
المغني لابن قدامة: 4/360
(4)
مطالب أولي النهى
(5)
المغني: 4/353
(6)
النهاية لإمام الحرمين، ملحوظة: 71/ 288، نقلا عن الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب في كتابه القيم: فقه إمام الحرمين: ص 42. وراجع الوسيط للغزالي مخطوطة طلعت: 2/148.
(7)
الموطأ: ص 403.
(8)
حكى لنا هذه القضية أستاذنا الدكتور القرضاوي حفظه الله.
حل آخر:
بالإضافة إلى هذا الحل الذي ذكرنا، فإنه يمكن للمتعاقد الذي ثبت له نقود في ذمة الآخر آجلا أن يشترط أن يكون الرد بما يساويه من أي نوع آخر. أو أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلا عشرة آلاف جنيه قرضا لخالد، أو أن يبيع له أرضا بها، ثم يقدرونها بما يساويها من نقود أخرى ثابتة، أو سلع أساسية ليعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع فيأخذ الدائن حقه بدون بخس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد سواء كان قرضا، أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي 800 وحدة شرائية فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة بغض النظر عما إذا كان مبلغ الدين عن السداد له هذه القيمة أو أقل أو أكثر (1) .
وهذا الشرط ليس فيه – حسب نظري – أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلك لأنه ليس شرطا جر منفعة للدائن، بل هو يحقق العدالة للطرفين، وليس ممنوعا في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة – إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا أنها قيمية فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد.
وهذا الشرط مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه بدون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضمانا له من مخاطر الطريق وهو ما يسمى بالسفتجة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإسلام: (والصحيح الجواز، لأن المقترض رأى النفع بأن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقرض فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم، ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم
…
) (2) والشرط الذي معنا ليس فيه غرر، ولا يؤدي إلى جهالة، ولا ربا، ولام منازعة بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها في وقت أصبحت التقلبات الكبيرة سمة عصرنا فحينئذ يكون كل واحد يعرف ما له وما عليه، بالإضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإباحة عند جمهور الفقهاء (3)
(1) د. شوقي دنيا: البحث السابق ص 70، وما بعدها.
(2)
مجموع الفتاوى: 29/455- 456.
(3)
يراجع مبدأ الرضا في العقود، ومصادره: 2/ 1186.
باب التراضي مفتوح:
كل ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما عند سداد الدين أو الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان، فإن أحدا من الفقهاء لا يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، القدوة في ذلك، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم:أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرا، فقال:((أعطوه)) فقالوا: لا نجد إلا سنا أفضل من سنه، فقال:((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) (1) .
فعلى هذا إذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئا بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه، وقدرته الشرائية، فطيب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلفة أخرى فقد فعل الحسن، طبق السنة، بل إنني أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق، لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإسلام على التراضي، وطيب النفس بنص القرآن الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) فكيف تطيب نفسه عندما يقع محتواه، صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أشغله دون مقابل محتسبا أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، إما إذا تعيبت فلا يصح ردها (3) ، فكذلك الأمر هنا.
فلا شك أن مسألة التراضي تحل كثيرا من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإحسان والإيثار مثل المجتمع الإسلامي الذي يقوم على معيار دقيق وهو (أن تحب لأخيك كما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك)(4) .
فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دينه، أو يعطى لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة، فهل يرضى أحد أن تعود إليه ليراته اللبنانية، أو السورية، أو التركية الآن مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟
هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط بل يعتني أيضاً بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب ليس دنيويا فقط بل هو في الدنيا والآخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحل والحرمة والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي.
(1) صحيح البخاري – مع الفتح –: 5/56 – 59 – ومسلم: 3/1224.
(2)
[سورة النساء: الآية 29، وراجع مبدأ الرضا في العقود، وراجع: الأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق: ص 68]
(3)
انظر الروضة: 4/35، والمغني لابن قدامة: 4/360.
(4)
فقد روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة يراجع صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الإيمان: 1/ 57، وأحمد: 2/ 310.
اعتراضات ودفعها:
* الاعتراض الأول:
إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال وهي ربا وهو حرام بنص القرآن؟ مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات آلاف ليرة، فلو قدرنا بالقيمة يكون الرد يساوي مائة ألف ليرة، وهذا عين الربا.
الجواب عن ذلك أن ذلك ليس زيادة ولا ربا لما يأتي:
أولا: أن الربا هو الزيادة دون مقابل، والزيادة الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد وهذا ليس له أثر، فالزيادة التي وقعت عند التقويم هي ليست زيادة، وإنما المبلغ المذكور أخيرا هو قيمة المبلغ السابق، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة.
ثانيا: أن الربا هو الزيادة المشروطة، وهنا لم يشترط الدائن مثلا أية زيادة، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفع، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه – مثلا – وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض.
ثالثا: أنه يمكن أن نشترط مثلا أن يكون الرد بغير العملة التي تم بها العقد في حالة الزيادة، فمثلا لو كان محل العقد ليرة لبنانية فليكن الرد عند الزيادة أو النقص بالريال، أو بالدولار، أو بالجنية، وهكذا
…
فاستيفاء الدراهم بدلا من الدنانير، وبالعكس أمر معترف به عند الجمهور.
ثم إن هذه المسألة ليست بدعا في الأمر، ولا هي من المسائل التي لا نجد فيها نصا لفقهائنا السابقين في أشباهها، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الإسلامي نذكر بعضها هنا:
يقول الإمام الرافعي: فإذا أتلف حليا وزنه عشرة، وقيمته عشرون فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه.
أولها: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها سواء كان ذلك نقد البلد، أو لم يكن، لأننا لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا.
وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن كان من جنسه (1) .
ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات – كما سبق، ونجد كذلك في باب العقود عند مالك حيث أجاز أن يعطي الإنسان مثقالا وزيادة في مقابل دينار مضروب، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوازن، أو بالدينارين، وروي مثل ذلك عن معاوية – رضي الله عنه – يقول ابن رشد: (وأجمع الجمهور على أن مسكوكه، وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلا لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر، والمصوغ، لإمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه
…
) (2) .
والمقصود بهذا النص أن الزيادة ما دام لها مقابل لا تعتبر ربا، لأن الربا هو: الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي من عوض شرط فيه (3) .
رابعا: كل هذا إذا قلنا بمثلية النقود الورقية، أما إذا قلنا: إنها قيمية فلا شك أن الرد يكون فيها بالقيمة – كما سبق – وحينئذ لا يلاحظ العدد، بل القيمة، ولذلك لم يجوز الفقهاء بيع درهم بدرهمين، ولكنهم أجازوا بيع حيوان بحيوانين وأكثر، لأن الحيوان مما يختلف حسب أوصافه قيمة، فقد روى البخاري في صحيحه تعليقا – بصيغة الجزم – أن ابن عمر اشترى راحلة بأربعة أبقرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة، وقال ابن عباس: قد يكون البعير خيرا من بعيرين، واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غدا رهوا إن شاء الله وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان: البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل، وقال ابن سيرين: لا بأس ببعيرين (4) وروى مالك روايات كثيرة في هذا الباب منها أن علي بن أبي طالب باع جملا له يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل (وعن ابن عمر أنه باع راحلة له بأربعة أبقرة)(5) وكذلك قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يجهز جيشاً، فقال، ليس عندنا ظهر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((ابتع لي ظهرا إلى خروج المصدق)) وروي نحو عن زيادة بن أبي مريم (6) قال ابن بطال: وهذا مذهب جمهور الفقهاء (7) .
وروي ذلك عن مجاهد وحماد وغيرهما (8) ونحن لا نقصد بهذه النصوص أن يجوز بيع ريال قطري بريالين، فهذا لا يجوز، وإنما لمجرد بيان رعاية القيمة، والسبب في عدم جواز ريال قطري بريالين، وجواز بعير ببعيرين هو أن الريال لا يختلف جودة ورداءة في آن واحد ولذلك ففي حالة البيع النقدي وجدت زيادة بدون مقابل، أما البعير فهو مما يختلف جودة ورداءة ولذلك يتلاشى الفرق مع رعاية هذه الاعتبارات، ولذلك نحن نؤكد على أن النقود الورقية إن كان لها شبه بكثير من الأمور السابقة، لكن لها ميزة خاصة وتكييف خاص، وهو رعاية واقعها وقيمتها الحقيقة، ولذلك عند فقدها لا يظهر فرق، ولكن عندما يوجد فرق شاسع فلابد من رعايته والله أعلم..
(1) فتح العزيز: 11/279 – 280.
(2)
بداية المجتهد: 2/196.
(3)
فتح القدير: 7/8.
(4)
صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع العبد والحيوان بالحيوان نسيئة: 4/419.
(5)
الموطأ، كتاب البيوع: ص404.
(6)
المصنف لعبد الرزاق: 8/22- 23.
(7)
فتح الباري: 4/419، وراجع: فتح القدير: 7/11.
(8)
مصنف ابن أبي شيبة: 7/120 ح ومصنف عبد الرزاق: 8/37.
الاعتراض الثاني:
أن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد وبالتالي تترتب عليه مشاكل لا عد لها ولا حصر.
الجواب عن ذلك: أننا لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى تحطيم النقود، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها محصورا بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة، وهذا لا يضر، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين أن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعا، أو لا تؤديها على شكل مقبول، كما أنهم الآن وسعوا مفهوم النقد ليشمل أنواعا كثيرة لا يؤدي بعضها إلا وظيفة واحدة – كما سبق – مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بأن الفلوس ثمن ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب، أو الفضة.
ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة، لكننا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنها نقود وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف وتربط إما بمعيار الذهب أو معيار السلعة فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر، بل هي تحقق العدالة، بالإضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائما، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي يكون الثمن فيها مؤجلا إلا في حالة الغبن الفاحش، كما سبق.
الاعتراض الثالث:
لماذا لا نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة، والحنطة والشعير ونحوهما في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية؟
الجواب عن ذلك: أن القضية تتعلق بالمثلي والقيمي، حيث لا ينظر في المثلي إلى القيمة، وأما القيمي فيلاحظ فيه القيمة – كما سبق –.
ونحن قلنا: إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ولا إلغاء نقديتها، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه.
ومن هنا فهي إما قيمية أو مثلية ولكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة كالماء الذي أخذه الإنسان في الصحراء فلا يرجع له الماء، وإنما تجب عليه قيمته في ذلك المكان.
وفي الختام هذا ما اطمأنت إليه نفسي، وأدى إليه اجتهادي المتواضع فإن كنت قد أصبت فمن الله، وإلا فعذري أنني بذلت ما في وسعي، ولم أرد به إلا وجه الله تعالى.
ومع ذلك فما أقوله عرض لوجهة نظري، أرجة أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل للوصول إلى حل جذري أمام هذه المشكلة، وأن يتفضلوا بملاحظاتهم السديدة.
وكلمة أخيرة أكررها أنه ليس هناك من محيص للخروج من هذه الأزمات الحادة إلا بالرجوع إلى النقدين الذاتيين، أو على الأقل ربط نقودنا الورقية بالغطاء الذهبي، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين، بل بعض المؤتمرات – كما سبق –، فلا شك أن ربك النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلابد أن يلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الحاجة حتى نحقق العدالة " دون وكس ولا شطط ".
والله الموفق وهو من وراء القصد، والهادي إلى سواء السبيل.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي