الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوفاء بالوعد وحكم الإلزام به
إعداد
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فلقد رغبت إلي الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ممثلة في أمينها العام المحترم الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، أن أكتب بحثًا في الوعد وحكم الإلزام به، وكم كنت حريصًا على إجابة رغبة شيخنا الجليل ولكن صار لدي من المشاغل- ومنها إعداد بحث للمجمع في حكم تغير قيمة العملة بعد استقرارها في الذمة – هذه المشاغل حالت دون ذلك، فاكتفيت بجمع ما تيسر جمعه من أقوال أهل العلم في الموضوع، وصار مني بعض التعليقات اليسيرة عليها، وختمتها بتوجيه القول بلزوم الوعد على الواعد، بما لم أر أحدًا من أهل العلم قال به على وجه التفصيل مع ظهور قوة الاحتجاج به، أرجو أن يكون فيما ذكرته من نصوص أهل العلم مزيد إنارة وتبصير.
لا شك أن الوعد التزام بما لا يلزم قبله، والوفاء به من مكارم الأخلاق، ومن صفات الأصالة البشرية وقد قالوا:" وعد الحر دين" وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن الوفاء بالوعد من آكد المستحبات، واختلفوا في وجوبه على الواعد ووجوب الوفاء به، فذهب جمهورهم إلى عدم وجوبه، وأن الوفاء مستحب ومن مكارم الأخلاق، وذهب آخرون إلى وجوب الوفاء به ديانة وعدم صحة الحكم به قضاء وذهب فريق ثالث إلى وجوب الوفاء به ديانة وقضاء مطلقًا من غير تفصيل، وفرقة تقول بوجوب الوفاء به ديانة وقضاء إن كان الوعد على سبب سواء دخل الموعود في ذلك السبب أم لم يدخل، كأن يقول لإنسان: تزوج وعلي صداق زوجتك. فيلزمه الوفاء بالوعد، والفريق الثالث يشترط للقول بوجوب الوفاء ديانة وقضاء، أن يترتب على الموعود التزام بسبب دخوله في سبب الوعد، كأن يقول لآخر: اشتر هذه السلعة وأقرضك ثمنها. فإن اشتراها تعين عليه إقراضه ثمنها، وفيما يلي أقوال لبعض أهل العلم في حكم الوفاء بالوعد تفصيلًا للإجمال المتقدم ذكره:
1-
جاء في أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ما يلي:
أ) " إذا وعد أحدكم فلا يخلف "، رواه أبو يعلى والحاكم.
ب) " إن حسن العهد من الإيمان "، حسنه الحاكم وقال على شرطهما وأقره الذهبي.
جـ) " العِدَةُ دَيْنٌ "، فيه حمزة بن داود ضعفه الدارقطني لكن له عدة طرق فهو حسن.
2-
في الجزء الخامس من فتح الباري على صحيح البخاري ص 289 -290 قال ابن حجر ما نصه: باب من أمر بإنجاز الوعد- وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات: إن وعد المرء كالشهادة على نفسه. قال الكرماني: قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا. فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا. فتزوج لذلك وجب الوفاء به وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة: هل تملك بالقبض أو قبله؟ وقرأت بخط أبي رحمه في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) وحديث: آية المنافق قال: والدلالة للوجوب فيها قوية فكيف حملوه على كراهية التنزيه مع الوعيد الشديد؟ وينظر هل يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك.
ثم ذهب رحمه الله يشرح أحاديث الباب فقال: قوله وفعله الحسن أي الأمر بإنجاز الوعد. قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) .
وفي رواية النسفي وذكر إسماعيل أنه كان صادق الوعد وروى ابن أبي حاتم من طريق الثوري أنه بلغه أن إسماعيل عليه السلام دخل قرية هو ورجل فأرسله في حاجة، وقال له أن ينتظره، فأقام حولا في انتظاره، ومن طريق ابن شوذب أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا فسمي من يومئذ صادق الوعد.
(1) الصف آية 3
(2)
مريم آية 54
قوله: وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب- إلى قوله – قال أبو عبد الله هو المصنف، وأن إسحاق ابن إبراهيم يحتج بحديث ابن الأشوع أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد – ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث، أحدها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل أورد منه طرفا وقد تقدم موصولا في بدء الوحي.
ثانيها: حديث أبى هريرة في آية المنافق وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان.
ثالثها: حديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من مال في البحرين إلى آخره.
3-
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم آية 54] . قال: الثالثة من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ((العِدَةُ دَيْنٌ)) ، وفي الأثر: وَأْيُ المؤمن واجب إلى أن قال في المسألة الرابعة – قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه، فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان – إلى أن قال – وفي البخاري واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب قال البخاري ورأيت إسحاق ابن إبراهيم - يعني ابن راهويه – يحتج بحديث ابن الأشوع اهـ..
4-
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان على قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} ما نصه:
مسألة
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد، فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقا. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقًا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله – ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك؛ فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق، واحتج من قال يلزمه: بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث، فالآيات كقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (1) ، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) الآية، وقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (3) الآية، وقوله هنا:{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) الآية، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث؛ كحديث ((العِدَةُ دَيْنٌ)) .
(1) الإسراء آية 34
(2)
المائدة آية 1
(3)
النحل: آية. 91
(4)
مريم: آية (54)
فجعلها دَينا دليل على لزومها: قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: ((العدة دين)) رواه الطبراني في الأوسط، والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود، بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العدة دين)) . ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وذكره بلفظ " عطية " ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا، ورواه الطبراني، والديلمي عن علي مرفوعا بلفظ:" العدة دين، ويل لمن وعد ثم أخلف، ويل له ". ثلاثا، ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط، والديلمي أيضا بلفظ:((الواعد بالعدة مثل الدين أو أشد)) أي وعد الواعد، وفي لفظ له ((عدة المؤمن دين، وعدة المؤمن كالأخذ باليد)) ، وللطبراني في الأوسط عن قباش بن أشيم الليثي مرفوعا:((العدة عطية)) ، وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا:((أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجده عنده، فقالت: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العدة عطية ")) وهو في مراسيل أبي داود، وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العدة عطية)) ، وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال:((سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: " ما عندي ما أعطيك " قال: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العدة واجبة)) قال في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء – انتهى منه، وقد علم في الجامع الصغير على الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.
وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف اهـ. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة، وقد روى عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقباش بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما.
وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة، دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال: بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع - على أن من وعد رجلا بمال إذا فلس الواعد لا يضرب الموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر، كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم - أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها؛ فقد أضر به، وليس للمسلم أن يضر بأخيه؛ لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فما أرى يلزمه، قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية؛ لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها، وفي البخاري:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (1) وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع اهـ كلام القرطبي، وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه هو قوله في آخر كتاب " الشهادات ": باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة، وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرا له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبد الله ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره.
(1) مريم: آية (54)
(2)
في البخاري ج/ 3 ص 180 طبع بولاق " وفعله الحسن، وذكر إسماعيل إنه كان صادق الوعد"
قال: أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؛ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف)) . حدثنا إبراهيم ابن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: ((لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء ابن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا، قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا. فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة،.)) حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل – انتهى من صحيح البخاري – وقوله في ترجمة الباب المذكور " وفعله الحسن " يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية " إنه كان صادق الوعد " أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله؛ فلا يجوز، وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع؛ كما قال ابن حجر في " الفتح "، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد.
وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا، وقد وعده برد ابنته زينب إليه وردها إليه، خلافا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه، وقد ذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول – حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور، ووجه الدلالة منه في قوله:" فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة" فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة، وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب.
الثاني- حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله ((وإذا وعد أخلف)) فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.
الثالث – حديث جابر في قصته مع أبي بكر، ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة.. الحديث.
فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من المال. فدل ذلك على الوجوب.
الرابع – حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى، ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل، فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا، وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) ؛ لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به، وقال ابن حجر في " الفتح" في الكلام على ترجمة الباب المذكور وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء اهـ.
ونقل الإجماع في ذلك مردود؛ فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي أجل من قال به عمر بن العزيز: انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح. وقال أيضا: وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تملك بالقبض أو قبله؟
فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وما استدل به كل فريق منهم- فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة - والله تعالى أعلم - أن إخلاف الوعد لا يجوز؛ لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: آية (3) ] ، وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرًا بل يؤمر به ولا يجبر عليه؛ لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به؛ لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى.
(1) الصف: آية (3)
5-
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في فتاواه ص395 قال في الإقناع وشرحه عن الرعاية: ولو قال لزيد: طلق زوجتك وعلي ألف أو مهرها. فطلقها لزمه ذلك بالطلاق، ولو قال: بع عبدك من زيد بمائة وعلي مائة أخرى لم يلزمه شيء، والفرق أن ليس في الثاني إتلاف بخلاف الأول، اهـ.
أقول: وفي هذا الفرق نظر فإنه إنما اختار بيعه بمائة لضمان المائة الأخرى فكأنه لم يرض ببيعه إلا بمائتين، والذي تقتضيه القواعد استواء المسألتين في الضمان، اهـ.
6-
وقال رحمه الله في فتاواه ص 375 ما نصه:
مرادهم بقولهم " الحال لا يتأجل " أنه إذا حل عليه دين فرضي بتأجيله بعد حلوله أنه وعد لا يجب عليه الوفاء به بل ليس له الوفاء به، ولو شرط على نفسه ذلك لم يلزمه وليس له مأخذ غير ما عللوه به، ومأخذ القائلين بتأجيله بعد حلوله إذا رضي صاحب الحق أولى فإن الشارع أمر بالوفاء بالوعود والعهود، وذم المخالفين للوعد وأخبر أنه من نعوت المنافقين، وهذا القول هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ وجملة من الأصحاب- إلى أن قال- والصواب أن القرض والعارية والديون الحالة تلزم بالتأجيل ولا يطالب صاحبها قبل حلول الأجل اهـ.
7-
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع جـ5 ص 40 على قول الزاد: بل ثبت بدله بذمته أي ذمة المقترض حالا ولو أجله المقرض، ما نصه قضية تشبيهه بالصرف عدم جواز التأجيل في القرض وعنه صحة تأجيله ولزومه إلى أجله وهو مذهب مالك وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ تقي الدين: الحال يتأجل بتأجيله سواء كان الدين قرضا أو غيره لقوله: المسلمون على شروطهم. وقال ابن القيم: هو الصحيح لأدلة كثيرة اهـ.
وقال على قول الزاد: قال الإمام: القرض حال وينبغي أن يفي بوعده؛ لأن الوفاء بالوعد مستحب. واختار الشيخ لزومه إلى أَجَلٍ، وفي الإنصاف: اختار الشيخ صحة تأجيله ولزومه إلى أجله سواء كان قرضا أو غيره، وذكره وجها وهو الصواب ومذهب مالك والليث وذكره البخاري عن بعض السلف اهـ.
8-
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين جـ 3 ص 445 ما نصه:
المثال الحادي والثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجلها، فقال الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة: لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل وله المطالبة به متى شاء. وقال مالك: يتأجل بتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجل ضرب له (أجل مثله) وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في موضعها اهـ.
9-
قول الأستاذ الكبير مصطفى أحمد الزرقا في كتابه المدخل الجزء الثاني ص 1023 - 1024 تفريعا على قاعدة المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط ما نصه: المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة:
الأصل في الوعد أنه لا يلزم صاحبه قضاء وإن كان الوفاء به مطلوبا ديانة
…
فلو وعد شخص آخر بقرض أو بيع أو بهبة أو بفسخ أو بإبراء أو بأي عمل حقوقي آخر لا ينشأ بذلك حق للموعود فليس له أن يجبره على تنفيذه بقوة القضاء، غير أن الفقهاء الحنفيين لحظوا أن الوعد إذا صدر معلقا على شرط فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه (شرح العلامة علي حيدر على المجلة) ، وذلك فيما يظهر اجتنابا لتغرير الموعود بعدما خرج الوعد مخرج التعهد، وقد قال ابن نجيم في الحظر والإباحة من الأشباه جـ 2 ص 110 لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا. وعلى هذا قرر الفقهاء أنه لو قال شخص لآخر: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك فأنا أعطيكه. فلم يعطه المشتري الثمن بعد المطالبة التزم القائلُ، وكذا لو باع شيئا بغبن فاحش فقال المشتري للبائع المغبون: إذا رددت إلي الثمن فسخت لك البيع. كان هذا الوعد ملزما ويصبح البيع كبيع الوفاء الذي هو في معنى الرهن - إلى أن قال – وفي الاجتهاد المالكي أربعة آراء فقهية حول لزوم الوعد وعدم لزومه قضاء، والمشهور من هذه الآراء أنه يعتبر الوعد بالعقد ملزما للواعد قضاء إذا ذكر فيه سبب ودخل الموعود تحت التزام مالي بمباشرة ذلك السبب بناء على الوعد، وذلك كما لو وعد شخصٌ آخرَ بأن يقرضه مبلغا من المال بسبب عزمه على الزواج ليدفعه مهرا أو ليشتري به بضاعة، فتزوج الموعود أو اشترى البضاعة ثم نكل الواعد عن القرض، فإنه يجبر قضاء على تنفيذ وعده (الفروق للقرافي جـ4 ص24 – 25 ورسالة الالتزام للحطاب وهي منشورة في الجزء الأول من فتاوى الشيخ عليش، بحث مسائل الالتزام) وهذا وجيه جدا فإنه بنى الالتزام على فكرة دفع الضرر الحاصل فعلا للموعود من تغرير الواعد، فهو أوجه من الاجتهاد الحنفي الذي بنى الالتزام على الصور اللفظية للوعد هل هي تعليقية أو غير تعليقية، فإن التعليق وعدمه لا يغير شيئا من حقيقة الوعد اهـ. وجاء في حاشية المدخل للزرقا قوله: وقال أصبغ من فقهاء المالكية: يكفي للإلزام بالوعد ذكر السبب من زواج أو بناء أو غيرهما ولو لم يباشره الموعود اهـ.
10-
ونظرا إلى أن جمهور القائلين بالإلزام بالوعد على تفصيل بينهم، هم فقهاء المذهب المالكي، ولقد كتب أبو عبد الله محمد عليش في الموضوع بحثا قيما مستفيضا تكلم فيه عن الوعد وأقسامه، وحكم كل قسم مستعرضا في ذلك نصوص فقهاء مذهبه - المذهب المالكي - وذلك في كتابه فتح العلي المالك المشهور فتاوى عليش وذلك في الجزء الأول ص 254- 258 رأيت أن هذا البحث مجز عن استعراض أقوال فقهاء المذهب المالكي وعليه فقد جرى مني نقله بكامله وجعله بعضا من هذه النقول في المسألة: قال أبو عبد الله محمد أحمد عليش المتوفى 1299 رحمه الله في كتابه فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ما نصه:
(تنبيه) يجب الوفاء بنذر العتق وإن لم يكن في ملك الناذر حينئذ ما يعتقه، قال في كتاب النذور من المدونة فيمن نذر عتق رقبة فلم يستطعها: إن الصوم لا يجزئه فهذا يدل على أنه يلزم الوفاء به، وإن لم يكن في ملكه من يعتقه، وقال في رسم العبرة من سماع يحيى من كتاب العتق في رجل جعل على نفسه رقبة من ولد إسماعيل، قال مالك: ليعتق رقبة، قيل له: أيجزئه رقبة من الذبح؟ قال: ليعتق رقبة أقرب الرقاب إلى ولد إسماعيل، قال ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأن للشريف في النسب حرمة توجب التنافس في العبيد من أجلها وكزيادة في ثمنها والأجر على قدر ذلك اهـ.
(فصل) وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل، ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد. وقد قال مالك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب الحج ومن كتاب العدة فيمن هلك وعليه مشي إلى بيت الله عز وجل فسأل ابنه أن يمشي عنه فوعده بذلك، فقال مالك: أما إذا وعد فإني أحب له أن لو فعل ذلك، ولكن ما ذلك رأي أو يمشي أحد عن أحد، ولكني أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك. قال ابن رشد: المعنى في هذه المسألة أن مالكا استحب له أن يفي لأبيه بما وعده به من المشي عنه وإن كان ذلك عنده لا قربة فيه من ناحية استحباب الوفاء بالوعد في الجائزات التي لا قربة فيها. اهـ.
فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة ونقلها عنه غير واحد فقيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك: أريد أن أتزوج أو أن أشتري كذا أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرك، فقال: نعم، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به فإن لم يترك الأمر الذي وعدك عليه وكذا لو لم تسأله، وقال لك هو من نفسه: أنا أسلفك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك، فإن ذلك يلزمه ويقضى به عليه، ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب كما إذا قلت: أسلفني كذا ولم تذكر سببا أو: أعرني دابتك أو بقرك ولم تذكر سفرا ولا حاجة، فقال: نعم، ثم بدا له أو قال هو من نفسه: أنا أسلفك كذا أو: أهب لك كذا، ولم يذكر سببا ثم بدا له والراجح يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور من الأقوال، قال في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ من جامع البيوع قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرما فخاف الوضيعة، فأتى ليستوضعه، فقال له: بع وأنا أرضيك، قال: إن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه، وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله ما أراد أكثر من ذلك إن لم يكن أراد شيئًا يوم قال ذلك: قال أصبغ.. وسألت عنها ابن وهب فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها قال أصبغ: قول ابن وهب هو أحسن عندي وهو أحب إلي إذا وضع فيها، قال محمد بن رشد: قوله بع وأنا أرضيك عدة إلا أنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنها لا تلزم بحال، وقيل: إنها تلزم على كل حال، وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب. وقول أشهب: إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه ومعناه إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون أرضاه، والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ بأكثر مما يقر به على نفسه، واليمين في هذا يمين تهمة؛ إذ لا يمكن المستوضع أن يدعي بينة فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده فيدخل فيها من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة، وأما ابن وهب فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، فلا يصدق إن لم يرض ويؤخذ بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، هذا معنى ولو حلف ليرضيه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضع عنه ما يرضى به وما تقول الناس فيه أنه أرضاه وقد مضى ما يدل على هذا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور في الحلف ليرضين غريمه من حقه اهـ.
قلت: وهذا القول الذي شهره ابن رشد في القضاء بالعدة إذا دخل بسببها في شيء قال الشيخ أبو الحسن في أول كتاب الأول وفي كتاب الغرر: إنه مذهب المدونة لقولها في آخر كتاب الغرر: وإن قال: اشتر عبد فلان وأنا أعينك بألف درهم فاشتراه لزمه ذلك الوعد اهـ. وهو قول ابن القاسم في سماعه من كتاب العارية وقول سحنون في كتاب العدة ونصه في سماع عيسى: قلت لسحنون: ما الذي يلزم من العدة في السلف والعارية قال: ذلك أن يقول الرجل للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، وعزاه له ابن رشد في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وقال القرافي في الفروق الرابع عشر بعد المائتين قال سحنون: الذي يلزم من الوعد اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنى به أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق اهـ.
وقال اللخمي في كتاب الشفعة لها ذكر حجة مقابل المشهور القائل بلزوم إسقاط الشفعة قبل الشراء ما نصه: ولو قال له: اشتر هذا الشقص والثمن علي، فاشتراه لزم أن يغرم الثمن الذي اشتراه به؛ لأنه أدخله في الشراء وهذا قول مالك وابن القاسم اهـ.
والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العدة وقول مالك في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم وهو قوي أيضا، والقول بعدم القضاء بها مطلقا في سماع أشهب من كتاب العارية والقول بالقضاء بها مطلقا لم يعزه ابن رشد، وهذان القولان ضعيفان جدا والله أعلم.
(فرع) إذا قال له: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم، فقال: نعم ثم بدا له فقال أصبغ من سماع عيسى من كتاب العدة: يلزمه ذلك، ويحكم عليه به وهو جار على قوله: بلزوم العدة إذا كانت على سبب ولم يدخل بسببها في شيء، وقال ابن القاسم: إنما يلزمه إذا اعتقد الغرماء منه على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه وذلك على أصله من أنه لا يقضي بالعدة إلا إذا دخل بسببها في شيء، ولو قال: أشهدكم أني فاعل أو أفعل فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك، وأن الظاهر اللزوم. قال ابن رشد ولو قال: أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به اهـ.
(فرع) قال في سماع أشهب من كتاب العارية فيمن حلف ليوفين غريمه إلى أجل، فلما خشى الحنث ذكر ذلك الرجل فقال: لا تخف ائتين هذه العشية أعطيكها، فلما كان العشي جاءه فأبى أن يعطيه فقال له: أغررتنى حتى خفت أن يدخل علي الطلاق أقراه له لازما، فقال له: لا والله ما أرى ذلك لازما له وما هو من مكارم الأخلاق ولا محاسنها قال ابن رشد قد قيل إنه يلزمه وهو الأظهر؛ لأنه غره ومنعه أن يحتال لنفسه بما يبر به من سلف أو غيره اهـ.
قلت فالقول الأول مبني على أن العدة لا يقضى بها ولو كانت على سبب ودخل في السبب وقد تقدم أنه في سماع أشهب من العارية، والثاني مبني على أنه يقضي بها إذا كانت على سبب وعلى المشهور أيضا؛ لأنه قد أدخله بسبب العدة في عدم الاحتيال لنفسه حتى خشي الحنث والله تعالى أعلم.
(تنبيه) وأما الفرق بين ما يدل على الالتزام وما يدل على العدة فالمرجع فيه إنما هو إلى ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال بحيث دل الكلام على الالتزام ولهذا قال الشيخ خليل في مختصره في باب الخلع: ولزمت البينونة إن قال: إن أعطيتني ألف فارقتك أو أفارقك إن فهم الالتزام أو الوعد إن ورطها فالشرط في قوله إن ورطها راجع إلى الوعد قال في التوضيح كما لو باعت قماشا أو كسرت حليها والله تعالى أعلم، ولا يفرق بين العدة والالتزام بصيغة الماضي والمضارع كما قد يتبادر للفهم من كلام ابن رشد في رسم حلف من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق وسيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى ذكره بتمامه فإن الالتزام قد يكون بصيغة المضارع إذا دلت القرائن عليه كما يفهم من كلام الشيخ خليل الماضي في مسألة الخلع ومن كلام ابن رشد المتقدم قريبا من كلام أصبغ الآتي في الفرع بعد هذا نعم صيغة الماضي دالة على الالتزام وإنفاذ العطية والظاهر من صيغة المضارع الوعد إلا أن تدل قرينة على الالتزام كما يفهم من كلام ابن رشد فتأمله والله تعالى أعلم.
(فرع) قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة لو سألك مديان أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل، قلت: سواء قلت أنا أؤخرك أو قد أخرتك قال: نعم سواء في الحكم عليك غير أن قولك أنا أؤخرك عدة تلزمك وقولك قد أخرتك شيء واجب عليك كأنه من أصل حقك لم تبتدئه الساعة وكلاهما يلزمك الحكم به غير أن قولك قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما. اهـ. ونقل هذا في الذخيرة واقتصر عليه وهو جار على قول أصبغ في القضاء بالعدة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببه في شيء وأما على المشهور فإنما يلزمه في قوله: أؤخرك إذا ورطه بذلك أو تدل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد به فتأمله وهو يبين لك ما ذكرته من أن صيغة الماضي دالة على الالتزام، وصيغة المضارع إنما تدل عليه مع قرينة، ولم يتكلم ابن رشد على هذه المسألة بشيء بل قال: مضى تحصيل فيها سماع ابن القاسم من كتاب العارية ويشير إلى ما تقدم من الأقوال الأربعة في القضاء بالعدة.
(فرع) قال في رسم حلف ليفعلن من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح: سئل مالك عن رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها لابنه فقالت له عمتها: على صداق أختها فقال: لن أقصر بها إن شاء الله تعالى، فزوجوه، ثم إن الابن طلقها قال: أيقر هو بذلك؟ قال: نعم، قد قلت هذا القول ووعدتهم ولم أوجب على نفسي صداقا فرأيته يراه عليه وقال مرة فيصطلحوا وكأنه يراه عليه تشبيها، ويجاب ولم يبينه، قال ابن القاسم: أرى ذلك عليه إذا زوجوه على ذلك كأنه إنما تزوج على المكافأة، قال سحنون مثله، قال محمد بن رشد: أما إذا كان قولهم قد زوجناك جوابا لقوله لن أقصر عن صداق أختها فبين أن ذلك يلزمه كما قال ابن القاسم لأنه بمنزلة أن لو قالوا له نزوجك على أن لا تقصر عن صداق أختها وأما إن انقطع ما بين الكلامين فالأمر محتمل والأظهر إيجاب ذلك عليه كما ذهب إليه مالك وإن كان لم يبينه لأن ذلك أقوى من العدة الخارجة على سبب وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنه يحلف أنه ما أراد إيجاب ذلك على نفسه ولا يلزمه شيء فإن لكل غرم نصف الصداق ووجه ذلك أنه رأى قوله لن أقصر بها إن شاء الله عدة لا تلزم فلم يلزمه شيء إذا حلف أنه لم يرد إيجاب ذلك على نفسه وحلف بالتهمة دون تحقيق الدعوى ولذلك لم ترد اليمين وذلك فقوله على القول بلحوق يمين التهمة وأنها لا ترجع وقد اختلف في الوجهين. انتهى والله تعالى أعلم.
11-
وفي الفروق للقرافي في الفرق الرابع عشر بعد المائتين بحث مستفيض في مسألة الوعد وحكم الإلزام به وحاشية الشاطر عليه وتعقبه بعض آرائه في المسألة ورده عليه وحيث إن البحث قد لا يخرج عما ذكره الشيخ عليش رحمه الله فقد رأيت الاكتفاء بلفت النظر إليه لمن يرغب الاستزادة من كلام أهل العلم دون نقله.
12-
ولقد سعدت بقراءة بحث قيم للدكتور يوسف القرضاوي عن المرابحة والرد على من يعترض على إجازتها وقد كان في رده بحث عن الوعد وحكم الإلزام به استعرض كثيرا من نصوص القائلين وظهر لي أنه من أجل البحوث في هذه المسألة فرأيت جعله جزءا من هذه النقول ونظرا لطوله فقد اعتبرته بحثا مستقلا وقدمت صورته لأمانة المجمع للتكرم بتصويره وتوزيعه على الإخوة المشاركين في هذه الدورة المباركة.
وهناك توجيه للقائلين بلزوم الوعد وهو أن من الوعد النذر والنذر عرفه بعض أهل العلم بأنه إيجاب طاعة غير واجبة وقد أجمع أهل العلم على وجوب الوفاء على الناذر إذا كان في طاعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) . فإذا كان النذر ضربا من الوعد وهو حق لله تعالى وحقوق الله تعالى على عباده مبنية على التسامح والاتساع ومع ذلك فقد أجمع أهل العلم على لزومه ووجوب الوفاء به بشرطه فإن القول بوجوب الوفاء بالوعد علي العبد من باب أولى فإن حقوق العباد مبناها على المشاحة والمضايقة لا سيما إذا ترتب على الوعد التزام من الموعود أثر الوعد فإن في إخلاف الوعد ضررا على الموعود وقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) .
ولا يخفى أن من حقوق الله الحدود وهي تدرأ بالشبهات ولا تدخلها الأيمان ويقبل من المقر بها الرجوع عن إقراره بخلاف حقوق العباد فإذا كان حق الله في النذر واجب الوفاء وهو في حقيقته وعد فحق العبد على أخيه الوفاء بوعده ولزوم وفائه متجه كاتجاه لزوم العبد وفاءه بنذره. وقد يرد علي هذا التوجيه بأن حق الله أولى فحق الله على عباده ليس كحقوق بعضهم على بعض لاسيما إذا كان من باب التبرع والالتزام بما لا يلزم. والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع