المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

‌تنظيم النسل ورأي الدين فيه

إعداد

الدكتور/ محمد سيد طنطاوي

مفتي الديار المصرية

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة تنظيم الأسرة من المسائل التي اهتم بها كثير من الدول والهيئات وكتبت فيها عشرات البحوث والمقالات والكتب قديما وحديثا:

وقبل أن نبدأ في الحديث عن هذه المسألة من الناحية الدينية نحب أن نتفق على الحقائق التالية لأن تحرير موضع النزاع يعين على حسن الاقتناع وهذه الحقائق هي:

1-

أن الأديان السماوية أنزلها الله تعالى لسعادة البشر ولهدايتهم إلى الصراط المستقيم ولغرس المعاني الفاضلة في نفوسهم. وأن الكتب التي أنزلها – سبحانه – على أنبيائه، قد قررت هذه الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: الآيات 2-4] .

وقوله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة إبراهيم:الآية 1] .

2-

أن الكلام في الأمور الدينية بصفة خاصة، وفي غيرها بصفة عامة يجب أن يكون مبنيا على العلم الصحيح، والفهم السليم، والدراية الواسعة الواعية لأصول الدين وفروعه ولمقاصده وأهدافه وأحكامه. وأن يكون ذلك لحمته وسداه: الأمانة والصدق وخدمة الحق والعدل والتنزه عن الأحقاد والأطماع والبعد عن المآرب والأهواء والترفع عن النفاق وكتمان الحق، وقال – تعالى:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] .

وقال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .

وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] .

ص: 83

وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا – أي في أنفسهم – وأضلوا- أي: غيرهم.

3-

أن الخلاف في الأمور التي تقبل الاجتهاد لا غبار عليه ولا ضرر منه ما دام القصد الوصول إلى الحق، وإلى ما تتحقق معه المصالح النافعة للأفراد والجماعات وما دام أيضا هذا الخلاف مصحوبا بالنية الحسنة وبالكلمة الطيبة وبالمناقشة الرصينة التي يزينها الأدب ومكارم الأخلاق.

ولقد سما النبي صلى الله عليه وسلم – بهذا الاجتهاد، فبشر أصحابه بأنهم مأجورون سواء أصابوا أم أخطأوا، فقال في حديثه الصحيح:((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) .

ومن شأن الأمم السعيدة الرشيدة أنه يكثر بين أفرادها التعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان أما الأمم الشقية الجاهلة، فهي التي يشيع بين أفرادها سوء الظن والتراشق بالتهم الباطلة، والتنازع الذي مبعثه الأهواء والأحقاد.

4-

أن الأولاد هم ثمرة القلب وإحدى زينتي الحياة الدنيا وقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يدعو الله فيقول {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] ولكن الأولاد في الوقت نفسه أمانة في أيدي آبائهم، ويجب على الآباء أن يرعوا هذه الأمانة حق رعايتها، بأن يحسنوا تربيتهم دينيا وجسميا وعلميا وخلقيا، وبأن يقدموا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [سورة التحريم: 6] .

وقال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] .

وفي الحديث الصحيح: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) .

ص: 84

5 – أن هذا الكون قد أقامه الله تعالى – على نظام دقيق، بديع محكم، فكل شيء فيه يسير وفق تدبير متقن وتنظيم بديع، فالشمس تشرق وتغرب في وقت معلوم، ومثلها القمر والليل والنهار، كما قال سبحانه:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . (يس: 40) .

وكما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) .

وكما قال عز وجل: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) .

وإذًا فالإنسان العاقل هو الذي يتخذ النظام شعارًا له في سائر تصرفاته لأنه يوفر المجهود ويضاعف الثمرة، وما وجد النظام في شيء إلا زانه، وما فقد من شيء إلا شانه وصدق الله إذ يقول:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 21) .

6 – إننا نعيش في عصر لا تتنافس فيه الأمم بكثرة أفرادها، ولا باتساع أراضيها وإنما نحن نعيش في عصر تتنافس فيه الأمم بالاختراع والابتكار ووفرة الإنتاج والتقدم العلمي بشتى صوره وألوانه، هذا التقدم الذي يجعل احتياج الغير إليك أكثر من احتياجك إليه.

ونحن نشاهد أممًا أقل عددًا من غيرها ولكنها أقوى وأغنى من ذلك الغير والأمثلة على ذلك يعرفها عامة الناس، فضلًا عن علمائهم.

7 – أن من مزايا الشريعة الإسلامية أن الأمور التي لا تختلف المصلحة فيها باختلاف الأوقات والبيئات والاعتبارات تنص على الحكم فيها نصًا قاطعًا لا مجال معه للاجتهاد والنظر، كتحليل البيع وتحريم الربا، أما الأمور التي تخضع فيها المصلحة للظروف والأحوال فإن شريعة الإسلام تكل الحكم فيها إلى أرباب النظر والاجتهاد والخبرة في إطار قواعدها العامة، ومن هذه الأمور مسألة تنظيم الأسرة أو النسل، فإنها من المسائل التي تختلف فيها الأحكام باختلاف ظروف كل أسرة وكل دولة، وباختلاف إمكانياتها.

ص: 85

فمثلًا هناك دول هي في حاجة إلى الكثرة البشرية لأن وسائل الإنتاج والرقي فيها تحتاج إلى هذه الكثرة القوية المنتجة الرشيدة، وأمثال هذه الدول يقال لها: مرحبًا بهذه الكثرة القوية المؤمنة العاقلة، وهناك دول لا تحتاج إلى الكثرة في عدد أفرادها لأن هذه الكثرة موجودة فيها ولأن إمكانياتها لا تتحملها، ولأن السواد الأعظم من أفرادها يعيش على جهود القلة فيها، ولأنها مع كثرتها تستورد من غيرها معظم ضروريات حياتها، وأمثال هذه الدول يكون تنظيم الأسرة فيها أمرًا مرغوبًا فيه ومطلوبًا منها مع غيره من الوسائل الأخرى التي تؤدي إلى تقدمها، كمضاعفة الإنتاج، ومواصلة تطوير الزراعة والصناعة وغيرهما، وحرص أفرادها على أداء واجباتهم بأمانة ونشاط وقوة.

إننا مرة أخرى نقول: إن الكثرة الصالحة المنتجة القوية مرحبًا بها، أما الكثرة الهزيلة الضعيفة الشاردة عن الطريق القويم، المعتمدة في كثير من ضروريات حياتها على غيرها فالقلة خير منها.

بعد هذه الحقائق التي أرجو أن تكون محل اتفاق نحب أن ندخل إلى موضوع تنظيم الأسرة أو النسل بأسلوب السؤال والجواب فنقول:

أولًا: ما معنى تنظيم الأسرة؟ وهل هناك فرق بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض؟

والجواب ببساطة: تنظيم الأسرة معناه أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما.

والمقصود من ذلك تقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم.

وهناك فرق شاسع بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض، إذ تحديد النسل بمعنى منعه منعًا مطلقًا ودائمًا، حرام شرعًا، ومثله التعقيم الذي هو بمعنى القضاء على أسباب النسل نهائيًا.

وأما الإجهاض وهو قتل الجنين في بطن أمه أو إنزاله، فقد أجمع الفقهاء أيضًا على حرمته وأنه لا يجوز إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن في بقاء هذا الجنين هلاكًا للأم، أو ضررًا بليغًا سيصيبها بسبب بقائه في بطنها.

ص: 86

ثانيًا: هل تنظيم الأسرة بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز من الناحية الدينية؟ والجواب: أن تنظيم الأسرة أو النسل بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز شرعًا وعقلًا متى كانت هناك أسباب تدعو إليه، وهذه الأسباب يقدرها الزوجان حسب ظروفهما، فقد تنشأ أسباب تدفع الإنسان إلى تنظيم أسرته أو نسله، وقد ذكر الفقهاء قديمًا وحديثًا جملة من الأسباب التي تبيح للزوجين تنظيم نسلهما.

ومن الفقهاء القدامى الذين فصلوا الحديث عن هذه المسألة، الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ، فقد قال في كتابه إحياء علوم الدين ج/2 ص (51) : (وأما العزل – وهو أن يقذف الرجل ماءه خارج الرحم منعًا للحمل، فقد اختلف العلماء في إباحته وكراهته

والصحيح عندنا أن ذلك مباح) .

ثم قال رحمه الله: (والنيات الباعثة على العزل خمس:

الأولى: في السراري، وليس منهيًا عنه.

والثانية: من أجل استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع بها واستبقاء حياتها خوفًا من خطر الطلق، وهذا أيضًا ليس منهيًا عنه.

والثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين.

نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره، لا نقول إنه منهي عنه) .

ولقد لخص فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في كتابه تنظيم النسل ص 8 جانبًا من كلام الإمام الغزالي في هذه المسألة فقال: (يرى الإمام الغزالي أن منع الولد مباح ولا كراهة فيه. قال: لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس منصوص، ولا نص في الموضوع ولا أصل يقاس عليه بل عندنا في الإباحة أصل يقاس عليه وهو ترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج، أو ترك التلقيح بعد المخالطة، فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل فليكن منع الحمل بالعزل أو ما يشبهه مباحًا

) .

ص: 87

ومن العلماء القدامى الذين رجحوا جواز العزل الأئمة ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، أما الإمام ابن تيمية فقد جاء عنه في كتاب (مختصر الفتاوى) ص (426) :(وأما العزل فقد حرمه طائفة لكن الأئمة الأربعة على جوازه بإذن المرأة) ، وأما الإمام ابن القيم، فقد رجح في كتابه زاد المعاد ج/4 ص 16 الرأي القائل بإباحة العزل، فبعد أن ذكر طائفة من الأحاديث المصرحة بجوازه فقال:(فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل) .

وأما الإمام الشوكاني فقد قال في كتابه نيل الأوطار: (ولا خلاف بين العلماء في جواز العزل، بشرط أن توافق الزوجة الحرة على ذلك، لأنها شريكة في المعاشرة الزوجية) .

وأما الفقهاء المحدثون فمنهم فضيلة الشيخ السيد سابق، فقد قال في كتابه المشهور فقه السنة ج 7 ص 145، تحت عنوان:(العزل وتنظيم النسل) : (تقدم أن الإسلام يرغب في كثرة النسل، إذ أن ذلك مظهر من مظاهر القوة والمنعة بالنسبة للأمم والشعوب إلا أن الإسلام مع ذلك لا يمنع في الظروف الخاصة من تنظيم النسل، باتخاذ دواء يمنع من الحمل أو بأي وسيلة أخرى من وسائل الحمل فيباح التنظيم في حالة ما إذا كان الرجل معيلًا – أي كثير العيال – ولا يستطيع القيام على تربية أبنائه التربية الصحيحة وكذلك إذا كانت المرأة ضعيفة، أو كانت موصولة الحمل، أو كان الرجل فقيرًا، أو كان هناك مرض معد في الزوجين أو في أحدهما.

ففي مثل هذه الحالات يباح تنظيم النسل، بل إن بعض العلماء يرى أن التحديد في هذه الحالات لا يكون مباحًا فقط بل مندوبًا إليه

) .

ولقد جاء في مجلة الحج العدد 16 لسنة 1384 فتوى لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز حول هذا الموضوع قال فيها: (العزل هو إراقة المني خارج الفرج، لئلا تحمل المرأة وهذا إنما يفعله الإنسان عند الحاجة إليه، مثل كون المرأة مريضة فيخشى أن يضرها الحمل أو يضر طفلها، فيعزل لهذا الغرض أو نحوه من الأغراض المعقولة الشرعية إلى وقت ما، ثم يترك ذلك وليس في هذا قطع للحمل ولا تحديد للنسل، وإنما فيه تعاطي بعض الأسباب المؤخرة للحمل لغرض شرعي وهذا لا محظور فيه في أصح الأقوال – عند العلماء كما دلت عليه أحاديث العزل)(1) .

وبذلك نرى أن تنظيم الأسرة أجازه الفقهاء القدامى والمحدثون متى كان هناك داع إليه.

(1) نقلًا عن كتاب الدين وتنظيم الأسرة ص 69 لفضيلة الدكتور أحمد الشرباصي.

ص: 88

ثالثًا: هل تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة تزايد السكان ورفع مستوى المعيشة وحصول كل فرد على مطالب حياته بصورة مقبولة؟

والجواب: ما قال عاقل بأن تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل هذه المعضلات، وإنما هو وسيلة من بين كثير من الوسائل التي من أهمها: أداء كل فرد من أفرادها لواجبه قبل مطالبته بحقوقه، وحرص هذا الفرد على أن يكون لبنة نافعة في بناء كيان مجتمعه لبنة تقوي كيان المجتمع ولا تضعفه، وتعطيه من إنتاجها أكثر مما تأخذ منه وآفة الآفات في كل أمة تثقلها الديون والمتاعب المتشابكة، تتمثل – في تقديري – في تمزق أبنائها وتفرقهم وسلبيتهم وشيوع سوء الظن بينهم بدون موجب واهتمام معظمهم بالحصول – بكل الطرق – على مصالحهم الخاصة، ومنافعهم الذاتية، أما ما يعود على أمتهم بالخير، فلا يحظى بجانب كبير من تفكيرهم أو اهتمامهم، والله تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) .

رابعًا: أهناك فتاوى رسمية صدرت في موضوع تنظيم النسل أو الأسرة؟

والجواب: نعم هناك فتاوى متعددة صدرت في هذا الموضوع، نكتفي بإيراد نماذج منها:

1 – في 25 من يناير سنة 1937، أي منذ أكثر من خمسين سنة ورد إلى دار الإفتاء سؤال نصه: رجل رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق أولاد كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو تسوء صحته فتضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، وأن تسوء صحة زوجته بكثرة ما تحمل وتضع، دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها، فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء، ليتجنبا كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل فتستريح الأم ولا يرهق الوالد؟

(1) الرعد (11)

ص: 89

وقد أجاب فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم – مفتى الديار المصرية في ذلك الوقت بقوله: (اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأن الذي يؤخذ من نصوص الفقهاء الأحناف أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل، على الوجه المبين بالسؤال) .

والفتوى بكاملها منشورة بمجموعة الفتاوى الإسلامية ج 2 ص 445.

2 – وشبيه بهذا السؤال سؤال آخر ورد إلى لجنة الفتوي بالأزهر في 10 مارس سنة 1953م ونصه: رجل متزوج رزق بولد واحد ويخشى إن هو رزق أولادًا كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم

فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير الأطباء لتجنب كثرة النسل بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم وتسترد صحتها ولا يرهق الوالد صحيًا أو ماديًا أو اجتماعيًا؟

وكان الجواب: اطلعت اللجنة على هذا السؤال، وتفيد بأن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم على رأي عند الشافعية، وبه تفتي اللجنة، لما فيه من التيسير على الناس، ودفع الحرج ولاسيما إذا خيف من كثرة الحمل، أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة وتسترد صحتها، والله تعالى يقول:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدًا فحرام.

3 – ومن الأسئلة التي وجهت لي شخصيًا حول هذا الموضوع ما يأتى:

أ – زوجان معهما طفل واحد، ويسكنان في شقة من حجرتين ودخلهما الشهرى في حدود مائة جنيه في أيامنا هذه سنة 1988، ويريدان باختيارهما واتفاقهما أن يوقفا الحمل لفترة من الوقت ليتفرغا لتربية هذا الطفل تربية كريمة، فهل يجوز لهما شرعًا ذلك مع أنهما يؤمنان إيمانًا عميقًا بأن كل شيء بقضاء الله وقدره؟

وكان جوابي: لا مانع شرعًا من إيقاف الحمل لفترة من الزمان ماداما يقصدان من وراء ذلك حسن التربية لطفلهما، وماداما يؤمنان هذا الإيمان العميق بقدرة الله تعالى على كل شيء، ومسلكهما هذا إنما هو لون من مباشرة الأسباب الشريفة التي أحلها الله تعالى.

ص: 90

ب – زوجان يسكنان في شقة من ثلاث غرف، ومعهما ولد وبنت ودخلهما الشهرى في أيامنا هذه سنة 1988 مائتا جنيه، ويشعران بأن هذا المبلغ يكفيهما بمطالب الحياة الشهرية التي لا غنى عنها، ويريدان باختيارهما أن يوقفا الحمل لفترة من الزمان وقصدهما من ذلك أن يكون للولد حجرة خاصة ينام فيها، وللبنت حجرة أخرى تنام فيها، فهل يجوز ذلك شرعًا، ومع أنهما يحافظان على أداء فرائض الله تعالى، ويحرصان على التقيد بأحكام دينه؟

وكان جوابي: أنه لا مانع شرعًا من ذلك لأنهما بفعلهما هذا يباشران الوسائل السليمة لتربية ولديهما تربية قويمة، دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:((علموا أولادكم الصلاة وهم في سن السابعة واضربوهم على تركها وهم في سن العاشرة، وفرقوا بينهم في المضاجع)) أي عند النوم.

ج – زوجان معهما ثلاثة أولاد، وحالتهما المادية والصحية ممتازة، ويريدان أن يوقفا برضاهما واختيارهما الحمل لفترة من الزمان، وليس ذلك لأسباب خاصة بهما وإنما لأنهما يعتقدان بأن الدولة التي يعيشان فيها هي بحاجة إلى تنظيم النسل، فهل هذا جائز شرعًا مع حرصهما التام على أداء أحكام دينهما؟

وكان جوابي: أن هذا الشعور بظروف الدولة التي تعيشان فيها شعور طيب وحميد يدل على حسن الظن وعلى الثقة فيما تصدره الدولة من بيانات حول هذا الموضوع، كما يدل على الاهتمام المشكور بأحوال المجتمع الذي تعيشان فيه استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) . ومادام شعوركما كذلك، فما تريدان عمله من تأجيل الحمل لفترة من الزمان تتفقان عليها، لا مانع منه شرعًا، فإن الأمور بمقاصدها، والأعمال بالنيات.

خامسًا: أيصح للدولة أن تصدر قانونًا لتنظيم الأسرة أو النسل؟

والجواب: لا يصح ذلك في تقديري، لأن مسألة تنظيم الأسرة من المسائل الشخصية التي تتعلق بالزوجين وحدهما، والتي تختلف من أسرة إلى أسرة على حسب ظروفهما وأحوالهما وما يتعلق بالزوجين لا تعالجه القوانين، وإنما خير وسيلة لتنظيم الأسرة فهم الدين فهمًا سليمًا وإشاعة هذا الفهم بين جميع أفراد الأمة.

ص: 91

وإني أرجح أن على رأس الأسباب التي جعلت بعض الناس يتهاون في مسألة تنظيم الأسرة هو فقدان الوعي، وعدم الفهم السليم لأحكام الدين ولشئون الدنيا، والاستخفاف بالمسئولية نحو الأبناء.

سادسًا: هل تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أو مع قوله سبحانه {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} أو مع قوله تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أو مع الحديث الشريف: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم بوم القيامة؟)) .

والجواب: لا تتعارض الدعوة إلى تنظيم النسل متى سيقت بأسلوب حكيم، مع قوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ومع ما يشبهها من آيات كريمة وذلك لأنه لم ينكر أحد من العقلاء أن المال الحلال والذرية الصالحة هما زينة الحياة الدنيا، ولكن هناك ما هو أسمى منهما وأبقى، وهو ما وضحته بقية الآية في قوله سبحانه:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (1) أي: المال والبنون زينة يتزين بها كثير من الناس في هذه الحياة وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم، فإن الأقوال الطيبة والأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات التي تبقى ثمارها للإنسان وتكون عند الله تعالى خير من الأموال والأولاد، لأن المال والبنين كثيرًا ما يكونان فتنة، كما في قوله سبحانه:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2) أي أن أموالكم وأولادكم على رأس الأسباب التي تؤدي المبالغة في الاشتغال بها إلى التقصير في طاعة الله تعالى وإلى مخالفة أمره، فكونوا مؤثرين لرضا الله على كل شيء سواه وقال سبحانه في آية أخرى قبل هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (3) .

فالأولاد قد يكونون زينة، وقد يكونون فتنة، وقد يكونون أعداء، وتنظيم النسل متى صاحبته النية الطيبة والمقاصد الشريفة، كان عونًا للإنسان على أن يكون الأولاد قرة عين له.

(1) الكهف (46) .

(2)

التغابن (15)

(3)

التغابن (14)

ص: 92

ولا تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1) لأنه ما قال أحد بأن تنظيم الأسرة قتل للأولاد، وإنما هو حماية لهم من النواحي الدينية والصحية والاجتماعية

والآية الكريمة وما يشبهها من آيات، تنهى عن قتل الأولاد قبل ولادتهم، وبعد ولادتهم وتتوعد الذين كانوا يفعلون ذلك من أهل الجاهلية ولاسيما مع البنات بأشد أنواع العذاب، ومن ذلك قوله تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (2) وقوله سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (3) .

ولقد حرمت شريعة الإسلام الإجهاض – وهو قتل الجنين في بطن أمه – تحريمًا قاطعًا، ولم تبحه – كما سبق أن أشرنا – إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن بقاء هذا الجنين سيؤدي إلى هلاك الأم أو إلحاق ضرر محقق بها. وقال فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ما ملخصه:(اتفق الفقهاء على أن إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه – وهو كما يقولون لا يكون إلا بعد أربعة أشهر – حرام وجريمة لا يحل لمسلم أن يفعله لأنه جناية على حي متكامل ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه بعد تحقيق الحياة هكذا يؤدي لا محالة إلى موت الأم فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمر بارتكاب أخف الضررين، وهو إسقاط هذا الحمل، أما إسقاطه قبل نفخ الروح فيه – أي قبل إتمام أربعة أشهر كما يقولون – فقد اختلفوا فيه فرأى فريق أنه جائز ولا حرمة فيه، ورأى آخرون أنه حرام أو مكروه) .

ولا يتعارض تنظيم الأسرة كذلك مع قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (4) ، لأن كل إنسان لا يكون مؤمنًا حقًا إلا إذا اعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل دابة في الأرض من إنسان أو حيوان أو غيرهما، على الله وحده رزقها فهو سبحانه الرازق للغني والفقير وللصغير والكبير، ولكن ذلك لا ينافي الأخذ بالأسباب والسعي في سبيل الحصول على الرزق إذ أن هذا الرزق قد جعل الله تعالى له وسائل من سلكها نجح ومن أهملها خسر، وكيف لا هو القائل في آية أخرى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .

(1) الإسراء (31)

(2)

الأنعام (140) .

(3)

التكوير (8، 9) .

(4)

هود (6)

ص: 93

ولذا فتنظيم الأسرة لا يتعارض إطلاقًا مع الاعتقاد بأن الله تعالى هو الرازق لمخلوقاته لأننا مع هذا الاعتقاد مطلوب منا أن نسعى لطلب الرزق من وجوهه المشروعة حتى نقدم لمن هم أمانة في أعناقنا ما يغنيهم ويسترهم.. وفي الحديث الصحيح: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون وجوه الناس)) ، ثم إني بعد ذلك أتساءل في ألم: هل الناس في مجموعهم يؤمنون بهذه الآية إيمانًا عمليًا كما ينطقون بها لفظيًا؟

والجواب: أن واقعهم العملي الذي نحسه ونشاهده، يخالف أقوالهم.. بدليل أنهم لو كانوا يؤمنون بهذه الآية إيمانًا عمليًا عميقًا، لما رأيت الوساطات من فلان إلى فلان من أجل الحصول على أشياء معينة.. ولما رأيت من يريق ماء وجهه ويذل نفسه لمخلوق مثله، من أجل أن يعين بعض أولاده في وظيفة معينة، أو في عمل معين، أو أن يدخلهم له كلية معينة

إلخ، ولما رأيت أولئك الذين لا يعرفون معنى التعفف وهم يمدون أيديهم بالسؤال إلى مخلوق مثلهم.

فهل هذا المسلك الذي يتنافى مع الكرامة الإنسانية يتفق مع معنى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ؟

مما لا شك فيه أن الذي يتفق مع معنى هذه الآية الكريمة هو العفاف النفسي والسمو القلبي والتعالي على سؤال المخلوقين في أمر يتنافى مع مكارم الأخلاق.. ولكن آفة الناس الكبرى أن كثيرًا منهم أقوالهم في واد وأفعالهم في واد آخر، وهذا شر ما تبتلى به الأمم.

وأيضًا لا تتعارض الدعوة إلى تنظيم النسل مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) ؛ لأن هذا الحديث مع كونه مرسلًا نرجح أن المقصود به والله أعلم الكثرة المؤمنة الصالحة القوية المنتجة، إذ من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يباهي بكثرة فاسقة عاصية ضعيفة جائعة متخلفة جاهلة تستورد معظم ضروريات حياتها من غيرها، وإنما يباهي بالكثرة المستقيمة القوية العزيزة الغنية التي دائمًا يدها هي العليا ويد غيرها هي السفلى.

ص: 94

ولقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الكثرة التي لا فائدة من ورائها في حديثه المشهور الذي يقول فيه: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم حينئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) .

وإذن فالكثرة الصالحة القوية المنتجة مرحبًا بها، وهي محل المباهاة في كل زمان ومكان، أما الكثرة المنحرفة الطائشة الضعيفة التي تمد يدها بالسؤال إلى غيرها فإن القلة الرشيدة خير منها.

ونحن نكرر أن مسألة تنظيم الأسرة ليست من المسائل التي لا تقبل التغيير أو النظر؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، وإنما هي من المسائل التي تقبل المراجعة والنظر والتى هي من الأمور النسبية التي تخضع لظروف كل أسرة وأحوالها، ولإمكانيات كل دولة وتقديرها، فقد يكون تنظيم النسل مطلوبًا في أسرة دون أسرة وفي دولة دون دولة.

فالأقطار التي تشكو من تضخم السكان في حاجة إلى تنظيم الأسرة أو النسل، والأقطار التي في حاجة إلى كثرة الأفراد لخروجها من حروب مدمرة أو لوجود إمكانيات ضخمة فيها، لا تطالب بتنظيم النسل.

والخلاصة أن هذه المسألة تختلف من أسرة إلى أسرة، ومن قطر إلى قطر على حسب الظروف والأحوال والإمكانيات.

سابعًا: هل الدين يدعو إلى اتخاذ وسائل معينة لتنظيم الأسرة؟

الجواب: أن الدين يدعو إلى الحياة السعيدة بين الزوجين ويرسم لهما طريقهما ويحدد لهما ما هو حلال وما هو حرام، ثم بعد ذلك يعيطهما الحرية الكافية لتصريف حياتهما في إطار شريعة الله تعالى ومكارم الأخلاق.

ص: 95

وظروف تنظيم النسل أو الأسرة كانت في القديم مقصورة على (العزل) وهو قذف النطفة بعيدًا عن الرحم عند الإحساس بنزولها.

وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وفي رواية للإمام مسلم عن جابر أيضًا قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فلم ينهنا.

ثم تطورت طريقة تنظيم النسل بمرور الأيام وابتكر الأطباء أنواعًا كثيرة لهذا الغرض، منها ما يؤخذ عن طريق الفم، ومنها ما يؤخذ عن طريق الحقن، ومنها اللوالب المعدنية إلى غير ذلك من الوسائل.

وكل هذه الوسائل لا يعارضها الدين مادامت لا تتنافى مع آدابه، ومادام قد حكم الأطباء الثقات بصلاحيتها وعدم حدوث ضرر من استعمالها.

ثامنًا: هل يتنافى تنظيم الأسرة مع الإيمان بقضاء الله وقدره؟

والجواب: أنه لا تنافي بين تنظيم الأسرة وبين الإيمان بقضاء الله وقدره، لأن تنظيم الأسرة ما هو إلا لون من مباشرة الأسباب التي أمرنا الله تعالى بمباشرتها لتنظيم حياتنا.

وهذه الأسباب قد تنجح وقد لا تنجح، وقد تتخذ المرأة وسائل منع الحمل لفترة معينة مع ذلك يأتي الحمل، كما أن المريض قد يذهب إلى الطبيب فيعطيه علاجًا معينًا، ولكن هذا العلاج قد يؤدي إلى الشفاء وقد لا يؤدي إلى ذلك.

ونحن مطالبون دينيًا وعقليًا بمباشرة الأسباب التي شرعها الله تعالى لنجاحنا في الحياة، مع إيماننا المطلق بأن ما قدره الله وقضاه لابد أن يكون، إلا أن ما قدره الله وقضاه نحن لا نعلمه ولا نعرفه؛ لأن مرده إليه وحده، وهو سبحانه علام الغيوب، ورحم الله القائل:

إنما الغيب كتاب صانه عن

عيون الخلق رب العالمين

ليس يبدو منه للناس سوى

صفحة الحاضر حينًا بعد حين

وإذن فتنظيم الأسرة لا يتعارض إطلاقًا مع الإيمان بالقضاء والقدر لأن ما قدره الله سبحانه نحن لا نعلمه، وإنما نحن نباشر الأسباب، ثم نَكِلُ النتائج له سبحانه يصرفها كيف شاء {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

الدكتور محمد سيد طنطاوى

ص: 96