الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منزلة العرف في التشريع الإسلامي
إعداد
الشيخ محمد عبده عمر
باحث علمي
في المركز اليمني للأبحاث والثقافة
بوزارة الإعلام والثقافة – عدن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم.
وبعد:
فهذا بحث في موضوع: "العرف" مقدم إلى الدورة الخامسة. لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الذي سيعقد بدولة الكويت الشقيق. من 10-15 ديسمبر 1988م. بقلم محمد عبده عمر: عضو المجمع.
وقد وضعت خطة البحث كالآتي:
1-
الفصل الأول: تعريف: العرف في الاصطلاح اللغوي والفقهي.
2-
الفصل الثاني: منزلة العرف في التشريع الإسلامي.
3-
الفصل الثالث: دور العرف في الفقه الإسلامي والشروط التي قيد بها الفقهاء.
4-
الفصل الرابع: النظرة الفقهية بين الفقهاء للعرف اللفظي والعملي بين المذاهب.
وقبل الدخول في صلب البحث ننقل بعض العبارات الفقهية لكبار العلماء المجتهدين نصًّا:
قال الشهاب القرافي في كتاب الفروق 28 – المسألة الثالثة / 177، ما نصه:"الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" ويقول ابن القيم رحمه الله في فصل تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة ومصالح كلها وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسد وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل". إعلام الموقعين: 1/ 936؛ المدخل، للزرقاء.
الفصل الأول
تعريف: العرف في الاصطلاح اللغوي والفقهي
العرف لغة:
هو التتابع الذي ينشأ من العادة التي تستقر في نفس الشخص من تكرار أمر معين من الأمور، تعارف الناس هذه العادة وقلدوها وتكررت محاكاتهم لها في مكان معين أو بين طائفة معينة أو أبناء مهنة معينة صارت هذه العادة عرفًا أي استقر عليها العمل جيلًا بعد جيل، وكما يجري العرف اللغوي في الأفعال يجري بالأقوال أيضًا، فالإنسان بطبيعته مضطر إلى التفاهم مع من يعيش بينهم ولا بد من التعبير بها حتى تصبح لغة عامة بينهم، ثم بتوسع الصناعات والعلوم يصبح التعبير باللغة العامية الأصلية في هذه الصناعات والعلوم. ولهذا السبب نجد أهل الحرف أو العلوم يلجؤون إلى استعمال لغة وألفاظ خاصة بهم يصطلحون عليها بطريق الابتداء أو بطريقة التداول المتكرر للدلالة على معان وأشياء تفهم بسهولة من هذه الألفاظ الاصطلاحية التي لا يقوم مقامها في الدلالة إلا شرح طويل، ولا بد من التعبير بالألفاظ التي هي أصوات اعتاد الناس التعبير بها، وغالبًا ما يكون أصل الألفاظ العرفية مجازات لغوية لا يفهم المراد منها إلا بقرينة، ثم يتكرر استعمالها فتصير مجازات مشهورة ومنتشرة بين الناس ثم يزداد شيوع الاستعمال حتى يفهم منها المراد بدون قرينة وبنفس الوقت تهجر معانيها الحقيقية.
نخلص مما تقدم: بأن العرف في الحقيقة اللغوية عادة الجماعة المتكررة في فعل أو قول من غير علاقة أو رابطة ذهنية مسبقة (1) .
أما في الاصطلاح الفقهي:
فقد عرفه الفقهاء بأنه عادة جمهور قوم في قول أو عمل: ثم توسعوا في تعريفهم للعرف، فقالوا: إن العادات التي تنتشر في البلاد وبين الناس أو بين أصناف مخصوصة من الناس لا تنشأ عن سبب واحد ولكن معظم هذه العادات إنما تنشأ عن الحاجة التي تعرض للناس لظروف خاصة بهم تدعوهم إلى عمل خاص فيما بينهم فيتكرر العمل حتى يصبح عرفًا، ومعلوم بأن للعادات والأعراف سلطانًا قويًّا على النفوس وتحكم العقول فمتى رسخت هذه العادة اعتبرت من ضروريات الحياة.
(1) انظر محمد زكريا البرديسي. أصول الفقه: ص329؛ الزرقا، المدخل: ص849؛ محمد موسى، المدخل: ص192-195
ومن هنا قال بعض علماء النفس إن الأمر بكثرة تكراره تألفه الأعصاب والأعضاء ولا سيما إذا اقتضته الحاجة حتى يكون طبيعة ثانية للإنسان. وهنا نجد التطابق بين نظرة علماء النفس والسادة الفقهاء، الذين يقولون: بأن نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيمًا. ويعنون بذلك: العادات التي لا تعارض كتابًا ولا سنة ولا مصلحة عامة للمجتمع أما العادات التي تتعارض مع الكتاب والسنة أو مع المبادئ الشرعية العامة أو دليل من أدلتها فإنه لا عبرة لها إلا أن فقهاء الإسلام يرشدون بعدم أخذ الناس بغير الوسائل التربوية التي جاء بها الإسلام، والأخذ بالأسلوب التدريجي لتحويلهم عن مفاسد عاداتهم وأعرافهم. وفي هذا المعنى جاء قول السيدة عائشة رضي الله عنها واصفًا سياسة التشريع الإسلامي: إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة فيها ذكر الجنة والنار ولو نزل لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنى ولكن نزلت سورة فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى رشدهم نزل بعد ذلك الحلال والحرام. ولما كانت العادة وليدة الحاجة، والحاجة تختلف باختلاف في البيئة والمكان والزمان انقسم العرف في اصطلاح الفقهاء إلى عرف عام وإلى عرف خاص تبعًا لمدى انتشاره بين الناس سواء من حيث الوسط الاجتماعي أو من حيث المكان يقول الفقهاء: إن العرف يجري بين الناس في أعمال معينة وألفاظ وتراكيب لغوية معينة في معنى معين. ومن هنا كان العرف في اصطلاح الفقهاء عرفًا عمليًّا وعرفًا لفظيًّا أو قوليًّا وهو – أي العرف – تابع للعادة وناشئ عنها والعادة قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة فيأتي العرف حسنًا أو قبيحًا لذلك، ونخلص مما تقدم إلى أن العرف في اصطلاح الفقهاء: هو ما اعتاده الناس وألفوه وساروا عليه في أمورهم فعلًا كان أو قولًا دون أن يعارض كتابًا ولا سنة. وواضح من هذه الخلاصة بأن العرف في اصطلاح الفقهاء يختلف عن الإجماع وعن الاستحسان والاستصحاب للأصل.
* * *
الفصل الثاني
منزلة العرف في التشريع الإسلامي
لما كانت الشريعة الإسلامية لها مقاصد معينة شرعت وأنزلت من أجلها: وهو جلب المنافع للناس ودفع الضرر عنهم كان الشارع الحكيم هو وحده الذي يحدد معيار النفع والضرر أو الصلاح والفساد، ومن ثم فإن فقهاء التشريع الإسلامي أجمعوا على أن العرف الصحيح الذي يحتج به هو العرف الذي يتفق ومقاصد الشريعة ولا يخالف الشريعة ولا يخالف دليلًا أو أصلًا شرعيًّا. كما وضعوا له شروطًا أخرى سنعرض لها في مواضعها من هذا البحث إن شاء الله. أما مستند العرف فقد استدل الفقهاء على أنه مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بأدلة منها قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 87 من سورة الحج] .
فالآية الكريمة في رأي الفقهاء تشير إلى أن المشرع إذا لم يراعِ عند تشريع الأحكام ما تعوده الناس وعرفته العقول الناضجة والفطر السليمة مما لا يعارض كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا، أو وضع الناس في الضيق والمشقة والحرج. ومن هنا فإن اعتبار العرف مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامى راجع إلى أصل رفع الحرج الثابت بالآية الكريمة. أما السنة فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) (1) ، فالحديث يدل على أن الأمر الذي يجري عليه المسلمون يعتبر من الأمور الحسنة عند الله يرجع إليه ويعمل به.
واتفق فقهاء التشريع الإسلامي على أن العرف مستند عظيم لكثير من الأحكام الفقهية العملية بين الناس في شتى شعب الفقه وأبوابه، وأن العرف في نظر الشريعة الإسلامية له سلطان واسع المدى في توليد الأحكام وتجديدها وتعديلها وتحديدها وإطلاقها وتقييدها لأن العرف وليد الحاجة المتجددة والمتطورة حتى يكون العرف بطبيعته نظامًا حاكمًا تدور به وعليه عجلة المعاملات بين الناس ويكشف عن معاني كلامهم ومراميه ويرسم حدود الحقوق والالتزامات، ويوضح محجة القضاء، ويثري كثيرًا من النصوص التفصيلية في الأحكام التشريعية والالتزامات اعتمادًا على ما هو معروف ومألوف في شتى الوقائع والأقضية كما يغني نصوص التشريع والتقنين التي لا تستوعب جميع الوقائع التفصيلية الواقعة والمحتملة، خاصة وإن كثيرًا من الأحكام الفقهية مبني على العرف ويتبدل فيه الحكم بتبدل العرف بحيث لا يمكن بدون العرف ترتيب حكم ثابت فيه.
(1) انظر الاعتصام، للشاطبي: 2 /99، ومابعدها
والمتتبع لكتب الفقه الإسلامي قلما يجد بابًا من أبواب الفقه لا يكون فيه للعرف مدخلًا أساسيًّا في أحكامه حتى فقه الجرائم والجنايات، ومعلوم بأن الأحكام الاجتهادية التي يقف عليها الفقهاء المجتهدون استنباطًا وتخريجًا عند عدم النص الشرعي، إما أن تكون ثابتة بطريق القياس النظري على حكم أوجبه الشارع بالنص لاتحاد العلة بين الحكم المقيس عليه والمقيس، وإما أن تكون ثابتة بطريق الاستحسان أو الاصطلاح عندما لا يوجد حكم مشابه منصوص يقاس عليه كما أن الاجتهادات الإسلامية تكاد تكون متفقة على أن الحكم القياسي يترك للعرف ولو كان عرفًا حادثًا لأن المفروض عندئذٍ أن هذا العرف لا يعارضه نص خاص ولا عام معارضة مباشرة. والعرف في نظر الفقهاء دليل الحاجة فهو أقوى من القياس فيترجح عليه عند التعارض. ومعلوم بأن ترجيح العرف على القياس يعتبر عند الحنفية والمالكية من قبيل الاستحسان الذي تترك فيه الدلائل القياسية لأدلة أخرى منها العرف، وإذا كان العرف يترجح عند السادة فقهاء الأحناف والمالكية على القياس الذي يستند إلى نص تشريعي غير مباشر فهذا يدل دلالة واضحة على أن العرف يترجح أيضًا على الاستصلاح الذي لا يستند إلى نص بل مجرد المصلحة الزمنية التي هي عرضة للتبدل بحسب اختلاف الأزمنة وما يجد فيها من أوضاع ومقتضيات. ومن هنا نص الفقهاء على أن نصوص التشريع تنبئ بأن العرف في ميدان الأفعال والمعاملات له السلطان المطلق والسيادة التامة في فرض الأحكام وتقييدها وتحديد آثار العقود والالتزامات على وفق المتعارف عليه في كل موطن لا يعارض فيه العرف نصًّا تشريعيًّا. فالعرف عندئذٍ يعتبر مرجعًا ومنبعًا خصبًا للأحكام. ونخلص مما تقدم بأن العرف الصحيح يعتبر مصدرًا أساسيًّا من المصادر التبعية للتشريع الإسلامي وينبوعًا لمعرفة القرائن العرفية ومسائل تغير الزمان الذي تتبدل فيه الأحكام بحسب الأحوال والأخلاق العامة وأن العرف مقدم على القياس المستند إلى الشبه الذاتي في العلل بين الأحكام المنصوص عليها والأحكام المقيسة ويتضح لنا أيضًا بأن الأحكام القياسية تتبدل بتبدل العرف عندما تكون علة القياس نفسها مبنية على العرف فعندئذٍ يكون هذا التبدل في الحكم تبعًا لتبدل العرف ليس خروجًا على القياس بل تمشيًّا معه.
الفصل الثالث
دور العرف في الفقه الإسلامي
والشروط التي قيده بها الفقهاء
مما لا شك فيه بين فقهاء التشريع الإسلامي، بأن العرف قد قام بدور هام في تفسير ألفاظ الأحكام وإنشاء أحكام جديدة وتعديل أحكام قائمة. ومن هنا قال علماء الأصول بأن ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه ولم يكن معارضًا لكتاب ولا سنة تجب مراعاته عند التشريع وعلى المجتهد أن يجعله نصب عينيه وعلى القاضي أن يفطن إليه ويبني قضاءه عليه لأن القرآن والسنة المطهرة قد راعيا الصحيح من عرف الناس، فأقرا الكثير من الأمور التي تعارف عليها الناس قبل الإسلام بعد أن هذبها وأدخل عليها بعض الإصلاحات، ففرض الدية على العاقلة وبنى الإرث على القرابة حتى صار العرف الصحيح الذي يتفق مع مقاصد الشريعة أصل من الأصول التي اعتمد عليها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في الفتاوى والأحكام، حتى جرى عرفًا على ألسنتهم وفي مؤلفاتهم قولهم: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وقولهم: العرف عادة محكمة ونحن إذا استقصينا مذاهب الأئمة المجتهدين نجد أن فيها الكثير من الأحكام التي روعي فيها العرف الصحيح، فهذا المذهب المالكي نجده من خلال فقه المذهب يبني الكثير من أحكام على عمل أهل المدينة، وهذا هو رأي الإمام مالك رأي عنه ورأي أتباع المذهب من بعده، وليس لهم مستند غير العرف الذي ساروا عليه وألفوه أهل المدينة بعد عصر النبوة. كما نجد الإمام الشافعي رضي الله عنه يغير بعض الأحكام التي كان قد قال بها وذهب إليها عندما كان في بغداد بعد أن استقر به المقام في مصر وذلك بناء على اختلاف العرف في البلدين، كما نجد الأحناف يراعون العرف في كثير من الأحكام ففي المذهب نجد بأنه إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما، فالقول عندهم يكون لمن يشهد له العرف وإذا اختلف الزوجان على المقدم والمؤخر من الصداق (1) فالحكم عندهم للعرف.
وفي المذهب أيضًا أن من حلف ألا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لا يحنث بناء على العرف بل نجد الحنفية يختلفون على أنفسهم في حكم المسألة الواحدة تبعًا لاختلاف العرف؛ فقد روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان بينما يرى الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني بأن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق من غيره.
(1) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم آخر كتاب القضاء، المراجع السابقة؛ الزرقاء: ص853 - 868
وهذا الخلاف العرفي عندهم مبني على تباين العرف في العصرين، ففي عصر أبي حنيفة لم تكن القدرة والمنعة إلا السلطان وفي عصر الصاحبين صار كل ظالم قادر على إيقاع ما هدد به من الأذى والمكروه. ومن ذلك ما عرف من اتفاق علماء الحنفية القدامى من عدم جواز أخذ الأجرة على الإمام في الصلاة وعلى الأذان، لأن الأذان عبادة وطاعة لا يجوز أخذ الأجرة عليه وهذا الحكم من عدم أخذ الأجرة على الإمامة في الصلاة مبني على العرف؛ إذ كان العرف يقضي بأخذ الأئمة في الصلاة هبات من الملوك والحكام فلما انقطعت تلك الهبات من بيت المال وتغير الحال أباح المتأخرون من الحنفية أخذ الأجرة على الطاعات ومنها الإمامة في الصلاة والأذان وتعليم القرآن فنجد أن تغاير الحكم بين العلماء القدامى والمتأخرين منشؤه اختلاف في العرف في زمانهما والمتتبع لفتاوى الفقهاء وأحكامهم يجسد البعض منهم من يخصص النص أو القاعدة الفقهية العامة بالعرف، ومن هذا الباب أجازوا الاستصناع لجريان العرف به وإن كان مخالفًا للقواعد العامة التي تقضي بوجود المعقود عليه مخصصين هذه القاعدة العامة بالعرف، وقد أجاز الحنفية بيع مكيف الهواء بشرط تعهد البائع بإصلاحه مدة معينة مع أن هذا مخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البيع وشرط، وذلك منهم تخصيصًا للنص بالعرف. وذلك أن العرف قد جرى على اعتبار ذلك: أي ذلك الشرط في العقود والتصرفات.
وقد جاء كثير من أحكام النصوص الشرعية يدعم العرف في كيفية طرق التعامل الذي تقتضيه طبيعة المجتمع الإنساني منتقيًا لأكمل ما كان موجودًا منها في تحقيق الغرض المقصود منه. ومن المسلم به بأنه قد كان للأمة العربية التي نزل عليها القرآن وظهر فيها التشريع الإسلامي أعرافًا يحكمون بها ويسيرون عليها كما كانت لهم ضوابط يرجعون إليها في خصوماتهم وقضائهم، فجاء الإسلام فهذب فيها وعدل وألغى وبدل. وليس في ذلك ما يضر بالتشريع الإسلامي واستقلاله في التشريع خاصة إذا علمنا بأن الإسلام دين يراد به تدبير مصالح العباد وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق ولم يأتِ ليهدر كل ما كان عليه الناس ليؤسس على أنقاضه بناءً جديدًا لا صلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع، وإنما كان ينظر إليها من جهة ما فيها من مصالح ومضار، فما كان منها صالحًا أبقاه وأقره، وما كان منها ضارًا مفسدًا للمال أو للاجتماع نهى عنه وحرمه، وما احتاج منها إلى التنقيح والتهذيب أدخل عليه من التهذيب ما جعله صالحًا كفيلًا بصلاح الناس، وقد يقر الشيء نظرًا للتعامل الشائع ويشرع من جانب آخر ما يوحي بإنهائه أو بعدم الرغبة فيه، وذلك كما صنع في الرق الذي لم يأتِ به الإسلام بل كان عرفًا متعارفًا عليه قبل مجيء الإسلام وحث على العتق وتحرير العبيد وطلب في مواضع كثيرة تكفير الذنوب والخطايا بالعتق مثل أحكام كفارة اليمين والقتل الخطأ والإفطار في رمضان والظهار، ورتب عليه في ذاته درجات عظيمة من المثوبة عند الله وأباح أيضًا قتل الأسرى جريًا على قاعدة المعاملة بالمثل، ولكن لم يجعل التشريع الدائم، وإنما جعل التشريع الدائم فيها المن والفداء، ومثال ما ألغاه من الأعراف الفاسدة كنظام التبني الذي كان متعارفًا عليه بالجاهلية.
ومن المقرر في فقه الشرعية أن لتغيير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الاجتهادية التي تنظم ما أوجبه الشرع من تحقيق إقامة العدل بين الناس وجلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم، وبالتالي فإن هذه الأحكام الاجتهادية ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة فكم من حكم اجتهادي كان تدبيرًا وعلاجًا ناجعًا لبيئة في زمن معين فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق، ومن هنا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهائهم، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين ورأوا اختلاف الزمان والأخلاق لعدلوا إلى ما قاله المتأخرون.
إن مما تقدم بيانه من الاعتبار الشرعي للعرف وماله من سلطان في ميدان الأحكام العملية بين الناس توليدًا وتحديدًا مشروطًا بشرائط يجب توافرها في العرف لكي يكون له هذا السلطان، وتلك الشرائط التي يذكرها الفقهاء والأصوليون في مناسباتها المختلفة هى:
(1)
أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا. (2) أن يكون العرف مقارنًا أو سابقًا. (3) أن لا يخالف دليلًا أو أصلًا من أدلة وأصول الشريعة الإسلامية. ويقصد بالمراد العرف: بأن يكون جريان العمل به حاصلًا في أكثر الحوادث وغالبًا في معاملات الناس ويستوي في ذلك أن يكن العرف خاصًّا ببلد معين أو أبناء مهنة معينة أو يكون عامًا منتشرًا بين جميع الناس في سائر البلاد الإسلامية. ويقصد بكون العرف مقارنًا أو سابقًا: أن يكون العرف الذي يحكم الواقعة موجودًا وقت وجودها حتى يصبح حملها عليه، وعلى ذلك فلا عبرة بالعرف الطارئ ويستوي في ذلك العرف اللفظي والعرف العملي سواء كان عرفًا خاصًّا أم عامًّا..
الفصل الرابع
النظرة الفقهية بين الفقهاء
للعرف اللفظي والعرف العملي بين المذاهب
لقد نظر الفقهاء والأصوليون إلى العرف اللفظي نظرة اعتبار فقهية، وأن معنى لفظ المتكلم ينصرف إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعنى الحقيقي لها في اللغة والمعنى الاصطلاحي لها في الفقه، فإن الحقيقة تترك للدلالة على العادة وهذا ما قرره ابن عابدين: 2 /133. من الرسالة حيث قال: يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالفت لغة العرب ولغة الشارع وينبني على ذلك أن ما تعارف عليه العوام من أساليب تفيد معنى العقد أو تعليقه أو تنجيزه أو معنى الإذن أو الإجارة إلخ.
يعتبر هو المعنى المقصود ولو خالف المعنى اللغوي في الفصحى وبطبيعة الحال يختلف معنى اللفظ في اللغة العامية من مكانٍ إلى آخر فتكون العبرة في كل مكان يعرفه في التخاطب والعبرة في المعنى العرفي بالمعنى الموجود وقت صدور التصرف القانوني وعلى ذلك فالألفاظ التي تصدر عن التصرف في التصرفات القانونية سواء كانت تتم بإرادة منفردة كالوصية أم بإرادتين كعقود المعارضة. فإنها تحمل على المعنى العرفي لهذه الألفاظ وتفسر النصوص والتصرفات التي تمت في ظل العرف القديم على المعنى القديم. أما التصرفات التي تتم في ظل المعنى العرفي الجديد فإن ألفاظهما تفسر في ضوئه، وهذا ما عبر عنه ابن نجيم في الأشباه والنظائر 1 /122. بقوله: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر ولذلك قالوا لا عبرة بالعرف الطارئ. وبالمثل يجب أن تفهم النصوص التشريعية بحسب تداولها اللغوي والعرفي وقت صدور النص ولا عبرة بتبدل مفاهيم الألفاظ نتيجة لعرف متأخر ولذا قال القرافي: إن دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ فكما أن عقد البيع يحمل فيه الثمن على النقود المعتادة ولا عبرة في عقد البيع لتبدل العادات بعده في النقود. وكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر فيها إلا ما قارنه من العادات.
والحال كذلك في النظرة الفقهية للأعراف العملية فما يعد عيبًا في البيع وما يعتبر من توابعه
…
إلخ. يرجع فيه إلى العرف الجاري وقد صدور البيع لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطا ولا عبرة بما يحدث من تغيير في العرف في وقت لاحق، وهذه القاعدة عبر عنها الفقهاء في كتبهم بصيغ مختلفة منها قولهم الثابت بالعرف كالثابت بالنص ونحو ذلك. غير أنه يجب التنبيه هنا على القاعدة القائلة والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (1) .
(1) الشرح على ابن نجيم 1 /474، 4 /358، 482
ذلك أن المتتبع لكتب الفروع الفقهية يجد أن الفقهاء قد وضعوا قيدًا هامًّا هو أن لا يصدر عن المتعاقدين تصريح بخلاف العرف، فإن صدر هذا التصريح وجب العمل به وترك العرف. وعللوا ذلك. بأن تطبيق ما يجري عليه العرف يرجع إلى أن سكوت المتعاقدين عن ذكره صراحة إنما حدث اعتمادًا على مقصودهما وبطلت القرائن الأخرى المخالفات للعرف. ويكون العرف هنا من قبيل الدلالة فإذا أصدر تعبير صحيح عن المتعاقدين أو أحدهما دل ذل على مقصودهما أيضًا وبطلت دلالة العرف لأن القواعد المقررة عند الفقهاء أنه لا عبرة للدلالة في مقابل التصريح، ولذلك قالوا بأن كل ما يثبت بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح.
فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب ويقطع المنفعة لزمه ذلك.
وقد نص الشرط الثالث من الشروط المتقدم ذكرها: بأن لا يخالف العرف دليلًا أو أصلًا شرعيًّا. ومخالفة العرف للدليل أو أصل شرعي تظهر في حالات ثلاث: 1- مخالفة نص خاص في الكتاب أو السنة. 2- مخالفة نص عام. 3-مخالفة حكم بني على الاجتهاد: القياس: الاستحسان. المصالح المرسلة
…
إلخ.
1-
مخالفة العرف لنص تشريعي خاص:
حرم الشارع بعض صور المعاملات التي جرى عليها العرف في العصر الجاهلي وخص هذه التصرفات بنصوص وردت بخصوصها. ومن أمثلة ذلك تحريم التبني: بيع المنابذة والملامسة وإلقاء الحجر. وتحريم استرقاق المدين ومنع زواج الشغار
…
إلخ. والقاعدة الفقهية أنه لا عبرة بمثل هذا العرف ولو كان عرفًا عامًّا لأنه يخالف مقاصد الشريعة.
وبالتالى فإن نهي الشارع عن هذه الأعراف يعتبر دليلًا على أنها ضارة للمجتمع ولا تحقق له نفعًا، ولو تمخضت في التطبيق العملي عن فائدة محققة لبعض أفراد المجتمع لأن إرادة الشارع وحده هي المعيار الذي يحدد ما يجلب النفع وما يدفع عنهم الضرر، وقد أفصح الشارع الحكيم عن إرادته بالنهي عن هذه التصرفات ومنعها، وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة حالة ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع قد بني على عرف قائم ومعللًا به فإن النص عندئذٍ يكون عرفيًّا أو غير عرفي فيدور حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله، وهنا تختلف وجهات النظر في كون النص الخاص عرفيًّا أو غير عرفي ومن ثم يختلف الرأى في أثر العرف الطارئ.
2-
مخالفة العرف لنص تشريعي عام:
وهي الحالة التي يكون فيها موضوع العرف المخالف عبارة عن بعض عموم النص ولم يرد النص خصيصًّا بشأن هذا البعض، وهنا تجب التفرقة بين العرف المقارن والعرف الطارئ، كما أن العرف المقارن عند الإطلاق يتناول العرف القائم عند ورود النص، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن النص التشريعي الذي يطلق عليه علماء الأصول: النص التشريعي العام: هو الذي يفسر في ضوء العرف اللفظي المقارن له ما لم تقم قرينة عكسية فإذا كان اللفظ الذي استعمله الشارع أوسع دلالة في اللغة من المعنى العرفي له حمل اللفظ على المعنى العرفي لأن العرف اللفظي العام هو لغة التخاطب فيعتبر المعنى العرفي هو المعنى الحقيقي للفظ، وذلك ما لم تقم قرينته على أن الشارع أراد بلفظه حدودًا أوسع من المعنى العرفي. ومن أمثلة ذلك ألفاظ البيع والإيجار
…
إلخ فهي في الحقيقة تحمل على معناها العرفي.
أما أن كان العرف المقارن عرفًا عمليًّا أي عرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم فإن الحكم يختلف باختلاف المذاهب الفقهية، فقد ذهب الحنفية إلى ضرورة التفرقة بين العرف العام والعرف الخاص، وقرروا بأن العرف العام أي المنتشر في سائر البلاد يعتبر مخصصًا للنص؛ أي يطبق على ما سوى الأمر الذي جرى به العرف العام المقارن للنص، وهذا التخريج ليس فيه تعطيل للنص أو إهماله بل هو إعمال للنص والعرف معًا وذلك تأسيسًا على أن وجود هذا العرف وقت صدور النص يعتبر قرينة على أن الشارع لم يرد شمول ذلك الأمر المتعارف عليه بعموم نصه والمعارض له في الظاهر ومن أمثلة ذلك عقد الاستصناع؛ فالحديث النبوي الشريف نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم، فالمنع يشمل الاستصناع ضمن ما يشمل غير أن العرف جرى بين الناس على الاستصناع لحاجتهم إليه، وقد انعقد إجماع الفقهاء على صحة عقد الاستصناع فارتقى الاجتهاد في هذه المسألة إلى مرد الإجماع. أما العرف الخاص: أي العرف السائد في بلد دون آخر أو طائفة من الناس كالتجار والصناع إلخ
…
فلا عبرة به إذا ما عارض نصًّا تشريعيًّا عامًّا ولو كان مقارنًا تأسيسًا على انعدام هذا العرف في بقية البلدان إلا أن البعض من الفقهاء لا يقتضي عندهم تخصيص النص لأن التخصيص لا يثبت بالشك.
أما المالكية فقد ذهب المحققون منهم إلى أن العرف العملي يخصص النص العام دون تمييز بين عرف عام وعرف خاص. والنتيجة التي نخلص إليها: هو اتفاق الفقهاء على أن لفظ النص العام سواء كان عرفًا أو خاصًّا يحمل على المعنى المقارن للعرف. أما بالنسبة للعرف العملي المقارن فإن المالكية يعتبرونه مخصصًا للنص العام سواء كان عرفًا عامًا أو خاصًّا. أما الحنفية فإنهم يسلمون للعرف العام بهذا الدور ولكنهم ينكرونه على العرف الخاص، أما العرف الطارئ: أي العرف الحادث بعد صدور النص فقد سبقت الإشارة إليه بهذا الفصل بأن الفقهاء متفقون على أن هذا العرف الطارئ للنص التشريعي يعتبر نسخًا بالعرف وهذا غير جائز لأن العرف في مرتبة أدنى من التشريع، والنسخ لا يكون إلا بدليل أقوى أو من نفس المرتبة ولا فرق في ذلك بين العرف اللفظي والعرف العملي، وقد أشرنا في هذا البحث إلى الاستثناء الذي نص عليه الفقهاء، فلا حاجة لإعادته هنا.
إلا أننا نجد أن من المفيد هنا أن نذكر بعضًا من نماذج أو من تطبيقات هذا الاستثناء للإيضاح: من المعلوم بأن الحديث النبوي الشريف نهى عن بيع وشرط إلا أن الأحناف فسروا هذا الحديث بأنه مخصوص في عقود المعاوضات وأن الشرط المفسد للعقد هو كل شرط فيه منفعة خارجة عن الحكم الأصلي للعقد وعن ما يلائمه غير أنهم استثنوا من ذلك الشرط الذي ورد بجوازه نص شرعي مثل خيار الشرط، والشرط الذي جرى به العرف ولو كان حادثًا. ونخلص من هذا إلى أن الشرط الذي يقتضيه العقد أو يلائمه ويؤكد موجبه معتبر، ويصح اقتران العقد به كما أجازوا الشرط المتعارف عليه والذي جرت به عادة البلد وتقرر في المعاملات بين التجار وأرباب الصنائع وتفريعًا على ذلك أجازوا بيع الوفاء رغم أنهم كانوا قد أفتوا بفساده بعد أن انتشر بين الناس وتفريعًا على ذلك بين العرف العام والعرف الخاص. وقد أسسوا هذا الحكم على أن علة منع الشرط في البيع هي أن الشروط الزائدة على أصل البيع تفضي إلى منازعة، فإذا جرى العرف على بعض هذه الشروط انتفى النزاع إلا أن العرف يجعل موضوع الشرط معلومًا ومألوفًا واعتبار العرف في هذه الحالات لا يعطل النص بل يتفق مع غرضه وروحه.
الشيخ محمد عبده عمر.
مراجع البحث
1-
الأشباه والنظائر – لزين العابدين إبراهيم بن نجيم المصري.
2-
شرحة: غمز عيون البصائر: لأحمد محمد الحموي.
3-
أصول الفقه، للخضري.
4-
الأم في مذهب الإمام الشافعي.
5-
المدخل، للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء.
6-
مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للأستاذ عبد الرازق السنهوري.
7-
أصول الفقه، للشيخ عبد الوهاب خلاف.
8-
البداية والنهاية، لابن رشد.
9-
إعلام الموقعين، لابن القيم.
10-
أحكام القرآن، لابن العربي.
11-
سبل السلام على بلوغ المرام.
مناقشة البحوث
العرف
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
العرف هو موضوع هذه الجلسة، وقد قدم فيه إحدى عشر بحثًّا، والعارض لها هو الشيخ خليل الميس، والمقرر الشيخ عمر بن سليمان الأشقر.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وبعد:
العرف من المباحث التي تجذرت أصوليًّا، وتوزعت فروعه على غير باب من أبواب الفقه، وشأنه بذلك شأن مصادر التشريع التبعية حيث اختلف في حجيتها، فاختلف الأقوال بالتالي في أحكام المسائل المتفرعة عليها، وإنني أسوق عرضًا موجزًا لأبحاث أصحاب الفضيلة.
أبدأها ببحث فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري: والذي جاء في أربع صفحات فقط مقتصرًا على تعريف العرف وتقسيماته إلى عام وخاص، وقولي وفعلي، وصحيح وفاسد، ثم ذكر مجالات العرف الأربعة ليصل إلى تساؤل، هل العرف أصل قائم برأسه؟. ثم أجاب بقوله: إنه لا يشكل أصلًا قائمًا برأسه في قبال الأصول الفقهية الأخرى. وعرض لمقالة ابن عابدين والتي يفهم منها ميله إلى اعتبار العرف دليلًا مستقلًا. ثم أورد الأدلة على ذلك، وخلاصة قوله، إن العرف ليس أصلًا من أصول الفقه، وإنما يرجع إليه في بعض المجالات للكشف عن السنة وتشخيص المرادات. هذا ما تمكن تلخيصه من بحثه، ثم نصل إلى بحث الدكتور محمد عطا السيد أحمد: ويقع في خمس صفحات، بدأه بالعرف اللفظي أو القولي، وأنه يعتد به متى كان عامًّا لبلد أو قوم، وأما أن كان خاصًا بالمتكلم حمل لفظ على عرفه الخاص عند المالكية كما قال في الأيمان والنذور والطلاق وغيره. والعرف العملي، ذكر مذهب الإمام مالك رضي الله عنه في المسألة، ثم قسم العرف إلى فعلي أي الخاص بفرد، وذكر عدم الاعتداد به، ثم العرف الجاري بالترك، كترك الثمر والتسامح بها أي على الشجر، ثم عرض لحجية العرف وذكر كلًّا من قولي أبي سنة والمرحوم أبي زهرة، ثم مقالة العز بن عبد السلام، بأن الأيمان مبنية على العرف، فمقالة ابن عابدين بأن كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف، ثم قسم العرف إلى ثلاثة أقسام، أولًا: ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره، كالكفاءة. ثانيًا: ما يقوم الدليل على نفيه، كعادات الجاهلية. ثالثًا: ما لم يقم الدليل على اعتباره أو نفيه. ثم عرض للعرف الفاسد وأنه لا يراعي، وذكر قاعدة تغير الأحكام ودورانها مع أعراف الناس، مستدلًا بمقالة ابن القيم في المسألة. وانتهى في آخر بحثه إلى القول هو أن العرف أصل من الأصول التي يستند إليها في الوصول إلى الفتوى بشروط ومواصفات تعرف في أماكنها.
بحث الدكتور أبو بكر دكوري، جاء فيه ثماني صفحات، وقسمه إلى مباحث أربعة:
- تعريف العرف.
- تقسيمات العرف.
- حجية العرف ومذاهب العلماء في اعتباره.
- شروط اعتبار العرف وتحكيمه.
وعرض إلى بيان الفرق بين العرف والعادة، وأنهما بمعنى واحد. كما أورد مسألة الفرق بين العرف والإجماع نقلًا عن أصول مذهب الإمام أحمد. ثم بين تقسيمات العرف إلى قولي وفعلي، وإلى خاص وعام، وفاسد وصحيح. وبين مذهبي المالكية والحنفية في الأخير منها، ثم ذكر مقالة الدكتور التركي في أصول الإمام أحمد، وأن الحنابلة كغيرهم يلاحظون العرف في كثير من فتاواهم وأحكامهم، ثم مقالة ابن القيم في هذا الباب، وأدلة اعتبار العرف من الآثار يقول في نهايتها: تقرر اعتبار العرف في الشريعة الإسلامية وأنه دليل يرجع إليه الفقيه إذا أعوزه دليل آخر أرجح منه، ثم ذكر شروط الاحتجاج به، وهي سبعة: الاضطراد، وعدم مخالفة النص، أن لا يتفق العاقدان على استبعاد العرف، وجود العرف عند العقد، وأن يكون العرف عامًّا وملزمًا، وأن يكون مفتى به، ثم عرض لتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة.
الدكتور إبراهيم فاضل: بحثه في اثنتي عشرة صحيفة، بدأ بتقسيم الأدلة الشرعية النقلية والعقلية، وبيان مراتبها، وحجيتها، ومنزلة الكتاب والسنة منها بالذات، وعلاقة كل منها بالآخر. ثم عرض لترتيب الأدلة أخذًا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه، ثم مسألة عمر لشريح رضي الله تعالى عنهما، ثم بدأ بالعرف معرفًا ومقسمًا التقسيمات المعهودة إلى عرف عملي وقولي، ثم كل منهما إلى خاص وعام، وإلى العرف القولي الخاص أنه يخصص العرف العام، وأن العرف الفعلي الخاص مخصص للعام عند الحنفية دون الشافعية، ثم أقسام العرف الصحيح والفاسد، وحكم الفاسد منها، ووصل في مبحثه في حجية العرف، إلى بيان أن المالكية يقيمون للعرف وزنًا كبيرًا، وعرض لمقالة ابن عابدين، وكيف أن الفقهاء يرجعون إلى العرف والعادة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، وأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص، والقاعدة " العادة المحكمة ". وخلص إلى القول بأن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وأنه ليس دليلًا مستقلًا، لكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، وأورد الأدلة على مقالته هذه، ثم أورد شرط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام وهي أربعة:(ألا يكون مخالفًا للنص. أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا. أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر متأخرًا في التصرفات. ألا يوجد قول أو عمل يفيد لخلاف مضمونه) . ثم عرض لمبحث تعارض العرف مع الدليل الشرعي، وفي هذه الحال ذكر مقالة ابن عابدين في نشر العرف، وأجمل القول بأن مخالفة العرف للأدلة الشرعية تتنوع إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه.
النوع الثاني: مخالفة العرف من بعض الوجوه.
النوع الثالث: مخالفة العرف والاجتهادات الفقهية للناس.
ثم عرض لحكم كل منها بالتفصيل ملخصًا مقالة ابن عابدين في نشر العرف، وانتهى إلى فصل أثر العرف في العقود، وأورد منها ست عشرة مسألة منتقاة من نشر العرف، وقواعد العز بن عبد السلام، لتبين مدى حجية العرف فيها.
ثم الدكتور محمد جبر الألفي: البحث في أربعين صحيفة، عشرة منها بيان الهوامش، والتعليقات، والمصادر.
إن هذا البحث مستفيض، ومستوعب، ومقسَّم إلى مقدمة وأربعة فصول.
الفصل الأول: معنى العرف وبيان أركانه.
الفصل الثانى: القوة الملزمة للعرف.
الفصل الثالث: العرف في التشريع.
الفصل الرابع: التطور التشريعي للعرف.
وفي فصل التعريف أورد مقالة الجرجاني والنسفي، ثم علي حيدر في المجلة، فالزرقاء في شرح القواعد، فعبد الوهاب خلاف. ليخلص إلى تحقق الارتباط بين المعنى اللغوي للعرف والمعنى الاصطلاحى. ولما كانت المصادر قد جمعت بين العرف والعادة، لذلك عرض لمقالة العلماء في التفريق والجمع بينهما في المفهوم. وخلص من هذا كله إلى القول: إن العمل يتطلب وجود رأي فقهي يستند إليه ولو كان مرجوحًا، وهذا ما يفرق بينه وبين العرف، فهو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
العرف والإجماع:
فرق بينهما من عدة وجوه:
أولًا: أن الإجماع لا يكون إلا من مجتهدين.
ثانيًا: أن الإجماع يتحقق ولو بمرة واحدة دون حاجة للتكرار.
ثالثًا: أن الإجماع لا بد له من مستند بخلاف العرف.
أركان العرف:
ذكر ركنين: ركنًا خارجيًّا، وآخر داخليًّا نفسيًّا.
والركن المادي له ثلاث صفات (عموم وقدم وثبات) ، ثم توصل الكلام إلى تقسيم العرف إلى عام وخاص، ثم القدم مسألة تقديرية تختلف باختلاف الأحوال، وأما الثبات دفعًا للاضطراب حيث يصار عند ذلك إلى اللغة، وأما الركن النفسي هذا التقسيم جرى عليه أبو سنة في دراسته المشهورة.
حجية العرف:
أورد النصوص من كتب مذاهب الأئمة الأربعة على حجية العرف، منهم ابن عابدين من الحنفية، وابن حجر من الشافعية والطرطبي من المالكية، وابن القيم من الحنابلة، وعقب على ذلك كله بالقول: وبناء على ذلك تقرر في التشريع والفتوى والقضاء أن العادة محكمة، وأن استعمال الناس حجة يجب العمل بها. قال: وللعلماء في تحديد طبيعة العرف مسلكان، الأول: يعتبر العرف دليلًا مستقلًّا يمكن أن يستفاد منه أحكام شرعية، والآخر لا يسلم بهذا الاستقلال، بل يرد العرف إلى دليل آخر ثبت لديه كالاستصناع عند الحنفية، وعمل أهل المدينة عند مالك رضي الله تعالى عنه.
رد العرف إلى الاستحسان كوقف المنقول، ورد العرف إلى المصلحة أو إلى دليل الاستصلاح.
القوة الملزمة للعرف:
الدليل على حجية العرف: عرض لمذاهب كل من الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية في التحسين والتقبيح، أو هل للعقل استقلال بإدراك حكم الله تعالى أم لا؟.. ثم وصل به الكلام إلى وظائف العرف وعد منها:
أولًا: المكمل للتشريع، وقف المنقول والاستصناع.
ثانيًا: العرف المساعد للتشريع، كآية النفقة، أثبتت حكمًا شرعيًّا وأحالت إلى العرف بيان مقدارها.
ثالثًا: العرف المخالف للتشريع: سواء خالف النص من كل وجه فلا اعتبار له، أما إن أمكن التوفيق بينهما فأكثر الفقهاء على اعتباره كمذهب مالك في آية الرضاع.
مخالفة العرف لحكم اجتهادي كجواز الاستئجار على تعليم القرآن الكريم: قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان، بين مضمونها وذكر بعض التطبيقات عليها، منها الطلقات الثلاث كانت واحدة وأمضاها أمير المؤمنين عمر – رضي الله تعالى عنه – ثلاثًا، وتابعه الصحابة على ذلك، حديث الأصناف الستة المشهور (الكيلي والوزني منها) ، ثم تغير بعضها من الكيلي إلى الوزني، وإن العمل بالتغيير عمل بالاستصحاب كما قال.
رابعًا: التطور التشريعي للعرف، فيه مبحثان:
- إحياء الأعراف المحلية.
- انتشار حركة التقنين.
وعزا إحياء الأعراف المحلية إلى خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيم القضائي، والاستعمار الغربي في بلاد الإسلام، وعرض لأحوال شبه القارة الهندية وشمال أفريقيا وجزر الهند الشرقية، ثم عرض للتقنينات الحديثة والعرف، وكيف أن العرف احتل المركز الثاني يلجأ إليه القاضي عندما لا يجد نصًّا تشريعيًّا. وبعضهم جعله في المرتبة الثالثة، وأنه يشترط لتطبيقة عدم المخالفة للنظام العام. وفي الخاتمة، قال: إن الشرع الإسلامي يحمل في طياته بذور نمائه وأحكامًا يمكن أن تتسع لمواجهة الأوضاع المستجدة دون أن تفقد خصائصها المميزة.
بحث الدكتور محمود شمام: وفيه ثمان وخمسون صفحة، وله ميزة أنه جمع بين الفقه والقانون. بدأ بحثه بعنوان " العرف بين الفقه والتطبيق"، وأن القاضي يفزع إلى العرف كلما نفذ النص، أو احتاج إلى شرح غموض نص، وأشار إلى أهمية العرف والعادة واستهل بحثه بقول ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
ثم عرف العرف لغة واصطلاحًا، ووصل به الكلام إلى حجية العرف، واستعرض الآيات التي لها علاقة بالموضوع، ثم الأحاديث والآثار الواردة في الباب. وساق مذاهب الفقهاء الأحناف وقولهم: التعيين بالعرف كالتعيين بشرط. مذهب المالكية وقولهم: عمل أهل المدينة هو أصل مشهور. مذهب الحنابلة، لم يأخذوا بالعرف إلا في حدود ضيقة. مذهب الشافعية، عملوا به في فروعهم، وإن لم يثبت عند إمامهم. مذهب الشيعة الإمامية: العرف تأكيد لحكم العقل، أو أنه من أدلة الإجماع.
الخلاصة:
اتفاق كلمة الأئمة على اعتبار العرف، وساق العديد من المسائل المنتقاة من أحكام العرف عند المذاهب.
مبدأ اعتبار العرف: فيما يتعلق بالحقوق والمعاملات، والمبدأ العام يقول: إن للعادة تأثيرًا على التشريع، وللعرف علاقة وطيدة ومتينة بالاجتهاد، وإن الفقهاء جميعًا اعتبروا العرف ولكن بقيود، وأشار إلى منزلة العرف عند علماء القانون، حيث قالوا: إن الشريعة غير المدونة هي التي تستحسنها العادة وتقرها، ثم ذكر شروط اعتبار العرف وحصرها في خمسة معلومة، وخلص إلى القول: العرف المعتبر هو ما يخصص العام، ويقيد المطلق فقط.
أنواع العرف:
عد منها العام والخاص، واللفظي، والفعلي، وعرض لمقالة ابن عابدين في المسألة.
الفرق بين العرف والعادة:
حيث ميز بينهما رجال القانون بأن العادة غير ملزمة بخلاف العرف، ثم ساق أمثلة على أحكام وقائع ثبتت بالعرف نقلًا عن الإمام القرافي، وأحكام المحاكم المدنية في المغرب، وأن العرف له دور كبير في المعاملات المالية من بيع وشراء، وكراء، وإجارة.
ثم عرض للعرف في الاصلاح القانوني في التطبيق، وأشار إلى قانون العرف يقابله القانون المكتوب، وأن العرف يستمد إلزامه من تلقاء نفسه، وأنه لا يعذر بجهل العرف كما لم يعذر بجهل الشريعة.
مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون:
قال تحت هذا العنوان: جاءت غالب القوانين الوضعية – المدنية والتجارية خاصة – على اتباع العادات والأعراف، وعد منها القانون المصري، والسوري، والعراقي، والإنجليزي، والفرنسي. وبين مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون التونسي في العقود وتفسير العقود بالعرف، وشروط الأخذ بالعرف. العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح، وبين تأثير العرف في أحكام البيع وساق المواد في هذه المسألة، ثم بين تأثير العرف في أحكام الكراء، والأراضي الفلاحية، ثم العرف في نقل الأشياء والوديعة والعارية، والوكالة، والشركات، والمساقاة، والمغارسة، وخلص من ذلك كله إلى نتيجة يمكن أن يلاحظ الدارس المقارن وجه الشبه وعلامات الاقتباس في أجلى صورها – أي عن الشريعة الإسلامية-، وأنهى بحثه في بيان أهمية العرف في المسائل التجارية.
البحث للعبد الفقير: البحث طبعًا في أربع وخمسين صحيفة – هذا وإن العرف له حظ وافر عند ابن فرحون – إن العرف قد عرض له المصنفون في آداب القضاء والمفتين، فله حظ وافر عند ابن فرحون المالكي في "التبصرة" والطرابلسي في "معين الحكام"، والقرافي في "الفروق والفصول"، وكل من السيوطي وابن نجيم في "الأشباه"، والشاطبي في "الموافقات والاعتصام"، والزركشي في "الدر المنثور". وأفرده بالبحث ابن عابدين في إحدى رسائله، والكوثري في مقالاته ضمن رسائله، كما أفرده بالبحث أبو سنة في رسالة علمية معروفة، وكذلك أفرده بالبحث أبو عجيلة الذي خالف أبا سنة في كثير مما ذهب إليه، هذا وقد عمل بالعرف الصحابة والتابعون في أزمانهم.
تقسيمات العرف:
هو عام وخاص، وعادي واستعمالي، وإن العرف الاستعمالي له ثلاثة أوجه، لغة وشرعًا وصناعة. كما عرضت لأسماء العرف والحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، للأسماء العرفية والحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية.
أوجه استعمال العرف، وهي سبعة:
1-
استعمال بمنزلة الدليل على تشريع الحكم، كالمضاربة، ووقف المنقول.
2-
أن يكون استعمال العرف معيارًا يرجع إليه القاضي والمفتي في تطبيق الأحكام المطلقة، كعقوبة التعزير.
3-
أن يقوم العرف مقام التطبيق بالأمر المتعارف في الدلالة على الإذن أو المنع.
4-
الاستعمال العرفي للألفاظ اللغوية، العرف القولي كلفظ الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) .
5-
أن يكون العرف الجاري بين الناس مرجحًا لبعض المذاهب الفقهية على بعض.
6-
أن يكون العرف مفيدًا لتمويل بعض الأشياء، كالنحل.
7-
تأثير العرف في الحكم الشرعي، كعدالة الشهود.
ما يحكم به بالعرف: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
تغير العرف مرة بعد مرة: وهي مسألة مشهورة، واتباع المفتي العرف الحادث في الألفاظ العرفية أمر لازم.
أما الاصطلاح: الاصطلاح الخاص والاصطلاح العام، أو تغيير اللغة بالاصطلاح. وفيه قولان للأصوليين، تعارض العرف العام والخاص وجهان في المسألة، وكذلك تعارض اللغة والعرف فيه وجهان. وإذا تعارض عرف الاستعمال مع عرف الشرع فهو نوعان أيضًا. النوع الأول: ألا يتعلق بالعرف الشرعي حكم، فيقدم عليه الاستعمال، "وحلف لا يأكل لحمًا فلا يحنث بأكل لحم السمك، وإن سماه الله تعالى لحمًا طريًّا. الثاني: أن يتعلق بعرف الشرع حكم فيقدم على عرف الاستعمال. مثاله: "حلف لا يصلي، لم يحنث إلا لذات الركوع والسجود".
حجية العرف عند الأصوليين:
أورد بعض الأصوليين دلالة استعمال العرف في مبحث تخصيص العام.
قالوا – أي العنوان -: بيان ما تترك به الحقيقة، وهي خمسة أنواع عدُّوا منها: دلالة الاستعمال عرفًا، وساقوا له أمثلة منها لفظ الحج. فإن اللفظ للقصد حقيقة، ثم سميت العادة بها لما فيها من العزيمة، والقصد للزيارة فعند الإطلاق يتناول العبادة للاستعمال عرفًا. أما العرف في أقوال الفقهاء: اتباع العرف أمر مجمع عليه. حكاه القرافي وغيره. قال البدر العيني: حمل الناس على أعرافهم ومذاهبهم واجب. وقال ابن العربي: العرف والعادة أصل من أصول الشريعة. لكن الكوثري، قال: وأما تحكيم العرف على النصوص فلم يقع من مسلم ولن يقع، وليس للعرف في الشرع إلا ما بينه علماء المذاهب في كتب القواعد وكتب الأصول والفروع، ويبدو أن هذه المقالات أوردها عند إثارة قضية التجديد في مصر، يعرفها من عايشه.
أما تخصيص العام في العرف العملي، ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعرف العملي، فكلاهما يخصص العام، وخالفهم في ذلك الشافعية؛ ذهبوا إلى أن العرف العملي لا يقوى على التخصيص.
حجية العرف:
قال القرافي: العرف مشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك. قال ابن العربي في تفسير قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ، ليس في الإنفاق تقدير شرعي، وإنما أحاله الله تعالى على العادة، وهي دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام.
استدل القائلون بحجية العرف بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . قال السيوطي: أي اقضِ بكل ما عرفته النفوس مما لا يرده الشرع، وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف، وتحتها مسائل لا تحصى، كما قال السيوطي. استدل بهذه الآية أيضًا على حجية العرف غير واحد من فقهاء المذاهب، ومن الآيات التي ساقوها للاستدلال قوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، قال القرطبي العرف والمعروف والعارفة كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس، ومنها قوله تعالى:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، قال ابن تيميمة: تنازعوا في النفقة، والراجح أنه يرجع فيه إلى العرف، ومن السنة الحديث: الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة. قال العلائي: قرر النبي صلى الله عليه وسلم الاعتداد بالعرف الجاري بين الناس، ومنها قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها في النهار، وعلى أهل المواشي حفظها في الليل، قال الخطابي: لأن العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها في النهار، ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرِّحوها بالنهار ويردوها مع الليل إلى المراح.
تخصيص العام بعادات المخاطبين:
قال به المالكية وخالفهم الحنابلة.
وأما شروط اعتبار العرف والعادة فبالاستقراء هي خمسة ذكرها غير واحد ولا داعي لتعدادها.
أهم القواعد الفقهية في العرف وسلطانه؛ منها:
1-
العادة محكمة.
2-
الحقيقة تترك بدلالة العادة.
3-
استعمال الناس حجة يجب العمل بها.
4-
المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
5-
لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
6-
التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
وخرج الفقهاء على هذه القواعد ما لا يحصى من فروع الأحكام في مختلف الأبواب الفقهية وخاصة المعاملات والأيمان والنذور. وعرض لكثير منها العز بن عبد السلام في قواعده والقرافي في فروقه، والشاطبي في موافقاته، هذا وهل الخلاف في حجية العرف حقيقي أو ظاهري؟
من المسلَّم به بين المخالفين والموافقين أن هنالك تصرفات كثيرة للمكلفين للعرف فيها مدخل، ولكن لا بد من التوسط ما بين التفريط والإفراط، خاصة بالنسبة لنفاة حجية العرف، فحيث نفوه دليلًا، ووصفوه كاشفًا للحكم لا مثبتًا له، نقول: وهل القياس وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع المجمع عليها إلا دليل كاشف على ما قال أهل العلم؟. باعتبار أن الكتاب والسنة والإجماع هي مثبتة للأحكام فقط، وهي من المصادر الأصلية وما سواها من المصادر أو الأدلة التبعية، والعرف مصدر من المصادر الاجتهادية، نعم لا اجتهاد في مورد النص، ولم يقل مثبتو حجية العرف بأن العرف يعارض النص بوجه من الوجوه، وإن قالوا إنه مخصص، وبذلك يكون تابعًا لا أصلًا، قال صاحب المسودة: وتخصيص العموم بالعادة، بمعنى قصره على العمل المعتاد كثير المنفعة. وكذا قصره على الأعيان التي كان الفعل معتادًا فيها زمن المتكلم.
كلمة ختامية
فهو يعتبر بحق نوافذ الفقه الإسلامي التي يطل منها على حياة الناس الواقعية، فيسلط عليها الأضواء لتنير الطريق للسائرين كي لا تلتوي بهم السبل عن الجادة، وليميز الخبيث من الطيب، فإذا ما انكشفت الحقائق أقر منها النافع، وألغي الفاسد الضار.
هذا: وكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكن على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في أمثال هؤلاء "فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به".
أو كما قال القرطبي: "ينكرونه لفظًا ويعملون به معنى"، والصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلًا من أصولها – وكان أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس.
وما من شك أن العمل بالعرف أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة الغراء، والتي قال فيها تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
…
وقال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا، ولا تنفِّروا)) .
والله من وراء القصد
…
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
شكرًا. أحب أن أعيد إلى الأذهان أن السبب الرئيسي في عرض موضوع "العرف" على دورة المجمع – هنا صار اقتراحه في القائمة من هيئة التخطيط للمجمع – هو ما استمر في عدد من القضايا والأحوال من جعل العرف قاضيًا على النص أو مخصصًّا للنص وما جرى مجرى ذلك مما يؤثر على نصوص الشريعة، وأدلتها القطعية.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السيد رئيس الجلسة المحترم،
أساتذتي الحضور،
في البداية أشكر الأستاذ خليل، على عرضه الجيد الرائع لمواضيع العرف في هذا المجلس، وأود أن أقول: الحق أن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وهو في الحقيقة ليس دليلًا مستقلًا، ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة. والدليل على اعتبار العرف ما ذكرناه في بحوثنا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أنا وجدنا الشارع الحكيم يراعي أعراف العربي الصالحة، من ذلك إقراره لنوع من التعامل المالي عندهم كالمضاربة والبيوع، والإيجارات الخالية من المفاسد، كما استثنا السلم من عموم نهيه عن بيع الإنسان ما ليس عنده لجريان أهل المدينة به، ونهى عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا. إن العرف في حقيقته يرجع إلى دليل من أدلة الشرع المعتبرة، كالإجماع، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع. احتجاج الفقهاء بالعرف في مختلف العصور واعتبارهم إياه في اجتهادهم دليل على صحة اعتباره، لأن عملهم به ينزل منزلة الإجماع السكوتي، فضلًا عن تصريح بعضهم به وسكوت الآخرين عنه. فيكون اعتباره على هذا الأساس ثابتًا بالإجماع.
شروط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام، من أجل اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه، يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
أولًا: أن لا يكون مخالفًا للنص، قال ابن عابدين – رحمه الله:" ولا اعتبار للعرف المخالف للنص لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص". من ذلك ما تعارفه الناس من تعاطي كثير من المحرمات كالربا وشرب الخمر، وما اعتادته كثير من النسوة من كشف شيء من أجسامهن كالساق وشعر الرأس أمام الرجل الأجنبي، فهذا عرف فاسد.
ثانيًا: أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا، ومعنى الاطراد أن تكون العادة كلية، أي لا تتخلف، وقد يعبر عنها بالعموم، ومعنى الغلبة أن تكون أكثرية، بمعنى أنها لا تتخلف إلا قليلًا، والغلبة أو الاطراد إنما يعتبران إذا وجدا عند أهل العرف لا عند الفقهاء لاحتمال تغيرها من عصر إلى عصر.
ثالثًا: أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر العرف المتأخر في التصرفات السابقة، فإذا طرأ عرف جديد بعد اعتبار العرف السائد عند صدور الفعل أو القول، فلا اعتبار بالعرف المتأخر.
رابعًا: أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف يقضي بتحمل المشتري مصاريف تصدير البضاعة المشتراة واتفقا على أن تكون على البائع، أو اتفق المتعاقدان على أن تكون على البائع.
مخالفة العرف للأدلة الشرعية:
تتنوع مخالفة العرف للأدلة الشرعية أنواعًا مختلفة وذلك على النحو التالى:
1-
مخالفة العرف للنص الشرعي من كل وجه:
إذا اصطدم العرف بنص تشريعي خاص من نصوص الكتاب أو السنة فلا اعتبار للعرف في هذه الحالة، كالأحكام التي كانت متعارفة في الجاهلية وحرمها الإسلام، لمصادمة تلك الأعراف لإرادة الشارع في موضوع أصبح المسلم مكلفًا بتطبيق النص والأخذ به، فلا يجوز إهماله وإعمال العرف. مثال ذلك العقود التي نهى الإسلام عن إبرامها كالملامسة والمنابذة، ويستثنى من ذلك ما إذا كان النص حين نزوله أو حين صدوره عن المشرع مبنيًّا على عرف قائم ومعللًا به، فإن النص عندئذ يكون عرفيًّا فيدور مع العرف ويتبدل بتبدله. مثال ذلك الحديث الذي نص على التساوي الوزني في الذهب والفضة، والتساوي الكيلي فيما عداها، غير أن العرف تبدل في هذه الأوزان، وهنا يأتي قول أبي يوسف رحمه الله: إن النص على بيع الحبوب كيلًا، وعلى الذهب والفضة وزنًا لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك، فالنص جاء موافقًا للعادة، فلما كانت العادة هي المنظور إليها في الحكم المذكور، فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص بل فيه اتباع للنص.
2-
مخالفة العرف للنص من بعض الوجوه:
إذا عارض العرف نصًّا تشريعيًّا عامًّا، أي لم يخالف النص من كل وجه، فلا يخلو العرف من أن يكون عامّا أو خاصًّا، فإن كان عامًّا فالعرف العام يصلح مخصصا ويترك به القياس كما في مسألة الاستصناع ودخول الحمام وغير ذلك. أما لو كان العرف خاصا فللفقهاء رحمهم الله اتجاهان في اعتباره أو عدم اعتباره، وما عليه المذهب عند الحنفية عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من مشايخهم باعتباره. مثال ذلك: لو دفع رجل إلى حائك غزلًا على أن ينسجه بالثلث – مثلًا – فقد أجاز هذا النوع من الإجارة كثير من مشايخ بلخ لتعامل أهل بلدهم بذلك، والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر.
3-
تعارض العرف والاجتهادات الفقهية:
لا تخلو المسائل الفقهية من أن تكون ثابتة بصريح النص، وأن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي؛ فما كان ثابتًا بصريح النص من كل وجه أو من بعض الوجوه، وقد تكلمنا عنه، أو ما كان ثابتًا بضرب من الاجتهاد والرأي فأقول: إن كثيرًا من المسائل الاجتهادية مبنية على عرف زمان المجتهد بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال المجتهد بخلاف ما قاله أولًا. ولهذا قال العلماء رحمهم الله تعالى من شروط الاجتهاد أنه لا بد للمجتهد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان وذلك بسبب تغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، لأصاب الناس الحرج ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام، من ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان، على قول محمد بن الحسن الشيباني لما رأى فساد الزمان على خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة – رحمهم الله تعالى – ومن هذا القبيل أيضًا قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى، بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفة هذا القول لما نص عليه أبو حنيفة بناءً على ما كان في زمنه من غلبة العدالة.
وقد أثر العرف في كثير من العقود، مما سرده الفقهاء في كتبهم، ومن هنا يمكن لنا أن تخضع ما يستجد من العقود للعرف على أن لا يخالف العرف قاعدة من قواعد الشريعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وشكرًا سيادة الرئيس.
الدكتور عمر سليمان الأشقر:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مع الشكر الجزيل للأخ العارض للأبحاث، إلا أنني أعتب أنه لم يستعرض جميع الأبحاث التي قدمت في موضوع "العرف"، وكان بحثي واحدًا من هذه الأبحاث، وعندما أقدمت على الكتابة في هذا الموضوع كنت أعلم أن هذا الموضوع قد انتهى من بحثه العلماء.
فجزئياته مكررة في كتب الأصول وتكاد تكون متشابهة، والعلماء توصلوا إلى نتائج حاسمة في هذا الموضوع. إنما كتبت فيه لقضيتين أبنتهما من خلال البحث؛ القضية الأولى قضية معاصرة، إن كثيرًا من الأمم الإسلامية قدم العرف في قوانينه على الشريعة الإسلامية. لم يكتفوا بأن يقدموا القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، بل نصوا في كثير من القوانين المدنية في البلاد العربية والبلاد الإسلامية على أن العرف مقدم على مبادئ الشريعة. وفي هذا بينت الدور في معركة الصراع بين العرف والشريعة الإسلامية عبر التاريخ. كانت الأعراف البشرية أكبر ما صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فعندما كان يأتي الرسول كل جماعة تقول لرسولهم:"إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، أَوْ مُهْتَدُونَ". آيتان. كل جماعة تقول: تراث آبائنا وأجدادنا وأعرافهم، فيجري صراع بين الرسل وما أنزل عليهم، وبين أقوامهم وما كان عليه الآباء والأجداد ينتهي إما بانتصار الشريعة الإسلامية كما حدث على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما بتعذيب القوم المكذبين. فعندما تنتصر الشريعة الإسلامية تقصي الأعراف الباطلة وتحصرها في دائرة ضيقة، وعندما تنتصر الجاهلية كما حدث في هذا القرن الأخير، فإن الأعراف تقصي الشريعة الإسلامية، فكثير من القوانين إنما هي أعراف كانت أعرافًا سائدة ثم حولت إلى قوانين، هذه هي القضية الأولى التي أحببت أن ألفت النظر إليها.
القضية الثانية، قضية قديمة يشكو منها العلماء عبر العصور (فقهاؤنا) ، وهي أن كثيرًا من الفقهاء يجمدون في الأحكام المبنية على العرف على الأحكام التي صدرت قديمًا من علمائنا وفقهائنا، فيوقع المسلمين في حرج شديد، وقد باح بهذه الشكوى كثير من العلماء نقلت نصوص كلامهم في بحثي، يشكون شكوى مرة من فقهاء تعرض لهم مسائل مما تغير فيه أعراف الناس فيفتون بما أفتى به الأوائل من غير نظر إلى الأعراف المتغيرة والأعراف المتجددة. وقد نص المحققون من العلماء في مختلف المذاهب أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بأحكام بنيت على العرف تغيرت أعرافها، وينبغي للمفتي أن يكون عالمًا بأعراف زمانه، وأن يكون عارفًا بالأحكام التي بنيت على العرف في الماضي.
ومن هنا أقترح على المجمع الكريم أن يكلف بعض الباحثين في استقصاء المسائل الفقهية التي بنيت على العرف في الماضي حتى يكون المفتون والعلماء على بصيرة من أمرهم عندما يفتون في مثل هذه المسائل. وقضية رابعة تلمح من خلال البحث أنني جعلت الشريعة حاكمة على مباحث القانونيين في العرف، فهناك فرق في بحوث القانونيين في موضوع العرف، في تعريفه، وفي شروطه، وفي تطبيقاته، وهذا ما ألحظه على بعض البحوث التي قدمت أنهم خلطوا بين مباحث الفقه ومباحث القانون حتى كأنها بحث واحد، وينبغي التدقيق في هذه المسألة، مباحث الفقهاء لها سمتها مرتبطة بأصول الشريعة الإسلامية، أما مباحث القانونيين ففيها خلط كبير. كنت أتمنى على الأمانة العامة في المجمع أن توضح لنا – حقيقة – في الخطاب الذي أرسل في هذا الموضوع حتى نتجه مباشرة إلى الهدف الذي طلب من العلماء أن يكتبوا في موضوع "العرف"، حيث أكثر البحوث توسعت توسعًا شديدًا في تعريفاته، وتقسيماته، وشروطه، وحجيته، وهي أمور يكاد يتفق عليها الباحثون، فلو حدد الهدف من الكتابة لكان الباحثون قد تجاوزوا هذه القضايا التفصيلية التي فرغ منها العلماء قديمًا، واتجهوا إلى الموضوع المطلوب في موضوع العرف. أكتفي بهذا المقدار وشكرًا لكم.
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيدى الرئيس. أنا أعتقد أن التعبيرات الواردة عن العرف متفرقة وكثيرة بحيث يضيع معها الإنسان، ولا يستطيع أن يقع منها على موقع صلب، لذلك، حبذا لو حددنا التعبير وطرحنا المسألة بشكل أصولي، وأعتقد أننا لو حددنا تعبيرنا لتوصلنا إلى أن النزاع أحيانًا نزاع لفظي، وأن العلماء يتفقون إجمالًا على شيء مشترك. أهم البحوث في مجال العرف هو مجالات نفوذ الأعراف. العرف: ما هو المجال الذي ينفذ من خلاله إلى الشريعة وتقبله الشريعة؟. مجالات النفوذ العرفي – وهي النقطة التي لم يتفضل أخي العزيز الشيخ الميس، رغم جمال عرضه للتركيز عليها في بحثي – الذي اعتقده أن هناك مجالين فقط لنفوذ الرأي العرفي فقط، وأستطيع القول بأنني لو أستعرض ما ذكر من استنادات إلى العرف أستطيع أن أصنفها إلى أحد هذين المجالين؛ المجال الأول: هو عملية اكتشاف لرأي السنة أو اكتشاف للسنة، هناك المجالات التي ينفذ فيها العرف ويشكل واسطة لمعرفتنا للسنة الشريفة.
وهذا أيضًا له قسمان، تارة نكتشف من خلال العرف رأي السنة في هذا الحكم الفرعي، وأخرى نكتشف رأي السنة في هذه الحجة الأصولية. فأحيانًا يستندون في صحة عقد الاستصناع إلى أنه متعارف، ولكنه متعارف كيف؟ يمتد هذا العرف إلى عصر التشريع، ويقره عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ من طريق التقرير – وهو جزء السنة – نكتشف صحة عقد الاستصناع. العرف هنا شكل واسطة ومرآة يرينا بها السنة فقط. القسم الثاني من المجال الأول وهو اكتشاف السنة، اكتشاف الحجة الأصولية. نسأل ما الدليل على جواز الأخذ بالظواهر، أو وجوب الأخذ بالظواهر؟ يقولون: العرف عرف العقلاء، عرف الناس هو الأخذ بظواهر الكلام، وهذا العرف – كما يقول البعض – يستصحب استصحابًا قهقريًّا، يرجع به إلى عصر التشريع، وهو متداول أمام الرسول العظيم، وحينئذٍ فقد أقره، ونكتشف منه بعد عدم صدور ردع منه عليه الصلاة والسلام أنه يقره. فهنا نكتشف الحجة الأصولية، ويجمعهما اكتشاف السنة فقط، هذا هو المجال الأول، وأرجع إليه الكثير مما قيل عن الإسناد إلى العرف.
المجال الثاني، ما يشخص به مفردات النصوص الشرعية يعني هناك مفردات ترد في النصوص الشرعية (إناء، صعيد، غنى، إسراف، تبذير، قوة) هذه تعبيرات ترد في النصوص الشرعية لكى نشخص مراداتها نرجع إلى العرف. فبهذا المعنى تارة نشخص هذه المفاهيم، وأخرى نشخص المرادات لما يمكن أن نسميه بملازمات الحكم. يعني، عندما يحكم الشارع بطهارة الخمر الذي تحول إلى خل، أستطيع أن أكتشف بأن الشارع أيضًا يحكم بطهارة أطراف الإناء الذي يكون فيه الخل، انتقالي من طهارة هذا السائل إلى طهارة الإناء انتقال عرفي بملازمة عرفية، بعمقة لزومية عرفية نقلتني من هذا المجال إلى المجال الآخر، كأن الشارع قال لي من خلال هذه الواسطة: إن السائل يطهر، ويطهر أطراف إنائه معه من خلال الملازمين، اعتمد الشارع على هذا الفهم العرفي لمراداته. هذا جانب مهم، ويدخل في هذا الارتكازات العرفية للمتكلمين أيضًا، عندما يحتمع متعاقدان في سوق تسودها ارتكازات عرفية معروفة لا يحتاجان للتصريح بكل القيود، وبكل الارتكازات التي يعتمد عليها السوق، يكفي أن يعقدا العقد، وبشكل طبيعي تتضمن تلك الارتكازات كشروط في هذا العقد، باعتبارها شروطًا ضمنية لو كانت واضحة. أيضًا يدخل في هذا الباب تشخيص ما يسمى بمناسبات الحكم والموضوع لنفترض أننا لا نملك دليلًا، وهذا افتراض قد يخالف الحقيقة، على أن ولاية المرأة باطلة، لكن مناسبات الحكم والموضوع أو ما يمكن أن يسمى بروح الشريعة التي يفهمهما العرف تجعل الإنسان يطمئن، ما دام الرجل هو القاضي، وما دام الرجل هو الإمام في الجماعة،
…
إلخ. يطمئن مناسبات الحكم والموضوع هي التي تفرض وجود شرط الرجولة في ولي المجتمع. وأريد أن أقول – وأعتذر من هذا التطويل، وأنا لا أريد التطويل لكن هذا مهم جدًّا – إن العرف يدخل إذن في مجالين فقط، استكشاف السنة، وتشخيص المراد. هناك بعض الردود السريعة جدًّا – وإذا سمح لي سيدي الرئيس.
الرئيس:
لو تكرمتم، لعل كلمة ثانية إن شاء الله بعد الصلاة.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أرجو أن يكون حظنا سعيدًا دائمًا إلا أن حظنا من نظرات الرئيس لم يكن بذاك فنحن قلنا لعل الرئيس رغب بنا عن الكلام أو رغب بالكلام عنا، فلا ندري، أننا نود أن الرئيس وهو قاضٍ – إن شاء الله من قضاة الجنة – إن شاء الله – أن يسوي بين الخصوم في النظر، وفي المجلس.
الرئيس:
لو سمحت ياشيخ، فقط أعطونا الموضوع الذي تريد.
الشيخ عبد الله بن بيه:
أنا أشكو من عدم الكلام، فلا بد أن تسمح لي بالكلام.
الرئيس:
نحن نسمح بالكلام، لكن فضول الكلام لا لزوم لنا به، نريد ذات الموضوع، أما الباقي لا لزوم له.
الشيخ عبد الله بن بيه:
ليس فضولًا، باسم المحرومين من الكلام، يا سيادة الرئيس.
الرئيس:
يا شيخ عبد الله بدون مؤاخذة، هذه الأشياء تترك في المجالس الخاصة، أما في مثل هذا اتركوها عنا يا شيخ.
الشيخ عبد الله بن بيه:
سيدى الرئيس،
وإذا تكون كريهة أدعى لها
وإذا يحاس الحيس يدعى جُندَب
هي لتلك قضيته، عجبي لتلك القضية، وإقامتي فيكم على تلك القضية أعجب.
الشيخ عبد الله بن بيه:
أعود إلى مسألة العرف، فيه قضية في غاية الأهمية كنا ننتظر من الباحثين أن يتعرضوا لها وهي تطبيقات العرف في الوقت الحاضر، وفي الزمان والمكان، في الزمان الذي نعيش فيه، وفي هذه الكرة الأرضية التي أصبحت كقصعة بين يدي الآكل، تطبيقات العرف في قضايا اليوم لم يتحدث أحد عنها، هذه بحوث أصولية معروفة تقريبًا، وفيها رسائل كثيرة أخرى لم تذكر، في بلادي رسالة (حسام العدل والإنصاف في العمل بالأعراف) للشيخ محمد يحيى – رحمه الله تعالى – و (طرد الضواد والهمل عن الكروء في حياض العمل لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم) التوفيقات بين العرف وبين العمل لن يجري. ولكن التطبيقات العملية في الأوضاع الحالية، هل القبض مثلًا يكون بمكالمة تليفونية أو غير ذلك؟ كثير من المسائل التي تتعلق بالأوضاع التي نعيشها، هل النص الشرعي إذا كان مبنيًّا على عرف، هل إذا انتقل هذا العرف بأن كانت الماشية مثلًا تحفظ نهارًا ولا تحفظ ليلًا. والحرث بالعكس، هل يتغير معها؟ كثير من هذه المسائل لم نسمعها في كلام الباحثين، واحترامًا لوقتكم، شكرًا، والسلام عليكم.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
موقف المذهب المالكي من العرف.
المذهب المالكي لا يعد العرف دليلًا مستقلًا، ولا يعده أصلًا من أصول الفقه، وإنما هو وسيلة من وسائل الإثبات. فهو شاهد أو شاهدان، وهو إذا أردنا أن نعرف وظيفته بالاصطلاح المنطقي يقوم بدور صغرى الشكل الأول في قياس الاقتران، وإذا أردنا أن نعرف وظيفته تعريفًا أصوليًّا فهو يحقق مناط الحكم، وليس هو حكمًا ما، إنما هو يحقق مناط الحكم، ويعين مجال تطبيق الحكم، وعناية القرآن بالعرف كبيرة جدا، لأنني وأنا الآن أتهيأ للكلام أعددت آيات من سورة البقرة فيها كلمة معروف إحدى عشرة مرة، تبدأ من قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، فعددت إحدى عشرة مرة كلما يقول القرآن بالمعروف، ومعنى هذا أننا لا نهضم حق العرف اليوم ونقول إن العرف التركيز عليه دائمًا قد يهدمه، أو يهدم أسس الشريعة، أو يتنافى مع أصولها، هو في الحقيقة في المذهب المالكي الذي يركز الناس على أن المالكية يعتبرون العرف كثيرًا ما يعتبرونه وسيلة من وسائل الإثبات، ولكن العرف في حد ذاته هو مركز عليه في القرآن الكريم، في المعاملات، وأريد أن أوضح أن اعتبار المالكية لعمل أهل المدينة – أيضًا – هو أنهم يستدلون بها على السنة التقريرية، إذا كان العمل منقولًا نقلًا متواترًا من طرف أبناء الصحابة – رضي الله عنهم – عن آبائهم، معنى هذا أن هذه الحادثة كانت معروفة في العهد النبوي وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم عليها الناس، ونقولها تطبيقًا عمليًّا من طرف عشرة آلاف من الصحابة توفوا في المدينة، كانوا مقيمين في المدينة وتوفوا بها، ونقلها عنهم أبناؤهم، وبعد الجيل الثالث لم يعد هناك مجال للاحتجاج بعمل أهل المدينة. هذا ما أردت أن أنبه إليه وشكرًا.
الدكتور محمود شمام:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين.
سيدي الرئيس الكريم،
فقد كفانا فضيلة الشيخ العارض القول في هذا الموضوع، لكن لي ملاحظة بسيطة؛ من حسن الصدف ومن أطيب ما يحدث أن أكتب دراستي عن العرف، شارحًا فيها النظرية بإطناب في الشريعة الإسلامية، معقبًا على ذلك بما اقتبسته القوانين الوضعية من أحكام التشريع الإسلامي، وفقهه السامي. وكنت أنوي إلى إبراز ما في أحكام شريعتنا السمحة من كنوز أخذ منها الغرب، وأقتبس دون نسبة أو تنبيه، وعنه – أي عن الغرب – أخذنا قوانينا وردت إلينا بضاعتنا، وكان هذا هو أهم ما جاء في مناقشات الأمس حول موضوع المواجهة بين الشريعة والعلمنة، وما قدم فيها من أبحاث قيمة، جيدة، جادة، فقد درست موضوع العرف من هذه الزاوية، راميًا إلى هذه الغاية، وشرحت شرحًا وافيًا توعية هذا الاقتباس بذكر الأمثلة من القوانين وأصولها ومصادرها من التشريع والفقه الإسلامي الذي بسط القول في هذا الموضوع بإطناب، وهذا يبشر بما اتفقنا عليه أمس من وجوب الرجوع إلى أصل الإسلام، وتطبيق أحكام شريعتنا السمحة، مع السعي إلى توحيد العمل القضائي، وتوحيد الفقه القضائي مهما أمكن، وبحثي بين أيديكم سعى إليكم، فالرجاء حسن الاطلاع عليه، والتنازل بدراسته بهذه النظرة، والتجاوز عما به من تقصير. والسلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور إبراهيم كافي دونمز:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكرًا للسيد الرئيس، وأشكر لأصحاب البحوث القيمة والأستاذ العارض ولم يحالفني الحظ، لأن بحثي لم يصل إلى يد الأستاذ العارض، ولذا أود أن أشير إلى بعض النقاط المهمة الموجودة في بحثي، الحقيقة البحث بين أيديكم ولا أريد الإسهاب في الكلام، ولا أخذ أوقاتكم القيمة. تعريف العرف، أنواع العرف، حجية العرف، إلى آخر هذه الأمور كلها أتركها، وأود أن أشير إلى أمرين هامين:
الأمر الأول: القيام بتثبيت مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي.
الأمر الثاني: القيام بتثبيت مكانة العرف والعادة بين مصادر التشريع الإسلامي.
الأمر الأول: مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي. الباحث يلاحظ أن العرف على الأقل الكلمات المتعلقة بالعرف والعادة تحتل مكانًا هامًّا في كتب الفروع، ولكن في الكتب الأصولية لا نكاد نعثر على الكلام عن العرف والعادة. معنى ذلك أن الباحث يلاحظ ثنائية في هذا الموضوع في أدب الفقه الإسلامي، مكانته في الكتب الفقهية والأصولية. فعلى سبيل المثال – مثلًا – فإن السرخسي في كتابه المتعلق بالفروع، يذكر بين أنواع الاستحسان، الاستحسان بالعرف. ولكن في كتابه المتعلق بالأصول هو يتحرز عن إعطاء مكانه للعرف وكذلك النسفي في كتابه المتعلق بالفروع (المستصفى) ، يذكر من بين أدلة مشروعية الأحكام تعامل الناس، ولكن في مكانه الأصلي في كتابه المتعلق بالأصول وهو (المنار وشروحه) ، لا يذكر تعامل الناس بين الأدلة الشرعية، فيه ثنائية، وفي كتب الفروع – حقيقة- الباحث يجد مكانة واسعة للعرف، ويجدر بنا أن ننبه إلى أن معظم العبارات الواردة في المواطن التي يعمل فيها الكاتبون من أجل إبراز أهمية العرف والعادة في الفقه الإسلامي، لا تتعلق إلا بدور العادات في إنارة الطريق، أما من يقوم بتفسير التصرفات القانونية، وبالتالي إلى أن سهمًا مهمًّا من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي راجع إلى هذا النوع من العرف. يلاحظ الباحث أن سهمًا مهمًّا آخر في المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي يتعلق بدور العادات أثناء تقدير وتحكيم القاضي أدلة الطرفين المتنازعين، والحقيقة أن كثيرًا من المواطن التي يصار فيها إلى استعمال اصطلاح تحكيم العادة لا تتعلق إلا بمضامين مفهوم تحكيم الحال أو ظاهر الحال أو القرينة ونحوهما. هذا جانب.
والأمر الثاني: يعني القيام بتثبيت مكانة العرف والعادة بين مصادر التشريع الإسلامي هناك أدلة كثيرة لضرورة مراعاة العرف والعادة في التشريع الإسلامي – لا أريد الإسهاب في الكلام – هذه الأدلة موجودة، ومناقشتها موجودة في البحث. ولكن كما سبق أن أشرت إليه فإن كتب الأصول لا تذكر العرف بين الأدلة الشرعية، باستثناء ما ورد في كتاب القرافي، ويقول: أما العرف فمشترك. ولكن إذا دقق الباحث النظر يجد أن دور العرف هنا الذي يذكره القرافي ليس في معنى مصدر للتشريع، بل يعود في آخر المطاف إلى تفسير النصوص، وإلى تفسير التصرفات القانونية فحسب. إذا لا يمكن اعتبار عدم اهتمام الأصوليين بمفهوم العرف بالسلب أو الإيجاب أثناء دراستهم للأدلة الشرعية من قبيل الصدفة. إذا وضعنا نصب أعيننا أنهم جعلوا بعض المفاهيم الأخرى موضوع تحاليل دقيقة، ومناقشات واسعة، مثل القياس والاستحسان. أما بخصوص الكشف عن سر الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي، فلتحليل مفهوم المصدر أهمية كبيرة في نظرنا، لأنه كما هو معلوم فإن اصطلاح الدليل أشمل بكثير من اصطلاح المصدر الحقوقي. ولذا نجد أدلة كثيرة في الكتب الأصولية، وحتى بعض الكاتبين يجعلون عدد الأدلة إلى ثمانية عشر إلى عشرين، ستة وثلاثين، ذكرتها. إذا أمعنا النظر في هذه المفاهيم نجد أن بعضها مصدر في المعنى الحقيقي، مثل القرآن والسنة، وبعضها لا يمكن أن نسميها مصدرًا، مثلًا القياس، الاستحسان، هذه مناهج، وهناك مفاهيم أخرى سد الذرائع إلى آخرها، هذه مبادئ. والغزالي يمتاز بخاصية التمييز بين هذه المفاهيم، والقياس هو لا يذكره بين الأدلة الشرعية مع أنه يدافع عنه دفاعًا حارًّا، وهو أيضًا يفرق بين تفسير النصوص وبين عملية القياس، إذن العرف باعتبار ماهيته نعم مصدر، مصدر بما معناه إذا رجعنا إلى العرف نجد حلًّا جاهزًا لحل القضية، ولكن هذا باعتبار ماهيته، هل يمكن أن نعتبر العرف مصدرًا باعتبار حجيته وباعتبار احتلاله مكانًا بين مصادر التشريع الإسلامي؟ هذا لا يمكن. لأن هذا يؤدي بنا إلى نتائج محظورة من ناحية منهجية الحقوق إذا قلنا إن العرف هو مصدر يجب على المجتهد إذا لم يجد حلًّا جاهزًا في القرآن والسنة أن يرجع مباشرة إلى العرف دون أن يتطرق إلى طريق القياس، وهذا يخالف منهجية الفقه الإسلامي. أنا حاولت أن أشرح هذه الفكرة، والوقت ضيق، ولذا لا أريد إطالة الكلام من ناحية فلسفة القانون أيضًا، تطالعنا نظرية الحسن والقبح، مصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله وحده كما نعرف، وإذن الإرادة البشرية لا يمكن اعتبارها مصدرًا للتشريع حسب البنية الفلسفية للحقوق الإسلامية، هذه النقطة أيضًا حاولت أن أشرحها. وهنا تأتي أمامنا مشكلة، وهي مشكلة قاعدة العرف يترك به القياس، عدد من العلماء الأجلاء ومنهم أستاذنا الفاضل الزرقاء مثلًا، يأخذ بهذه القاعدة على إطلاقها، وفي رأيي المتواضع يعطي فكرة ناقصة في هذه النقطة، المقصود في هذه القاعدة التي توجد خاصة في كتب الأحناف، المقصود من العرف يترك به القياس، القياس هنا مصطلح القياس لا في معنى القياس الأصولي أو القياس القانوني، بل القياس الحقوقي، أي القاعدة العامة أو المقتضى العام للدليل. وفي بعض الأحيان كلمة العرف هنا المقصود منها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نكير، هذه الصيغة تعكس الإجماع السكوتي عند الأحناف في بعض الأحيان، وهذا الإجماع السكوتي إذا أمعنا النظر في القضية نجد أنه راجع في آخر المطاف إلى السنة التقريرية. إذن لا يمكن أن نأخذ هذه القاعدة على إطلاقها، بل يمكن أن نقول: إذا تثبتنا من زوال علة القياس. نعم في هذه النقطة العرف يعكس أن المصلحة تدل على أن العلة انتفت، وبانتفاء العلة ينتفي القياس، في هذه الحالة طبعًا العرف يؤخذ به. والحقيقة أنا جهزت خاتمة قصيرة للبحث من سوء الحظ لم يصل إلى الأستاذ الفاضل. إذا تكرمتم تقرؤون، ولا أريد الإسهاب في الكلام. وشكرًا جزيلًا.
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الذي وددت قوله أن أدلة الشرع المتفق عليها هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما ما عداهما فالإجماع إجماع على مستند منهما، أو من واحد منهما. كل ما عدا ذلك فهي أمارات وعلامات يستعين بها القاضي أو المفتي باعتبارها مناهج بحث لفقه الواقع وفهمه، وحسن تطبيق النص على الواقعة، أو النازلة. فالقول بأن هذه الأمارات أدلة قول فيه كثير من التجوز، هذه نقطة النقطة الثانية: أن الأعراف تنشئها مفاهيم الناس، وثقافاتهم، ومناهج حياتهم، وفي عصرنا هذا أصبحت الأعراف تصنع صناعة، نعم تصنع الأعراف صناعة، فأجهزة الإعلام والتربية والتعليم وقوى أخرى مختلفة تستطيع أن تصنع الأعراف، وأن تغير الأعراف من اتجاه إلى اتجاه آخر، ومن هنا فينبغي أن نكون شديدي التنبه لهذه القضايا، فالعرف الذي تكلم أسلافنا من أصوليين وفقهاء، واحتجوا به، هو شيء، والعرف الذي يتحدث عنه اليوم شيء آخر، الأمر الآخر؛ الزعم – ومعذرة إذا قلت هذا – بأن العرف لا بد أن يكون وراءه دليل من نص، أو افتراض أن يكون وراءه دليل من نص، كتاب أو سنة مندثرة لم تصل إلينا أو نحو ذلك، السنة طريقها الرواية لا الافتراض. لا نستطيع أن نفترض افتراضًا بأن هناك سنة أو أن هناك نصًّا وراء شيء من الأشياء، فالسنة لا يمكن إثباتها إلا من طريق الرواية بشروطها المعروفة عند أهل العلم. الأعراف اليوم – كما قلت – ظواهر اجتماعية، تنشأ إنشاء، وتصنع صناعة، إثارة أقوال العلماء دون تحفظات، ودون أخذ هذه الظواهر بنظر الاعتبار، يعتبر تبريرًا لواقع صنعته ثقافات أخرى، ومفاهيم أخرى، ومحاولة تسويغ لأشياء ولأمور ولتقنيات وتشريعات لم يأتِ بها من الله سبحانه وتعالى سلطان. العرف يبقى مجرد أمارة يستعين بها القاضى المجتهد، أو المفتي المجتهد، لفهم النازلة، لفهم الواقعة لحسن تطبيق الحكم الشرعي على النازلة أو الواقعة. أما الواقعة. أما أن يقال إنه دليل، أو أنه شيء يمكن أن يستفاد منه حكم أي حكم، فذلك ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى. وشكرًا.
الدكتور محمد عمر الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأعراف تتغير بتغير الأزمان والأحوال، والأعراف متغيرة ومتطورة، فهل تتبدل الأحكام مع هذه الأعراف؟ في اعتقادي أن العرف مفسر للأحكام الشرعية، وليس حجة مستقلة بذاتها. وعمل أهل المدينة – الذي يتركز عليه المذهب المالكي – يرجع في الأصل إلى السنة التقريرية، فهو منقول بالتواتر بطبقات كبيرة نقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فحجية العمل أو العرف السائد والمتقول نقلًا بالتواتر ترجع في أصلها إلى التقرير، ثم إن المذهب الحنفي حينما يرجح بين نصين داخلهما دليل قوي، ودليل خفي تظهر فيه المصلحة أو يظهر فيه العرف، فيعدلون في الترجيح معتمدين على العرض، إنما ذلك من باب الترجيح ومن باب التفسير، ثم إن الأحكام الشرعية مرتبطة بنصوصها، فلنأخذ – مثلًا – قضية اختلاف الموازين، واختلاف الكيل، وأثر ذلك على ربا الفضل، فإذا أصبح الذهب مكيلًا في وقت من الأوقات، أو أصبح البرموزونا، وكان مكيلًا، إذا عدلنا واعتبرنا العرف هو السائد في هذا الحكم، يظهر ربا الفضل الذي هو ممنوع حتى ولو كان حفنة صغيرة من البر، إذا تغيرت الأوزان فالأحكام مرتبطة في الأصل بالعرف السائد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيرًا من المعاني التي وردت في القرآن تفسير بأعراف ذلك الزمان، لأن العرف اللغوي السائد في ذلك العصر هو الذي يعطي المدلول للأحكام الشرعية، فلذلك يعتبر العرف – في نظري والله أعلم – أنه مفسر وليس حجة مستقلة بذاتها. والله أعلم.
الرئيس:
شكرًا. بهذا انتهى ما لدينا من تسجيل كلمات. فنختتم الجلسة.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إنه من أثناء هذه المناقشات المباركة، والبحوث الثمينة، تكاد تتفق- ولله الحمد – على أن نصوص الشريعة حاكمة على العرف، وأن العرف لا يقضي على النص، وأن الأحكام التي فرعها الفقهاء مبنية على العرف، بما أن العرف متغير ومتجدد فإن الحكم كذلك الذي رتب على العرف هو بذاته قابل للتغير والتجدد سواء باختلاف الأقطار أو باختلاف الأزمان، وقد ترون مناسبًا أن يتألف لجنة لهذا، من المشايخ.
الشيخ خليل الميس، الشيخ طه العلواني، الشيخ محمود شمام، الشيخ هاشم برهاني، الشيخ عمر الأشقر (مقررًا) .
ترونه مناسبًا؟
وبهذا ترفع الجلسة، وقبل ذلك أحب أن أذكركم بما يلي:
أولًا: إن الاجتماع سيكون في الصالة الساعة الثالثة والنصف للتحرك إلى منظمة الطب الإسلامي، وفي الساعة الخامسة والنصف نعود إن شاء الله تعالى إلى الاجتماع في هذه القاعة، يعود الأعضاء العاملون والمعينون إلى هذه القاعة في الساعة الخامسة والنصف مساء هذا اليوم إن شاء الله تعالى، لقراءة القرارات ومناقشتها.
ثانيًا: وفي صباح يوم الخميس الساعة التاسعة والنصف صباحًا، تعرض القرارات وتكون الجلسة الختامية، وتكون الدعوة للجميع.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (9)
بشأن
العرف
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (العرف) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبرًا شرعًا أو غير معتبر.
ثانيًا: العرف إن كان خاصًّا فهو معتبر عند أهله وإن كان عامًّا فهو معتبر في حق الجميع.
ثالثًا: العرف المعتبر شرعًا هو ما استجمع الشروط الآتية:
(أ) أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
(ب) أن يكون العرف مطردًا (مستمرًا) أو غالبًا.
(ج) أن يكون العرف قائمًا عند إنشاء التصرف.
(د) أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به.
رابعًا: ليس للفقيه – مفتيًا كان أو قاضيا- الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف.
والله أعلم.