الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوفاء بالوعد
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف:
قال في لسان العرب: وعده الأمر وبه عدة ووعدا وموعدا وموعدة وموعودا وموعودة – وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعولة كالمحلوف والمرجوع والمصدوقة والمكذوبة.
قال ابن جني: ومما جاء في المصادر مجموعا معملا قوله:
مواعيد عرقوب أخاه بيثرب.
والوعد من المصادر المجموعة، قالوا: الوعود، حكاه ابن جني. وقال ابن فارس في المقاييس: الوعد لا يجمع (1) .
وقرأ قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} البقرة (51) وعدنا بغير ألف.
وهي قراءة ابن عمرو، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: واعدنا – بالألف.
قال ابن إسحاق: اختار جماعة من أهل اللغة: (وإذ وعدنا) بغير ألف. وقالوا: إنما اخترنا هذا؛ لأن المواعدة إنما تكون من الآدميين فاختاروا وعدنا، وقالوا: دليلنا قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} . [إبراهيم: 22] . وما أشبهه.
قال: وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا، وأما واعدنا هذا فجيد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من الله وعد، ومن موسى قبول واتباع، فجرى مجرى المواعدة.
قال الأزهري: من قرأ وعدنا، فالفعل لله تعالى، ومن قرأ واعدنا، فالفعل من الله تعالى ومن موسى.
وقال ثعلب: فواعدنا من اثنين، ووعدنا من واحد.
وقال أبو معاذ: واعدت زيدا إذا وعدك ووعدته، ووعدت زيدا إذا كان الوعد منك خاصة (2) .
(1) معجم مقاييس اللغة 6-125 مادة وعد
(2)
لسان العرب 3-462 مادة وعد
وفي الاصطلاح
هو قريب من التعريف اللغوي.
قال ابن عرفة: المواعدة، قال ابن رشد: أن يعد كل واحد منهما صاحبه؛ لأنها مفاعلة لا تكون إلا من اثنين (1) .
وذكر الخطاب تعريفًا آخر فقال: العِدَة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (2) .
حكمها:
عقد الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري - رحمه الله تعالى – في جامعه الصحيح في كتاب الشهادات بابًا قال فيه (باب من أمر بإنجاز الوعد) قال: وفعله الحسن البصري أي أمر به وذكر الآية الكريمة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] قال: وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة، وقال المسور ابن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم – وذكر صهرًا له فقال: " وعدني فوفاني " قال أبو عبد الله: رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن الأشوع.
حدثني إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره وقال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي.
ثم عقد بابا آخر ذكر فيه حديث أبي هريرة في آية المنافق.
وحديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي – صلى الله عليه وسلم – من مال البحرين.
وحديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى.
قال الإمام ابن حجر في صنيع البخاري هذا: وجه تعليق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه: (3) وذلك نقلا عن الكرماني (4) ذكر نحوه عن الكرماني بدر الدين العيني (5) .
(1) التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق على هامش مواهب الجليل للحطاب 3-412
(2)
تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153
(3)
فتح الباري 6-217
(4)
لم أجده في شرح الكرماني
(5)
عمدة القاري 11-174
مذاهب العلماء في حكم إنجاز الوعد
اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على مذاهب:
* المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور وهو أنه لا يلزم الوفاء وأن الأفضل لو وفى به ويكره الخلف، وبه قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وسائر الفقهاء. (1) .
* المذهب الثاني: يلزم الوفاء به ويقضى به على الواعد ويجبر، وهو قول ابن شبرمة قال في المحلى (2) وعمر بن عبد العزيز حكاه عنه ابن عبد البر وابن العربي ذكره ابن حجر (3) .
وأصبغ قال: يلزمه في ذلك ما وعد.
ومالك قال: ولو كان في قضاء دَيْنٍ فسأله أن يقضي عنه، فقال: نعم، وثَمَّ رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وهو قول سحنون قال: الذي يلزمه في العدة في السلف والعاريَّة أن يقول لرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو: اشتر سلعة كذا، أو تزوج وأنا أسلفك، كل ذلك مما يدخله فيه ويتشبه به فهذا كله يلزمه:(4) .
(1) تفسير القرطبي 11-116، عمدة القاري 11-60
(2)
المحلى 5-33 مسألة رقم 1125
(3)
فتح الباري 6-217
(4)
عمدة القاري 11-.6
وقال ابن حجر: وقرأت بخط أبي – رحمه الله – في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . وحديث " آية المنافق ".
قال: والدلالة للوجوب منها قوية، فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد؟
وينظر هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي: يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك (1) .
وذكر البخاري أن الحسن البصري فعل إنجاز الوعد، وأن ابن الأشوع (2) كان يقضي بإنجاز الوعد.
وكان إسحاق ابن إبراهيم بن راهويه يحتج بحديث سمرة في القول بوجوب إنجاز الوعد (3) .
وقال العيني في عمدة القاري: وفي (تاريخ المستملي) أن عبد الله بن شبرمة قضى على رجل بوعد وحبسه فيه وتلا: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . [الصف:3] .
* المذهب الثالث:
قال ابن العربي: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر (4) .
(1) فتح الباري 6-217
(2)
هو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وذلك بعد المائة مات في ولاية خالد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يحيى بن معين: مشهور يعرفه الناس (عمدة القاري 11-174
(3)
فتح الباري 6-218، عمدة القاري 11- 174، 175
(4)
أحكام القرآن لابن العربي 4- 1787، 1788. وتفسير القرطبي 18-79
أدلة المذاهب
أدلة المذهب الأول:
إن الوفاء بالوعد وإن كان يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم، وإن الله تعالى قد أثنى على من صدق وعده، ووفى بنذره، وإن العرب وكذلك سائر الأمم تمتدح بالوفاء وتذم بالخلف والغدر.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((العِدَةُ دَيْنٌ)) إلا أن ذلك لا يخرجه عن كونه مندوبا إليه وليس بواجب، وقد اتفق العلماء على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء (1) .
وقالوا: إن العدة منافع لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها (2) .
واستندوا أيضا إلى الإجماع على أن إنجاز الوعد مندوب إليه وليس بفرض (3) .
أدلة من قال بالوجوب:
استدلوا أولا بقوله تعالى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف آية: 3] .
وقالوا: إن سبب نزولها أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن العربي وهو حديث لا بأس به.
وروي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أقتل (4) .
(1) فتح الباري 6-217
(2)
عمدة القاري 11-60
(3)
فتح الباري 6-217
(4)
أحكام القرآن لابن العربي 4-1788، تفسير القرطبي 18-79
واستدلوا ثانيا بحديث الصحيحين، عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) وحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من علامة النفاق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ". (1) .
وقد نوقشت أدلتهم من قبل الجمهور فقال ابن حزم: أما الحديثان اللذان صدر بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما؛ لأن من وعد بما لا يحل، أو عاهد على معصية فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا بل قد يكون مطيعا، فإذا كان ذلك كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد بواجب عليه كإنصاف من دَيْنٍ أو أداء حق فقط.
وأيضا فإن من وعد وحلف (واستثنى فقط سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن) فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعدٍ أقسم عليه وبين وعدٍ لم يقسم عليه.
والآية محمولة على ما يلزمهم. (2) .
وناقش ابن حجر الجمهور في مستنده الإجماع فقال، نقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل (3) .
(1) المحلى 5-34
(2)
المحلى 5-35
(3)
فتح الباري 6-217
المواعدة في المذهب المالكي
المذهب المالكي أحد المذاهب الإسلامية الكبرى الواسعة الانتشار، وخاصة في المغرب ومصر وغيرهما من أقطار العالم الإسلامي. نقل الشيخ محمد أبو زهرة عن المدارك للقاضي عياض: قوله: (غلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس وصقليه والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا، وظهر ببغداد ظهورا كثيرا وضعف بها بعد أربعمائة سنة، وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة وغلب في بلاد خراسان على قزوين أبهر، وظهر بنيسابور، وكان بها وبغيرها أئمة ومدرسون)(1) .
وقد تكلم الفقهاء المالكيون أكثر من غيرهم عن حكم العدة أو المواعدة بتفصيل لا نجده عند غيرهم، ولعل مرجع هذا إلى أن المصلحة في هذا المذهب أصل من الأصول التي قام عليها، خاصة في الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات الجارية بين بني الإنسان بعضهم مع بعض، وهو ما يسمى في اصطلاح الفقهاء بالعادات، وأن الأصل في هذا القسم هو الالتفات إلى المعاني والبواعث التي شرعت من أجلها الأحكام.
قال الشاطبي: إنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس وحيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كانت فيه مصحلة راجحة، وقال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179] .
وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وفي الحديث ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) و ((لا ضرر ولا ضرار)) وقال ((القاتل لا يرث)) ((ونهى عن بيع الغرر)) وقال ((كل مسكر حرام)) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] إلى غير ذلك مما لا يحصى من الأحكام والنصوص، وكلها تشير إلى الصريح باعتبار المصالح أساسًا للإذن والنهي، وأن الإذن دائر معها أينما دارت.
(1) مالك تأليف محمد أبو زهرة ص459
وإن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في بيان أحكام المعاملات بين الناس، والأمور العادية بينهم، وأكثر ما علل به الحكم المناسبة التي تتصل بالمصالح، والتي تتلقاها العقول بالقبول. ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف مع النصوص، بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك – رحمه الله حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان، ونقل عنه أنه قال:(إنه تسعة أعشار العلم)(1) .
وقد استوعب الإمامان: أبو العباس الونشريسي وأبو عبد الله محمد الحطاب، بتركيز شديد أحكام العدة أو المواعدة، في كتابيهما إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، للأول وتحرير الكلام في مسائل الالتزام، للأخير وسأقتصر في اقتناص أهم ما أورداه في الموضوع:
قال الحطاب: وأما العدة فليس في إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل، ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد.
فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال، حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع وفي كتاب العارية وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد.
القول الأول: - يقضى بها مطلقا.
القول الثاني: - لا يقضى بها مطلقا.
القول الثالث: - يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود لسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج، أو أن أشتري كذا، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرتك، فقال نعم ثم بدا له قبل أن يتزوج، أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به ما لم تترك الأمر الذي وعدك عليه، وكذا لو لم تسأله، وقال لك هو من نفسه أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتتزوج أو لتقضي دينك أو نحو ذلك فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به. ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب، كما إذا قلت أسلفني كذا ولم تذكر سببا، أو أعرني دابتك، أو بقرتك ولم تذكر سببا ولا سفرا ولا حاجة فقال نعم ثم بدا له أو قال هو من نفسه أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا ثم بدا له.
القول الرابع: - يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور في الأقوال (2) .
(1) الموافقات 2/305،307
(2)
تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153- 155
الأمثلة
المثال الأول: قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرمًا فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له بع وأنا أرضيك، قال: فإن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه.
وإن باع بوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد أكثر من ذلك، وإن لم يكن أراد شيئًا يوم قال ذلك.
قال أصبغ: وسألت عنها ابن وهب فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها.
قال أصبغ: وقول ابن وهب هو أحسن عندي، وهو أحب إلي إذا وضع فيها.
قال محمد بن رشد: قوله بعه وأنا أرضيك عدة، إلا أنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت لحصول السبب في المشهور من الأقوال
وقد قيل: إنها لا تلزمه بحال.
وقيل: إنها تلزمه على كل حال.
وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب، وإن لم يحصل السبب.
وقول أشهب إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه.
ومعناه: إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون أرضاه، والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا، لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء، وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه واليمين في هذا يمين تهمة إذ لا يمكن المستوضع أن يدعي بينه فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده فيدخل فيه من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة.
وأما ابن وهب: فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه إنه أرضاه فلا يصدق أنه لم يرض، ويؤخذ بما يقول الناس فيه إنه أرضاه.
هذا معنى قوله: ولو حلف ليرضينه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضعا عنه ما يرضى به، وما يقول الناس فيه إنه أرضاه.
المثال الثاني: إذا قال: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضينهم.
فقال: نعم، ثم بدا له.
فقال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة يلزمه ذلك ويحكم به عليه وهو جار على قوله بلزوم العدة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء.
وقال ابن القاسم: إنما يلزمه إذا اعتقد الغرماء منه على وعد أو أشهر به على نفسه وذلك على أصله في أنه لا يقضى بالعدة إلا إذا دخل بسببها في شيء.
ولو قال: أشهدكم أني فاعل أو أفعل، فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك، وأن الظاهر اللزوم.
وقال ابن رشد: ولو قال: أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به (1) .
المثال الثالث: قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة: لو سألك مداينك أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت: أنا أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل، قلت: سواء قلت: أنا أؤخرك أو: قد أخرتك، قال: نعم، سواء في الحكم عليه غير أن قولك: أنا أؤخرك عدة تلزمك، وقولك: قد أخرتك، شيء واجب عليك كأنه في أصل حقك لم تبتدئه الساعة، وكلاهما يلزمك الحكم به غير أن قولك: قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما (2) .
وقال الونشريسي في القاعدة الخامسة والستين: -
الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية، ومن ثَمَّ منع مالك المواعدة في العدة وعلى بيع الطعام، ووقت نداء الجمعة وعلى ما ليس عندك.
وفي الصرف مشهورها المنع، وثالثها الكراهة، وشهرت أيضا لجوازه في الحال، وشبهت بعقد فيه تأخير، وفسرت به المدونة (3) .
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 157 - 158
(2)
تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 159
(3)
إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 278
المواعدة في مذهب الأحناف
المعروف عن الحنفية أنهم لا يقولون بوجوب إنجاز الوعد، قال بدر الدين العيني: أما الوعد فاختلف الفقهاء فيه، قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي:
لا يلزم من العدة؛ لأنها منافع لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. (1)
وقال: وقد تنزل الهبة التي لم تقبض بمنزلة الوعد بها. وقال المهلب: إنجاز الوعد مندوب إليه وليس بواجب، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشيء لم يضرب به مع الغرماء، ولا خلاف أنه مستحسن ومن مكارم الأخلاق. (2)
ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة 171 على أن صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد مثل: سأبيع وأشتري لا ينعقد بها البيع، قال شراحها المرحوم علي حيدر: صيغة الاستقبال في اللغة العربية هي المضارع المقترن بالسين أو سوف كأن يقال: سأبيعك أو سوف أبيعك، وإنما لا ينعقد البيع بها؛ لأنها وعد مجرد وفي معنى المساومة في البيع. (3)
لكن ذهب فريق منهم إلى القول بلزوم المواعيد لحاجة الناس إليها، وأما الحاجة التي دعتهم إلى القول بلزومها فهي بمناسبة البيع الذي اعتاده أهل سمرقند ويسمونه بيع الوفاء.
وقد اختلفوا فيه على أقوال، وقد ذكر في البزازية تسعة أقوال في بيع الوفاء، والمعروف في كتبهم أن بعضهم يعتبره رهنًا، وهو القول المعتبر عند فقهائهم وبعضهم يراه بيعًا، قال قاضيخان: الصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا؛ لأن كلًّا منهما عقد مستقل شرعًا لكل منهما أحكام مستقلة بل يكون بيعًا. (4)
(1) عمدة القاري 11 - 60
(2)
عمدة القاري ص 61
(3)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1- 120
(4)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام
ومبنى الخلاف على اعتباره رهنًا أو بيعًا، هو الخلاف في أن العبرة في العقود، هل هو للمقاصد والمعاني أم للألفاظ والمباني؟ فمن قال بالأول قال: إن بيع الوفاء هو في الحقيقة رهن، والمبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه، ولا يطلق له في الانتفاع إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلكه من شجره، والدَّيْن يسقط بهلاكه إذا كان به وفاء الدَّيْن، ولا ضمان عليه في الزيادة إذا هلك عن غير صنعه، وللبائع استرداده إذا قضي دَيْنه، لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام؛ لأن المتعاقدين وإن سمياه بيعًا ولكن غرضهما الرهن والاستيثاق بالدَّيْن؛ لأنَّ البائع يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. (1)
ومن قال: العبرة للألفاظ اعتبره بيعًا جاء في مجموع النوازل: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف؛ لأنهما تلفظا بلفظ البيع من غير ذكر شرط فيه، والعبرة للملفوظ نصًّا دون المقصود، فإن من تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها بعدما جامعها صح العقد. (2)
وهؤلاء احتاجوا إلى القول بلزوم المواعدة؛ لأن المتعاقدين وفاء يشترطون الفسخ في العقد والبيع يفسد بالشروط عندهم.
قالوا: وكذا يفسد أيضًا إن لم يشترط الفسخ، ولكن تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء؛ لأن هذا الشرط مفسد له.
أو تلفظا بالبيع الجائز وعندهما أي والحال أن في زعمها هو بيع غير لازم، فإنه أيضًا يفسد حينئذ بزعمهما.
(1) جامع الفصولين 1-234، درر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو 2 - 207
(2)
جامع الفصولين 1-234، درر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو 2 - 207
قالوا: وإن ذكر العاقدان البيع من غير شرط، ثم ذكراه أي الشرط على وجه الميعاد جاز، أي البيع لخلوه عن المفسد ويلزم الوفاء به؛ لأن المواعيد قد تكون لازمة فيجعل هذا الميعاد لازمًا لحاجة الناس. (1)
وقال في الأشباه والنظائر في كتاب الحظر والإباحة: الخلف في الوعد حرام كذا في أضحية الذخيرة وفي القنية: وعده أن يأتيه فلم يأته لا يأثم ولا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقًا كما في كفالة البزازنة، وفي بيع الوفاء كما ذكره الزيلعي. (2)
ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (84) على أن المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة لأنه يظهر فيها حينئذ معنى الالتزام والتعهد.
قال الشيخ علي حيدر: يفهم من هذه المادة أنه إذا علق وعدًا على حصول شيء أو على عدم حصوله فثبوت المعلق عليه أي: الشرط كما جاء في المادة (82) يثبت المعلق أو الموعود.
مثال ذلك: لو قال رجل لآخر: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك ثمنه فأنا أعطيك إياه. فلم يعطه المشتري الثمن لزم على الرجل أداء الثمن المذكور بناء على وعده. (3)
أما إذا كان الوعد وعدًا مجردًا أي: غير مقترن بصورة من صور التعليق فلا يكون لازمًا.
مثال ذلك: لو باع شخص مالًا من آخر بثمن المثل أو بغبن يسير، وبعد أن تم البيع وعد المشتري البائع بإقالته من البيع إذا رد له الثمن، فلو أراد البائع استرداد المبيع وطلب إلى المشتري أخذ الثمن وإقالته من البيع فلا يكون المشتري مجبرًا على إقالة البيع بناء على ذلك الوعد؛ لأنه وعد مجرد.
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 – 208، جامع الفصولين 1 - 236
(2)
الأشباه والنظائر ص 288
(3)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 - 77
كذلك: لو قال شخص لآخر: ادفع دَيْنِي من مالك والرجل وعده بذلك ثم امتنع عن الأداء فلا يلزم بوعده هذا على أداء الدَّيْن (1) ويستثنى من هذا الحكم مسألة واحدة في بيع الوفاء وقد سبق بيانها.
مسائل متفرقة في العدة ذكرها ابن حزم في المحلى:
قال في المسألة 1457: ولا يحل بيع سلعة لآخر بثمن يحده له صاحبها، فما استزاد على ذلك الثمن فلمتولي البيع.
ومن تفريعاتها: لو قال له: بعه بكذا أو كذا، فإن أخذت أكثر فهو لك. فليس شرطًا والبيع صحيح، وهو عدة لا تلزم ولا يقضى بها؛ لأنه لا يحل مال أحد بغير رضاه، والرضا لا يكون إلا بمعلوم، وقد يبيعه بزيادة كثيرة لا تطيب بها نفس صاحب السلعة إذا علم مقدارها. (2)
وقال في المسألة 1501 – القواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن القواعد ليس بيعًا، وكذلك المساومة أيضًا جائزة تبايعا أو لم يتبايعا؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وكل ما حرم علينا قد فصل باسمه قال تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] .
فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن، وإذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام أو حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة، والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة، وما عدا هذين فليس فرضًا ولا حرامًا فهو بالضرورة حلال، إذ ليس هنالك قسم رابع (3) والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا ما يسر الله الكريم به، والحمد لله أولًا وآخرًا وصلى الله على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 - 77
(2)
المحلى 5 - 497
(3)
المحلى 5- 597